المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مداوة النفوس وإصلاح الأخلاق



وائل
20-04-2006, 03:24 AM
لذة العاقل بتمييزه، ولذة العالم بعلمه، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده، أعظم من لذة الآكل بأكله، والشارب بشربه، والواطيء بوطئه، والكاسب بكسبه، واللاعب بلعبه، والآمر بأمره، وبرهان ذلك، أن الحكيم العاقل والعالم والعامل واجدون لسائر اللذات التي سمينا، كما يجدها المنهمك فيها، ويحسونها كما يحسها المقبل عليها، وقد تركوها وأعرضوا عنها، وآثروا طلب الفضائل عليها، وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما لا من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر.

إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك، وانتهيت في آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا، إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط، لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن، إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه، ولا بد من أحد هذين الشيئين، إلا العمل لله عز وجل فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل، أما العاجل فقلة الهم بما يهتم به الناس، وإنك به معظم من الصديق والعدو، وأما في الآجل فالجنة.

تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه، فلم أجده إلا واحداً، وهو طرد الهم، فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم، لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم، فمن مخطيء وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره.

فطرد الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه، وكل غرض غيره ففي الناس من لا يستحسنه، إذ في الناس من لا دين له، فلا يعمل للآخرة، وفي الناس من أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق، وفي الناس من يؤثر الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت. وفي الناس من لا يريد المال، ويؤثر عدمه على وجوده، ككثير من الأنبياء عليهم السلام ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة. وفي الناس من يبغض اللذات بطبعه، ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المؤثرين فقد المال على اقتنائه وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم كأكثر من ترى من العامة وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها.

وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرده عن نفسه. فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب، وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم، بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم، والصالح والطالح على السعي له، فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة. وإلا فإنما طلب المال طلابه، ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم، وإنما طلب الصوت من طلبه، ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها. وإنما طلبت اللذات من طلبها، ليطرد بها عن نفسه هم فوتها، وإنما طلب العلم من طلبه، ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك، ليطرد بها عن نفسه هم التوحد، ومغيب أحوال العالم عنه، وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتن من اكتن وركب من راكب، ومشى من مشى، وتودع من تودع، ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم. وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة، لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها، وتعذر ما يتعذر منها، وذهاب ما يوجد منها، والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضاً نتائج سوء تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك، من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عدو، مع الذم والإثم، وغير ذلك.

ووجدت للعمل للآخرة سالماً من كل عيب خالصاً من كل كدر موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة، ووجدت العامل للآخرة أن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر، إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب، وزايد في الغرض الذي إياه يقصد. ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم، إذ ليس مؤاخذاً بذلك، فهو غير مؤثر في ما يطلب. ورأيته إن قصد بالأذى سر، وإن نكبته نكبة سر، وإن تعب فيما سلك فيه سر، فهو في سرور متصل أبداً، وغيره بخلاف ذلك أبداً. فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد، وهو العمل لله تعالى، فما عدا هذا فضلال وسخف.

لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم. وباذل نفسه في عرض دنيا، كبائع الياقوت بالحصى.

لا مروءة لمن لا دين له.

العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة.

لإبليس في ذم الرياء حبالة، وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير خوف أن يظن به الرياء.





من كتاب الاخلاق والسير لإبن حزم

جنفر
23-04-2006, 07:00 AM
جزاك الله خيرا على المشاركه ياوائل