shaggy999
01-01-2007, 01:44 AM
من التراث الشعبي السوداني
تحليق في فضاءات الحردلو
: لايذكر التراث الشعبي إلا ويأتي اسم الشاعر البدوي (الحردلو) كعلامة فارقة، ومنارة مشعه في هذا التراث الذى يحتل شعر الحردلو مساحة مقدره منه.
والحردلو هو محمد أحمد أبوسن، ويقول البعض بانه لقب بالحردلو لانه صعب، ولما كان والده هو زعيم قبيلة الشكرية العربية الكبيرة فقد كان يتولى بعض الاعباء نيابة عن والده، ويبدي فيها تشددا جعل الناس يتصايحون (الحاردلوه) أي أن هذا الرجل الحارأنزلوه عن كرسي الزعامة.
وهو من مواليد بلدة (ريرة) بمحافظة البطانة عام 1835 وتوفي بها عام 1917، وما بين هذين التاريخين عاش في بادية البطانة متنقلا بين خيام الشعر، وقصائد الشعر، وخلف تراثا شعريا غزيرا تناقلته الاجيال، ومازال يحتل فسحة من فضاء الأدب السوداني، كل كبير وصغير في سودان اليوم يحفظ طرفا من شعره خاصة مقطوعته:
الشم خوخت بردن ليالي الحرة
والبراق برق من مناجاب القرة
شوف عيني الصقير بجناحو كفت الفرة
وتلقاها أم خدود الليلة مرقت برة
والشم هنا المقصود بها الشمس، وقد السين للتخفيف على عادة بعض القبائل العربية القديمة،، والبيت الاول يعني ان الشمس قد خفت حرارتها وصارت الليالي الحاره بارده، دلاله على بدء فصل الامطار.
وفي البيت الثاني يؤكد هذا المعنى بقوله ان البرق قد برق في ناحية منا (مكان) ولذلك هب النسيم البارد، ويمضي ليؤكد حلول فصل الخريف في البيت الثالث قائلا: انني رأيت بعيني الصقير (الصقر الصغير) وقد ضرب بجناحه الفرة، وهي طائر صغير يكثر في موسم الامطار، وبعد هذا التمهيد يخلص إلى أن محبوبته أم خدود (ذات الخدود) لابد وأن تكون قد خرجت من خدرها في هذا الطقس الجميل.
وفي عهد الحكم المهدوي اعتقل الخليفة عبدالله شاعرنا ثم افرج عنه ونصبه زعيما على قبيلة الشكرية، واستمرت زعامته حتى العهد التركي حيث عين ـ إضافة الى الزعامة القبلية ـ مديرا لمديرية الخرطوم وهو منصب يعد آنذاك من أرفع المناصب.
مختارات من شعره
يحكي ان الشاعر كان مسافرا على جمله الذي كان يسميه (البانقير) قاصدا نهر عطبرة، وهناك وجد عند مشروع يقال له (قوز ودياب) بعض الفتيات وهن يسبحن، وعندما رأينه هربن إلا واحدة استترت بالماء فقال في ذلك الحاردلو
قوزود ضياب يا الليل بشياهو
بهما بتطرد وفرحان وعاجيو خلاهو
زولا في أم قدود المولى لهن ادا هومأواهو
يقعد عدهن ويترك لهن
يخاطب الشاعر الليل (يا الليل) ويخبره بأن (قوزود ضياب) الذي كان يظنه مهجورا، يزخر بالغزلان التي تطارد بعضها في فرح وهي معجبه بواديها ثم يناجي نفسه بقوله: ماذا اعطاني المولى في هذه الدنيا (أم قدود) حتى أترك هذا المكان، فلاقعدن هنا مع هذه الغزلان وأترك من أجلهن دياري.
وقد لامه واحد من أهله يدعى (عبدالله) على عدم حضوره للعيد وسط اهله فأجاب عليه بالابيات التالية:
الزول السمح فات الكبار والقدرو
كان شافوه ناس عبدالله كانوا يعذرو
السبب الحماني العيد هناك أحضرو
درديق الشبيكي البنتو فوق صدرو
أي أن (الجميل الذي فاق في جماله الذين هم أكبر منه والذين هم في مثل سنه اذا راه أمثال عبدالله لكانوا واجد والعذر لعدم حضوره لقضاء العيد معهم فالسبب الذي منعني من حضور العيد هو (درديق الشبيكي) كناية عن نهديها الصدر الجميل.
وكانت محبوبته تدعى (ام نعيم) في منطقة تسمى (قوز رجب) وقد أمضى معها اياما ثم سافر، وفي الطريق اناخ جمله ليستجم قليلا فتذكر محبوبته التي غادرها منذ وقت قصير فقال:
ودوا اخباري يا عوادي
قولو مقيلو ان مسابو يصبح قاضي
وهو يوصي هنا الذين اعتاد ملاقاتهم كل يوم بأن يبلغوا أخباره لاهله ويقولوا لهم انه اذا دركه المساء وهو في مقيله هذا فسيكون من الهالكين بسبب فراغ محبوبته.
ويحكي أيضا أن الشاعر كان في أم درمان وكانت له بها محبوبة اتهمها الوشاة بحب شخص آخر، فاقسم الشاعر أن يهجرها اذا تحقق من صدق تلك الوشاية، وعندما سمعت المحبوبة بذلك حملت المصحف وذهبت اليه وأقسمت ان القصة كلها مكيدة من العذال فانشد الحاردلو:
البارح كلام الناس بدور يفرقنا
كله مرق كضب بعدين صفينا ورقنا
الدعجة أم شلوخا سته مالكة عشقنا
تتمايح مثل قصبة مراتع الحقنه
أي أن كلام الناس كان سيتسبب في تفريقنا بالأمس، ولكن إتضح انه مجرد أكاذيب ولذلك صفونا وراق الأمر بيننا، ثم يقول أن محبوبته دعجاء العينين ذات (الشلوخ الستة) وهي ثلمات على الخدين تقابل الوشم في بعض المجتمعات العربية هذه المحبوبة التي يبلغ عدد شلوخها سته ملكت عشقه، وخاصه عندما تتمايل وكانها قصبة في مرتع خصب.
والفاحص لشعر الحاردلو من غير السودانيين قد تواجههة صعوبة في تفهم مفرداته، والحقيقة هي ان الكثير من السودانيين تواجههم في البداية نفس الصعوبة، لأن شعر الحاردلو شعر بدوي، ولد في بيئة بدوية، وهو يصف تلك البيئه بمفردات اللهجة البدوية، ويوازي في هذا الصدد ارتباط الشعر النبطي بالجزيزة العربية.
ولكن التاني في الفحص يكشف ان معظم تلك المفردات هي مفردات عربية صميمة ترجع الى لهجة بني اسد على وجه التحديد، وان شابها بعض التحريف الناجم عن البعد الزمني والتطور الطبيعي للهجات، إلى جانب ما أضافته البادية السودانية الى تلك اللهجة، وكمثال على ذلك كلمات مثل القرة، الحرة، مرقت، يترك السماح البارح تتمايل قصبة، مراتع، فهي كلها فصيحة لم يمسه تحريف، وهنالك كلمات أخرى مثل الشم، بردن بجناحو، مأواهو، القدرو، شافوه، يعذرو، فهي أيضا فصيحة لم يمسها الا قليل تحريف لايخرجها عن جوهرها.
ورغم أن السياده في شعر الحاردلو هي التشبيب والنسيب الا انه قد تطرق لكل اغراض الشعر العربي بمقدرة فائقة على تركيب الالقاظ وانتقاء الصور، ودقة التصوير.
وليس المقام مقام دراسة لشعر الحاردلو، ولذلك نكتفي بعرض هذا القدر المتواضع من شعره الذي اثبت في ديوان محقق ومشروح، وما كلماتنا السابقة الا إضاءة عابرة لشاعر يستحق البحث في شعره وسيرته، وتراث تحقق دراسته الكثير من الفوائد، وبالله التوفيق.
تحليق في فضاءات الحردلو
: لايذكر التراث الشعبي إلا ويأتي اسم الشاعر البدوي (الحردلو) كعلامة فارقة، ومنارة مشعه في هذا التراث الذى يحتل شعر الحردلو مساحة مقدره منه.
والحردلو هو محمد أحمد أبوسن، ويقول البعض بانه لقب بالحردلو لانه صعب، ولما كان والده هو زعيم قبيلة الشكرية العربية الكبيرة فقد كان يتولى بعض الاعباء نيابة عن والده، ويبدي فيها تشددا جعل الناس يتصايحون (الحاردلوه) أي أن هذا الرجل الحارأنزلوه عن كرسي الزعامة.
وهو من مواليد بلدة (ريرة) بمحافظة البطانة عام 1835 وتوفي بها عام 1917، وما بين هذين التاريخين عاش في بادية البطانة متنقلا بين خيام الشعر، وقصائد الشعر، وخلف تراثا شعريا غزيرا تناقلته الاجيال، ومازال يحتل فسحة من فضاء الأدب السوداني، كل كبير وصغير في سودان اليوم يحفظ طرفا من شعره خاصة مقطوعته:
الشم خوخت بردن ليالي الحرة
والبراق برق من مناجاب القرة
شوف عيني الصقير بجناحو كفت الفرة
وتلقاها أم خدود الليلة مرقت برة
والشم هنا المقصود بها الشمس، وقد السين للتخفيف على عادة بعض القبائل العربية القديمة،، والبيت الاول يعني ان الشمس قد خفت حرارتها وصارت الليالي الحاره بارده، دلاله على بدء فصل الامطار.
وفي البيت الثاني يؤكد هذا المعنى بقوله ان البرق قد برق في ناحية منا (مكان) ولذلك هب النسيم البارد، ويمضي ليؤكد حلول فصل الخريف في البيت الثالث قائلا: انني رأيت بعيني الصقير (الصقر الصغير) وقد ضرب بجناحه الفرة، وهي طائر صغير يكثر في موسم الامطار، وبعد هذا التمهيد يخلص إلى أن محبوبته أم خدود (ذات الخدود) لابد وأن تكون قد خرجت من خدرها في هذا الطقس الجميل.
وفي عهد الحكم المهدوي اعتقل الخليفة عبدالله شاعرنا ثم افرج عنه ونصبه زعيما على قبيلة الشكرية، واستمرت زعامته حتى العهد التركي حيث عين ـ إضافة الى الزعامة القبلية ـ مديرا لمديرية الخرطوم وهو منصب يعد آنذاك من أرفع المناصب.
مختارات من شعره
يحكي ان الشاعر كان مسافرا على جمله الذي كان يسميه (البانقير) قاصدا نهر عطبرة، وهناك وجد عند مشروع يقال له (قوز ودياب) بعض الفتيات وهن يسبحن، وعندما رأينه هربن إلا واحدة استترت بالماء فقال في ذلك الحاردلو
قوزود ضياب يا الليل بشياهو
بهما بتطرد وفرحان وعاجيو خلاهو
زولا في أم قدود المولى لهن ادا هومأواهو
يقعد عدهن ويترك لهن
يخاطب الشاعر الليل (يا الليل) ويخبره بأن (قوزود ضياب) الذي كان يظنه مهجورا، يزخر بالغزلان التي تطارد بعضها في فرح وهي معجبه بواديها ثم يناجي نفسه بقوله: ماذا اعطاني المولى في هذه الدنيا (أم قدود) حتى أترك هذا المكان، فلاقعدن هنا مع هذه الغزلان وأترك من أجلهن دياري.
وقد لامه واحد من أهله يدعى (عبدالله) على عدم حضوره للعيد وسط اهله فأجاب عليه بالابيات التالية:
الزول السمح فات الكبار والقدرو
كان شافوه ناس عبدالله كانوا يعذرو
السبب الحماني العيد هناك أحضرو
درديق الشبيكي البنتو فوق صدرو
أي أن (الجميل الذي فاق في جماله الذين هم أكبر منه والذين هم في مثل سنه اذا راه أمثال عبدالله لكانوا واجد والعذر لعدم حضوره لقضاء العيد معهم فالسبب الذي منعني من حضور العيد هو (درديق الشبيكي) كناية عن نهديها الصدر الجميل.
وكانت محبوبته تدعى (ام نعيم) في منطقة تسمى (قوز رجب) وقد أمضى معها اياما ثم سافر، وفي الطريق اناخ جمله ليستجم قليلا فتذكر محبوبته التي غادرها منذ وقت قصير فقال:
ودوا اخباري يا عوادي
قولو مقيلو ان مسابو يصبح قاضي
وهو يوصي هنا الذين اعتاد ملاقاتهم كل يوم بأن يبلغوا أخباره لاهله ويقولوا لهم انه اذا دركه المساء وهو في مقيله هذا فسيكون من الهالكين بسبب فراغ محبوبته.
ويحكي أيضا أن الشاعر كان في أم درمان وكانت له بها محبوبة اتهمها الوشاة بحب شخص آخر، فاقسم الشاعر أن يهجرها اذا تحقق من صدق تلك الوشاية، وعندما سمعت المحبوبة بذلك حملت المصحف وذهبت اليه وأقسمت ان القصة كلها مكيدة من العذال فانشد الحاردلو:
البارح كلام الناس بدور يفرقنا
كله مرق كضب بعدين صفينا ورقنا
الدعجة أم شلوخا سته مالكة عشقنا
تتمايح مثل قصبة مراتع الحقنه
أي أن كلام الناس كان سيتسبب في تفريقنا بالأمس، ولكن إتضح انه مجرد أكاذيب ولذلك صفونا وراق الأمر بيننا، ثم يقول أن محبوبته دعجاء العينين ذات (الشلوخ الستة) وهي ثلمات على الخدين تقابل الوشم في بعض المجتمعات العربية هذه المحبوبة التي يبلغ عدد شلوخها سته ملكت عشقه، وخاصه عندما تتمايل وكانها قصبة في مرتع خصب.
والفاحص لشعر الحاردلو من غير السودانيين قد تواجههة صعوبة في تفهم مفرداته، والحقيقة هي ان الكثير من السودانيين تواجههم في البداية نفس الصعوبة، لأن شعر الحاردلو شعر بدوي، ولد في بيئة بدوية، وهو يصف تلك البيئه بمفردات اللهجة البدوية، ويوازي في هذا الصدد ارتباط الشعر النبطي بالجزيزة العربية.
ولكن التاني في الفحص يكشف ان معظم تلك المفردات هي مفردات عربية صميمة ترجع الى لهجة بني اسد على وجه التحديد، وان شابها بعض التحريف الناجم عن البعد الزمني والتطور الطبيعي للهجات، إلى جانب ما أضافته البادية السودانية الى تلك اللهجة، وكمثال على ذلك كلمات مثل القرة، الحرة، مرقت، يترك السماح البارح تتمايل قصبة، مراتع، فهي كلها فصيحة لم يمسه تحريف، وهنالك كلمات أخرى مثل الشم، بردن بجناحو، مأواهو، القدرو، شافوه، يعذرو، فهي أيضا فصيحة لم يمسها الا قليل تحريف لايخرجها عن جوهرها.
ورغم أن السياده في شعر الحاردلو هي التشبيب والنسيب الا انه قد تطرق لكل اغراض الشعر العربي بمقدرة فائقة على تركيب الالقاظ وانتقاء الصور، ودقة التصوير.
وليس المقام مقام دراسة لشعر الحاردلو، ولذلك نكتفي بعرض هذا القدر المتواضع من شعره الذي اثبت في ديوان محقق ومشروح، وما كلماتنا السابقة الا إضاءة عابرة لشاعر يستحق البحث في شعره وسيرته، وتراث تحقق دراسته الكثير من الفوائد، وبالله التوفيق.