النفاق
 

 

 

  للقاص :عبد الباسط آدم مر يود

 

الذئب في بخار صيف الدم
والحمل علي طري العشب نام في الربيع المكتمل
والصقر في وحشته يحلم بالفريسة المنهزمة
والبرق وعد أزلي كامن في ظلمات الكلمة
(الله في زمن العنف محمد عبد الحي)


كنت جهينة وينادوني (الحام ظرط) اندلق شربة دونكي في شفاه الصبايا ونغما شجيا في حناجر الطمبارة ناس ابو كنجور وتيرة ملكا الهسيس وتم بالله وابو صنيقير ناس التويا ودخلت في جراري الجارضقلو فغناني
: ماها الطويلة أم زور وماها القصيرة حيور
: مربوعة جدي الزنكول لازمة مدير وأبوها الصول
كما كنت إبرة حكيم لناس غبش في (قيل ضل) كانوا يروني بصيص أمل يداعب أحلامهم الموؤوده فغنوني
: بت القد درب الحج
: مابتشيل الفريق بتدج
: قاعده تغزل وتنسج
: ساعة الفي دفاترو بعد
: زولا في خشيمها شرب
: مسك درب الجنان ماضهب

في زمن الترحال بين البوادي والجلب إلى البوادر ذات الفنارات العالية المبهرة والأنوار أتانا زمن الجفاف والقحط فرت الجنون للمدن وامسكن الحروم العقاب متحزمات ومتلزمات كدت أن أتداعى من شد المطالب والحاجة إلى أن امسك ود قراض القش ابن عمي قصتي وغطي قدحي فكسر عودا حاحا صقورا من التنابلة ناس قعير البيت وبعد أن دخل هو أيضا في شد المطالب وجذب الحياة امسك درب الغربة ضهبانا زاحفا للمدينة المتجشئة نازحين علي أطرافها المهمشة أمسكت أنا حبل صبر انتظاره الطويل سنوات عجاف وغنيت له:
: سوق ام درمان عمر جلب عيال حمر
وراهنت علي انغماسه في المطايب والراحة إذ دلوني العائدين من هناك علي انه صار نادلا وتدلت كرشه ولمع صدغاه فغنيت له:
: أبو جليدا تردي من نوم المخده

دارت دورت الزمن الشين وجونا ناس بالتوافق والتوالي واسرجوا قريتنا قيل ضل المتوده بين القيزان الرملية لزولا هوين فكان شيخها شتت غزلها وبعثر نسيجها فتطايرت فتيانا خضر وفتيات حوريات علي مدن الهم كتشتت اوصالي وارتجافها في ذاك الليل البهيم المدلهم وأنا غافلة عن مواراة سدادة قطيتي فتركشتها فقط أخذتني أيادي النعاس وصحوت علي كشكشة معاترة السدادة
: منو ؟؟؟؟؟؟
: اانا الشيخ
قالها وقد بدت مسامات جلده تقطر عرق رغم برودة وزمهرير الشتاء وهو يهم بمعالجة السدادة, إذ لم تكن هناك استحالة فحملها, أودعها الجانب الأيسر لفتحة القطية بخفة كمن يهدهد صغيرا, صدته رائحتها القادمة من الداخل بحموضتها وتخمرها, اختلاط عرق النهار وهي تعافر في الدونكي صباحا وتخوض البرجوبة لشربة ماء لم يكن, زلالا وتعب الجوادة بالعصرية لنظافة السراية المنهكة بالزراعات المتوالية تمهيدا لموسم جديد, كيف لا تتخمر وتتحمض رائحتها, تلك الرائحة أعادت له رائحة حنوط تشبعت به خياشيمه يوم وفات بت أبو شوك وكان إمام صلاتها, الظلام والرطوبة والصمت كانت الثلاثي المؤسس للمكان
ازداد خفقان قلبه فرحا أم فزعا لا يدري, لكنها غدت كالطاحونة وهو يلج إلى داخل القطية كمن يلج مغارة, وهي بالداخل تملكها الفزع وصار قلبها يدق متسارعا مغلوبا كالذي يداهمه موت الفجاءة, لكن موتها هي من نوع خاص, تدري أن الشيخ جالبه, وهو يود قتلها قتلا خاصا كأن يمتلك حصونها يعربد في ذاتها لكي لا تتجرأ علي أن تنوشه بسياط غناها اللاهبة في أفراح وملمات ( قيل الضل) يود أن يكسر عينها فلا ترافع رأسها بل تسير مطأطئة, تلاقت أياديهما وسط الظلام بعنف, هي مذعورة وعيناها تقتنصان بصيص ضوء من بطاريته اليدوية, يحاول اقتلاع الظلمة الدامسة التي تسود فضاء القطية, هاهي تلم أشلاء شجاعة لها ويرتفع صوتها قليلا
: شيخ !!! شيخ علي نفسي ؟؟
: والله كان ما خرجت إلا اصرخ والم فيك ناس الحلة وتبقي فضيحتك أبو جلاجل وأنت إياك شيخهم وإمامهم
: لا لا لا (يخرجها همسا ) وهو يمد يده لتخرسها والأخرى علي زر البطارية فيودع الظلام القطية وتكتمل سيادة المكان للضوء, للحظة ينبثق خلالها وجهها القمري لامعا كشعاع لسيف حاد
تواثقا علي سكوتها وصمتها وبصمت له بذلك علي أن تسلم من أذيته وان تستظل بمشيخته للقرية المشكوك أمرها
غادر قطيتها الرطبة منحنيا عند مدخلها, ثم خبا عند الفضاء الخارجي منطلقا في الظلام وساقاه تسابق ريح الشتاء البارد, تلفح وجهه وأنفاسه تتلاحق, حتى توقف عند مدخل منزله, عندها سعل بصوت مكتوم, تكور داخل غطاءه ورائحة إبطاه تفوح ممتزجة بحبات عرق صغيرة, أتاه صوتها متنمرا في البدء ثم متضعضعا منهزما منقادا, وأصوات شلته التي كانت تتحداه
: الملعونة دي شالت حالك بين ناس الحلة بغناها
: ليها يوم
قال أحدهم متخابثا
: كلنا جربناها وهزمنا لا يوجد من يسرجها العنيدة إلا أنت إياك الشيخ
وقتها دانته خيلاء التمايز عنهم, وسرت نشوة التفوق, ويده تداعب شاربه الكث الطويل,ثم أطلق وعدا
: سأروضها لكم
هاهي تمر من أمامهم قادمة من الدونكي وعلي رأسها جرة ماء وهم يتفيئون ظل السيالة المتوسطة الحلة يلعبون الضالة والسيجة ويتمازحون, وهي بقدها اللادن وقوامها المياس وعيناها اللتان تشعان وهجا وبريقا أخاذا صافيا, تستدير مؤخرتها بوضوح,وينفر صدرها بقسوة مبتعدا عن كل التقاءات جسمها الطري, وهي تتمايل بخفة وغنج
عندما تحركت كل دواعي رغبته في امتلاكها أولا ثم إخراس صوتها المعارض, كانت رغبة قاتلة تخطت كل الحواجز التي تطليه بمسوح الصلاح الزائف العمامة, اللحية والأصوات الداعية شيخنا, هي وحدها من يعلم تسربله بهذا القناع الزائف
تموسقت صيحات ديوك الحلة, وصوت المؤذن الأجش ينادي للفجر, غالب النعاس وفي مخيلته رقد (انكسار الحام ظرط) المر يخالط غمزات المصلين وسؤالهم عن غيابه من إمامتهم, فتوضأ مسرعا بدء بوجهه الآثم ثم غادر ليصلي بهم صبح نفاقه حاضرا.

تمت
ودمدني ابريل 1997
 

عبد الباسط آدم مر يود

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون