المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خواطر من غرب السودان (رجل الفولة) تحديداً



هشام شيخ الدين
12-07-2006, 05:16 AM
كنت يافعا صغيراً فى السن ، واقفاً مع والدى (يرحمه الله) ومجموعة من زملائه المدرسين وبعض أشقائى فى ميدان فسيح إعتدنا أن نلعب فيه كرة القدم ، وكان ذلك فى بلدة وديعة تسمى (رجل الفولة) بغرب السودان ، ابان الستينات من القرن الماضى

كان الوقت خريفاً ، وكان كل شىء حولك مغطى بخضرة ساحرة حبيبة تضفى على النفس فرحة وبهجة وسروراً ، وكانت قطائع البهائم تمر من امامنا سعيدة بما حباها الله من خضرة وماء وظل ظليل وأنعم عليها بكل هذا الأمان ، فعاشت مع الناس فى الفة عجيبة ، كما كانت تمر القطط والغنم والأرانب وجداد الوادى وقطيع النعام فى مثل تلكم المناظر الرائعة التى نشاهدها فى قناة (ناشيونال جيوقرافيك) أو (أنيماكس) بمعايير اليوم ، وأسراب الطيور الملونة والمهاجرة تحيط بنا من كل جانب

بنيت المبانى الحكومية كالمدارس والمجلس البلدى ومحطة السكة الحديد والمستشفى وسكن الموظفين بتخطيط سلس عجيب ، وقد بناها الإنجليز بالحجر وما زالت بعضها قائم حتى اليوم ، بينما ترامت الأحياء الشعبية وبنيت بالقش وبعضها بالطين حول هذه الدوائر الحكومية فأعطت للبلدة سمة مميزة ، وعاش أهلها فى سلام ووئام ومحبة ،

تنظر شمالاً فترى فتيات من (البقارة) يضعن (القرع) على رؤوسهن ، ويمشين فى غنج طبيعى غير متكلف وسط كل هذا الخضار ، فتحس برائحة الجنة فى انفاسهن الزكية وهن أجمل خلق الله إنسانا ، تنظر جنوباً فترى صبية يلعبون ويسمرون فترتد ضحكاتهم وصيحاتهم عبر الأودية تردد صداها أشجار التبلدى ، وترقص على اثرها الزهور والرياحين والياسمين ، فتتدفق الحياه فى شرايين ملئت بأنقى أكسجين فى الدنيا ،

تنظر غرباً فترى الخضرة على مد البصر ، فتتابع من خلالها تحركات العرب الرحل بثيرانهم وعيالهم وحريمهم وبيوتهم وهوادجهم وكلامهم المنمق الجميل ، فالجميع هنا يتخاطب بالرحمة والأدب والعفة والطهر وسجع الكلام المسيرى ذو اللكنة الحنينة الممتلىء حيوية ونضار فيدخلون البهجة والمسرة إلى قلبك دونما إستئذان

تنظر شرقاً فتتراءى أحياء بعيدة ملئت عافية وجمالا ، تنظر فوقك فتخاطبك السحب بالصور العجيبة ، وتظلك بظلها الظليل ، تنظر اسفلك فتجد الخضرة والمياه أينما ذهبت ،

يتوسط البلده مسجد عتيق ، بنى بأكمله من القش بجهود أهل البلدة ، كما كان فى وسط السوق (بار) يديره أغريقى وزوجته ، يسمى (ديمترى) وزوجته (زوخيرا) ، وبالبار يمكن أن تشترى (الجبنة المضفرة) و (الزيتون) و(البيرة الباردة) وكل أنواع المعلبات الواردة من اوروبا عبر هذا الخواجة ، ولا تنسوا أن هذا كان فى الستينات ، وكان وقتها للبار زبائنه ، وعشاقه ، كما كان للمسجد رواده ومريديه الذين يمارسون فيه طقوس عبادتهم وصلاتهم للحى الواحد الأحد

غربت شمس ذلك اليوم ، واختلطت ألوان قوس قزح بالخضرة المفروشة ، بلون الشفق ، وإحمرار مخلوط بإخضرار مخلوط بأزق سماوى مخلوط بأبيض كالسحاب ، فشق صوت الآذان عنان السماء وسمعه كل من فى البلده ، وعنت الوجوه للحى القيوم ، ونحن وقوف مع والدى (الله اكبر) ، فردد والدى بصوت خاشع (الله اكبر) ، ثم ثانية (الله اكبر) ، فردد بعدها والدى (الله أكبر) فى خشوع مهيب وهمهم الباقون (الله اكبر) فى أدب راقى

(أشهد أن لا إله إلا الله) فيهمهم والدى وزملائه الحضور بأصوات خاشعة (أشهد أن لا إله إلا الله) ، ويكرر المؤذن ، فيكرر السامعون ، ونحن الصبية نتلفت ذات اليمين وذات اليسار ، ونراقب هذه (السيمفونية) بين نداء المؤذن وهمهمة الحضور ، فنحس أن هذا الشىء الروحى ، لابد له سر عجيب ، (أشهد أن محمداً رسول الله) ، فيردد الحضور بنفس الهمهمة والخشوع ، فنستدرك حضرة وعظمة النبى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فيكرر المؤذن (أشهد أن محمداً رسول الله) فيكررون ، (حى على الصلاة) فتختلف الهمهمة هنا فيقولون (لا حول ولا قوة إلا بالله) فتتحرك عقولنا الصغيرة ، لماذا إختلفت الترديدة؟ لماذا لم يقولون (حى على الصلاة) ، وقبل أن تنتهى الدهشة يكرر المؤذن (حى على الصلاة) فتتكرر (لا حول ولا قوة إلا بالله) فتزداد الدهشة ، إذ أنهم لم يكونوا مخطئون فى الأولى ، فننتظر (حى على الفلاح) فيكررون (لا حول ولا قوة إلا بالله) فنزداد عجبا ، ويكرر المؤذن (حى على الفلاح) فيقولون فى خشوع (لا حول ولا قوة إلا بالله) ويختم المؤذن بصوت قوى واضح (لا إله إلا الله) فتضج الهمهمة ب ( نعم لا إله إلا الله) ويزيدون (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيله وأبعثه اللهم مقاماً محموداً الذى وعدته) فتضج الضفادع بالنقيق ، ويزداد صوت الطيور المهاجرة ، وتخشع البلده لرب العالمين ، وتمتلىء أرواحنا بشحنة روحية عالية ، فنتوجه نحو الصلاة ، فى الوقت الذى تأتينا (أم سعيدة) باللبن إستعداداً لوجبة العشاء التى ربما تكون (الدخن باللبن) أو (المرس بالعصيدة) أو (عشاء أفرنجى من دكان الخواجة) ونغط بعدها فى نوم عميق إستعدادا لإستقبال صباح جديد ولا يفارق جمال البقارة مخيلتنا الغضة ، ويعم البلدة السلام

عزيز عيسى
12-07-2006, 07:29 AM
الأخ هشام،

سرد ممعن.. وأسلوب راقي في إختيار الكلمات..
وإنتقال بين الأحداث في غاية السلاسة والوصف والتعبير..
توحي أننا موعودون بكاتب مميز ذو خبرة في مجال القصص القصيرة..
إستمتعت بقراءة هذه الذكريات الجميلة.. نأمل في المزيد من مثل هذه الروائع.

لك إحترامي وإعجابي،

خالد هاشم علي
12-07-2006, 08:00 AM
استاذي الغالي...هشام...
لك التحية والإحترام....
سمعت كثيراً عن جمال غرب السودان ولم تسعني الظروف لرؤية غربنا الحبيب فهل ياتري وبعد كل الحروبات والتناحرات التي سممت بدن سوداننا الحبيب ينعم الغرب والشرق وكل ربوع بلادي بالسلام حتي نستمتع برؤية الطبيعة الخلابة في بلادنا الحبيبة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ يااااااااااااااااااااااااااااااااااارب.


زعل شديد منكم ياناس كسلا:

أول حاجة انا غبت عن المنتديات لمدة أكتر من اسبوعين ... لا جيتو زرتوني لا جبتو البرتكان والقريب لا ختيتو تحت المخدة!!!!!!!!!!!!! الحكاية شنو؟؟؟؟

خالد عبدالماجد
12-07-2006, 11:30 PM
هشام شيخ الدين
دائماً نتلمس أحرفك صوراً تتحرك أمامنا بكل أشكالها ..
لك تحياتي أيها الأديب الشفيف على الخاطرة الجميلة التي نستمد منها الكثير ...
ومناطق غرب السودان عرفت بمناظرها الخلابة وعجلة الحياة التي تدور فيها بكل أريحية ...

تخريمة
إين تقع مدينة الأبيض ؟؟

الصديق العزيز خالد هاشم
كان غيابنا مثلك في الأيام الماضية سبباًَ في عدم لحظنا لغيابك
عموماً ألف حمداًَ لله على سلامتك وسلامة العودة ...
( إن شاء الله في الرقدة الجاية ياأبو الخلد ههههههههه) .

هشام شيخ الدين
14-07-2006, 10:20 PM
عزيز عيسى
ولك شكرى الجزيل على كلماتك النيرة

خالد هاشم على:
لك التحية والتجلة والتقدير ، يمكن أن تعود تلكم الأيام لو تحقق سلام حقيقى للبلد وعملنا على نهضتها وعمرانها وإصلاح ما خربته الحروب ، تحياتى

خالد ود كسلا
أردت أن أضيف سحنة غربية على (وسط وشرق السودان) بوضع هذا البوست هنا

تحياتى لك ولجميع أهل كسلا ، ووقفة وتقدير لأهل مدنى الأفاضل

معتز حمدتو
15-07-2006, 02:01 AM
ياليت الشباب يعود يوما فاحكي له بما فعل المشيبُ
يالروعة الوصف ولجمال الغرب الفاتن .
الم تحن نفسك الي تلك الايام الخوالي ؟
ذكرتني سطورك قصة كنا قد قرناها في المرحلة الابتدائية بان الطفل قال لاباه :اني اريد النجمة من السماء .
فقال الاب : لايمكن ان اطالها لانها بعيدة وليست لي وسيلة .
فراي الطفل سيارة في الارض تنهب فاشار الي والده بانه يريد السيارة .
فرد والده : النجم يا بني اقرب .
اتمني من الله ان لا يكون غربنا الحبيب كما النجم ، لمعرفتي به وبجماله وان تضع الحرب اوزارها ويبقي كما كان في ذكرياتك الجميلة .
لك الود والتقدير ود الشيخ ولسردك الاكثر من شيق دمتم سالمين .

هشام شيخ الدين
15-07-2006, 04:50 AM
شكرا جزيلا أخى معتز - حمدتو ، وبتضافر الجهود يمكن أن ننال هذا النجم المضىء البعيد ، ويلزمن لذلك تحقيق سلام حقيقى معاش وليس متداولا فقط فى اروقة السياسة ، كما يلزمنا شباب مخلصون قلبهم على الوطن وبدعم من خيرات الوطن العميمة لنبنى سوداننا من جديد لا لنبنى حسابات شخصية فى ماليزيا وسويسرا ، وليس هنالك مستحيلا تحت الشمس

تحياتى وتقديرى يا معتز

أبوبكرحامد
17-07-2006, 12:56 AM
لك التحية هشام وأنت تتطوف بنا ربوع بلادى ، فالشرق أتى والغرب أتى ... وتلاقت قمم يامرحى ، السودان جميل بأهله وتواصلهم النبيل ، بعيداً عن الساسة والأرزقية ممن سعوا لتفتيت وحدتنا بدعاوى نحن أبعد مانكون عنها ، فالعشق للسودان ولاعشق غيره ، ولتسقط كل الدعاوى العنصرية الزائفة.

هشام شيخ الدين
17-07-2006, 11:36 PM
سلام عليك يا ابوبكر وأنت تذكرنا (الشرق أتى والغرب أتى وتلاقت قمم يا مرحى) فالسودان كله قمم ، وخير القمم (الأمور) أوسطها (مدنى)

ألف ألف تحية يا أبوبكر