المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في الإعجاز البياني



Alneel
09-06-2004, 09:11 AM
في الإعجاز البياني


لقد ثبت عجز العرب في كل زمان ومكان عن الإتيان بمثل بيان القرآن أو أي سورة منه، رغم تحدي القرآن لهم، ورغم وجود الدافع لدى أعداء الإسلام في كل جيل وإلى قيام الساعة، ورغم انتفاء المانع، إذ كانوا أهل الفصاحة والبلاغة؛ والقرآن بلغتهم وألفاظهم وأساليبهم (وانظر: نبوءات المستقبل 11/1ج).

سنوجز في هذا الفصل بعضا من جوانب الإعجاز البياني للقرآن التي يلمسها كل قارئ ودارس ومستمع للقرآن بعقل مفتوح وحس مرهف، ولا حاجة لنا لعرض شواهد من القرآن، إذ أن القرآن كله معجز في بيانه، قليله وكثيره وجملته.

1/1 جوانب عامة:
· النسق البديع الخارج عن المألوف من كلام العرب – شعره ونثره – وكذلك اختلافه البين عن أسلوب مبلغه صلى الله عليه وسلم وهو القائل: أَنا مُحَمَدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ (ثلاث مرات) وَلا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَواتِحَ الكَلِمِ وخَواتِمَهُ وجَوامِعَه (أحمد).

· جريانه على مستوى رفيع واحد رغم تنوع المعاني والموضوعات، حتى آيات التشريع والأحكام، واقرأ آية الدَّيْن (البقرة: 282)، وآيات المواريث (النساء: 11-12).

· مناسبته لكل الناس على اختلاف معارفهم وعصورهم، فيفهمه ويتأثر به ويتبعه العامة والخاصة، والبسطاء والعلماء، على امتداد الزمان وتتابع القرون.

· تداخل معانيه وموضوعاته بحيث ترتبط في بناء متكامل متناسق يتعذر الإتيان بمثله.

· تصريف البيان بالتنوع الشديد في التعبيرات لنفس الموضوع، بحيث يؤدي كل تعبير معنى جديدا.

· خلوه من التكرار إلا لغرضين: التأكيد وما يصحبه من تضخيم المعنى وتعظيم التأثير، أو لأجل تكامل الصور والأشكال التي يعرض بها الموضوع.

· الإحساس بجلال الربوبية الذي يشي به التعبير القرآني برمته، إذ يستحيل نفسيا أن يتصنع بشر تقليد هذا الأسلوب على امتداد نص بهذا القدر.

· التنوع الشديد في توجيه الخطاب بما يتناسب مع السرد ويجسد المواقف والمعاني تجسيدا حقيقيا واقعيا (من الله إلى الرسول أو إلى جماعات من الناس، أو عن الله، أو بضمير الغائب عن أشياء أو أشخاص أو جماعات).

· إخراج مدلول اللفظ والجملة من المعنى المجرد إلى الصورة المحسوسة المتخيلة.

· تحويل الصور من شكل صامت إلى منظر حي متحرك.

· تضخيم المنظر وتجسيمه حيثما يتطلب الجو والمشهد ذلك.

· تكامل ووحدة موضوعات الآيات والسور في القرآن ككل، بحيث يفسر بعضه بعضا.

· إعجاز الوفاء بالأهداف المتباينة والمتضادة في نفس الوقت مثل:

- الإيجاز الشديد أو الحذف مع الوفاء الكامل بالمعاني المرادة.

- الإجمال مع التفصيل.

- خطاب العامة وخطاب الخاصة.

- إقناع العقل وإمتاع العاطفة.

· الإعجاز العددي الذي يتمثل في موافقات في تكرار بعض الألفاظ المتقابلة، التي يعجز أي مخلوق على مراعاتها مسبقا في صياغة نص بهذا الطول والتنوع، ويستحيل أن يتحقق بمجرد الصدفة المحضة، ومن ذلك ورود ذكر الشياطين والملائكة (88 مرة بصيغها المختلفة)، والدنيا والآخرة (115 مرة) والسيئات والصالحات (180 مرة بمشتقاتها)، والقرآن والوحي والإسلام بمشتقاتها (70 مرة لكلُ منها).

1/2 الإعجاز اللفظي:

· الكمال في اختيار كل لفظ بحيث يؤدي المعنى على أدق وجه وأوفاه بما لا يؤديه لفظ آخر.

· الاختيار الدقيق للألفاظ المترادفة بحيث تميز بين أدق الفروق في المعنى، وبحيث إذا استبدل اللفظ بمرادفه فقد النص عمق معناه ودقة تصويره وجمال جرسه.

· التجانس في الدلالة القرآنية لكل مترادف حيثما تكرر استخدامه في القرآن.

· البراعة في استخدام اللفظ الواحد بحيث يؤدي معنى مغايرا حسب موضعه في القرآن.

· تجانس استخدام الحروف بنفس الدلالة لكل منها في كل أرجاء القرآن.



1/3 إعجاز الجملة القرآنية:
· الاتساق اللفظي الصوتي، الذي تدركه الأذن – حتى لو لم تفهم المعنى أو تعرف العربية، وترتب ذلك سهولة نطقه باللسان: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/11)، وتيسير حفظه عن ظهر قلب، حتى يحفظه الطفل الصغير كما حفظته الأجيال. وليس ثمة نص بهذا الطول وهذا التنوع يسره الله للحفظ ككتابه العزيز.

· دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى.

· بلاغة الحذف في بعض المواقف للدلالة على المعنى بأبلغ عبارة وأكثرها تأثيرا.

· الترتيب المحكم للألفاظ داخل الجملة، وللجمل داخل الآية، لأدق تعبير وأعمق تأثير.

· البلاغة المثلى في توظيف الصور البلاغية والمحسنات البديعية والأساليب الإنشائية في الموضع وبالقدر المناسب بلا مبالغة أو افتعال.

1/4 إعجاز القصص القرآني:

· وحدة أهدافها لتحقيق غايات ثلاث: إثبات الوحي والنبوة، والموعظة والاعتبار، وبيان وحدة الرسالات السماوية.

· بلاغة الاقتصار على سرد التفاصيل التي تخدم هذه الأهداف.

· تكرير سرد القصة في سور مختلفة بصورة مغايرة في كل مرة، بحيث يتكامل موضوع القصة رغم سردها في مشاهد ومواضع مختلفة.

· إقحام النصائح والعظات في ثنايا القصة.

· العرض التصويري الحي (انظر 1/1).

· التنوع في استهلال رواية القصة والدخول إليها.

· العرض التمثيلي للقطات والمشاهد المترابطة، وحذف ما لا يلزم من المشاهد ؛ إذكاء للتصور والخيال.

1/5 إعجاز البيان التشريعي:

· صبغ كل المواضيع بصبغة الهداية والموعظة والإرشاد.

· التدرج في التشريع لتعويد الناس التحول عن فواحشهم.

· إظهار التيسير وتأكيد الفلاح والصلاح في الدنيا والآخرة لمن يتبع شرع الله.

· إبراز أسوأ سمات وأعمال الكافرين، وإبراز أسمى خصال وفعال المؤمنين.

· المقابلة دائما بين حدي الثواب والعقاب في الجنة أوالنار.

1/6إعجاز السور القرآنية (1):

· تكامل المعاني وتجانس الأسلوب والإيقاع لكل سورة رغم تناولها موضوعات متعددة ونزول آياتها في مناسبات متباعدة، رغم أن:

أ- صنعة البيان في الانتقال من معنى إلى معنى أشق منها في التنقل بين أجزاء المعنى الواحد.

ب- نزول القرآن مفرقا حسب الوقائع والدواعي على تباعد زماني، مما لا يسمح عادة بالتواصل والترابط.

ج- إن جمع الأحاديث المختلفة المعاني، المتباعدة الأزمنة، المتنوعة الملابسات في حديث واحد مسترسل هو مظنة التفكك والاقتضاب ومظنة المفارقة والتفاوت (مثال: طبق هذا على مجموعة متون الحديث النبوي أو غيرها من أحاديث البلغاء لتجعل منها سردا واحدا ليتبين لك ذلك).

د- عجز البشر عن الاهتداء إلى تحديد وضع كل جزء من أجزاء المركب قبل تمام أجزائه، بل قبل معرفة طبيعة تلك الأجزاء (طبق ذلك على أي منشأة أو صناعة أو نشاط بشري لتوقن كيف أن وقوع ذلك في القرآن إنما هو تحدي للقدرة البشرية جمعاء إلى آخر الزمان.

· إن اجتماع هذه الأسباب كلها في كل سورة نزلت متفرقة دون أن تغض من إحكام وحدتها، ولا من استقامة وزنها هو بالتحقيق معجزة المعجزات، ولا يجرؤ في قرارة الغيب على وضع هذه الخطة المفصلة المصححة ثم تنفيذها إلا عالم عالم فوق أطوار العقل.

· كما أن مطاوعة تلك الأحداث الكونية، ومعاونتها بدقة دائما لنظام هذه الوحدات البيانية شاهد واضح على أن هذا القول وذلك الفعل كانا يجيئان من طريق واحدة، وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته (2).



1/7 خلاصة الإعجاز البياني:

نجمل ما بسطناه عن جوانب إعجاز البيان في القرآن في أنه:

أ‌. "اجتمعت في بنائه كل مواصفات الكمال و الجمال، سواء في اختيار مفرداته أو ترتيب ألفاظه أو تراكيبه النحوية أو صيغه البلاغية؛ بحيث تؤدي أسمى الدرجات في: دقة التعبير عن المعاني المركبة والأحاسيس المتداخلة، مع بلوغ الغاية في إقناع العقل وإمتاع السمع والتأثير في المشاعر وتحريك العزائم، مما يؤكد أنه إنما قُدِّر تقديرا محكما وصُمِّم قبل نزوله بحساب دقيق ووزن حكيم لكل حرف وجملة وآية وسورة ثم تمام الكتاب ، مع تكامل سوره والتناسق والتكامل الداخلي لكل سورة – رغم نزوله في سور متفرقة ( بل في آيات أو مجموعات متفرقة للسورة الواحدة) عبر ثلاث وعشرين عاما، وفي مناسبات جد متباينة".

ب‌. كما أن التباين بين بيان القرآن وسائر البيان لا يتمثل في "بعض" مكونات بنائه من ألفاظ الفصحى والأساليب الإنشائية والصور البلاغية؛ فهذه وتلك نجد أمثالها في القرآن كما نجدها في كلام العرب، كما لا يتمثل في "بعض" صفات الكلام – تأثيرا وتعبيرا وجمالا- التي قد نلمسها (بدرجات: متفاوتة في كلام البشر، وبأعلى درجة في القرآن)، بل هو في اجتماع "كل" صفات الكمال والجمال وبأقصى درجاتها في البيان القرآني "بأكمله" دون سواه.