كان ملكاً للرومانسية

بقلم : نشأت الامام

 

محمد سعد دياب.. بعيون الشعراء

كان ملكاً للرومانسية


نقرأ قصائده فتنثرنا فرحاً وشلالات مضيئة، توقد فينا مجامر الحنين، نقرأها فيمتد المدى أمامنا طواويس ملونة وعصافير تزهو بالهناءات، أكثرهم وصفوه بالتأثر بالشاعر نزار قباني وذلك لما يمتاز به شعره من رومانسية وبساطة في التعبير، ولهذا الجرس المميز الذي تسمعه كلما قرأت له..

مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي ارتحل عن دنيانا الشاعر محمد سعد دياب «61 عاماً» والذي توفى بمدينة ينبع السعودية، وهو شاعر له اسهامه المقدر في مسيرة الشعر السوداني، واصدر ديواني شعر «حبيبتي والمساء»، و«عيناك والجرح القديم»، وله ثالث لم ير النور بعد يحمل اسم «ونكتب في زمن الحزن»، وربما أثر انقطاعه الطويل عن السودان قرابة الـ«الخمس وعشرين عاماً» في أن انتاجه الجديد لم يصل إلى الناس، إلا عبر كتابات متقطعة في بعض الصحف والمجلات العربية..

«ودمدني» تحاول تلمس بعضاً من قراءات حول الراحل دياب وذلك عبر عدد من الشعراء الذين عاصروه وعرفوه..

تحقيق: نشأت الإمام


رومانسية منسابة

الأستاذ كمال الجزولي تحدث عن عدم مزاملته لدياب في مرحلة معينة، وذلك لفرق السن بينهما، لكنه استدرك قائلاً:

في أواخر المتوسطة وبداية الثانوية أزعم أني تتلمذت على يديه حيناً من الشعر، كان دياب ومجتبى عبد الله وعبد الواحد عبد الله، في الجامعات والمعاهد العليا، ولهم مذاق مختلف، استطعمناه في ما ينشر بجريدة الثورة عدد الجمعة، ننتظره بشوق، مثلما أحببنا لوناً آخر من الشعر، يقوده عيدابي ومصطفى سند ومحمد المكي، وعندما كبرنا لم يمنعنا انصرافنا إلى مذاهب مختلفة في الشعر والأدب عن مواصلة احترام تجربة المجموعة، وظللت أتابع أعمال دياب تارة وأنا بعيد عن السودان، وتارة أخرى هو بعيد عنه، ولم تتح لنا الظروف بأن نجتمع، ولكني أعترف أنه وبموته فقدنا علماً من أعلامنا الأدبية والثقافية.

وعن تأثر دياب بالشاعر نزار قباني، أشار الجزولي إلى ذلك قائلاً: دياب شعره ينساب رومانسية، ويهتم بالمرأة وبالحب المباشر في معناه الحسي، لذا جاءت بعض قصائده مغناة، ساعده في ذلك بساطة التعبير اذ ينتمي لمدرسة السهل الممتنع، والتي كان رمزها الأكبر نزار، لذا ليس بمستغرب أن تكون أشعاره تتلمذت على قصائد نزار.

صور مبهرة

الشاعر اسحق الحلنقي أشار إلى أن قصيدة «مدلينا» والتي تغنى بها النور الجيلاني، لا تزال من المقاطع التي يحفظها عن ظهر قلب، وواصل حديثه عن الراحل دياب قائلاً:

يعتبر فقداً كبيراً جداً لما تميز به هذا الشاعر الجميل من التعامل مع التفاعيل الشعرية ذات الموسيقى الرائعة، لاسقاط المعاني ذات الأقنعة، والتركيز على كتابة المفردة الرشيقة ذات المضامين الكبيرة، فهو يمتلك حساً موقعاً، ويرسم صوراً مبهرة تستحوذ على مشاعرك وقد تصل لحد الامتلاك..

وفي بداياته تأثر دياب بالشاعر السوري نزار قباني، وذلك من طبيعة كل شاعر، يتأثر حيناً من الدهر، ثم ينفك من أثره ليكوّن هويته وملامحه الابداعية التي تميزه بين الشعراء، وبعد أن أصدر ديوانه «عيناك والجرح القديم» في منتصف الثمانينات أعتقد أنه تمكن من اجتياز مرحلة نزار، وكون شخصيته كمبدع، يقف في طليعة المبدعين الذين طالما عطروا سماء السودان الفنية والثقافية بأجمل ما لديهم من ابداع..

أناقة مفرطة

الأستاذ سعد الدين ابراهيم استهل حديثه بتأثر دياب بنزار قباني، وأوضح أن ذلك لم يقف عليه، بل عدد من شعراء الوطن العربي تأثروا في تلك المرحلة بشعر نزار، واستطرد سعد الدين قائلاً:

دياب كان نجماً وأذكر أنني كنت أقابله في بيت عمر الدوش، وأقابل معه مبارك بشير، عثمان خالد، وكان يتميز على الجميع بأناقته المفرطة، وكان يرتدي دوماً سترة كاملة، فكان مهندم المظهر على الدوام، ثقافته كانت عالية، وقرأ بحكم دراسته في انجلترا، الأدب الانجليزي وتعمق فيه وكان له رؤاه وفق منظور خاص به..

تميز شعره بالمباشرة في استخدام الصور والنعوت، وميزه عن غيره الغزل السافر والصريح، والتحدث بلسان المرأة في بعض أشعاره، وكتب دياب شعراً أثر في خارطة الشعر السوداني، على الرغم من أنه لم يكن في قوة ود المكي أو جرأة مصطفى سند، لكن دياب له ملامحه المميزة، وعباراته الجزلة التي كانت حكراً عليه فقط..

بعد اغترابه انقطعت عنا أخباره وأشعاره إلا مقتطفات نجدها بين الحين والآخر منشورة بعدد من الصحف والمجلات العربية، لكن وبرغم طول المدة نكاد نميز أشعار دياب حتى وان لم نجد عليها اسمه، فموسيقاه لا تخطئها أذن..

كلمات.. ولا شيء بعد

مع حاجته لاستدعاء بنية التذكر، والتي بدأت تفعل في نفسه الأفاعيل، عبر الأستاذ مصطفى سند عن ترادف الوجع الانساني الذي أحدثه في نفسه رحيل صديقه الشاعر محمد سعد دياب.

ويواصل سند حديثه: كانت تشدني خاطرة أو فكرة أو رأي، إلى عالم خاص جمعني به، في فترة أعتبرها من أزهى فترات العمر، وعلى الرغم من أنني لم أحظ بلقياه كثيراً في الفترة السابقة لرحيله الفاجع، لكني كنت أتابع باهتمام شديد آخر النصوص الشعرية التي كان يبدعها باقتداره الفني الرفيع، وأجدها متاحة بيسر وحميمية في عدد من الصحف اليومية، ولم أحس بنصوصه الجديدة تلك بأي وهن أو ضعف بسبب ضغط النفس وهي تعيش المرض وتحاذره وتتعالى للانتصار عليه، كان شعره هو ذات الشعر المستمر في التحول والصعود نحو اليوتوبيا والحلم والمثال، مع قوة الصياغة وتجبر الايقاع وتأنق الكلمة، والحوار الدائم مع الذات التي ارتبطت طوال رحلة ابداعها الشعري بأفق الجمال.. لا تريم عنه ولا ترى لحياتها وجوداً أو معنى بدونه.. رغم وجود ذلك التململ السري البعيد والذي كان يشي بإمكانية انبثاق يقين ما..

ويستطرد سند متحدثاً عن هاجس الموت عند دياب، قائلاً: ان هاجس الموت وامكان مفارقة هذه الحياة، كان نبراً طقسياً يتخفى بمكر ودهاء تحت عباءة الوهج الصياغي للبنية الحلمية عنده، خاصة وهو يتذكر.. وكل أشعاره الأخيرة كانت عبارة عن تداعيات غير واعية لانبعاثات شعورية تهجس بحزن في ذاكرة الأشياء، تجليات قناعية، تؤكد لي الآن أن الشاعر كان يحس بقرب مفارقته لنا، ولأشيائه، ورؤاه، وأحلامه، ومصادر إلهامه وبواعث الشعر عنده..

يضج بالموسيقى

الشاعر التيجاني حاج موسى، ابتدر حديثه عن رحيل دياب واصفاً رحيله بأنه صفحة من صفحات الشعر الأصيل قد طويت، فدياب ترك في مسيرة الشعر السوداني فراغاً شاغراً، لن يشغله غيره.. وواصل التيجاني حديثه عن دياب وعن معرفته به، قائلاً:

الأستاذ دياب اقتفينا آثاره حينما كنا نحاول كتابة الشعر في بداية سبعينات القرن الماضي، وهو رجل كان واحة ظليلة لأبناء جيلنا، فكنا نتحلق حوله حينما نرتاد ندوة الأربعاء بالمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون، والتي كان يديرها الشاعر العظيم الراحل مبارك المغربي..

كنا نجد أنفسنا قريبين منه، ولعل طبيعة عمله كمعلم هي التي جعلته يعاملنا بهذه الحميمية والحنو البالغ، وهذه الاريحية ظل يعاملنا ويصبر علينا، حتى بعد أن غادرنا إلى السعودية ليعمل بها وكان يغتنم فرصة اجازاته القصيرة ليزورنا نحن تلاميذه فرداً فرداً.

ويواصل التيجاني: الحديث عن شعر دياب تنبئ عنه قصائده المشحونة بالرومانسية والتي اختط فيها نهجاً هو مزيج من قصيدة الحداثة والقصيدة الكلاسيكية، ومعمار قصائده جميعها تضج بموسيقى الشعر الرائعة وبالعبارات الأنيقة المنتقاة، ومازالت ترن في أذني أهازيج «مدلينا» تلك الأغنية التي قدمها لنا الفنان النور الجيلاني..

استغراق رائع

الأستاذ عبد القادر الكتيابي يختلف مع الجميع حول تأثر دياب بنزار قباني، ويقول الكتيابي: لا أميل إلى أن ينسب دياب لمدرسة تأثر بشعرائها، فحتى نزار قباني تناولاته اعتمدت على الأدب العربي القديم، فالافتراء على الأعراف عند نزار لم تكن ابتداعاً فقد سبقه قديماً منخل اليشكري، وعمر بن ابي ربيعة وغيرهم، لكن اللغة الحديثة هي المدرسة، وليست القضايا..

دياب كان صادق الشاعرية منذ بواكيره وميالاً للتجديد، وكان حادباً على اتقان مدرستين في شعره العمودي الرصين، وشعر التفعيلة، وفي كليهما أجاد.

ويواصل الكتيابي قراءته في شعر دياب قائلاً: هناك كثير من الفتوحات في خواطره الشعرية، وكثير من الاستغراقات الرائعة في حالة الشعر لديه، لا سيما وهو مؤسس من حيث الإلمام بعلوم العربية والعروض، وواسع الاطلاع في الشعر العربي قديمه وحديثه، ودياب كان نسيجاً لمجتمع متفرد، لذا الحكم على دياب وأمثاله بأنهم حملوا وتأثروا بمناخات شعرية مختلفة، حكم ليس بدقيق، فدياب كان نتاجاً -كسائر شعراء السودان- لثقافة عريقة ومتنوعة ومتعددة التأثرات من الرؤى المتباينة، وهو من أفريقيا، والافريقي كما يقول سنغور:

موت افريقي

يعني.. احتراق مكتبة من التراث

وجاء رحيله انسحاباً هادئاً من الساحة، سبقه انقطاع طويل بسبب ظروف الشتات التي ادركت جيله في أواخره، لذلك انقطع عنا تتبع العطاء الجديد، وانقطعت أخباره قبله، وهو قطعاً لم يكن منسياً عندنا، لكنه اختار طول الغياب وزهد في التواصل الاعلامي الا قليلاً نجده نثاراً هنا وهناك من كتابات تحمل توقيعه.


دياب.. ورحيل الفراقد

ü كثيرون مثله رحلوا عن دنيانا، غادرونا ولم تعرفهم كثير من أجيال شبابنا، بل وربما لم يسمعوا بهم، ولا يفرقون بين شاعرهم وكاتبهم.. رغماً عن أن كلاً منهم يمثل رقماً كبيراً في تجربتنا الوطنية الثقافية، لاذوا بالصمت، وحتماً سيكون ارتحال كل منهم في ذات الصمت والهدوء، والخاسر في ذلك كله هو الأجيال القادمة، بل والراهنة من شبابنا في هذا الوطن..

ü محمد سعد دياب رحل بدون صخب، وهو هناك في البعيد، ولم تبق لنا منه سوى ذكرى لصورته المنشورة في ديوان «عيناك والجرح القديم» وكلمات الديوان التي لم يقرأها الكثيرون ممن شبوا الآن على طوق الصبا، وتوارت منذ زمن قصائد مثل «عندما تتوهج الحروف، اني أضعتك من يدي، وأسأل عنك حبيبتي» وغيرها من قصائد الحب الشفيف..

ü ونرى أن أمثال شاعرنا ظلموا ولا يزالون ، كما حكى لي أستاذنا الشاعر عبد القادر الكتيابي، والذي حدثني عن بحثه في بعض مقررات الطلاب في مدارس الأساس والثانوي، بل حتى الجامعة، عن نصوص لعدد من عمالقة الشعر السوداني، ولكني أحبطت جداً -والحديث للكتيابي- احبطت حينما فكرت في مأساة غياب نماذج من أعمالهم، وكانت المأساة مركبة بسبب وجود نصوص ضعيفة لغيرهم اتسم اختيار بعضها بالمجاملة والولاءات غير المؤسسة، والتي افتتنت بها أجيال هرمت من نزاهة الاختيار لنصوص المقررات..

ü لاشك في أننا نقدر رموزنا في المجالات كافة وخاصة في مجالات الدعوة والارشاد على اسلوبيتنا المحلية، ولكنا في الوقت ذاته نطمح إلى مزيد من الصدق، خاصة حينما يكون المجال مجال علم في العربية والأدب، والذي تشترك فيه معنا أمة عريضة..

ü وربما كان الكتيابي يرمي باللائمة على الذين اختاروا بعض النصوص لبعض مشائخ الصوفية الذين نقدرهم، لا لشيء إلا لأنهم في موضع التقدير الروحي وليس لجودة نصوصهم، فهو يرى أن تلك النصوص المختارة ضعيفة في ميزان اللغة والأدب، ونحن أصحاب ارث كبير وعميق في هذا المجال، من أمثال شاعرنا الراحل، وغيره من شعراء الأجيال الذين يتوارون مع الأيام عن دنيانا فرقداً إثر فرقد..

ü وقبل ان نفترق نتساءل في سخرية مريرة، بأبيات كتبها الكتيابي يوماً:

هل الفقراء إلا نحن والطير

نصوغ لقمحه لحناً

ويأكل لحمنا الغير

هل الغرباء إلا نحن والشمس

نغيب فتضرب الدنيا سرادقها لتذكِرنا

كأن رحيلنا العُرس




 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب