أعلامٌ ورجال من ودمدني-2-

بقلم / عمر سعيد النـور

 

نتناول بالحديث هذه المرة سيرة علم آخر من أعلام مدينـة ودمدني ، وعالم من علماء الأمة ومرجع من مراجعها،يعلمنا الفقه وأحكامه والحديث ورواته ذلكم هو الشيخ عبد السلام أحمــد ، وهو الذي عرفناه شيخاً جليلاً ومعلماً فاضلاً كريماً، فلقد كان بيته ( مربع 11 ) مدرسة تطبيقية في العلم والخلق ، تجد في كل زاوية علماً يعلم بالفعل لا بالقول كيف تكون عالماً جليلاً وأبناً باراً خلوقاً،وكان لسانه يلهج بذكر الله ، وقد أتسم الشيخ عبد السلام منذ بداية حياته بالجرأة في الحق بترو ودراية ، وكان ذا هيبة ومجالسه يعمرها بذكر الله ، وعندما يرى خطأ عند أحد الحضور فانه ينفرد به ويوضح له طريق الصواب برفق وعطف أبوي .
ويحفظ تاريـخ مدينـــة ودمدني وبأحرف من نور أن ( خلوة شيخ عبد السلام ) خرجت العشرات ، وكل هؤلاء يحفظون القرآن عن ظهر غيب ، مجوداً ، ويعرفون معانيه ، حفظوه عن طريق شيوخ أفاضل متمكنين .. فأجادوا وأتقنوا الحفظ . .. وتعتبر هذه الخلوة أحد روافد الخير والعطاء في مدينة ودمدني .. وهي أحد المحاضن الطيبة النقية والبيئة الصالحة الطاهرة لنشأة الأبناء ، ولم تقدم للناس سوى الخير .. ولم يصدر منها ومن شيوخها سوى الخير .

وللشيخ عبد السلام مقعد متميز بمتجر الشيخ محمـد الحسن أحمد مختار ( غاندي ) تاجر القماش الشهير بمدني يجتمع إليه مع شيخ آدم علي وشيخ الطيب أبو قناية والعمدة عبدالله شقدي وشيخ محجوب عووضة ، وشيخ قسم السيد صالح ، وغيرهم من الأئمة ووجهاء المدينـــة ، فمتجر غاندي في ذلك الوقت كان أشبه بـ(دار للندوة ) يجتمعون فيه ويتفاكرون في أمور الدين والعباد فما أعظم أولئك الرجال الذين يقيمون شرع الله في أرضه ويحيون الناس بذكره وأمره ، لأنهم يحافظون على وطنهم وشبابه وطاقاته من الهلاك والفناء ( وَمَا كانَ رَبُكَ ليُهلِك القُرى بظُّلُم وَأهلُهَا مُصلحُونَ ) ، ويعملون بجد ومثابرة على نشر التآلف والتصافي وحب الخير للمجتمع المسلم ( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . لقد أدى هؤلاء الآباء والأجداد دورهم الحضاري تجاه الدين والوطن وتجاه مدينتنا الحبيبة ودمدني وتجاه أهلهـا فجزاءهم الله عنا خير الجزاء ، ويعتبر شيخ عبد السلام أحمـد أحد ركائز المعهد العلمي بود مدني ، مع الشــيخ الجليل والعالم المبجل ( شيخ آدم علي ) ، فكان رحمه الله الساعد الأيمن لشيخ آدم ، وبعد وفاة ( شيخ آدم ) عليه الرحمة ، تولى شيخ عبد السلام أحمـدإدارة المعهـد( بموقع الجامع العتيق بود مدني ) .

ثم أنقطع للعبادة مرابطاً في المسجد ، قبل كل أذان وبين المغرب والعشاء يقرأ القرآن حفظاً ، وخلال هذه الفترة كان يزور الناس في بيوتهم ويلبي دعواتهم ويحاضر فيهم ، ويشهد له بذلك تلك الأجيال التي تتلمذت وتشربت جوانب التربية المتعددة على يديه .
أما رعايته لأبنائه فأنه منذ البداية فقد حرص على تنشئتهم التنشئة الصالحة ، فبرز من أبنائه وأحفاده رجالاً مثالاً للعلم والخلق الحسن والتأثير نذكر منهم من ( أم إبراهيم ) أستاذنا الجليل ( إبراهيم عبد السلام ) مدرس التربية الإسلامية واللغة العربية بالمدرسة الأهليـة ، والذي تلقى تعليمه العالي بمصر ، ومما أشتهر به حرصه الشديد في منح الدرجات للطلاب فهما كتبت في الإنشاء مثلاً فلن تحصل منه على أكثر من (درجتان ونصف الدرجة )!!؟،وإذا أحتج أحدهم على ضعف التقدير ، فيرد : \" طيب العقاد لو كتب أديه كم ؟ \" ـ رحمه الله ـ بقدر ما علم وربى ، وهناك عبد المنعم ، والذي هاجر منذ زمن طويل لمصر ، درس وأستقر به المقام هناك ولذلك فأن معلوماتي عنه شحيحة للغاية لانقطاعه فترة ليست بالقصيرة عن البلد ، وكل ما تسعفني به الذاكرة عنه إبان زياراته لمدني في حياة والده ، هو الهدوء والتهذيب الشديد ، ثم مظهره المتميز إذ كان يحرص على لبس البدلة الكاملة ، ومظهره يدل على أنه تلقى تعليماً عالياً ، ثم هناك ابنه البار الخلوق الشــيخ الجليل الأستاذ عبد الرحمن عبد السـلام ، الذي سـار على درب أبيه ـ رحمه الله ـ ، بل هو صورة طبق الأصل منه لملازمته له ، فهو بحر متلاطم لا ساحل له أنى سألته أجابك ، لما عرف عنه من صلاح وتقوى ، والأمر بالمعروف ، فنشأ على حب الخير ، فحفظ القرآن وتزود من العلم ما أهله للإمامة والخطابة ، وفتح بيتـه لتعليـم القرآن وتجويده ، وهو من شيوخ حلق تحفيظ القرآن الكريم بالمدينة ، ولشيخ ( عبد الرحمن ) العديد من تسجيلات ( التلاوة ) بالإذاعة والتلفزيون ، وعرف عنه ـ حفظه الله ـ المرور على مساجد المدينة يعظ الناس ويذكرهم بالتوحيد والتزام هذا الدين لنجاتهم ،والحق فأن لكلماته تأثيراً طيباً في النفوس ، كلمات الإحساس الصادق العميق بمن حوله ، وقد عرف عنه أنه لا يخشى في الحق لومة لائم، فكانت له صولات وجولات مع ( أمن الدولة ) في عهد نميري ، فهو يقول كلمة الحق ويقدم النقد اللاذع ، ويتهكم من النظام وأمنه ، فيتعرض للاعتقال والمضايقات ، وبعد الإفراج عنه .. يعود لسيرته الأولى وتعليقاته الساخرة على أمن نميري وعلى نظامه فيعاودون الكرة معه ، وهكذا دواليك إلى أن سقط النظام ، فهو يتفاعل مع بيئته ، ويجعل من خدمة أبناء مدينته هدفاً أعلى يسعى لتحقيقه ، ومن النوادر التي لا أنساها أن أحد أصدقائي تملكته الدهشـة،عندمارأى شيخ عبدالرحمن ، يحادث أحد الأجانب بلغةإنجليزيةراقية،وبعبارات منتقاة،فسألني في دهشة : ( هو شيخ عبد السلام بيعرف إنجليزي ؟ )..فقلت له وخريج حنتوب كمان ‍؟؟،وللشيخ عبدالسلام منأم إبراهيم بنت واحدة ( نفيسة ) ، وله من زوجته الثانيـة ( من أم سنط قريبة آل كنين ) أبن ويسمى ( عبد الرحيم ) ، وبنتان ( أمنة وميمونة ) .

وبعد هذه الأسطر التي عشناها في مدرسة العلماء ونسل العلماء ، فلن نستطيع إلا أن نقول إن الشيخ عبد السلام أحمــد حي بذكره وفعله وأبنائه الأبرار ، فكل ما سطرته ليس خيالاً نرثي به شيخنا ، بل حقيقة شاهدتها بعيني ، إن فقد العلماء ثلمة لا تسد ، فهم كالنجوم يهتدي بها ، يقول ابن القيم :

فهم النـجوم لكـل عبـد ســائـر
يبغي الإله وجنـة الحيــوان

فتحية إجلال وإكبار لهذا الشـيخ الذي سعى من أجل الحسنة لا من أجل الدنيـا وزينتها، نسأل الله رب العرش العظيم أن يغفر له وأن يعظم أجره ، وأن يسكنه فسيح جناته .. إنه على كل شئ قدير وبالإجابة جدير .ولعله من المناسب تقديم اقتراح لبلديةودمدني بإطلاق اسم الشـيخ ( عبد السلام أحمـد ) على أحد شـــــوارع المدينة وفاء لهذا الشيخ الجليل .

ونتناول بالحديث كذلك السيرة العطرة لرمز من رموزنا العلمية والوطنية ولابن بار لمدينتنـا الحبيبة ودمدني ذلكم هو البروفسير عوض أبو زيد مختار ( ممثل منظمةِ الصحةِ العالميةِ بالمملكة العربية السعودية ) ، الرئيس الفخري لجمعية أبناء ودمدني الخيرية بالمملكة العربية السعودية .

والحديث عن بروفسير عوض أبو زيد مختار ، لا ينفصم عن هموم التعليم العالي بالسودان ، فقد كان المؤسس لكل جديد وعاصر ثورة التعليم العالي في مهدها ، بل كان رائداً من روادها ، فقد ترك بصمات مُضيئة في سماء التعليم العالي ، من خلالِ موقعهِ بلجنةِ سياساتِ ثورة التعليم العالي ، ومن خلال عضويته للمجلس القومي للتعليم العالي بالسودان لعدة سنوات ، بل وفي كلِ مكانٍ ذهبَ إليهِ ، فهو المؤسس لكليةِ الصحةِ ، إذ يعود إليه الفضل بعد المولى الكريم في تحويل المعهد الصحي بالخرطوم ليكونَ كليةً للصحةِ ، ثم هو العميد المؤسس لكلية طب جامعة جوبا ، وهو المدير المؤسس لجامعة أعالي النيل ، فقد ناضل وجاهد جهاد الصابرين ، وطوع الوقت بإدارةٍ ناجحةٍ لصالحِ قيام هذه الجامعة ، وكابد وعانى ، عانى من التمرد ، وعانى بُعده عن أسرته وأولاده ، عانى من الملاريا ، عانى ضَعّف الميزانيات المصدقة ، وأستطاع وفي بضع سنين ، وبفضلٍ من المولى الكريم أولاً ، ثم بما أبتكره من استثمارٍ تشهده مؤسسات التعليم العالي للمرة الأولى حيث استعان بالمرحوم محمد عبد القادر المفتي المدير الزراعي الأسبق لمشروع الجزيرة ، فجعله مديراً للاستثمار بالجامعة ، فتم استصلاح وزراعة عشرات الأفدنة ، وكان العائد طيباً والحمد لله ، فأمكن تضييق الفجؤة بين الاحتياجاتِ الفعليةِ لجامعةٍ ناشئةٍ ، وبين ما هو مصدق ومعتمد لها من ميزانيات لا تفي حتى بالنذر القليل من احتياجاتها . فكان له اليـدُ العليا في إرسـاءِ قواعدِ هذه الجامعةِ ، واستطاع أن يجعل لها أسماً ومكانةً متميزةً بين مؤسسات التعليم العالي ، وهو أمرٌ لا يستغرب من بروفسير عوض أبو زيد لأنه يحمل في طياته التفكير المتزن والعقلية المجددة المبدعة ، يعمل أكثر مما يتحدث ، وهو لا يقبل بالمراكز المتأخرة لكل عملٍ يَشرفُ عليه أو يُنجزه.ويقرأالواقع بمنظارالمثقف الواعي المدرك ، تجده في كل مناسبة وطنية ، يتحدث ويحلل بعُمق ومشاركة وفاعلية.ولكل ذلك كان من الطبيعي أن يكون أحد مهندسي ثورة التعليم العالي في السودان ، فرسالةِ التعليمِ رسالة جليلة ، رسالة العطاء والغرس الطيب الذي يُؤتي أُكُله كلَ حينٍ بإذنِ ربهِ .

وإنني بحكم صلتي بالبروف والحي الواحد( حي ود أزرق ) حي العملاقةأحمد خير المحامي ، الأمين حاج أحمد وجعفر نميري ، والرئيس المصري الأسبق ( محمد نجيب ) ، والرئيس الإثيوبي الأسبق ( أمان عندوم ) ،ومامون وبهاء الدين بحيري وشيخ شاطوط وشيخ العرب وشيخ أبو زيد وشيخ أبو قرط وشيخ آدم علي ومحمد الحسن غاندي ومحمد سليمان الدمياطي والفرنساوي وبسمةوأبنعوف وعبد الحفيظ حمد وخضري عيسى ، ومبارك والأمين دياب ،وحاج يوسف أبوالرووس ومفتي وخالد خضر وحاج حمزة وشرف الدين ، وود عابدون،وود البشار ، والشاعر القومي محمد خير عثمان وأبوعموري ومحجوب علوب وأبورز ، وأبو ضلع وشافعي شمس الدين وصادق أبو عاقلة وإبراهيم صيصه ، وعثمان موسى ، وصالح حاج خالد وإبراهيم صابون وخالد عربي وأبو القاسم أبو علام والطيب نقد ونعيم وفائز برنسه ,وإبراهيم الكاشف ومحمد الأمين وود النو ،وعلي إبراهيم والفنان التشكيلي بروفسير راشد دياب ، والفنان السوداني المصري الجنســـية إبراهيم خان،وبابكر حنين وعمر بادي( بنك مصر )، وسانتو أخوان،وسيد مصطفى،ومتوكل العربي،والكوري أخوان ، وصنته والليح والتاج وكرن والجار وابراهومة والشبر وبله سليم وأولاد جلال ،قلة وابوزعبل وغيرهم من الأفذاذ ) ، كنت أعرف بروفسير عوض عن قرب ، فاتيح لي الوقوف على خصاله الحميدة وحبهِ العميق وبرهِ بوالديه ، وحبهِ واحترامهِ لإخوانهِ الكبار ، وعطفهِ وحبهِ ونصحهِ للصغارِ منهم ، حبهِ لمدينتنـا الحبيبة ودمدني ، تَعرفتُ على طيبِ النفسِ وصلابة المواقف التي تصل إلى حد العناد فيما هو حق . وهو إنسان مهذب هادي ، لا يخوض فيما لا يعنيه ، وعاش ومازال ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ عاش عفيفاً ، عزيزاً على نفسه وعلى الناس ، مترفعاً عن الحياة الرخيصة الذليلة ، مع التواضع الجم ، مخلص في توجهاتهِ ، أمينٌ في طرحهِ ، صادقٌ في ما يقول ، وله حضور اجتماعي لا يملك القدرة على تحقيقه إلا أمثاله ، وهو سباقٌ لعملِ الخيِر والعملِ الاجتماعيِ ، إذ شاركنا تأسيس ( جمعية أبناء ودمدني الخيرية ) بالمملكة العربية السعودية،وهو والحمد لله محبوب من جميع فئات المجتمع بالمدينة ، حيث يحمل أجمل الصفات وأصدق التسميات وهي خصالٍ نادرة ٍهذه الأيام . ومن حقه علينـا ،إذا كنا أوفياء لرموزنا أن نذكرهم ونقدرهم ونحتفي بهم ، وهو أحدهم ، وألاَّ فنحن جاحدون ومقصرون ، وأرجو إلاَّ نكون كذلك . فالأوطان تسمو عندما تقدر روادها .

وقد أثلج صدورنا اختياره ممثلاً لمنظمة الصحة العالمية ، هذا المنصب الرفيع،وسعدنا باختياره لهذا الموقع المشرف لنا جميعاً ، وهو حدثٌ جديرٌ بالتقديرِ والثناءِ ، وهو تكريٌم لناَ ولهَ .
مد الله في عُمره وحَفظِه ، وسيبقى ما قدَمَ باقياً ، والله نسأل أن يَجزيهَ خير الجزاء لكلِ ما قدمَ من جهودٍ وتضحياتٍ ، وسمو أخلاق غمرَ به كلِ من خالطه . ونثق أن هذا المرفق الهام سوف يشهد في عهده الكثير من التقدم والازدهار ، وندعو الله مخلصين بان يوفقه ، ويسدد على طريق الخير خطاه . فهنيئاً له على هذا الحب الكبير من أبناء ودمدني الذين احتفلوا بتكريمه في واحدة من أكبر القاعات بمدينـة الرياض ، بما يليق بمقام هذا الرجل البار والمربي الفاضل والإداري الناجح والمسؤول الأمين الصادق ، وهنيئاً لنا نحن أبناء ودمدني به ، بل وهنيئاً لكل أهل السودان بالمخلصين من أمثاله ، وأكثر الله من أمثاله وسدد خطاه إنه سميع مجيب ، وتحية مجددة لرجلٍ جديرٍ بالوفاءِ والتقديرِ والحبِ الصادق

والشخصية الثالثة التي سنتناولها بالحديث هو شخص غير عادي يشار إليه بالبنان ويحظى بالتقدير والاحترام من لدن الجميع ، هو أول السودان في امتحان الشهادة السودانية ، وهو ذلك الطالب النجيب الذي قيل أنه نبه الأستاذ المراقب في قاعة الامتحان لخطأ في إحدى مسائل مادة الرياضيات ، وتبين لاحقاًً صواب ما ذهب إليه ، إنه ( عصام البوشي ) ...

عندما فكرت في كتابة هذا المقال المتواضع عن بروفسير عصام عبد الرحمن أحمد عساكر ، هذا الرجل المتفرد الذي جمع بين الدين والعلم مع سمو الأخلاق وكريمها ، ذلك العلم البارز في جميع مراحل حياته ، تذكرت أولئك العمالقة من الرجال المخلصين في مرحلة التأسيس لجامعة الجزيرة في السبعينات ، وهم كوكبة من العلماء والأساتذة ، ضحوا بأوقاتهم وقدموا عصارة جهدهم وعلمهم حتى تبوأت هذه الجامعة الفتية وعن جدارة صدارة مؤسسات التعليم العالي ، حيث كان من الأوائل ، الذين انضموا لهذه الجامعة الفتية ، ولقد رسم لنفسه منهجاً متوازناً يستشرف المستقبل ويؤصل فكرة ثوابت أمته ، فعمله في محيط التعليم الجامعي جعل الكثير من طلابه يتأثرون بالكثير من الأفكار والرؤى التي يقدمها بأسلوب حضاري علماً بأنه في ذلك الوقت لم يكن المناخ مناسباً وملائماً لحالة الانفتاح التي يعيشها مجتمعنا الآن ، فلهذا برزت لديه الكثير من المهارات التي أهلته ليكون قيادياً في حياته الوظيفية ، التي كان موعده معها بداية عندما عين عميداً للدراسات العليا والشؤون العلمية ، وبروفسير عصام البوشي يحمل صفات جمة ، لعل أبرزها :
ـ له شخصية مهيبة ومؤثرة تتسم بالخلق الرفيع وبالسماحة والقوة في الحق وحب الآخرين وحبه لفعل الخير وحرصه على ذلك .
ـ الحلم والأناة وعدم الغضب ، فقد عرفته طاهر القلب ، عف اللسان ، هادئ الطبع وقراً ، يبتسم للشـدائد ، محبوباً عند الناس واصلاً لرحمه ، باراً بوالديه ، راعياً لهما حق رعايتهما ، ولم يقف عند هذا الحد بل أتى ذوي القربى حقهم وزيادة .
ـ متحدثاً بليغاً وحكيماً مع خبرة عميقة بالحياة والناس .
ـ ومن أهم ما يميز هذا الرجل تواضعه الجم وثقته بنفسه وسمو أخلاقه ، ومن الأمورالتي تسجل له الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، كذلك تواده في المناسبات الرسمية والاجتماعية فهو لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يهمل تلك الدعوات التي توجه إليه من الوسط الرسمي والشعبي فالمناسبات الوطنية والأمسيات الأدبية والدينية والمناسبات الاجتماعية تجده حاضراً فيها يستمع ويناقش ويحاور أيضاً.
ـ سيدة المدائن ( ودمدني ) التي ولد وتربى وترعرع فيها هي وأبناؤها في قلبه حاضرة يشارك أهلها أفراحهم ويحضر مناسباتهم الاجتماعية والرياضية ، وقبل هذا وذاك حرصه الشديد على التواصل مع أطياف المجتمع.

وبروفسير عصام البوشي من أسرة طيبة مباركة عريقة في الحسب والنسب ، عُرف أفرادها بالأخلاق الحميدة والسجايا الفاضلة والتواضع الجم ، ورث الصفات الطيبة والأخلاق الحميدة من جده لامه الشيخ مدثر البوشي ووالده وأعمامه الأفاضل ـ رحمهم الله ـ وكأني بالشاعر يقول:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنـا يا جرير المجامـع

ولهذا فأن علاقاته بالآخرين طابعها الاحترام والتقدير ومعرفة عميقة بأهل ودمدني وأنسابهم ، ويحضرني هنا أننـا كنا في إحدى المرات جلوساً في صباح أحد الأيام أمام مباني الكلية الإعدادية كعادتنا في كل يوم قبل بداية الدوام اليومي ، حيث يجتمع هنا جل أعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعة وكان عددهم وقتها محدوداً ، فقدم إلينا أحد خفراء الجامعة القدامى ( كان قد تقاعد عن العمل منذ فترة ) ، فسـلم على الجميع بالاسم وكان من بيننا بروفسير يوسف قمر ، والذي رد تحية الشيخ بقوله : \" أهلاً يا حاج \" .. الرجل امتعض وقال والألم واضح في نبرات:\" صوته خلاص نسيتونا يا قمر يا ولدي !!؟\" ، ومن عجب أن جميع الجالسين لم يتذكروا اسم الرجل .. بروفسير قمر تلفت يميناً ويساراً ، وقال والحرج والارتباك بادياً على وجهه\" وين يا جماعة عصام البوشي يحلنـا !! ؟ \".. وصدق فلو كان عصام البوشي موجوداً بيننــا لسـلم على الشيخ باسمه ، حيث عرف عنه أنه يعرف جميع العاملين بالجامعة بالاسم ـ بلا مبالغة ـ مثلما يعرفونه هم كذلك بالاسم .... فمن رابع المستحيلات أن تجد بالجامعة شخصاً لا يعرف عصام البوشي وهذا طبعاً ليس لأنه حفيد الشيخ مدثر البوشي فحسب وإنما لأنه خالط جميع شرائح المجتمع فأحبهم وأحبوه ، إنه شخصية فريدة فذة .

وأيام ( بروفسير عصام البوشي ) بجامعة الجزيرة كانت حافلة بالعطاء والشموخ والمسؤولية . وكان بحق رجل المسؤوليات الكبيرة والمواقف المشرفة ، وساهم ضمن صفوة من الأساتذة والعاملين في أن تحتل جامعة الجزيرة هذه المكانة المتميزة بين مؤسسات التعليم العالي بالسودان ، هؤلاء أبلغ وصف فيهم مقولة أ. عبد الحليم سر الختم في أول حفل لاستقبال الطلاب الجدد ، حيث وصفهم بأنهم : ( مصابيح دُجُى وقناديل خير ) صدقت أخي عبد الحليم إنهم والله لكذلك .. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأساتذة الأجلاء المرحوم بروفسير محمد عبيد مبارك وبروفسير عمر حسن جحا وبروفسير ميرغني عبدالعال حمور ودكتور محمود عبد الله إبراهيم وبروفسير يوسف قمر والمرحوم الأستاذ / محمـد عمـر أحمـد ، وبروفسير سامي فيرجون والمرحوم بروفسير صلاح الدين طه صالح وبروفسير عبد السلام محمود وبروفسير مبارك مجذوب وبروفسير إسماعيل حسن حسين وبروفسير النور أبو صباح وبروفسير عثمان طه ودكتور عباس الكارب،والمرحوم بروفسير بشير الفاضل مكي ودكتور يوسف طه جمعة ودكتور يوسف على رجب ودكتور محمد الطريفي ودكتور محمداني ودكتور مكي الطيب و الأستاذ هاشم عوض والمهندس قاسم بيطري والأستاذة نور عبدالرحيم والسيدة الفضلى الأستاذة نفيسة يوسف صبير ،والأستاذ مبارك عبدالوهاب ومحمود كنانة والأمين الطيب وعبد الرحيم عمر المبارك والحاج مكي مدني ويوسف محمد بابكروالمهندس مكي دفع الله والأخوان مبارك وبابكر وعلي عبد القادر وهاشم محمد أحمد ومحمد إبراهيم خالد ودريسه وعبد الكريم ومحمود محمد محمود، وغيرهم من الأفذاذ ، وكانت بصمات ونجاحات بروفسير عصام البوشي واضحة في كافة الأعمال القيادية والمهام والمسؤوليات التي تولاها بالجامعة وكان في مستوى المسؤولية . وبعد فصله من الجامعة ضمن قائمة تجاني حسن الأمين الشهيرة التي حرمت الجامعة من كوكبة من خيرة الأساتذة والعاملين ، كانت محطتة الثانية ( كلية ودمدني الأهليــة ) ، وهناك استطاع أن يحقق نجاحاً مرموقاً ، وكان عند حسن ظن القائمين على أمر هذه الكلية ، ففي بضع سنين أستطاع النهوض بها لتكون (جامعةً أهليـةً ) بها عدد من الكليات ، ولها مبانيها المستقلة بعد أن كانت تستأجر بناية بشرق مطار ودمدني القديم ، لأنه بتنويره العلمي المتعدد الثقافات وبإلمامه بمهارات القيادة جعلته إنساناً مبدعاً ، ووسط هذا العطاء المتواصل ، تحقق ما يشبه المعجزات فالمال ( على أهميته ) لا يحقق ما تحقق ، ولكنه توفر الإرادة لدى هذا الإنسان صاحب التجارب المتنوعة ، فقد كان يوظف أفكاره وتطلعاته لخدمة هذه الجامعة ، وهذا الإنجاز الكبير الذي تحقق كان بفضل الله تعالى أولاً ، ثم بمعاونة كوكبة من المخلصين(مواطنين وأساتذة وعاملين ) ، فلهم جميعاً التحية والتجلة والتقدير ، فجامعة ودمدني الأهليـة هي اليوم مفخرة للتعليم الأهلي ... وهي مفخرة لكل أهل ودمدني ، فهنيئاً لك أخي عصام على هذا الإنجاز العظيم ، وندعو الله لك بالتوفيق والنجاح في حياتك .

وحيث أن السلسلة الذهبية التي ذكرتها أنفاً من الأطوار والأدوار التي قام بها بروفسير عصام البوشي خلال أكثر من ثلاثة عقود مضت لم تزده إلا تواضعاً وحباً لهذا العمل الشاق لما فيه خير مدينتنا الحبيبة ودمدني ، وامتداد أفضاله لتشمل كل المجتمع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فقد غرس خيراً وجنى عقولاً ورجالاً شاركوا في بناء وطننا المعطاء وقد استفادوا من أساتذتهم الأفاضل علماً وأدباً وخلقاً ، فقد كان أستاذنا الفاضل البوشي يمتاز بحسن تعامله وأدبه الجم ومحبتة للناس ومحبة الناس له ، وجاء في الأثر من أحبه الله حببه إلى الناس .
وحقيقة الأمر أنني مهما تحدثت عنه لن أستطيع أن أحيط بهذه الشخصية التي تتنكر لذاتها في كل شئ ، ولكنها مشاعر صادقة تريد أن تعبر عن وجدانها بطريقتها الخاصة وبأسلوبها المتواضع ، حفظك الله أيها الأستاذ الجليل عصام البوشي ومتعك الله بالصحة والعافيـة .
والله نسأل أن يديم علينا فضله وأنعامه ، لنظل من خير أمة . وحفظ الله بلادنا الحبيبة ، بلد الخير والتكافل ، وجعلها واحةً للأمنِ والمحبةِ والأمانِ .

 .

عمر سعيد النــور
رئيس جمعية أبناء ودمدني الخيرية
الرياض

 

راسل الكاتب