المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اختاروا عنوان لهذه القصة



الساهر
05-08-2004, 01:58 AM
استيقظ مذعوراً .. لم يغسل وجهه، ومسرعاً غادر منزله!.

يداه تشدان بعنف على مقبض الفأس.. أنفاسه غير منتظمة، لكنه يسير وإن كانت خطاه مرتبكة، وتتعثر بين خطوة وأخرى.

منذ أربعين عاماً حين نبتت الأسنان في فمه، وهو يسير في هذا الطريق، لكنه اليوم يوشك أن يضيعه، الطريق الضيق المحاط بغابة النخيل كان خالياً في ذلك الوقت المبكر من صباح ذلك اليوم.

أنعشته قطرات الندى التي تهطل من فوق سعفات النخيل.. مسح وجهه بكمه ووصل مسيره..

بدتْ له طويلة جداً، شامخة تعانق السماء، أطرافها تتماوج بهدوء مع كل هبة نسيم، تطلع إلى جدعها المتين ثابتاً لا يتزحزح، كانت وحيدة، شعر أنها تعاني الوحدة والكآبة لانفرادها في تلك البقعة المعزولة، جاراتها غادرنها وتركنها وحيدة في البستان..

تذكرها فسيلة صغيرة، غرسها والده بكل عناية، أفرد لها مكاناً خاصاً ومتميزاً في بستانه، ووهبها قلبه كله، قال له وهو يسقي جذورها بماء الساقية البارد:

ـ لقد غرستها في يوم مولدك!.
لذلك أحبها بجنون، عشقها حتى الهيام، كان يراقبها تنمو وتنمو، واحتفل بها يوم بزغ أول عذق فيها، أصرّ أن يستفرد هو بتشذيبها وإزالة سعفها وكربها البالي، وأن يكون هو الوحيد الذي يلقحها حبوب ((الفحّال)) في كل عام..
محى كل تلك الصور، وقبض على الفأس بشدة : ((لابد من إزالتها اليوم، اليوم وليس غداً)) زمَّ بين أسنانه: ((سأبيع البستان))!!.

رغم معارضة الجميع قرر أن يبيعه.. أزال كل النخيل وحده خلال يومين فقط، إلا هي بقت شامخة تتطاول سعفاتها معانقة الأفق، ولم تقوَ يده على حمل الفأس لإزالتها، خانته قواه، ضعفت عزيمته، لكنه اليوم مصمم على تنفيذ قراره: ((لابد أن أقتلعها)).

ارتفع الفأس عالياً، أغمض عينيه، وانهالت الضربات على الجذع، اجتاحته هستيريا عنيفة، تواصلت الضربات الهاوية على الجذع، تناثرت الشظايا، هيأ له أنه يسمع صوت آهات تدوي، ظنّ أنها أنات تعبه، فواصل الضرب، ومع الضربات الهائجة كانت الآهات تعلو دون أن يسمعها…

حين توقف ينشف عرق جبينه، سمع الآهات واضحة، عميقة، مؤلمة، حتماً لم تكن آهاته، وبين الشهيق والزفير حاول التركيز أكثر لمعرفة مصدرها، رمى ببصره يميناً ويساراً لكنه لم يرَ أحداً، كان الأنين قريباً فزادت حيرته واشتدّ اضطرابه..

سمع الأنين مرة أخرى:

ـ آه.. آه..
ـ مَنْ؟.. مَنْ؟.
وبصوت متقطع وحروف يخالجها الألم:
ـ أ..نـ...ا..

أجفل خائفاً، اكتشف مصدر الصوت، لا مجال للشك أو الحيرة، ارتبك واضطرب قلبه، رفع فاسه عالياً، فاشتدّ الأنين، كان الصوت خافتاً ومليئاً بالألم إلا أنه كان حانياً وعذباً:

- لماذا تقتلعني؟!.
أخفض رأسه، وبصوت وئيد وخجول:
- سأبيع البستان!.

ردت بصوت مخنوق يسيل تفجعاً ومرارة:

- ولكن هذا لا يبرر قلعي واجتثاث جذوري!.

- المشترون سيبنون بيوتاً وعمارات وشوارع وأسواق، هم لا يريدون البستان، وقد اشترطوا عليّ أن لا أبقي نخلة واحدة.

ساد الصمت للحظات ثم اندلع السؤال بغتة:

- ولماذا بعت البستان إذن؟!.

قرفص على الأرض منهكاً وقال:

- الدنيا لم تعد بخير، ليست كما كانت، أصبحت صعبة للغاية، والغلاء عمّ كل شيء، وعائدات البستان تتضاءل عاماً بعد عام.

- أنسيت أني أطعمتك وكسوتك وعلمتك الدنيا؟! كنت تتسلق
وترتقي جذعي حتى ترى السماء وتتشوف إلى العالم!.

أومأ برأسه موافقاً..

- أنسيت أيام القيظ، حين كنت تلجأ إليّ فأحميك من حرارة الشمس؟!.

سالت دموعه، أجهش باكياً:

- لم أكن أرغب في بيعه، لكن أبنائي يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس والعلاج والتعليم..

- جفف دموعك واقتلعني!.. لقد ضحيت من أجلك كثيراً، وستكون حياتي فداءً لرغباتك آخر تضحياتي!!.

- ولكن..

- لا تقل شيئاً.. هيا اقتلعني!.

أرخى رأسه، وأطبق جفنيه، تذكرها حين ضمّته إليها يوم طرده أبوه من المنزل، كان عمره آنذاك عشر سنوات، شعر أنها تمسح دموعه، وتحيطه بالدفء، فأغفى وسط حضنها، حتى انتزعه والده منتصف الليل وحمله إلى البيت..

سقط على الأرض وهو يبكي، علا نحيبه، كانت الرياح الشديدة تتلاعب بالجذع وتقذفه يميناً وشمالاً، وهو ينتحب:

- لا أقدر.. لا.. لا أستطيع!.

- هيا اقتلعني!. سأكون قرباناً لرغباتك!.

أخذ نفساً عميقاً، ملأ الهواء العليل رئتيه، أغمض عينيه، وانطلقت الضربات تفري أوداجها، كانت تكتم آهاتها الذبيحة، وتحفزه:

هيا ...اقتلعني الان..
- لا أستطيع.. لا أستطيع.. لا.. أستــ طــ..

واصل يصرخ ويصرخ، ثم لوح بالفأس ورماه بعيداً، واقترب منها واحتضنها كعاشق متيم!.