فلسفة المصائب

 للكاتب : ايمن عبد الله قلوب

 

من قديم الزمان خلق الانسان وخلقت معه مصائبه ، فكانت المصائب ملازمة له وكأنها عنصر هام من عناصر وجوده . وكانها خاضعة لقانون النشؤ والارتقاء . تبدأ بسيطة ساذجة كما بدأ الانسان . وتعظم وتهول كلما تقدم الانسان في العظم والرقي . وتقرأ التاريخ فتراه سلسلة مصائب وسلسلة حروب نصرتها مصائب وهزيمتها مصائب ، فإن فترت الحروب حينا تتداول الامم أنواع من الكوارث الاخرى السلمية تختلف أشكالا وألوانا .
حتى كان من غريب أمر الانسان أنه لايدرك اللذة إلا بالألم ولا الفائدة إلا بالمصيبة كما لا يدرك الحلو الا بالمر ولا المر الا بالحلو ولا يمكن ان تتصور سعادة الا بشقاء ولا شقاء الا بسعادة فكأن السعادة والشقاء وجها القطعة من النقود . لا يمكن ان يتصور وجود احد الوجهين الا بالآخر . على ان المصائب نفسها ليست تخلو من وجه جميل وناحية رائعة فهي ليست قبحاً صرفاًً ولا شقاءً خالصاً بل كثيراً ما تكون بلسماً كما تكون جروحاً ودواء كما تكون داء .
إن الرخاء يفسد الطبيعة البشرية . فلابد لها من شقاء يصلحها والحديد قد يفسد . فلا بد له من نار تذيبه حتى تصلحه وتذهب خبثه ، وكذلك النفوس قد يطغيها النعيم ويصدئها الترف ، فلا بد لها من نار تكوى بها لتنصهر ويذهب رجسها .
ثم إذا اردت ان تعرف نفوس الناس حقاً فتعرفها في أوقات المصائب لا في أوقات النعيم . ويعجبني قول القائل : ان أعرف الناس بالناس الممرضات في المستشفيات فهن اللائي يرين الناس في الكوارث ، فيعرفن كيف يجزعون أو يحتملون وكيف يفزعون أو يصبرون ، وكيف يضعفون او يقوون أما خارج المستشفى فكلهم شجاع وكلهم قوي
في اوقات الرخاء ترى الجمال المتصنع والقبح المتصنع وترى القبيح في شكل جميل والجميل في شكل قبيح أما في الشدة فترى الجمال عارياً والقبح عارياً ، وترى الحق حقاً والباطل باطلاً ، وترى الاوضاع تنقلب والقيم تختلف ، فيصبح من لا يساوي شيئاً من كنت تظنه يقوم بالالوف ويقوم بالالوف من كنت تظنه لا يساوي شيئاً .
حتى الموت وهو مايعد بحق ملك المصائب هو الحجر الاساسي لنظام العالم ومصلح شانه ولا بد من الموت للحياة .
ثم الامم لا تخلق إلا من المصائب ولا تحيا الا بالموت . ولا يكون زعمائها الا الشدائد ولا يصهر نفوسها الا عظائم الامور ولا تنال استقلالها الا بضحاياها . ولا تسترد حريتها الا ببذل دمائها وماترك الجهاد قوم الا ذلوا ولا استسلم قوم للترف والنعيم الا هانو تلك هي قوانين طبيعية للعالم بمنزلة قوانين الحرارة والضوء والجاذبية لا تتغير ولا تتبدل مادام العالم هو العالم .
ويبلغ الرقي في بعض الافراد ان يروا لذتهم في ان يألموا لاسعاد غيرهم وسعادتهم في تضحيتهم . وكل امرئ فيه نواة لهذه التضحية فهو يضحي من لذته لإسعاد أولاده وإسعاد أصدقاءه ولكن عظماء الناس يرون في حرية امتهم واستقلالها وفي مبادئ العدل والحق معنى اسمى من العلاقة الشخصية بين المرء واسرته او بينه وصديقه . ثم يقدسون هذه المعاني السامية ويتعشقونها ويهيمون بها . فيذلون نفوسهم لها كما يذل العاشق نفسه لمن يحب ويرى في ذلك لذته العظمى وسعادته الكبرى . فهو بذلك اناني من جنس راق جدا ويرى ان سعادته وسعادة أمته شي واحد ويرى ان العمل لها هو بعينه العمل لنفسه ثم هو لا يتطلب بعد ذلك جزاء ولا شكورا كما لا يتطلب ذلك فاعل الخير نفسه .
قد ارانا التاريخ مع الاسف ........ ان الانسانية لا ترقى الا عن طريق المحن . سواء في ذلك أفرادها وأممها فالفرد الذي يجد كل شي ممهداً سهلاً لا يصلح لشي . والغني المترف الذي يجد كل ما يشاء في الوقت الذي يشاء ثم لا يكلف نفسه شيئاً من ان يستمتع بالحياة هو نبات طفيلي يستهلك ولا ينتج مظهر ولا مخبر ، ويوم تعصف به عاصفة من شدة يذهب مع الريح ولا يستطيع مقاومة ، انما يثبت للحياة ويصلح للبقاء من عركته الاحداث . وربته المصائب . وصلبته الكوارث وهكذا شأن الأمم . اصلبها عوداً اصلحها للحياة . وخير رجالها أقدرهم على التضحية والأمم التي تنعم تؤذن نعومتها بفنائها . ولم تبلغ الامم مثلها السامية من عدل وآخاء ومساواة وحرية الا من المصائب .
وصحة الامم كصحة الافراد . فالمرض ينتاب من الاجسام أنعمها واكثرها إخلاداً للراحة . والصحة لا تنال الا بالاعمال الرياضية الشاقة وبذل الجهد المضني . ولا لذة للراحة الا بعد التعب . ولا لذة للماء الا بعد العطش ، ولا للاكل الا بعد الجوع . كذلك الامم لا تدرك قيمة الخير الا بالشر ولا الفوائد الا بالمصائب ويوم تنزل بها الكوارث تؤمن بالجيد وتحتقر التافه وتطلب المثل .
فأهلاً بالموت إذا كان فيه الحياة وبالشر إذا كان يتبعه الخير وكما قال الشاعر:

مرحباً بالخطب يبلوني إذا
             كانت العلياء فيه الســـــبا

 

ود قلوب

 

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون