( شيخ العرب )

أحمد الطيب أحمد 1903-1993م

الإهداء إلي كل الناس وإلي زوجتي وبنتي عائشة وإبني أبراهيم وبصفة خاصة إلي إبني أحمد

الجذور:-

ولد أبيه الطيب احمد بشمال السودان وبالتحديد من أسرة جعلية من قبلية ( الفاضلاب) عرف بالصرامة؛ وزوجته عرفت باسم  (شديد أمي) وهي فاطمة بنت ناصر عرفت بالكرم والجود والعطاء وما كانت تقابل أحدا إلا سلمت عليه وذرفت الدمع السخين وتقول قولتها المشهورة ( إنت وين ياشديد أمي ) ومن وقتها أطلق عليها (شديد أمي ) وهذا الشبل من ذاك الأسد فجاء إبنها أحمد مثلها وجاءت أخته ( زينب ) جوادة شديدة الكرم تمر علي الناس بالحلة تطعم الجائع وتتفقد أحوال الناس فأطلق عليها ( حبيبة الليل ) فإن قلت زينب بنت الطيب فلا أحد يعرفها ولكن إن قلت (حبيبة الليل) أخذوك لها على الفور. ولها قصص كثيرة لا يسع المجال هنا لذكرها ..

في عام1924 م هاجر إلي الجزيرة وأستقر ( بمدني) وعمل بالزراعة وأختار منطقة (بيكة) التي تبعد حوالي 10كلم من مدني للسكن، ولكنه إنتقل الى مدني وسكن بالقرب من دكان ( أبو طبيلة)، وبعد توزيع أراضي ود أزرق إستقر هناك وأنجب ( أحمد- حميدة- عبد الله- زينب- صالح- ريا- أم الكل- آمنة ) وجذب معه إبنه (عبد الله) الذي عمل معه بالزراعة.

المولد النشأة والتكوين:

كان ( أحمد ) طويلا عالي الرأس كصاري المركب، إذا مشي تبعته أزهار اللوتس وشقائق النعمان. عمل بالتلفونات لفترة من الزمن بمدينة (الحصاحيصا) ثم إتجه إلي التجارة بعد نصيحة أخيه الاصغر حميدة ( الذي هاجر للحبشة وعمل بالتجارة وكون ثروة من المال هناك ثم عاد وإستقر بالدمازين وما زال بها حتى الآن) وانطلق (أحمد ) في العمل التجاري بمساعدة أخيه حميدة وعمل في مجال الصفيح- العيش التبغ، ولمع إسمه، ومنحه صديق عمره الريح ابراهيم الريح- رحمه الله-  دكانا بسوق العناقريب وأصبح هذا الدكان قبلة للغادي والرائح. واصبح ديوان منزله كذلك يجمع النزلاء من كل أنحاء السودان وجمع كبير من طلاب العلم الذين اصبحوا الآن يشكلون رموزاً وطنية ويحتلون مراكز مرموقة بالدولة.

 وهكذا إستمر في عمله التجاري حامدا شاكرا الله عز وجل علي ما حباه من نعمة. وفي الستينات كانت نقطة التحول في حياته، فهجر العمل التجاري وسلمه إلي إبنه ( عباس) الذي بدأ يباشر العمل التجاري ويهتم بشئون الأسرة وتفرغ أحمد للآخرة تاركاً الدنيا، والقرار برمته قرار صعب لا يقدر عليه إلا نوع خاص من الرجال لاسيما ان الحياة بالسودان كانت حينها حياة رغدة سهلة والناس كانت تعيش في بحبوحة حيث كان الواحد فقط يستطيع حمل عبء 10 أشخاص أو يزيد ؛ وفي زخم هذا الترف ترك الحياة واعطاها ظهره.

كانت حياته تبدأ في الساعة الرابعة صباحا حيث يستعد للصلاة ثم يصلي صلاة الفجر ؛ بعدها يتجه إلي السوق الكبير لتناول شاي الصباح (لبن سادة) ثم إلي المستشفي لتفقد المرضي ومساعدتهم ؛ ومساعدة الأطباء وقضاء حاجاتهم؛ والذهاب إلي المشرحة ودفن من لا أهل له؛ وبعدها يتجه إلي السجن لتفقد السجناء والضحك معهم وبصفة خاصة المجانين. وفي الظهر يذهب إلي صديقه أحمد عبد اللطيف ليؤدي صلاة الظهر والتفاكر في أمر المدينة، وقضاء بعض المجاملات الاجتماعية. برنامج المساء كان الذهاب إلي منزل يوسف ابو الروس أو الى منزل الأمير نقد الله للتشاور في أمور حزب الأمة وأشياء أخرى، ويصلون العشاء ثم ينفض السامر وكل يذهب إلي منزله.

وحكي لي صديق مقرب إليه بأن (أحمد بدأ اتحاديا إلا أن هناك موقفاً غير حياته وجعله يحول ولاءه لحزب الأمة ؛ والقصة بدأت عند وصول السيد إسماعيل الأزهري إلي محطة السكة حديد بمدني لإحياء ليلة سياسية بمدني؛ وجاء الاتحاديون من كل صوب وحدب وامتلأت السكة حديد، ولم يكن هناك موطئ قدم لاستقبال الزعيم  الأزهري، وجاء الأنصار ولم أعرف سبب مجيئهم، ربما للاستطلاع؛ وحدث هرج ومرج؛ وحدث الاشتباك بالعصي والسكاكين؛ وفر من فر ووقف أحمد وحده يقاتل الأنصار ؛ وذهب إلي أهله حزينا ؛ وفي اليوم التالي انسلخ من الاتحاديين؛ وأعلن انضمامه إلي حزب الأمة وسط تظاهرة حضرها السيد ( عبد الرحمن المهدي) ومن ذلك الوقت وهو يقضي كل أوقاته مع الأنصار، ويحرص السيد عبد الرحمن على زيارته عند قدومه إلي مدني.) انتهى كلام صديقه.

أواخر الستينات كانت الانطلاقة الكبرى في حياة شيخ العرب، فقد بني عنبرا بمستشفي ود مدني أطلق عليه عنبر ( شيخ العرب) وحتى الآن لم تحدد الجهة أو الشخص الذي أطلق عليه لقب ( شيخ العرب) وطبق اسم شيخ العرب الآفاق؛ وأصبح علي لسان الكبير والصغير عندما يأتي ذكر الموت؛أو الإحسان أو المرؤة أو الشهامة؛ ودفن من لا أهل له؛ ويساعد المحتاج- وخاصة أهل القرى حول مدني- فكنوا له الحب والود التقدير؛ واصبح منزله وديوانه وجهة لكل ضيوف الجزيرة ولطلاب العلم ؛ وكثير من يقودون العمل العام بالسودان كانوا نزلاء هذا المنزل.

وزادت مسئولياته ؛ وكثر العمل العام عليه- لاسيما دفن الموتى- وبدا في تدريب الشباب على ذلك، وبرز من هؤلاء فهمي البوشي الذي خلفه ومازال يعمل حتي الان، وأحمد بابو وعيسي حسين وقادوا العمل بكل اقتدار ومسئولية، وقد خصص له قسم الشئون الاجتماعية بإدارة مشروع الجزيرة سيارة وسواق تحت تصرفه، ومنحته مستشفي مدني ( إسعاف) لهذا الغرض، بالإضافة إلي أنه تكفل بمعدات حفر القبور كاملة- والتي كان يحفظها بمسجد ( البوشي)- وجعل من شجرة ابو الأقوان ) متكأ له يستريح تحتها يداعب الشباب ويداعبوه؛ علاوة علي ذلك فإن مصنع ( فتح الرحمن البشير) قد خصص له بالات من دمورية يستعملها في فرش أسرة عنبر شيخ العرب؛ وخياطة الأكفان التي كان ملتزما بها عمنا إبراهيم فرج (والد الفاتح كرناف) رحمه الله.

وهكذا عاش حياته تاركا ملذات الدنيا خلفه واهبا نفسه لخدمة الناس كل الناس- ومن لا يعرفه عاداته وتقاليده جيدا يعتقد أنه يعيش في القرون الوسطى ؛ ولكن من يقرأ هذه الأسطر جيداً يدرك أن الرجل بعكس ذلك- قد سبق عصره وهاكم بعض التي عايشته بنفسي:-

1.                            كان نادرا ما ينام تحت سقف السماء.

2.                            لا يستعمل المروحة علي الإطلاق؛ وفي وجوده تطفأ كل المرواح

3.            لا يبيت خارج مدينة مدني مهما كانت الظروف.. يقول إذا حدث ذلك فإما ان يحدث للمدينة (غرق او حرق) وهي مقولة العالم العارف الشيخ العليش

4.            لا يستعمل الصابون في حمامه، يستعمل فقط الماء (أثبت الصينيون أن بالصابون مواد كيماوية تضر بالجسم ونصحوا باستعمال الماء فقط في الحمام )

5.                            لا يلبس الجلباب، بل يعلقه علي كتفه.

6.                            يلبس فانلة شتوية ( بزراير ) علي مدار العام.

7.                            لم يستعمل حبوب طبية ولا حقنة في حياته.

8.                            لم يشرب شاي أحمر أو قهوة في حياته

9.                            لم أشاهده في حياتي باكيا.

10.                       لم أشاهده يضحك ملء شدقيه.

11.                       لم أشاهده بدار الرياضة بالرغم من أنه يشجع أهلي مدني.

12.                        يدخل السينما يوميا ولكنه لا يشاهد الفيلم ؛ بل يأخذ غفوة طويلة داخل السينما.

13.                        قليل الأكل، يأكل فقط الطبق الذي أمامه حتى ولو كان سلطة.

14.                        قليل النوم ؛ تترواح ساعات نومه بين ثلاث إلي أربع ساعات ؛ كان يغفو فقط.

15.                        لحظات إحباطاته نادرة ؛ عشتها مرتين الأولي عند وفاة إبنه عباس، والثانية عند وفاة والدتي.

16.                        لا يركب السيارات بل ( الكارو والموتر وكثير المشي (هوايته المفضلة).

17.          هناك شيء (مكور ) في يده نصحه صديق ( عمره د. إبراهيم المغربي ) بأن يجري له عملية جراحية لإزالته ولكنه رفض الفكرة متعللا بان سر شخصيته في هذا الإصبع.

18.                        يحمل عصا حديدية في يده ليل نهار لا تفارقه، وهو يقول أن السر بهذه العصا.

19.           في أقسى اللحظات كان يطلق النكتة؛ ففي المقابر عند دفن أحد الموتى كان يداعب الناس؛ أو يداعب أهل المتوفى. في السوق يداعب الصغار والكبار ؛ كان يداعبه الناس في أي مكان؛ في السوق، في الحي، في السينما، في المستشفي. كانت حياته أشبه ما تكون بحياة الرهبان و الرهبانية، بها شيء من الجدية والانضباط.

أشياء لم أشاهده يمارسها :--

1.                            لم أشاهده يجلس لطبيب للكشف عليه بالرغم من أن د. ابراهيم المغربي  كان من أعز أصدقائه

2.                            لم أشاهده يجلس لحلاق ليقص شعره.

3.                            لم أشاهده يركب قطارا أو طائرة.

4.                            لم أشاهده سابحا في البحر.

5.                            لم أشاهده يلبس ساعة.

6.                            لم أشاهده مدخنا أو شاربا للخمر أو مستعملا ( التمباك )، في حين أنه التاجر الأول للتبغ في مديرية النيل الأزرق.

7.                            لم أشاهده في تظاهرة سياسية أو جالسا علي أعتاب باب حاكم؛ بل كان يقتحم الأبواب.

8.                            لم أشاهده باكيا.

9.                            لم أشاهده محتقرا لأحد.

مواقف شاهدتها :-

1.                            شاهدته ينام في القبر قبل أن يواري فيه جسد الميت.

2.                            شاهدته يصرف بيمنيه ويساره دون أن يرانا.

3.            شاهدته يحدث الرئيس الأسبق نميري مداعبا (لماذا لا تخلف ذرية).

4.            شاهدته يحاور (محمد إبراهيم نقد) سكرتير الحزب الشيوعي السوداني قائلا له (يا ولدي أين تختفي) فرد عليه نقد (يا شيخ العرب أنت ماركسي دون أن تدري).

5.                            شاهدته مرة واحدة بدار الرياضة مدني.

6.                            شاهدته دخل غرفة بها جثة متعفنة لمدة ثلاثة أيام، ولم يستطع أحد الدخول عليها من شدة الرائحة.

7.                            شاهدته مرة يصلي علي السرير عندما هطل المطر غزيرا وأنهمر المطر من سقف المنزل الذي ننام فيه.

8.            شاهدته يداعب أحفاده ويتكلم معهم وتكلم مع إبني أحمد البالغ من العمر 7 أشهر قائلا له (يا حلبي) فأبتسم الرضيع وضحكنا معه.

9.                            شاهدته يجلس مع السيد ( عبد الرحمن المهدي ) بمنزلنا والمهدي يضحك ملء شدقيه.

10.                       شاهدته في مرات نادرة جدا يسمع الإذاعة ويشاهد التلفزيون.

 

راسل الكاتب

الصفحة الثانية