المعذبون في الأرض

 

 بقلم : أسامة عبيد فضل

    

  الناس هنا  تبحث عن المسكن الشامخ والسيارة الفارهة والعيشة الرقدة , بينما  الملايين في بلادي تحلم وتدعو الله أن يطعمهم من جوع  ويأمنهم  من  خوف . فالحصار الاقتصادي وهيمنة  الشيطان سرقت خيرات الأوطان وثرواتها , وتسلط من لا يخاف الله ولا يرحم عباده جعل الكثير منا  يبحث عن  مأوى خارج الوطن ,ولو  مؤقت كي يعيشوا  بكرامة ويوفروا لأطفالهم أبسط  مقومات الحياة وفي سبيل ذلك ركبنا المخاطر ارتمينا في غربة مريرة , نكابد المشاق علنا نتأقلم ونندمج في هذه  المجتمعات الغربية الغريبة التي اختلفنا معها تقليدا وفكرا وبلا شك دينا .  ولكن كالذي يسبح ضد التيار بغية النجاة كلما جرفتنا الأمواج استعدنا قوانا وعزمنا مواصلة الرحلة علنا نصل لبر  الأمان متسلحين  في ذلك بديننا الحنيف وبإيمان أننا نعاني ونشقى  من أجل أهداف سامية علينا أن نتحمل وألا نكل وأو نمل أو تنكسر شوكتنا إذا أردنا  تحقيق هذه  الأهداف . وما نيل المطالب بالتمني .

  في الأسهر الأخيرة  من عام تسعة وثمانين من القرن الماضي ( بالطبع ) كنت في  ((كييف )) ـ أكرانيا ـ  ألمم أمتعتي  وأجمع أفكاري وأخطط للمستقبل إذا كان تبقي لي أشهر للتخرج والعودة للوطن كنت مفعما بالحماس ومغمورا بالفرح لقرب ميعاد العودة ولقاء الأهل والأحبة وبدء حياة عملية كنت أحلم بها , لكن فرحتي لم تدم طويلا عندما أطاح انقلاب عسكري في بلادي بالنظام الديمقراطي الذي قدمنا الغالي والنفيس من أجل حلوله , عندما  هب الشعب وثار على جلاده وانتفض انتفاضته المجيدة في ابريل من عام خمسة وثمانين ليقطف ثمرة نضال طال  أكثر من خمسة عشر عاما ولكن  هاهي الدكتاتورية تداهمنا مرة أخرى وبأبشع صورها التي  أسكتت أصوات الجميع ليعلو صوتها وما أنكرهذا الصوت .

   تغيرت  كل  الأمور وجرت  الرياح بما لا تشتهيه السفن وبدل التفكير  في العودة للوطن طارت  الفرحة وبدأت  أفكر كالآخرين في مخرج حتى يقضي الله أمرا كان مكتوبا وقد تبين جليا منذ الشهور الأولى لهذا  النظام قسوته ووحشيته عندما زج بالآلاف في السجون  معارضة في الخارج . أحمد الله أنه كان قد تبقي لي أشهر فقط لتخرجي قبل أن تصدر الحكومة قرارا بإعادتنا للبلاد وقطع منحتنا الدراسية . وبلغنا باسم اتحاد الطلاب نعارض فيه النظام ونشجب قرارته ونعلن عدم رضوخنا لقرار عودتنا , وكأي نظام دكتاتوري يمارس دكتاتوريته المشروعة تجاه هذه الأمة حرمنا من التحويلات الزهيدة التي كنا في أمس الحاجة لها مع التقلبات السريع في جمهوريات الاتحاد أمام مشاعري وشو قي لأهلي  وللوطن , ورغم وعود النظام بالانتقام منا وجدت نفسي بين خيارين أمرين , الهروب ‘لى حيث لا أدري أو العودة للوطن و تحمل التبعات . فاخترت من بين الشرين ما كنت أظنه الأهون فضمنت لنفسي مكانة مرموقة  بين الرفاق في بيت من بيوت الأشباح التي ينكل فيها بإنسانية الإنسان ويموت فيها الواحد بطيئا أثر التعذيب دون أن يأبه السجان لتلك الروح فهي في حسابهم صو ت ضدهم إذا مات أو صمت أمنوا شره , ولكن بإرادة الله أحمده وأشكره تمكنت من الخروج والهروب من الوطن وطرت إلى بلاد العم سام آملا في مساعدة أصدقائي الذين سبقوني  إلى هناك .

  وكان ما تمنيته فالتقيت في شمال (( فرجينيا )) صديقي منذ أيام الطفولة كان نعم الصديق فتح لي صدره وبيته بكل ما أمكنه ما خفف علي  مرارة الغربة  في زممن قل أن يوف الأخ أو الصديق أمانة الصداقة .

    وفي يوم جمعة مباركة عقب  صلاة الجمعة رفعت يدي إلى السماء تضرعا وداعيا الله أن يرزقني ببنت الحلال ويجعلها لي مسكنا ويجعل بيننا مودة ورحمة . استجاب الله دعائي وحالفني الحظ في أيام ألتقي زوجتي حفظها  الله وأهلها الذين كانوا لي خير الأهل . خففوا من غربتي وشدوا من أزري حتى بنينا عش الزوجية المتواضع . وسارت الأيام والشهور ونعم الله علي لا تعد ولا تحصى , فبعد الزوجة وظيفة جيدة وسيارة ثم طفلين مباركين ( أن شاء الله ) . لكن فجأة هبت  رياح عاتية كادت  أن تعصف بسفينتي وإثر  قوانين الهجرة المستحدثة رفض طلبي للجوء ثم رفض طلب الاستئناف وطلب مني مغادرة البلاد . كنت قد ملت الغربة دون بصيص   أمل في تغير أوضاع بلادي وأنا مكبل لا أستطيع السفر ولو لبلد من بلاد الجوار كي أرى أهلي , قررت أنا وزوجتي الخروج من هذه الدوامة ولكثر ما سمع نل عن كندا وأنها ملاذ الفارين من الجحيم , توجهنا دون تردد  إلى جنة اللاجئين فانفتح لنا أول باب وانهالت علينا المساعدات والخدمات. وتنفسنا الصعداء وبدلا  من العمل في وظيفتين أصبح بقدوري الاكتفاء بوظيفة واحدة لأتمتع ببعض الوقت مع عائلتي . انتظم طفلاي في الروضة وبدأت تبتسم طفولتهم . وبدأت أنا بدراسة الكمبيوتر لأحسن مؤهلاتي .  أما زوجتي التي انتظمت في  دراسة اللغة الانجليزية لم تكن سعيدة كثيرا فلأول مرة تبعد عن أهلها . وفي بلدة صغيرة لم تقابل فيها بنات جلدتها لفترات تصل إلى أسابيع , أحست زوجتي بالوحدة والضياع وزاد من إحساسها هذا تغيرات أطفالنا متأثرين بمن حولهم في الروضة . كانت خيبة املها عندما عادت طفلتي يوما من الروضة ولقنتها درسا عن  المعاملة كما تعلمته في  الروضة . بكلمات طفولية بريئة تخاطب أمها(( لكي تكوني أما صالحة يجب ألا يعلو صوتك علينا وألا تحرمينا مما نحب وإلا فنضطر إلى الاتصال بالشرطة كما فعل ابن صاحب  البيت الذي كنا نستأجر منه ))  جن جنون زوجتي وانتكست حالتها النفسية التي كانت أساسا شبه منهارة . فضلنا يومين نتناقش ونتباحث الأمر للوصول إلى وسيلة نكسب  بها أطفالنا   دون المساس بحقوقهم أو مخالفة القوانين . وبعد ساعات من الصمت نطقت زوجتي ((خذني  لوطني .... خذني لوطني  ... حياتي هنا ليست  حياة )) الأمر كان  بالنسبة لي  في غاية الأهمية فزوجتي عندي أغلى من كنوز الدنيا , وأولادي فلذة كبدي أكبر نعمة من  علي الله بها . وواجبي كرب  أسرة أن أجدف بتلك القارب للوصول إلى بر الأمان ,رغم صعوبة الأمواج وقسوة  الرياح التي عصفت  بنا وكادت أن تكسر مجاديفي ....

    ولمعرفتي  المسبقة والمؤكدة بالوضع في بلادي لم أفكر ولو لبرهة في العودة  إلى الوطن  .كذلك عدم وجود أي من أهل  زوجتي في وطنها , علاوة على التدهور الاقتصادي والأخلاقي جعلنا نصرف  النظر في الذهاب إلى تلك البقعة التي كنت أحلم برؤيتها يوما ما ولقاء زملا ء الدراسة وأحبائي الكرماء .وبعد التفكير والتمحيص بكل منطق حسب ما نرى كنا قررنا السفر  لبلد ثالث هو أقرب لزوجتي بعاداته وتقاليده وكذلك 4دخولي له لا يتطلب أي شروط أو تعقيدات كما أصبح الحال مع باقي الدول  الشقيقة إثر حرب  الخليج الثانية, أضف إلى ذلك وجود بعض من أهلي هناك شجعنا  أكثر وأكثر .

  حزمنا أمتعتنا وودعنا أصدقاءنا هنا وغادرا دون نية للرجعة .أحسسنا بفرحة كبيرة عندما  حطت بنا الطائرة هناك , رغم أنه ليس موطني الأم وليس موطن زوجتي الأم وبطبيعة الحال أطفالنا كانوا بعيدين كل البعد عنه , ولكن هو جزء من الوطن الأكبر الذي تقنا له  والاستقرار فيه  بين شعوبنا الكريمة . مرت أيام وفرحة الانتقال تغمرنا .ثم كان لابد من خطو خطوات جادة لتحقيق الاستقرار ر الحقيقي وبسرعة نزلت للعمل في مشروع تجاري صغير أعده لي مسبقا قريبي سددت قيمة المشروع من إيجار وبضاعة وخدمات بالكامل . وبكل  همة بدأت أتحرك هنا  وهناك مستفيدا من الخبرة التي اكتسبتها من سنوات الغربة وتعودي على العمل لساعات طويلة.

  لم تمض أيام حتى  اكتشفنا أن المشروع فاشل وما صرفناه  فيه قد لا  نسترده في سنوات على أحسن الفروض و بدل من ان يصبح لي دخل زادت علي النفقات والعبء وأصبحت كسفينة الصحراء أجتر من سنامي كي أعيل أسرتي . وما ادخرته في سنوات الغربة بدأ يتبخر في شهور وقبل أن نسقط في الهاوية كان لابد من حل وبنصيحة الأصدقاء حولي كان أفضل الحلول الدخول في مشروع آخر مضمون , ولكي ينجح  المشروع  الكبير لابد من شريك , وفي خلال أيام كان المشروع قد  تم ومع شريك أقر جميع من حوله بكفاءته وأمانته , ثم أيام وإذا بالشريك يتبدل ويتنكر وكل ما تبقى لي من شقاء العمر أصبح رهن قاضي الجزاء . وبدت لنا الأوجه الحقيقية التي وصلت لها بلادنا ,في بلد لابد أن ترشي من باب  المطار حتى الوصول إلى وسط البلد من حمال إلى سائق سيارة الأجرة إلى شرطي المرور ثم الناطور (البواب) .. جتى من الجيران قد يحتاج الأمر  تقديم  الحلوان له كي تأمن شره إذا كان من إياهم , رغم المسميات  من إكرامية ,حلوان , تسهيل أو سكرة يبقى المعنى واحد رشوة والعياذ بالله . في  وسط هذه الأجواء  لم ينفع توكيل كبار محامي  البلد الذي قبض  أجره ثم رد علينا بكل برود (( معذرة يا أخي الكريم ولكن يستطيع خصمك أن يدفع ما دفعته لي لكبير القضاة لتعلق قضيتك سنوات ))

  بدأت أتخبط كالمصاب بالصرع .. كيف معنا كل هذا ونحن الذين بعنا الدنيا وما فيها من أجل عيشة كريمة لأولادنا في مجتمع ظننا فيه الخير والأمان والحنان الذي افتقدناه , لم يعد في مقدورنا تأمين الخبز , أما الدراسة وبأقل من مائة درجة مقارنة بما كان يتمتع به أطفالنا هنا فقد أصبحت ضربا من ضروب الخيال إذ ما تتطلبه من نفقات تفوق ما يمكن أن أدخره في سنوات تصرف على فترة دراسية واحدة . ناهيك عن متطلبات الحياة اليومية في بلد شقيق لعامل فيه كأجانب كل إجراء أو معاملة ثمنها أضعاف مضاعفة أما الإيجار فحدث ولا حرج فهو سياحي وبأسعار خرافية .

  أصبحت الصورة قاتمة ومخيفة وكل يوم يمر تتأزم الأمور أكثر وأكثر وكان لابد من طرق كل الأبواب عسى أن يفتح أحدها .وبالتفكير بالعودة أصبح منطقيا ومشروعا والذي استجرنا منه ظنا أن النار كان المضاء والواحة التي لهثنا للوصول لها إذا بها سراب وتبخرت أحلامنا أمام أعيننا  وأنا عاجز لا حول لي ولا قوة _إلا أن أدعو الله

     ا(( اللهم فارج الهم وكاشف الغم ومجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترجمني فارحمني برحمتك رجمة تغنيني بها عن من سواك )) آمين

 وكانت معجزة من الله سبحانه وتعالى أن تمكنا بشق الأنفس من العودة إلى هنا . وبسرعة انخرطنا في المجتمع الذي تعودنا عليه وتعودنا فيه على النظام والانضباط وعادت نعم الله علينا وحمدنا الله واعتبرنا أن ما مررنا به هو امتحان من رب العالمين علنا نجحنا  فيه ...

  وكما تمنينا سارت الأمور حتى هبت عاصفة الحادي عشر من سبتمبر . وبعد أن كنا نرغب قرار محكمة الهجرة التي استمعت لأقوالنا  قبل الأحداث بتنا نخاف الرد عقب الأحداث , وكان  خوفنا له مبرر فجاء الرد قاسيا .. لم تعترف المحكمة بأهليتنا للجوء  ولم يشفع طفلي الرضيع الكندي الذي رزقنا به بعد المحكمة بأسبوع واحد ولم تشفع كل الرسائل التي قدمتها من منظمة حقوق الإنسان في بلدي والتي أنا عضو فيها ولم تشفع رسالة مكتب المعارضة في (واشنطون) وأخرى من مكتب (تورنتو) ولا أسوأ تقارير حقوق  الإنسان لم تقنعهم أننا كبقية البشر لنا حقوق أ و اعتراف بإنسانيتنا.

    وفي تساؤل بني وبين نفسي ما إذا ارتكبنا حتى تقرر المحكمة ترحلينا  من لد ولو لفترة أحسسنا فيها بالأمان . وياترى إلى أين سنرحل؟ هل إلى بلدي الذي اصبح كابوسا يطاردني رغم شوقي لأحبتي فيه , أم بلد زوجتي الذي مزقته الحرب وشردت أهلها منه فباتوا مبعثرين هنا وهناك ولم تبق لها فيه سوى ذكريات . تود أن تعود منتصرة لا مهزومة أم أنه أسهل عليهم أن يرجعونا حيث أتينا أول مرة حيث ولد طفلاي , وهل حسب قوانينهم لابد أن يرجعونا إلى نقطة الدخول الأخيرة حيث لم يتبق لنا صديق في أو قريب نلجأ إليه في بلد ذقنا فيه الأمرين ولم يبق في ذاكرتنا منه سوى أنصاف أحلام وأنصاف كابوس وبضع صور تذكارية تدل على أننا يوما ما كنا هناك  وإن كانت لا تفصح عما جرى من ظلم .

  من باب الاستفسار اتصلت على المحامي أسأله لماذا يا ترى كل هذا الرفض لنا وماذا بعد ؟ فجاء رده ساذجا كتلك ردات الفعل الغير مبررة (( وهل المسألة تحتاج لسؤال  فأنت اسمك أسامة وباقي الرواية معروف لك . أما ماذا بعد عليك أن تستعد لمفاجآت ما بعد سبتمبر التي لم يفصح عنها مسئولو الهجرة بعد ))

وضعت سماعة الهاتف وأنا أدعو الله ((اللهم فارج الهم وكاشف الغم ومجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت فارحمني برحمتك رحمة تغنيني بها عمن سوك ))

                             آمين         

 

 

 

راسل الكاتب