أبنوس
20-01-2007, 09:58 PM
من فُصُوصِ الكَلاَمِ
" ثَكِلَتْـكَ أُمُّــكَ "
د. محمد جاهين بدوي
***
في لغتنا الجميلة كَنْزُ ثَرٌّ خصيب من التراكيب الفنية التي تجري – في تركيز مصطلحها وتكثيف دلالتها-مجرى الأمثال، والتي ما تزال غَضَّةً بكْرًا تترقرقُ في أعطافِهَا دقائقُ الأسرار، وتتماوجُ خلف رُسُومِ حروفها لطائفُ الإشارات، على الرغم مما مرَّ عليها من مُتقادِمِ الحقب والآماد التي خلعت عليها إِلْفًا وإِينَاسًا، ولكنه فيما يبدو عند التحقيق إلفٌ لا يخلو من تمنُّعٍ ومراوغة، وإيناسٌ لا يخلو من توحُّش ونُفُور.
هذه التراكيب الفنية الموروثة قد يشير إليها بعضُ أدعياءِ الحداثة من ساقطي الهمَّة والهوية مُردِّدًا على نحو بَبْغَاوِيّ: إنْ هذه التراكيبُ التي تحدِّث عنها إلا (كلشيهات) مستهلكة، وقوالبُ قد ابتُذِلَتْ حتى فُرِّغَتْ من كل معنى وإيحاء، فهي لغلبة استعمالها وطول الإلف بها قد فقدت تفرُّدَها وامتيازَها وقدرتها على الدلالة على ذات صاحبها بما له من خصوصية وامتياز فنيين !
وأكبر الظن أن مثل هذا القول إنما صدر ويصدر عن جَهُولٍ فاسدِ الرُّؤَى طيَّاشٍ لا يدري ماذا يقول، وإنما يخبط خَبْطَ عَشْوَاءَ في مَفَازَةٍ عَمْيَاءَ، فهذه التراكيب التي نحدِّث عنها، ولم نُمِطْ بعدُ غلائلَ الدَّلالِ عن بعض آياتها لا تَيْسُرُ إلا بعد مُعَاسَرَةٍ، ولا تسْلُسُ إلا بعد جموح، وكأنها لا تسلم قِيَادَها إلا لمن صبر على جميل هجرها، وبلا لذيذَ لأوائها فأحسن البلاء.
من هذه التراكيب نحو قولهم: "ثكلتْكَ أُمُّكَ" أو " هَبِلَتْك أُمُّكَ " أو " هَبِلَتْكَ الهَبُولُ" و " ويْلُمِّهِ " و " تَرِبَتْ يداك" و " ترِبَ جبينُكَ " وهذه التراكيب ونظائرها في العربية خبريةُ بالنظر إلى صُوَرِها، وهذا يعني أن المخاطب بأحدها قد ثكلته أمه بالفعل، فهي ثكلى، وهو ميت إذن !! ، أو أن يديه قد تربتا أي: أصبحتا ذاتي تراب، وكذلك جبهته، أي عفرت بالتراب، إشارة إلى مذلته وهوانه على نحو حسي عملي، وهذا بطبيعة الحال غير مراد، ولا ينسجم مع ظواهر سياقات النصوص التي ترد فيها هذه التراكيب وأمثالها.
وقد يتسرَّع بعضُهم ممن لـه دراية بنُتَفٍ من مقولات البلاغيين فيقول: إنَّ هذه الجمل من قبيل الجُمَل التي تلبَّست زيَّ الخبر، ولكنها إنما أُرِيدَ بها الدعاء، وإنما تلبَّست زيَّ الخبر لإيهام المخاطب ليهتمَّ ويغتمَّ كما في هذا المقام، أو ليهشَّ ويبَشَّ ويتفاءل كما في نحو قولك:"حفظه الله أو أعزَّه أو رحمه ".
ونقول: إن هذا الكلام لم يزل لَبْسًا ولا إِبهامًا، وإنما هو أشبهُ شَيْءٍ بعكازة الأعمى التي قد تقود صاحبها إلى أقبح الوهاد.
لا يا أخا العرب.. ليس المراد بنحو قولك:"ثكلتك أمك"خبرا ولا دعاءً، وذلك لأمور: أولها:أن الثكل (الموت والهلاك) يعمُّ كلَّ مخلوق، فالدعاء به كلا دعاء، ثانيها:أن هذا التعبير ونحوه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مخاطباته لأصحابه، وليس يليق بجلال نبوَّتِهِ أن يكون ذلك منه سبًّا لأصحابه وشتْمًا لهم أو دعاءً عليهم، فما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام فاحشًا ولا لعّانًا ولا سبَّابًا!! ، ثالثها: أن دعوة النبي مستجابة ولو كان ذلك منه دُعَاءً لقُبِضَ المدعوُّ عليه لساعته، وهذا ما لم يحدث.
وإذن فما المراد بهذا التعبير ونحوه إن لم يكن الخبر ولا الدعاء ؟!
الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه أن المقام يحتاج إلى مزيد تلطُّفٍ حتى نتمكَّن من التقاطِ دقائقِ ما في أمثالِ هذه التراكيب، وذلك لا يكون بتأملها مفردة على هذا النحو الجزئي المقتضب، فإن هذا التناول يؤدي لا محالة إلى قصور في الفهم وتسطيح في الرؤيا، وإنما يكون النظرُ إليها في دِفْءِ سياقاتها الحميم، وظلال مقاماتها الضافية حتى نتمكَّن من اسْتِبْطَانِهَا واسْتِكْنَاهِ غوامِضِهَا على النحو الذي يتلاءم مع جلال النصوص التي وردت فيها هذه التراكيب، وينسجم مع روح البلاغة العامة لمن كانت تتواتر على ألسنتهم وهم مَنْ هم فصاحةً وبلاغةً وتوقُّدَ ذِهْنٍ وقَرِيحَة.
والناظر إلى السياق والمقام الذي وردت فيه عبارة: ثكلتك أمك" في الحديث، يرى أنها جاءت في الرد على استفهام دَهِشٍ من معاذ بن جبل رضيَ الله عنه لرسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليهِ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟! فقال له الرسول الكريم متعجبا معاتبا منكرا عليه حاله: ثكلتك أمك..وهل يكبُّ الناس على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم ؟! وإذن فالمقام مقام عَتْبٍ وتعجُّب وإنكار، وليس مقامَ دعاء على معاذٍ أو شَتْمٍ له، وإنما هو تعجُّب من دَهَشِهِ مما يسمع، ومن غفلته عن مدى خطورة الكلمة وما لها من عظيم الأثر وخطير العاقبة.
تسألني: ولم التعبير بالثكل وما فيه من الإشعار بالفقد والموت والهلاك والمقام مقام تعجُّب ؟ .. ونقول: لعله عبر بذلك لما فيه من الإشعار والتنبيه للمخاطب بعظم المصيبة التي توشك أن تلم به بسبب جهله وغفلته، وبأنه على شفا جرف يوشك أن ينهار تحت قدميه إن لم يتدارك نفسه بتغيير موقفه الفكري الذي تعد هذه الخاتمة المروعة الفاجعة نتيجةً له مترتبةً عليه، إنْ هو ظل فيما هو عليه، وكذلك الأمر في " تربت يداك " الواردة في حديث:تنكح المرأة لأربع..إذ يقول عليه السلام في تذييله لهذا الحديث حاثًّا لمخاطبه ومُحَرِّضًا له على الظفر بذات الدين:" فاظفر بذات الدين تربت يداك " أي: إنك إن لم تفعل فذلك هو الخسران المبين لك والمتربة الدائمة التي لا متربة بعدها، فكأن الكلام على تقدير شرط محذوف، دلَّ عليه جوابه المذكور في العبارة زَجْرًا وتخويفًا وحثًّا وتحريضًا.
وفي هذا الأسلوب ما فيه من مزيدِ الحثِّ والتحْرِيضِ وإثارةِ الانتباهِ والتشويق حتى تصغيَ الآذانُ، وتعيَ القلوبُ، وتفطنَ الألبابُ إلى عِظَمِ ما يأتي بعد هذه العبارة وخطورته من المعاني الدقيقة والفوائد الجليلة.
ألست معي إذن في أن هذا الإلْفَ والإينَاسَ الذي توحي به هذه التعبيرات عند النظرة العَجْلَى إنما هو إِلْفٌ مُخَادِعٌ لا يخلو من تَمَنُّعٍ ومُرَاوَغَةٍ، وإِينَاسٌ لا يخلو من نُفُورٍ وتوحُّش؟!
" ثَكِلَتْـكَ أُمُّــكَ "
د. محمد جاهين بدوي
***
في لغتنا الجميلة كَنْزُ ثَرٌّ خصيب من التراكيب الفنية التي تجري – في تركيز مصطلحها وتكثيف دلالتها-مجرى الأمثال، والتي ما تزال غَضَّةً بكْرًا تترقرقُ في أعطافِهَا دقائقُ الأسرار، وتتماوجُ خلف رُسُومِ حروفها لطائفُ الإشارات، على الرغم مما مرَّ عليها من مُتقادِمِ الحقب والآماد التي خلعت عليها إِلْفًا وإِينَاسًا، ولكنه فيما يبدو عند التحقيق إلفٌ لا يخلو من تمنُّعٍ ومراوغة، وإيناسٌ لا يخلو من توحُّش ونُفُور.
هذه التراكيب الفنية الموروثة قد يشير إليها بعضُ أدعياءِ الحداثة من ساقطي الهمَّة والهوية مُردِّدًا على نحو بَبْغَاوِيّ: إنْ هذه التراكيبُ التي تحدِّث عنها إلا (كلشيهات) مستهلكة، وقوالبُ قد ابتُذِلَتْ حتى فُرِّغَتْ من كل معنى وإيحاء، فهي لغلبة استعمالها وطول الإلف بها قد فقدت تفرُّدَها وامتيازَها وقدرتها على الدلالة على ذات صاحبها بما له من خصوصية وامتياز فنيين !
وأكبر الظن أن مثل هذا القول إنما صدر ويصدر عن جَهُولٍ فاسدِ الرُّؤَى طيَّاشٍ لا يدري ماذا يقول، وإنما يخبط خَبْطَ عَشْوَاءَ في مَفَازَةٍ عَمْيَاءَ، فهذه التراكيب التي نحدِّث عنها، ولم نُمِطْ بعدُ غلائلَ الدَّلالِ عن بعض آياتها لا تَيْسُرُ إلا بعد مُعَاسَرَةٍ، ولا تسْلُسُ إلا بعد جموح، وكأنها لا تسلم قِيَادَها إلا لمن صبر على جميل هجرها، وبلا لذيذَ لأوائها فأحسن البلاء.
من هذه التراكيب نحو قولهم: "ثكلتْكَ أُمُّكَ" أو " هَبِلَتْك أُمُّكَ " أو " هَبِلَتْكَ الهَبُولُ" و " ويْلُمِّهِ " و " تَرِبَتْ يداك" و " ترِبَ جبينُكَ " وهذه التراكيب ونظائرها في العربية خبريةُ بالنظر إلى صُوَرِها، وهذا يعني أن المخاطب بأحدها قد ثكلته أمه بالفعل، فهي ثكلى، وهو ميت إذن !! ، أو أن يديه قد تربتا أي: أصبحتا ذاتي تراب، وكذلك جبهته، أي عفرت بالتراب، إشارة إلى مذلته وهوانه على نحو حسي عملي، وهذا بطبيعة الحال غير مراد، ولا ينسجم مع ظواهر سياقات النصوص التي ترد فيها هذه التراكيب وأمثالها.
وقد يتسرَّع بعضُهم ممن لـه دراية بنُتَفٍ من مقولات البلاغيين فيقول: إنَّ هذه الجمل من قبيل الجُمَل التي تلبَّست زيَّ الخبر، ولكنها إنما أُرِيدَ بها الدعاء، وإنما تلبَّست زيَّ الخبر لإيهام المخاطب ليهتمَّ ويغتمَّ كما في هذا المقام، أو ليهشَّ ويبَشَّ ويتفاءل كما في نحو قولك:"حفظه الله أو أعزَّه أو رحمه ".
ونقول: إن هذا الكلام لم يزل لَبْسًا ولا إِبهامًا، وإنما هو أشبهُ شَيْءٍ بعكازة الأعمى التي قد تقود صاحبها إلى أقبح الوهاد.
لا يا أخا العرب.. ليس المراد بنحو قولك:"ثكلتك أمك"خبرا ولا دعاءً، وذلك لأمور: أولها:أن الثكل (الموت والهلاك) يعمُّ كلَّ مخلوق، فالدعاء به كلا دعاء، ثانيها:أن هذا التعبير ونحوه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مخاطباته لأصحابه، وليس يليق بجلال نبوَّتِهِ أن يكون ذلك منه سبًّا لأصحابه وشتْمًا لهم أو دعاءً عليهم، فما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام فاحشًا ولا لعّانًا ولا سبَّابًا!! ، ثالثها: أن دعوة النبي مستجابة ولو كان ذلك منه دُعَاءً لقُبِضَ المدعوُّ عليه لساعته، وهذا ما لم يحدث.
وإذن فما المراد بهذا التعبير ونحوه إن لم يكن الخبر ولا الدعاء ؟!
الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه أن المقام يحتاج إلى مزيد تلطُّفٍ حتى نتمكَّن من التقاطِ دقائقِ ما في أمثالِ هذه التراكيب، وذلك لا يكون بتأملها مفردة على هذا النحو الجزئي المقتضب، فإن هذا التناول يؤدي لا محالة إلى قصور في الفهم وتسطيح في الرؤيا، وإنما يكون النظرُ إليها في دِفْءِ سياقاتها الحميم، وظلال مقاماتها الضافية حتى نتمكَّن من اسْتِبْطَانِهَا واسْتِكْنَاهِ غوامِضِهَا على النحو الذي يتلاءم مع جلال النصوص التي وردت فيها هذه التراكيب، وينسجم مع روح البلاغة العامة لمن كانت تتواتر على ألسنتهم وهم مَنْ هم فصاحةً وبلاغةً وتوقُّدَ ذِهْنٍ وقَرِيحَة.
والناظر إلى السياق والمقام الذي وردت فيه عبارة: ثكلتك أمك" في الحديث، يرى أنها جاءت في الرد على استفهام دَهِشٍ من معاذ بن جبل رضيَ الله عنه لرسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليهِ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟! فقال له الرسول الكريم متعجبا معاتبا منكرا عليه حاله: ثكلتك أمك..وهل يكبُّ الناس على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم ؟! وإذن فالمقام مقام عَتْبٍ وتعجُّب وإنكار، وليس مقامَ دعاء على معاذٍ أو شَتْمٍ له، وإنما هو تعجُّب من دَهَشِهِ مما يسمع، ومن غفلته عن مدى خطورة الكلمة وما لها من عظيم الأثر وخطير العاقبة.
تسألني: ولم التعبير بالثكل وما فيه من الإشعار بالفقد والموت والهلاك والمقام مقام تعجُّب ؟ .. ونقول: لعله عبر بذلك لما فيه من الإشعار والتنبيه للمخاطب بعظم المصيبة التي توشك أن تلم به بسبب جهله وغفلته، وبأنه على شفا جرف يوشك أن ينهار تحت قدميه إن لم يتدارك نفسه بتغيير موقفه الفكري الذي تعد هذه الخاتمة المروعة الفاجعة نتيجةً له مترتبةً عليه، إنْ هو ظل فيما هو عليه، وكذلك الأمر في " تربت يداك " الواردة في حديث:تنكح المرأة لأربع..إذ يقول عليه السلام في تذييله لهذا الحديث حاثًّا لمخاطبه ومُحَرِّضًا له على الظفر بذات الدين:" فاظفر بذات الدين تربت يداك " أي: إنك إن لم تفعل فذلك هو الخسران المبين لك والمتربة الدائمة التي لا متربة بعدها، فكأن الكلام على تقدير شرط محذوف، دلَّ عليه جوابه المذكور في العبارة زَجْرًا وتخويفًا وحثًّا وتحريضًا.
وفي هذا الأسلوب ما فيه من مزيدِ الحثِّ والتحْرِيضِ وإثارةِ الانتباهِ والتشويق حتى تصغيَ الآذانُ، وتعيَ القلوبُ، وتفطنَ الألبابُ إلى عِظَمِ ما يأتي بعد هذه العبارة وخطورته من المعاني الدقيقة والفوائد الجليلة.
ألست معي إذن في أن هذا الإلْفَ والإينَاسَ الذي توحي به هذه التعبيرات عند النظرة العَجْلَى إنما هو إِلْفٌ مُخَادِعٌ لا يخلو من تَمَنُّعٍ ومُرَاوَغَةٍ، وإِينَاسٌ لا يخلو من نُفُورٍ وتوحُّش؟!