القيصر
01-04-2007, 03:24 AM
من ودمدنى ظرفاء
حبيبي سافر لماذا .. خلاني مكنكش جنازة؟
ود العيلفون وكضّاب مدني وآخرون
عمر حسن غلام الله
مدني زاخرة بكل ما هو طريف، كما هي زاخرة بكل ما هو جميل ، فبالإضافة لأهل الفن و الطرب والكرة والسياسة والأدب، هناك مجموعة الظرفاء وأهل النكتة، شخصيات يعرفها كل اهل مدني في الستينات والسبعينات وربما الثمانينات ، اما شخصيات التسعينات، فلعلي لا أعرف عنها شيئا لبعدي عن مدني في تلك الحقبة، فأرجو منكم اضافتها لهذه الكوكبة.. رحم الله من فارق الدنيا وأمد الله في عمر من بقي منهم على قيد الحياة، واستميح الجميع عذراً ان انحرف قلمي، فلكل جواد كبوة.
=
ü ود الفتلي
سباح ماهر، لأنه يسكن قرب البحر، يقطع البحر حتى وقت الدميرة، يصطاد الشجر الذي يقتلعه النيل الأزرق ساعة الفيضان من على ضفتيه - ربما شجر إثيوبيا- ويجرفه في تياره القوي عند سقوط الأمطار في الهضبة الحبشية في يوليو وأغسطس، ويبيع ود الفتلي هذا الشجر حطباً ليشتري به البنزين.
ابتلى الله ود الفتلي باستنشاق البنزين عبر القطن، اشتهر بذلك في ود مدني، يحمل دائما زجاجة البنزين في جيب جلابيته.. صادف إدمانه ذلك أول أزمة بنزين في السودان في العام 1978م أيام حكم النميري ، وكان ود الفتلي إذا لم يجد البنزين يجلس مستكيناً (ومضبلناً) في وسط شارع الزلط، فإذا مر عليه إنسان وسأله لماذا يجلس هكذا وسط الزلط؛ يجيب بأنه (قاطع بنزين)، وحتى لا يموت من إنقطاع البنزين تلك، أو يعيق حركة المرور، فقد يتبرع له سائق سيارة بشمة بنزين، وحالما يصل البنزين لرئتيه يبدأ بتقليد صوت تدوير موتور السيارة (رررررن، ررررررن، تيت ، تيت) ثم تدب الحركة فيه وينطلق عبر الزلط.. وحسماً لأمر هذه (القطعة التي يمكن ان تودي بحياته) فقد صدق له المحافظ بحصة من البنزين أسوة بالمركبات.
من نوادره ايضا، كان إذا أعطيته قرشاً، أكل امامك ضفدعة حية .. وكلو يهون في سبيل البنزين.!
ü ود عم فاروق
يُسأل عن اسمه فيقول:
- اسمي ودأم (ود عم) فاروق، ولا ندري من فاروق هذا (قيل الملك فاروق) ولا أين اسمه هو واسم أبيه، ولماذا ود عم وليس «ابن أو أبو أو أخو فاروق»؟
- بتحب منو؟
- بهب تهية كاريوكا (بحب تحية كاريوكا)،
ويُسأل نفس السؤال في مأتم آخر فيجيب:
- بهب فاتن همامة (فاتن حمامة) ،
لا يوجد بيت بكاء إلا وود عم فاروق فيه (خاصة يوم الصدقة)، ولا بيت عرس إلا وحضوره مضمون، هذا غير بيوت الطهور والسماية ، بل حتى بيوت (الزار) . ويلبس كل ملابسه- وربما ملابس أصحابه وجيرانه ايضاً، صيفية وشتوية، شماعة متحركة، الظاهر منها عليه هو الأوفركوت، كان هذا لبسه صيفا وشتاء..
يلف مدني بأركانها الأربعة، وللمجهود الجبار الذي يبذله في هذه المشاوير بحثاً عن بيوت المناسبات، فإنه عادة يحتاج لـ (صينية) كاملة له وحده، يأكلها ثم يتفرغ للإجابة على أسئلة المعجبين، وهو موسوعة في أسماء الممثلين والممثلات وأسماء الأفلام العربية، يمكن الاستفادة منه- إذا كان لا يزال على قيد الحياة- في برنامج من سيربح المليون..
وكذلك هو موسوعة في جميلات مدني، فكان يسرد أسماء أجمل 10 بنات في مدني، ولذا كان مرجعاً مهماً يعتد به في هذا المجال، بمعنى انه يصلح كلجنة اختيار ملكات الجمال، يمكن الاستفادة منه أيضاً - كما كان يستفاد من الشعراء أيام زمان- في لفت الأنظار للجميلات وتسابق وجوه المجتمع للزواج منهن.
ü آدم المشاي
كان الأطفال ينادونه كلما مر من أمامهم
(آدم المشاي بسكويت بالشاي)، ربما سمي بالمشاي لأنه لم يُر أبداً راكباً ، كنا نراه - ونحن في طريقنا من مدرسة السكة الحديد الابتدائية إلى حي 114 (أواسط الستينات) ماشيا من جهة الدرجة في طريقه الى السوق الصغير (فيما بعد السوق الجديد)، وهو يحمل فأساً على كتفه.. نناديه: عم آدم فاسك وقع.. فيمد يده ليلمس فأسه، ثم نقول له راسك وقع، فيلمس رأسه كذلك ليتأكد انه لم يقع، وهكذا يعددون له أعضاء جسمه واحداً واحداً لغاية ما يصلوا لـ سروالك وقع (وهو المطلوب من البداية)، فيمد يده ليلمسه.. (يمكن وقع؟)
ü سيد قفة
عم سيد من سكان حي الهواره في مدني، من أسرة عريقة، لكنه رغم ذلك امتهن شغلة متعبة (العتالة) أو بالأصح (الشيالة) لأن العتالة تعني حقت العتاولة، وهو يا عيني الهبوب تشيلو، المهم امتهن الشغلة دي لأنو ما بيعرف غيرها، كان درويشاً وزول الله، مسرح شغلو ده كان سوق الخضار في السوق الصغير (الجديد فيما بعد)، يشيل الخضار (خضار المناسبات لأنو كتير شوية) للنسوان، يشيل الحاجات اللي ما بتحتاج لعتالة عتاولة، او لعربية، وفي نفس الوقت دايرة قفة، لذلك كان عم سيد يشيل القفة على رأسه ، لذلك سمي سيد قفة، ويبدو أنه لا تعجبه كلمة قفة دي، وقد علم الأطفال الشقايا بهذا السر، فصاروا ما إن يروه حتى ينادوه : (قفة)، فيجري وراءهم بعكازه.
وفي مرة كان يحمل زيراً فوق رأسه لصالح إحدى النسوان اشترته من السوق في طريقها معه الى بيتها، فرآه الاطفال الاشقياء فنادوه: قفة، فرمى الزير من على رأسه وجرى وراءهم (وطبعاً لم يكن يلحق بأحدهم أبداً، لأن الذي يشاغله لا بد ان يكون ماراثونياً) ، المهم رجع ليواصل مشواره بالزير ، فوجد الزير قطعاً من قحوف، والمرأة تبكي زيرها المكسَر، فقال لها : ما تبكي ، بيقطوا ييك (يقصد بلقطوا ليك) طبعا كان (ألجن لا يستطيع نطق اللام، بل ينطقها ياء).
في مرة كنت في طريقي لمدرستي (الأهلية الوسطى أ) في حي الهوارة، ولا بد في طريقي من بيتنا في 114 أن أمر بالسوق الجديد، وكنت أخاف من (قفة) خوفا شديدا ولا أجرؤ على مشاغلته (لأني مؤدب، ولأني لا أمارس الرياضة، ولأني غير ماراثوني)، المهم وأنا شاقي سوق الخضار شاغله اطفال، فجرى وراءهم، وكنت في هذه اللحظة مارا بالقرب منه، فملأني الخوف، فأطلقت ساقي للريح، وقفة ورائي بعكازته، وقد ترك الذين شاغلوه وجرى ورائي أنا ، ولولا ستر الله و أحد المارة لنزل العكاز على أم رأسي، فقد اخبرني عريفي- أحد زملائي- بأن قفة بعد أن اقترب مني رفع العكاز يريد إنزاله على دماغي إلا أن أحد الرجال أمسكه في اللحظة الأخيرة.
مع ذلك كان صوته رخيماً في المديح والدوبيت، فكنا نراه- في غير أوقات الشغل- جالساً في ضل بيتهم يشدو بالمديح.
ü شحاد مدني الكريم
في أوائل السبعينات كنت اشتري بعض الأشياء التي كلفني بشرائها جدي من دكان حمدنا الله بشارع الجمهورية- السوق الكبير، وجاء شحاد عجوز قصير يشحد من الواقفين وأصحاب الدكان، ولم يعطه أحد على ما أذكر، فقفل راجعاً مواصلا بحثه عمن يجود عليه بقرش أو تعريفة، وحالما التفت وجد شحادة من الاقزام - بعيو تجلس في برندة الدكاكين وظهرها على عمود البرنده، تنتظر رزقها من أيدي المحسنين، فما كان من الشحاد العجوز- الذي رأي أنها أسوأ حالاً منه، أو ربما أحس بها لأنه مثلها- إلا ان وضع قرشاً كاملا في يدها وانصرف!
ü جكسا
سمي هكذا لأنه كان يلبس كامل زي الملعب- بما فيه الكدارة أم كدايس غالية الثمن- لا يضاهيه في ذلك إلا نصر الدين جكسا لاعب الهلال الشهير، وكان لون زيه ازرق، لذا شبهوه بجكسا ، لكنه كان كيشة في اللعب رغم أنه يلعب كل عصر مع الشباب في الفسحة المحصورة بين الإدارة المركزية وبيوت السكة الحديد وكلية المعلمات بود مدني قبل أن يضيقوها ببناء صهريج الماء الضخم.
كان يداوم في مستشفى مدني يومياً- رغم أنه غير معين رسمياً ولا يتقاضى أجراً ولا راتباً- كانت هوايته أن يحمل الأوراق والملفات من مكتب إلى مكتب ومن عنبر إلى عنبر، تجده يمشي بجدية وهو يحمل أوراقا، وتبدو عليه سيماء الانشغال والأهمية، ودائما كان مهندماً ونظيفاً في بدنه وملابسه، يناديه الناس إعجاباً: يا جكسا، فيجيب: أهلا دون أن يلتفت إليهم (علامة المشغولية).
لكل هذه الأسباب تم تعيينه رسمياً (مراسلة) في المستشفى دون حتى أن يتقدم هو بطلب لذلك، وقبل ذلك وبعده كان جكسا الواسطة القوية لدخول المستشفى للزيارة، أيامئذ كانت الزيارة يومي الأحد والجمعة فقط، وكان الناس خاصة النساء يأتين لزيارة قريب أو جار في غير أيام الزيارة فيمنعن من الدخول .. عموما كان جكسا يمر داخلاً إلى المستشفى فتناديه إحداهن: يا جكسا عليك الله دخلني المستشفى، فلا يرد لها طلباً - ولأن له تقديراً عند كل البوابين- فلا يرد له طلب، فيسمح لهذه بالدخول ، لقد تقمص دور الشخصية المهمة فأصبح بالفعل مهماً..
ü كضاب مدني
في فراش البكاء جلس كضاب مدني يحكي قصصه الخرافية وحكاويه اللا واقعية كالمعتاد، فقال:
- زمان في صباي كان جنًي صيد، وفي يوم لقيت لي صيدة في غابة ام بارونة، طبعا الزمن داك ما كان فيه بنادق، وكنت صبي متعافي وجراي جري، يا زول سكيت الغزالة دي في الغابة ، هي تجري وانا وراها ، هي تجري وانا وراها، لغاية ما فترتها تب، قبضتها في حنتوب، فقاطعه الجماعة:
- لكن البحر يا مولانا!!
- والله راح من بالي!
ü حبيب الله
كان يزرع المنطقة الممتدة ما بين ورشة 114 والسوق الجديد وبيوت حي 114 (مكان النادي الأهلي حالياً- جيئة وذهاباً يتحدث لنفسه بصوت مسموع ثم يرمي بعكازته في السماء فتقع على بعد مسافة منه، فيمشي حتى يلتقطها، ثم يكرر ما فعله مرة أخرى.. وحتى عندما تم بناء وتسوير النادي الأهلي فإنه حصر نشاطه ذاك في الفسحة التي بين النادي الأهلي والطاحونة القديمة وبيوت 114 فضيقوا عليه ذلك أيضا ببناء نادي التربية البدنية ..
كنا صغاراً نخاف منه حيث يرسلنا اهلنا لشراء الخضار من السوق الصغير ، خاصة عندما يجدع العكاز بعيد، لكن بمرور الزمن اكتشفنا أنه لا يؤذي أحدا أبدا، وحتى إذا تحدث معه أحد فإنه يتحدث معه حديث العقلاء،
تصادف مرة أن تعرض لحادث حركة، فرقد في مستشفى مدني في عنبر الحوادث - وكان أبي يرقد في نفس العنبر- فعرفته عن كثب، فكان إنساناً عادياً جداً، وعاقلاً جداً وودودا وصاحب انس، لكنه ما إن خرج من المستشفى حتى وجدته يمارس عادته القديمة تلك.
يقال إن سبب هذه اللوثة أنه كان رجلاً ثرياً يملك قطيعاً كبيراً من المواشي، فتسلط عليه اللصوص فسرقوه منه، فكان ما كان من أمره.
ü الشاعر ود العيلفون
كان يحمل معه شعره يطوف به دواوين الحكومة والأندية، يفرح عندما يضحك السامعون، يوزعه مكتوباً بخط يده وأحياناً مطبوعاً بالآلة الكاتبة.. لا بد من إسماعك عزيزي القارئ بعضاً من شعره الظريف:
- حبيبي سافر لماذا
- خلاني مكنكش جنازة
- حبيبتي لاقتيها في الكوشة
- سلمت عليّ ببرطوشها
ودفقت الوسخ كش
ü عبد اللطيف حلاوة حلي
يركب دراجته الدبل المميزة ذات الصندوق الامامي، يضع صندوق حلاوة حلي بها، يصنعها بنفسه، لا يوجد من يصنع أو يبيع هذا النوع إلا عبد اللطيف هذا، يجوب ود مدني طولاً وعرضاً ، ينفخ في بوقه - وهو أيضا من صنعه لم نر أحدا يصنع مثله أو عنده شبيهه- نسمعه ونحن داخل البيوت فنقف أمام الأم أو الأب نمد أيدينا طلباً للقرش والتعريفة، ثم نجري للزلط لنشتري حلاوة حلي، أما بيضاء أو حمراء، بقرش أو بتعريفة.
وكان في الصيف يبيع الآيسكريم، ينادي ببوقه الشهير زبائنه، ويضع إناءين في سبت الدراجة بهما دندرمة حمراء ودندرمة صفراء، فنحمل كبابي الشاي ليضع لنا بالمسطرين- المصنوع من ملعقة- الدندرمة في الكبابي التي نحملها، فلا نصل الى البيت إلا وتكون الكباية فاضية.
أما الكبار فكانوا أيضا يعرفونه، لا من اجل حلاوة حلي والآيسكريم، بل من اجل السحور، فكان هو المسحراتي ببوقه المشهور ينفخ عليه ثم ينادي: (يا صايم قوم اسحر يا فاطر نوم ادمدم).. يعني بالنهار الحلاوة حلي والدندرمة، وعند السحر لايقاظ الناس للسحور في شهر رمضان المبارك.
ü عم عبدُ اللهِ حلا وحمار
حمار من الحمرة، وحلا من حلاوة، (برضو لكن جايين للحمار) ، كان عم عبد الله يركب حماره وفوقه قفتان كبيرتان متدليتان من جانبي الحمار، محملتين بالبطيخ في موسم البطيخ، ينادي من على حماره: البطييييييخ، حلا وحمار، وفي موسم قصب السكر: قصب السكر قصب السكر، وفي موسم النبق: النبق النبق، النبق والقنقليس.. وفي غير هذه المواسم يبيع الخضار، يلف مدني باركانها الأربعة، في عز الهجير او في الشتاء او في الخريف، فكرة تسويقية جيدة، فهو لا يكتفي بصنف واحد طوال العام، بل ينوع أصنافه حسب المواسم، وله زبائنه الدائمون الذين يقف عند أبوابهم دائما، كما يبيع للآخرين حسب الحال.
ü عم قسم
- حركه يا عم قسم
يرفع عم قسم رجليه من على بدال العجلة ويضعهما في الميزان أمامه، حتى إذا اجتاز الصبية أنزلهما (خلاص شافوه)، فإذا مر على آخرين نادوه: حركه يا عم قسم، فيرفع رجلاً واحدة عن البدال ويمدها مستقيمة الى الوراء، ثم يعيدها، وكلما مر على صبية نادوه حركة يا عم قسم، فيعمل لهم حركة (ودائماً هي نفس الحركة أو الحركتين)، لا يكل ولا يمل.
كان ساعياً في مدرسة الأهلية الوسطى (ب) بود مدني، ولكنه كان يتهندم ببدلة كاملة بكرفتتها، لا يضاهيه في زيه هذا لا ناظر المدرسة ولا حتى مدير التعليم في مديرية النيل الأزرق، أيضا، يسعى شوارع مدني بالطول والعرض، يحضر البريد من البوستة الكبيرة، والجرائد والمجلات من المكتبة، ولا يكتفي بتوزيع هذه الأخيرة على المشتركين في المدرسة، بل لغيرهم من قراء مدني- وما أكثرهم- ولكنه مرة نال علقة ساخنة بسبب نشاطه هذا، فقد كان يحضر مجلة لفتاة، ويبدو ان الفتاة كانت تقرأ هذه المجلة من وراء ظهر والدها، ولكن انكشف أمرها وأمر من يأتيها بالمجلة، فبهدل المسكين عم قسم بعلقة ساخنة.
حبيبي سافر لماذا .. خلاني مكنكش جنازة؟
ود العيلفون وكضّاب مدني وآخرون
عمر حسن غلام الله
مدني زاخرة بكل ما هو طريف، كما هي زاخرة بكل ما هو جميل ، فبالإضافة لأهل الفن و الطرب والكرة والسياسة والأدب، هناك مجموعة الظرفاء وأهل النكتة، شخصيات يعرفها كل اهل مدني في الستينات والسبعينات وربما الثمانينات ، اما شخصيات التسعينات، فلعلي لا أعرف عنها شيئا لبعدي عن مدني في تلك الحقبة، فأرجو منكم اضافتها لهذه الكوكبة.. رحم الله من فارق الدنيا وأمد الله في عمر من بقي منهم على قيد الحياة، واستميح الجميع عذراً ان انحرف قلمي، فلكل جواد كبوة.
=
ü ود الفتلي
سباح ماهر، لأنه يسكن قرب البحر، يقطع البحر حتى وقت الدميرة، يصطاد الشجر الذي يقتلعه النيل الأزرق ساعة الفيضان من على ضفتيه - ربما شجر إثيوبيا- ويجرفه في تياره القوي عند سقوط الأمطار في الهضبة الحبشية في يوليو وأغسطس، ويبيع ود الفتلي هذا الشجر حطباً ليشتري به البنزين.
ابتلى الله ود الفتلي باستنشاق البنزين عبر القطن، اشتهر بذلك في ود مدني، يحمل دائما زجاجة البنزين في جيب جلابيته.. صادف إدمانه ذلك أول أزمة بنزين في السودان في العام 1978م أيام حكم النميري ، وكان ود الفتلي إذا لم يجد البنزين يجلس مستكيناً (ومضبلناً) في وسط شارع الزلط، فإذا مر عليه إنسان وسأله لماذا يجلس هكذا وسط الزلط؛ يجيب بأنه (قاطع بنزين)، وحتى لا يموت من إنقطاع البنزين تلك، أو يعيق حركة المرور، فقد يتبرع له سائق سيارة بشمة بنزين، وحالما يصل البنزين لرئتيه يبدأ بتقليد صوت تدوير موتور السيارة (رررررن، ررررررن، تيت ، تيت) ثم تدب الحركة فيه وينطلق عبر الزلط.. وحسماً لأمر هذه (القطعة التي يمكن ان تودي بحياته) فقد صدق له المحافظ بحصة من البنزين أسوة بالمركبات.
من نوادره ايضا، كان إذا أعطيته قرشاً، أكل امامك ضفدعة حية .. وكلو يهون في سبيل البنزين.!
ü ود عم فاروق
يُسأل عن اسمه فيقول:
- اسمي ودأم (ود عم) فاروق، ولا ندري من فاروق هذا (قيل الملك فاروق) ولا أين اسمه هو واسم أبيه، ولماذا ود عم وليس «ابن أو أبو أو أخو فاروق»؟
- بتحب منو؟
- بهب تهية كاريوكا (بحب تحية كاريوكا)،
ويُسأل نفس السؤال في مأتم آخر فيجيب:
- بهب فاتن همامة (فاتن حمامة) ،
لا يوجد بيت بكاء إلا وود عم فاروق فيه (خاصة يوم الصدقة)، ولا بيت عرس إلا وحضوره مضمون، هذا غير بيوت الطهور والسماية ، بل حتى بيوت (الزار) . ويلبس كل ملابسه- وربما ملابس أصحابه وجيرانه ايضاً، صيفية وشتوية، شماعة متحركة، الظاهر منها عليه هو الأوفركوت، كان هذا لبسه صيفا وشتاء..
يلف مدني بأركانها الأربعة، وللمجهود الجبار الذي يبذله في هذه المشاوير بحثاً عن بيوت المناسبات، فإنه عادة يحتاج لـ (صينية) كاملة له وحده، يأكلها ثم يتفرغ للإجابة على أسئلة المعجبين، وهو موسوعة في أسماء الممثلين والممثلات وأسماء الأفلام العربية، يمكن الاستفادة منه- إذا كان لا يزال على قيد الحياة- في برنامج من سيربح المليون..
وكذلك هو موسوعة في جميلات مدني، فكان يسرد أسماء أجمل 10 بنات في مدني، ولذا كان مرجعاً مهماً يعتد به في هذا المجال، بمعنى انه يصلح كلجنة اختيار ملكات الجمال، يمكن الاستفادة منه أيضاً - كما كان يستفاد من الشعراء أيام زمان- في لفت الأنظار للجميلات وتسابق وجوه المجتمع للزواج منهن.
ü آدم المشاي
كان الأطفال ينادونه كلما مر من أمامهم
(آدم المشاي بسكويت بالشاي)، ربما سمي بالمشاي لأنه لم يُر أبداً راكباً ، كنا نراه - ونحن في طريقنا من مدرسة السكة الحديد الابتدائية إلى حي 114 (أواسط الستينات) ماشيا من جهة الدرجة في طريقه الى السوق الصغير (فيما بعد السوق الجديد)، وهو يحمل فأساً على كتفه.. نناديه: عم آدم فاسك وقع.. فيمد يده ليلمس فأسه، ثم نقول له راسك وقع، فيلمس رأسه كذلك ليتأكد انه لم يقع، وهكذا يعددون له أعضاء جسمه واحداً واحداً لغاية ما يصلوا لـ سروالك وقع (وهو المطلوب من البداية)، فيمد يده ليلمسه.. (يمكن وقع؟)
ü سيد قفة
عم سيد من سكان حي الهواره في مدني، من أسرة عريقة، لكنه رغم ذلك امتهن شغلة متعبة (العتالة) أو بالأصح (الشيالة) لأن العتالة تعني حقت العتاولة، وهو يا عيني الهبوب تشيلو، المهم امتهن الشغلة دي لأنو ما بيعرف غيرها، كان درويشاً وزول الله، مسرح شغلو ده كان سوق الخضار في السوق الصغير (الجديد فيما بعد)، يشيل الخضار (خضار المناسبات لأنو كتير شوية) للنسوان، يشيل الحاجات اللي ما بتحتاج لعتالة عتاولة، او لعربية، وفي نفس الوقت دايرة قفة، لذلك كان عم سيد يشيل القفة على رأسه ، لذلك سمي سيد قفة، ويبدو أنه لا تعجبه كلمة قفة دي، وقد علم الأطفال الشقايا بهذا السر، فصاروا ما إن يروه حتى ينادوه : (قفة)، فيجري وراءهم بعكازه.
وفي مرة كان يحمل زيراً فوق رأسه لصالح إحدى النسوان اشترته من السوق في طريقها معه الى بيتها، فرآه الاطفال الاشقياء فنادوه: قفة، فرمى الزير من على رأسه وجرى وراءهم (وطبعاً لم يكن يلحق بأحدهم أبداً، لأن الذي يشاغله لا بد ان يكون ماراثونياً) ، المهم رجع ليواصل مشواره بالزير ، فوجد الزير قطعاً من قحوف، والمرأة تبكي زيرها المكسَر، فقال لها : ما تبكي ، بيقطوا ييك (يقصد بلقطوا ليك) طبعا كان (ألجن لا يستطيع نطق اللام، بل ينطقها ياء).
في مرة كنت في طريقي لمدرستي (الأهلية الوسطى أ) في حي الهوارة، ولا بد في طريقي من بيتنا في 114 أن أمر بالسوق الجديد، وكنت أخاف من (قفة) خوفا شديدا ولا أجرؤ على مشاغلته (لأني مؤدب، ولأني لا أمارس الرياضة، ولأني غير ماراثوني)، المهم وأنا شاقي سوق الخضار شاغله اطفال، فجرى وراءهم، وكنت في هذه اللحظة مارا بالقرب منه، فملأني الخوف، فأطلقت ساقي للريح، وقفة ورائي بعكازته، وقد ترك الذين شاغلوه وجرى ورائي أنا ، ولولا ستر الله و أحد المارة لنزل العكاز على أم رأسي، فقد اخبرني عريفي- أحد زملائي- بأن قفة بعد أن اقترب مني رفع العكاز يريد إنزاله على دماغي إلا أن أحد الرجال أمسكه في اللحظة الأخيرة.
مع ذلك كان صوته رخيماً في المديح والدوبيت، فكنا نراه- في غير أوقات الشغل- جالساً في ضل بيتهم يشدو بالمديح.
ü شحاد مدني الكريم
في أوائل السبعينات كنت اشتري بعض الأشياء التي كلفني بشرائها جدي من دكان حمدنا الله بشارع الجمهورية- السوق الكبير، وجاء شحاد عجوز قصير يشحد من الواقفين وأصحاب الدكان، ولم يعطه أحد على ما أذكر، فقفل راجعاً مواصلا بحثه عمن يجود عليه بقرش أو تعريفة، وحالما التفت وجد شحادة من الاقزام - بعيو تجلس في برندة الدكاكين وظهرها على عمود البرنده، تنتظر رزقها من أيدي المحسنين، فما كان من الشحاد العجوز- الذي رأي أنها أسوأ حالاً منه، أو ربما أحس بها لأنه مثلها- إلا ان وضع قرشاً كاملا في يدها وانصرف!
ü جكسا
سمي هكذا لأنه كان يلبس كامل زي الملعب- بما فيه الكدارة أم كدايس غالية الثمن- لا يضاهيه في ذلك إلا نصر الدين جكسا لاعب الهلال الشهير، وكان لون زيه ازرق، لذا شبهوه بجكسا ، لكنه كان كيشة في اللعب رغم أنه يلعب كل عصر مع الشباب في الفسحة المحصورة بين الإدارة المركزية وبيوت السكة الحديد وكلية المعلمات بود مدني قبل أن يضيقوها ببناء صهريج الماء الضخم.
كان يداوم في مستشفى مدني يومياً- رغم أنه غير معين رسمياً ولا يتقاضى أجراً ولا راتباً- كانت هوايته أن يحمل الأوراق والملفات من مكتب إلى مكتب ومن عنبر إلى عنبر، تجده يمشي بجدية وهو يحمل أوراقا، وتبدو عليه سيماء الانشغال والأهمية، ودائما كان مهندماً ونظيفاً في بدنه وملابسه، يناديه الناس إعجاباً: يا جكسا، فيجيب: أهلا دون أن يلتفت إليهم (علامة المشغولية).
لكل هذه الأسباب تم تعيينه رسمياً (مراسلة) في المستشفى دون حتى أن يتقدم هو بطلب لذلك، وقبل ذلك وبعده كان جكسا الواسطة القوية لدخول المستشفى للزيارة، أيامئذ كانت الزيارة يومي الأحد والجمعة فقط، وكان الناس خاصة النساء يأتين لزيارة قريب أو جار في غير أيام الزيارة فيمنعن من الدخول .. عموما كان جكسا يمر داخلاً إلى المستشفى فتناديه إحداهن: يا جكسا عليك الله دخلني المستشفى، فلا يرد لها طلباً - ولأن له تقديراً عند كل البوابين- فلا يرد له طلب، فيسمح لهذه بالدخول ، لقد تقمص دور الشخصية المهمة فأصبح بالفعل مهماً..
ü كضاب مدني
في فراش البكاء جلس كضاب مدني يحكي قصصه الخرافية وحكاويه اللا واقعية كالمعتاد، فقال:
- زمان في صباي كان جنًي صيد، وفي يوم لقيت لي صيدة في غابة ام بارونة، طبعا الزمن داك ما كان فيه بنادق، وكنت صبي متعافي وجراي جري، يا زول سكيت الغزالة دي في الغابة ، هي تجري وانا وراها ، هي تجري وانا وراها، لغاية ما فترتها تب، قبضتها في حنتوب، فقاطعه الجماعة:
- لكن البحر يا مولانا!!
- والله راح من بالي!
ü حبيب الله
كان يزرع المنطقة الممتدة ما بين ورشة 114 والسوق الجديد وبيوت حي 114 (مكان النادي الأهلي حالياً- جيئة وذهاباً يتحدث لنفسه بصوت مسموع ثم يرمي بعكازته في السماء فتقع على بعد مسافة منه، فيمشي حتى يلتقطها، ثم يكرر ما فعله مرة أخرى.. وحتى عندما تم بناء وتسوير النادي الأهلي فإنه حصر نشاطه ذاك في الفسحة التي بين النادي الأهلي والطاحونة القديمة وبيوت 114 فضيقوا عليه ذلك أيضا ببناء نادي التربية البدنية ..
كنا صغاراً نخاف منه حيث يرسلنا اهلنا لشراء الخضار من السوق الصغير ، خاصة عندما يجدع العكاز بعيد، لكن بمرور الزمن اكتشفنا أنه لا يؤذي أحدا أبدا، وحتى إذا تحدث معه أحد فإنه يتحدث معه حديث العقلاء،
تصادف مرة أن تعرض لحادث حركة، فرقد في مستشفى مدني في عنبر الحوادث - وكان أبي يرقد في نفس العنبر- فعرفته عن كثب، فكان إنساناً عادياً جداً، وعاقلاً جداً وودودا وصاحب انس، لكنه ما إن خرج من المستشفى حتى وجدته يمارس عادته القديمة تلك.
يقال إن سبب هذه اللوثة أنه كان رجلاً ثرياً يملك قطيعاً كبيراً من المواشي، فتسلط عليه اللصوص فسرقوه منه، فكان ما كان من أمره.
ü الشاعر ود العيلفون
كان يحمل معه شعره يطوف به دواوين الحكومة والأندية، يفرح عندما يضحك السامعون، يوزعه مكتوباً بخط يده وأحياناً مطبوعاً بالآلة الكاتبة.. لا بد من إسماعك عزيزي القارئ بعضاً من شعره الظريف:
- حبيبي سافر لماذا
- خلاني مكنكش جنازة
- حبيبتي لاقتيها في الكوشة
- سلمت عليّ ببرطوشها
ودفقت الوسخ كش
ü عبد اللطيف حلاوة حلي
يركب دراجته الدبل المميزة ذات الصندوق الامامي، يضع صندوق حلاوة حلي بها، يصنعها بنفسه، لا يوجد من يصنع أو يبيع هذا النوع إلا عبد اللطيف هذا، يجوب ود مدني طولاً وعرضاً ، ينفخ في بوقه - وهو أيضا من صنعه لم نر أحدا يصنع مثله أو عنده شبيهه- نسمعه ونحن داخل البيوت فنقف أمام الأم أو الأب نمد أيدينا طلباً للقرش والتعريفة، ثم نجري للزلط لنشتري حلاوة حلي، أما بيضاء أو حمراء، بقرش أو بتعريفة.
وكان في الصيف يبيع الآيسكريم، ينادي ببوقه الشهير زبائنه، ويضع إناءين في سبت الدراجة بهما دندرمة حمراء ودندرمة صفراء، فنحمل كبابي الشاي ليضع لنا بالمسطرين- المصنوع من ملعقة- الدندرمة في الكبابي التي نحملها، فلا نصل الى البيت إلا وتكون الكباية فاضية.
أما الكبار فكانوا أيضا يعرفونه، لا من اجل حلاوة حلي والآيسكريم، بل من اجل السحور، فكان هو المسحراتي ببوقه المشهور ينفخ عليه ثم ينادي: (يا صايم قوم اسحر يا فاطر نوم ادمدم).. يعني بالنهار الحلاوة حلي والدندرمة، وعند السحر لايقاظ الناس للسحور في شهر رمضان المبارك.
ü عم عبدُ اللهِ حلا وحمار
حمار من الحمرة، وحلا من حلاوة، (برضو لكن جايين للحمار) ، كان عم عبد الله يركب حماره وفوقه قفتان كبيرتان متدليتان من جانبي الحمار، محملتين بالبطيخ في موسم البطيخ، ينادي من على حماره: البطييييييخ، حلا وحمار، وفي موسم قصب السكر: قصب السكر قصب السكر، وفي موسم النبق: النبق النبق، النبق والقنقليس.. وفي غير هذه المواسم يبيع الخضار، يلف مدني باركانها الأربعة، في عز الهجير او في الشتاء او في الخريف، فكرة تسويقية جيدة، فهو لا يكتفي بصنف واحد طوال العام، بل ينوع أصنافه حسب المواسم، وله زبائنه الدائمون الذين يقف عند أبوابهم دائما، كما يبيع للآخرين حسب الحال.
ü عم قسم
- حركه يا عم قسم
يرفع عم قسم رجليه من على بدال العجلة ويضعهما في الميزان أمامه، حتى إذا اجتاز الصبية أنزلهما (خلاص شافوه)، فإذا مر على آخرين نادوه: حركه يا عم قسم، فيرفع رجلاً واحدة عن البدال ويمدها مستقيمة الى الوراء، ثم يعيدها، وكلما مر على صبية نادوه حركة يا عم قسم، فيعمل لهم حركة (ودائماً هي نفس الحركة أو الحركتين)، لا يكل ولا يمل.
كان ساعياً في مدرسة الأهلية الوسطى (ب) بود مدني، ولكنه كان يتهندم ببدلة كاملة بكرفتتها، لا يضاهيه في زيه هذا لا ناظر المدرسة ولا حتى مدير التعليم في مديرية النيل الأزرق، أيضا، يسعى شوارع مدني بالطول والعرض، يحضر البريد من البوستة الكبيرة، والجرائد والمجلات من المكتبة، ولا يكتفي بتوزيع هذه الأخيرة على المشتركين في المدرسة، بل لغيرهم من قراء مدني- وما أكثرهم- ولكنه مرة نال علقة ساخنة بسبب نشاطه هذا، فقد كان يحضر مجلة لفتاة، ويبدو ان الفتاة كانت تقرأ هذه المجلة من وراء ظهر والدها، ولكن انكشف أمرها وأمر من يأتيها بالمجلة، فبهدل المسكين عم قسم بعلقة ساخنة.