APHRODITE

بقلم / عمر حسن غلام الله 

 

-         افروديت! همست لنفسي عندما رأيتها، ولكن يبدو أن من بجانبي سمع همسي دون إرادتي، فقال:

 - (قلت شنو؟)

ولم أعبأ به فقد كانت عيناي مسمرتان على عينيها الواسعتين الباسمتين، وكلانا لم يعد منشغلاً بالمسلسل العربي على شاشة التلفزيون البلورية، هي وسط ثلة من البنات والأطفال جاءوا لمتابعة المسلسل في بيت جيراننا –كانوا هم الوحيدين الذين لديهم هذا الجهاز في حيّنا آنذاك (أواسط السبعينات) وكنت أقف خلف الجدار الفاصل بيننا وبين هؤلاء الجيران أتابع أيضاً المسلسل من بيتنا وبجانبي أحد أبناء الجيران، حين وقع بصري عليها.

هل هذا ما يسمونه حب من أول نظره؟ كرر حسن سؤاله:

-         (قلت شنو؟)

-          (أفروديت)، همست مرة أخرى

-         (يعني شنو افروديت؟)، سأل مرة ثانية

-         إنها آلهة الحب والجمال لدى قدماء الإغريق، ثم أردفت مباشرة

-          (دي منو دي؟)،

قال وقد عرف من نظراتي إليها من أعني بهذا الاسم الإغريقي

 -  (دي بت ناس مبارك قاعدة مع ناس خالها التوم، جيرانكم)،

ولعلها خمنت ما دار بيني وبين الحسن، فابتسمت ابتسامة أضاءت حياتي الكالحة، من وجهها البدر ليلة تمامه، البدر كما رآه البدوي في صحرائه، لا كما صوره لنا الأمريكان: صخوراً وأخاديد وبراكين خامدة (هي في الحقيقة لقطة من صحراء أريزونا).

رفعت لها بحياء شديد يدي محييا، فردت بهزة من رأسها أن قد بلغتني التحية.. ومعها كل الحب.

          كان مركبنا يتهادى فوق مياه رقراقة، يمخر عباب النهر الخالد، (نهر الريد الصافي) ، يحملنا حبيبين مجنونين ببعضها، في هيام وانسجام، لا يعكر صفوهما نظرات الشباب الغيورة، ولا حسد الفتيات، لم يكن يهمنا همسات نساء الحي، وماذا يضيرنا مادمنا لا نفعل عيباً، لذا لن نخفي حبنا. كان ذلك غريباً على مجتمع حيّنا العمالي، كنت متلفعاً ببعض التحرر من غربتي الدراسية بالشمال الإفريقي.

ومضت بضع سنين.. لم أعمل لهؤلاء أي حساب، فحبنا طاهر عفيف كحب بن الملوح وليلى ، صاف صفاء سريرة الأطفال، لم نكن مثلهم في الحي، نعشق في الظلام كالخفافيش والبوم، كنا نلتقي في وضح النهار، في بيتنا أو بيتهم، تحت بصر الجميع في الحي الجميل من مدينة مدني الحنينة ، ليس فينا ما نخجل منه.

ومر صيف وشتاء، ثم صيف وشتاء، ثم صيف.. كانت كل الفصول ربيعاً عندنا، ربيعاً دائما قد خلق لأول مرة في بلادي.

لم يرق للخفافيش والبوم تحليق الحمام والقمري فوق السحاب فاردة أجنحتها للشمس المشرقة، ليس هناك ما يمنع جماعتهم من الطيران في النهار غير طبعها الخفاشي والبومي، ولم تستطع قبيلة الخفافيش والبوم ان تقنع الحمام والقمري ان يغير طبعه ليطير مثلها بالليل.. هنا بدأت الحرب.

لاحظت مدى جمال ورقة ودقة تفاصيل جسم تمثال افروديت بالمتحف القومي اليوناني باثينا ، ومدى روعة المشهد وهي رافعة فردة حذائها بيمناها تريد ضرب الشيطان الواقف بجوارها وهو يهم بإيذائها، فيما بدا الملاك نازلاً من السماء يبعد بيده الصغيرة الشيطان عن افروديت..

ترى هل ركب فيدياس- المثّال اليوناني في عصر افروديت- آلة الزمان فجاء إلى عصرنا فرأي فتاتي على شاطئ النيل الأزرق، ثم رجع إلى عصره فنحت بإزميله تمثالاً لها، فنسبه المؤرخون لرمز الحب والجمال عندهم؟

لقد تطابقت كل الصور مع واقعنا؛ جمال افروديت في الحالتين، الشيطان وهو يريد إيذاء افروديت، الملاك يدفع أذى الشيطان بيده.. تضافرت قوى الشر علينا، حاكوا في الظلام الدسائس، صارت مجالس القهوة النسائية مرتعاً خصباً للإشاعات، كونت بعض الفتيات والشباب العصابات، عصابة برج المراقبة، عصابة الخرتيت والحنتيت، عصابة الأقارب، عصابة العقارب.. الخ..

عاد الربيع أدراجه من حيث أتى، ذبلت كل الأزهار، حتى أزهار أشجار النيم لم يعد يفوح منها شذاها في الليالي الصيفية، بيوت الحي بدأ منظرها كئيباً كعربات قطار البضاعة المهجورة في محطة السكة الحديد، الكلاب صارت تعوي كالذئاب، بل تنوح منذرة بشؤم وشيك الوقوع؛ من سيموت الليلة يا ترى؟

(تنوحي علي عمرك) تقول النسوة وهن منقبضات الصدور، وكأنهن بهذه العبارة قد قلبن السحر على الساحر، وفدين روح أحد أفراد الحي بروح من ينوح عليه مقدماً .. وهن لا يدرين انه ينوح على حبنا.

اشتدت العواصف الهوجاء تقتلع كل شئ؛ أعجاز النخل، شجيرات الكتر، أعمدة مصابيح الكهرباء، ما تبقى من أعمدة الهاتف، الورد والياسمين والقرنفل والليلاك، الصبر والصبار والأراك، والحب والغزل وورثة بني عذرة. وطار الحمام والقمري والأوز البري والعصافير الملونة وطير الجنة وهاجر لما وراء القارة، وحلقت في السماء أسراب الغربان والجوارح والبوم والعقاب والذباب.

لم يبق في أجسادنا شبر إلا وفيه طعنة رمح او ضربة سيف ، لماذا لا نرفع الراية البيضاء؟

قالت هي، أما أنا فلم اقل شيئا، إذ كان لساني أيضا مجروحا، كما هو حال قلبي وكبدي وعضدي.

لم نستطع أن نطاطئ رأسينا للريح، لأن رؤوسنا خلقت هكذا مرفوعة، لذا دخلت السفاية عيوننا، وملأت الكتاحة أنوفنا، وخنقتنا العبره، فماتت الأحلام والآمال والحاضر والمستقبل، وماتت الأحاسيس والمشاعر والقلوب.. وحطم زلزال (مسّينا) تمثال افروديت

لقد مات الرمز ، وجرف الطوفان الحطام، وقهقه الشيطان لانتصاره، وهتف أعوانه له، وانتحب العشاق في أقاصي الأرض، وساد الكون ظلام دامس، ولم تعد تشرق الشمس.

؟

؟

ومرت سنة كبيسة

وأخرى حبيسة

ثم مر عقد ثقيل

فدهر طويل

وحين احتفل العالم بليلة الألفية الثالثة، ظهرت في سمائي نجيمات بعيدة،

ثم طلعت نجمة الصباح،

وأخيراً .. لاح ضوء الفجر ..

جدة السعودية

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون