النور محمد يوسف
05-10-2007, 11:12 PM
صابر هو الطفل الأوسط بين أخوته الست وجميعهم ذكور .. وفي هذه الأيام لا تسعهُ الفرحة، يقفز هنا وهناك من شدة الفرح، لقد جاء دوره الآن للدخول إلى المدرسة...خلاص السنة دي أكيد سيدخل المدرسة، لن يبقى قابعا في البيت بعد ذهاب الأطفال إلى المدرسة ولن يُستغل كمراسلة لنسوان الحي ....هذه عاوزة بصلة وتلك عاوزة تبديل عجين....سيكون مع التلاميذ هذا العام بشنطته القماش يحمل فيها كتبه وأغراضه الأخرى... وإمكن كمان يكسوه هدوم جديدة ونظيفة وإمكن كمان يشتروا ليهو نعلات.... الفرحة لا تسعه.....والحال الاقتصادية هي الحال في معظم أرياف السودان...رزق اليوم باليوم...فيسأل والده ....ماذا سيشتري له للمدرسة....فيجيب الوالد...كل واحد يشتغل ويجلب ربع ثمن لبسة سوف أكمل ليهو الباقي واشتري ليهو لبسة....يعني البجيب حق لبسة كاملا سأشتري له 4 لبسات....ياه...هذا حافز كبير ....ففكر صابر... ذلك الطفل الوسيم ذو السبع سنوات فالحافز يشمله أيضا ...فقرر بدون تردد...لازم يشتغل ويجيب على الأقل ربعين (2) ربع... عشان تكون له لبستان....ولكن ماذا يعمل؟؟؟؟ والعمل في البلدة ليس حكرا على فئة عمرية محددة ....نساء وأطفال شباب وشيوخ...ولكن لا عمل في البلدة غير العمل بالزراعة....ولا يوجد منه متوفرا وقتها إلا جني القطن (اللقيط )... فتحزَّم صابر وحمل ثوبه (اللقاط) (وهو أيضا غطاؤه في الليل وأيضا لحافه عندما يخلد إلى النوم) ...حمله في الصباح بدون وضع أي كريمات تحمي بشرته الطرية وبدون الاحتياط بقفازات ليديه وبدون حذاء يحميه من الشوك أو لدغات الزواحف أو لسعات الهوام الضارة وبدون قبعة على الرأس تقيه من لهيب الشمس ....وطبعا ما فيش تأمين صحي ولا تعويض عن الإصابات المهنية ....حمل لقاطه ومعه قطعة من زاد (كسرة) باردة (بريدة) من باقي عشاء الأمس مع ملح وشوية شطة حمراء لفطوره ...فالماء متوفر بالجدول...ودخل الحواشة (المزرعة) ليجني القطن ....كان فرحا مسرورا...فتلك الأصابع الصغيرة تدفعها وتحركها الرغبة في شراء اللبسة للمدرسة ...والحافز ينتظره ...و يبدأ العمل بجد وبسرعة شديدة ....فقد كانت تلك الأصابع الصغيرة في اليدين الاثنين تتحرك تلتهم لوزات القطن يجمعها جمعاً واحدة تلو الأخرى... ويضع ما يجنيه من قطن في المخلاية (لقاطه)...وعندما يمتلئ يذهب إلى مكان التجميع (التقاية) ويضع ما جناه من قطن....
بسم الله... نواة لكوم من القطن ستأتي بعده اللبسة.... فالحصيلة الآن كوم صغير عند نهاية اليوم مقارنة بالأكوام الأخرى....كويم شويفع....وشوية شوية يكبر الكوم كل يوم... ويكبر معه حلمه ويقترب موعد تنفيذه ....حتى جاء وقت الوزن (الميزان) وزن ما جمعه من القطن... والحمد لله .... خلاص عندما يأتي موعد (صرف) المزارعين سيستلم ما يساوي ربع ثمن اللبسة....ضمن صابر حق اللبسة ....ويوم الصرف سوف يستلم صابر فلوسه ويسلم والده مساهمته ....وجاء يوم الصرف ...فكل البلدة الآن منتعشة والأطفال في فرحة لا تضاهيها إلا فرحة العيد... يشترون ما كانوا يرغبون فيه من حلويات وبلح وكرة للعبة الكداد ...فالتاجر والجزار كلهم مسرورون حتى حماد راعي الغنم فاليوم سيستلم أجرة الرعي عن كل غنماية من غنم البلدة....واستلم صابر أجرته... وسلم والده ربع ثمن اللبسة ...وأوفى الوالد... واشترى له اللبسة وكمان شنطة القماش للكتب....
ولكن قبل شهر من وقت فتح المدارس ..... بدا صابر يحس بتنمل في أصبعه...في الإبهام الأيسر بين الظفر ولحمة الأصبع في المقدمة... تحول إلى ألم مبرح.... ويشتد الألم ويشتد...تلك هي (النشرة) وهي اصطلاح يقصد به الالتهاب الحاد نتيجة وجود جسم غريب في الأصبع...رائش من بقايا لوزة القطن يستقر في الأصبع أثناء جمعه للقطن...ويبدأ الأصبع يتورم ويميل لونه إلى الاخضرار.... ثم بدأت تظهر مادة بيضاء يصاحبها ألم حاد ...يشتد الألم ويمنعه من النوم لليالٍ طويلة....ويذهب إلى المساعد الطبي الوحيد بالمنطقة... فبعد فتح الأصبع وتفريغ الصديد يضمده بلفه بالقطن الطبي ثم شاش ثم قطن ثم شاش...ألم شديد يصاحب هذه العملية ....ولا علاج يتلقاه غير التضميد... يموت صابر يوميا من شدة الألم خاصة عند الغيار.....الكل بالبلدة يعرف الآن أن صابر يعاني من نشرة بأصبعه...الكل يتعاطف مع صابر ... الجميع أحب صابر ...قد كان طيبا ووقورا ...وقد ضرب مثلا للناس في الصبر والعزيمة والإصرار وحب العمل فهو الطفل الصغير الذي لم يتجاوز عمره سبع سنوات يعاني هكذا ولا ينام من الألم...
يا مسكين يا صابر ...لقد فتحت المدرسة....مسكين ما اتهنأ صابر بفرحة المدرسة مثل بقية أقرانه بالفصل.... فقد كان أول شيء يعمله صابر في بداية كل يوم دراسي منذ أول يوم في المدرسة هو أن يذهب ويسجل اسمه في دفتر العيادة قبل الطابور....يحمل الدفتر بيده الملتهبة ويذهب إلى العيادة ...فيتم الغيار للأصبع في العيادة ويرجع إلى الفصل والدموع في عينيه...ورغم ذلك الألم والمعاناة لا يغيب صابر أبدا عن المدرسة ...فقد عمل من أجل المدرسة...وهو يعشق المدرسة ....فالمدرسة وإلا..... العمل كمراسلة مجَّاني للنسوان....ويستمر الحال لأكثر من شهرين...وجرب كل العلاجات....مرة يدخل صابر إلى الفصل وفي أصبعه بصلة ... مجوفة من الداخل كان الأصبع محشورا فيها طيلة الليل....فتلك قد كانت نصيحة امرأة حكيمة من البلدة...ومرة يأتي وأصبعه يئن من الضغط على الجلد والشد الناتج من خلطة "الحِلْبَة" حول الأصبع .... وهناك من قالت ...والله دي عين أصابت الولد ... عين الشيطان أصلها بتصيب الواحد في اليد اليسرى... لذلك كل واحد لازم يبصق على الأصبع...ما العين هي نفيسة (تصغير لنفس)....ويتحمل صابر بصق الناس على أصبعه لطرد العين...وأحيانا يمد أصبعه لمن يظن أنه هو الذي أصابه بالعين ليبصق عليه....وغايتو الأصبع صار حقلا للتجارب ومكانا للبصق... وتدهورت حالته الصحية.
وفي يوم من الأيام في أحدى الليالي ....كانت ليلة لا ككل الليالي...مظلمة وحزينة...تنطلق أصوات بكاء النساء بالبلدة...تنطلق بقوة تكسر هدأة الليل وسكون البلدة...تنطلق الأصوات تثكل ميتا بحرقة.... عويل وصياح وبكاء من النساء بالبلدة....تملأ الأفق ....يخيم الحزن على الأجواء...أكيد في البلدة موت...الظاهر أن أحد أفراد البلدة قد مات .......هذا الثكل دلالة على الموت.. وتلك كانت هي وسيلة الإعلام الوحيدة لإعلان حالة الموت بالبلدة... وحجم الصوت يكون حسب حجم الشخص المتوفَّي وحسب عمره وأهميته......ويزداد الصياح والثكل ... وتهرع الأم ...أم السبعة أولاد.... وتحاول أن تذهب للعزاء....لقد توفي شخص مهم بالبلدة....ولكن لمن تترك أولادها الصغار ولمن تترك ولدها صابر بأصبعه الملتهب ....ولكن لا مفر من الخروج.....
يا صابر أنا ذاهبة للعزاء.... احرس إخوانك الصغار....(طبعا مافيش خدامة)..... وخليكم واعيين وبعيدين من اللمبة.....المسْرَجَة (لمبة أم قيطان توقد بالجاز)...وما تخافوا ... ما بجيكم شيء....ودعتكم الله....وتذهب الأم...
يبدأ احد أخوته الصغار يبكي بكاءً مزعجا بعد خروج الأم ...يحتار صابر كيف يوقف بكاء أخيه....ففكر..وقدر...فخطرت له فكرة جهنمية ...فينادى صابر أخاه الذي يبكي ...تعال يا أخي شوف أصبعي حالو كيف!!! فليس بالبيت لعب أطفال أو أي شيء يلهيه ...فيسكت الطفل من البكاء.... فهذه فرصة بالنسبة له ليرى أصبع صابر الشهير الملتهب الذي لم يره أحد قط لشهرين متتابعين سوى المساعد الطبي...تعال اقترب وشوف....ويدني الطفل اللمبة فالدنيا ليل.... ويقول الطفل: "لا أرى شيئا" ...فالإضاءة غير كافية....ويدنو باللمبة.... فيفك له صابر الشاش الأول من الضماد ببطء شديد وكذلك الشاش الثاني ثم الثالث قتلا للوقت وخوفا من تعوير الأصبع... حتى لم يتبقَ غير القطن وتحته الأصبع.....يتوقف صابر....خلاص لا يقدر أن يفك أكثر وإلا فصابر نفسه سيبكي....أدنُ أنت....ويدنو الطفل الصغير باللمبة من الأصبع ولا يرى شيئا...ولن يرى شيئا فلا يمكن أن يرى ما تحت القطن... فالمقصود هو أن يسكت عن البكاء... ويصر أن يرى شيئا فقد سُمح له بذلك فيدنيها أكثر ....وفجأة ... عندما اقتربت اللمبة أكثر .... يلامس لهب اللمبة طرفا من ذلك القطن الموجود على الأصبع..... وبسرعة تشب النار في القطن الموجود حول الأصبع...وتشتعل وتعم كل الأصبع ويزداد حجمها ويستعر لهيبها...وصابر يجن جنونه ....كيف يتحمل صابر هذين الألمين... ألم الأصبع من النشرة بالإضافة إلى ألم الحريق... وبدأ يهرول كالمجنون هنا وهناك ....ماذا يفعل ... والنار تزداد اشتعالا...ويجري صابر يدور حول نفسه في محيط البيت المكون من غرفة واحدة بها كل أمتعة وممتلكات الأسرة المحدودة...فهي المطبخ وهي غرفة النوم وهي غرفة الجلوس لأسرة تتكون من تسعة أفراد وبها معدات تجهيز أكلهم المتواضع وملابسهم...يجري ...ويجري.. ولا أحد معهم بالبيت...الأم والأب وبقية الرهط جميعهم في العزاء..يجري وهو يصيح حاملا أصبعه والنار يستعر أوارها...الماء الماء...أين الماء....وسيلة الإطفاء الوحيدة... ويلتفت يمينا ويسارا ولكن للأسف لا يجد ماءً يطفئ به النار.... ماذا يفعل... والنار تشتد .. وأخيرا لا مفر... فيتوجه مباشرة إلى باب الغرفة ...وفجأة يلحظ بعينيه الدامعتين أحد الزيرين.... فيتوجه إليه مباشرة وبدون تردد يدخل فيه يده ذات الأصبع المشتعل....وتنطفئ النار في الزير.......الحمد لله كادت أن تحدث كارثة يروح ضحيتها صابر وأخواه الصغيران...والحمد لله كان الزير مليئا بالماء.
ولكن بعد قليل.... يدخل عليهم أخوهم الكبير... ويعرف الحكاية ...ويعرف تصرف أخيه صابر في عملية إطفاء النار .... ويحمل الأخ الكبير أداة ثقيلة (أداة الحفر) (الحفارة)... ويتوجه وعيناه تقدحان شررا ...ماذا يريد أن يفعل هذا المتهور...ماذا يريد أن يفعل بهذه الأداة الثقيلة...فصابر لم يخطئ.. لقد استغل ما هو متاح... وصابر يفتح عينيه واسعتين ينظر إلى أخيه خائفا....فهو لم يخطئ ....بل تصرف تصرفا صحيحا بإدخاله الأصبع في الزير....يتقدم الأخ بالحفارة ...يحمل شرا في عينيه.....فلا يوجد حاليا واحد كبير من أفراد الأسرة يردع هذا الأخ الأكبر أو يمنعه....فهو هائج ثائر...فهو أيضا صغير في السن ولا يعي خطورة أي تصرف يتصرفه... ويتوجه ملوحا في السماء بالحفارة وبكل قوته ينهال ضربا شديدا بلا هوادة ... يضرب ويضرب بجنون ... لقد فقد وعيه... يضرب ويضرب بالحفارة حتى خارت قـــواه...ثم انكسر الزير... فتهدأ ثورته....وفجأة يصيح الطفل الجاني ....لا لا ...بل أدخل صابر أصبعه في الزير الآخر.....ويُكسر الزير الثاني....
بعد ذلك تعود الأم بعد انتهاء مرحلة العزاء الأولى بعد عودة العنقريب من المقابر(هنا مسموح فقط بالمغادرة للنسوان العندهن أطفال)....تعود الأم إلى البيت إلى أولادها وتعرف الحكاية ...وتبدأ تبكي ...فالناس لا تدري على ماذا كانت تبكي...أكانت تبكي على ولدها وحريق أصبعه الملتهب في غيابها أم على الفقيد المقبور قبل دقائق...لقد كانت الأم تبكي لفقدانها الزيرين.... فقد كان توفير الزير والماء البارد من واجبات المرأة بالبلدة مع الوقود (الحطب) وطحن الغلال والطبخ...(توزيع الأدوار والمسئوليات)..فهذا مشوار جديد من المعاناة بالنسبة لها أو أنها ستعتبر مقصرة في حق أسرتها وزوجها....ولن يسلموها زيرا آخر فهي لم تسدد ما عليها من أقساط للزيرين المكسورين....أما صابر فينام بعد الحريق مباشرة...ينام صابر لأول مرة نوما متواصلا منذ ثلاثة أشهر...لأول مرة يذوق حلاوة النوم .....ولأول مرة يدخل في الصباح إلى الفصل من الطابور مباشرة بدون الذهاب إلى العيادة....هذه هي المرة الأولى التي يقف فيها بالطابور...وداعا يا دكتور...ويشفى الأصبع ولم يشعر بألم في أصبعه قط منذ ليلة الحريق.
النور محمد يوسف
بسم الله... نواة لكوم من القطن ستأتي بعده اللبسة.... فالحصيلة الآن كوم صغير عند نهاية اليوم مقارنة بالأكوام الأخرى....كويم شويفع....وشوية شوية يكبر الكوم كل يوم... ويكبر معه حلمه ويقترب موعد تنفيذه ....حتى جاء وقت الوزن (الميزان) وزن ما جمعه من القطن... والحمد لله .... خلاص عندما يأتي موعد (صرف) المزارعين سيستلم ما يساوي ربع ثمن اللبسة....ضمن صابر حق اللبسة ....ويوم الصرف سوف يستلم صابر فلوسه ويسلم والده مساهمته ....وجاء يوم الصرف ...فكل البلدة الآن منتعشة والأطفال في فرحة لا تضاهيها إلا فرحة العيد... يشترون ما كانوا يرغبون فيه من حلويات وبلح وكرة للعبة الكداد ...فالتاجر والجزار كلهم مسرورون حتى حماد راعي الغنم فاليوم سيستلم أجرة الرعي عن كل غنماية من غنم البلدة....واستلم صابر أجرته... وسلم والده ربع ثمن اللبسة ...وأوفى الوالد... واشترى له اللبسة وكمان شنطة القماش للكتب....
ولكن قبل شهر من وقت فتح المدارس ..... بدا صابر يحس بتنمل في أصبعه...في الإبهام الأيسر بين الظفر ولحمة الأصبع في المقدمة... تحول إلى ألم مبرح.... ويشتد الألم ويشتد...تلك هي (النشرة) وهي اصطلاح يقصد به الالتهاب الحاد نتيجة وجود جسم غريب في الأصبع...رائش من بقايا لوزة القطن يستقر في الأصبع أثناء جمعه للقطن...ويبدأ الأصبع يتورم ويميل لونه إلى الاخضرار.... ثم بدأت تظهر مادة بيضاء يصاحبها ألم حاد ...يشتد الألم ويمنعه من النوم لليالٍ طويلة....ويذهب إلى المساعد الطبي الوحيد بالمنطقة... فبعد فتح الأصبع وتفريغ الصديد يضمده بلفه بالقطن الطبي ثم شاش ثم قطن ثم شاش...ألم شديد يصاحب هذه العملية ....ولا علاج يتلقاه غير التضميد... يموت صابر يوميا من شدة الألم خاصة عند الغيار.....الكل بالبلدة يعرف الآن أن صابر يعاني من نشرة بأصبعه...الكل يتعاطف مع صابر ... الجميع أحب صابر ...قد كان طيبا ووقورا ...وقد ضرب مثلا للناس في الصبر والعزيمة والإصرار وحب العمل فهو الطفل الصغير الذي لم يتجاوز عمره سبع سنوات يعاني هكذا ولا ينام من الألم...
يا مسكين يا صابر ...لقد فتحت المدرسة....مسكين ما اتهنأ صابر بفرحة المدرسة مثل بقية أقرانه بالفصل.... فقد كان أول شيء يعمله صابر في بداية كل يوم دراسي منذ أول يوم في المدرسة هو أن يذهب ويسجل اسمه في دفتر العيادة قبل الطابور....يحمل الدفتر بيده الملتهبة ويذهب إلى العيادة ...فيتم الغيار للأصبع في العيادة ويرجع إلى الفصل والدموع في عينيه...ورغم ذلك الألم والمعاناة لا يغيب صابر أبدا عن المدرسة ...فقد عمل من أجل المدرسة...وهو يعشق المدرسة ....فالمدرسة وإلا..... العمل كمراسلة مجَّاني للنسوان....ويستمر الحال لأكثر من شهرين...وجرب كل العلاجات....مرة يدخل صابر إلى الفصل وفي أصبعه بصلة ... مجوفة من الداخل كان الأصبع محشورا فيها طيلة الليل....فتلك قد كانت نصيحة امرأة حكيمة من البلدة...ومرة يأتي وأصبعه يئن من الضغط على الجلد والشد الناتج من خلطة "الحِلْبَة" حول الأصبع .... وهناك من قالت ...والله دي عين أصابت الولد ... عين الشيطان أصلها بتصيب الواحد في اليد اليسرى... لذلك كل واحد لازم يبصق على الأصبع...ما العين هي نفيسة (تصغير لنفس)....ويتحمل صابر بصق الناس على أصبعه لطرد العين...وأحيانا يمد أصبعه لمن يظن أنه هو الذي أصابه بالعين ليبصق عليه....وغايتو الأصبع صار حقلا للتجارب ومكانا للبصق... وتدهورت حالته الصحية.
وفي يوم من الأيام في أحدى الليالي ....كانت ليلة لا ككل الليالي...مظلمة وحزينة...تنطلق أصوات بكاء النساء بالبلدة...تنطلق بقوة تكسر هدأة الليل وسكون البلدة...تنطلق الأصوات تثكل ميتا بحرقة.... عويل وصياح وبكاء من النساء بالبلدة....تملأ الأفق ....يخيم الحزن على الأجواء...أكيد في البلدة موت...الظاهر أن أحد أفراد البلدة قد مات .......هذا الثكل دلالة على الموت.. وتلك كانت هي وسيلة الإعلام الوحيدة لإعلان حالة الموت بالبلدة... وحجم الصوت يكون حسب حجم الشخص المتوفَّي وحسب عمره وأهميته......ويزداد الصياح والثكل ... وتهرع الأم ...أم السبعة أولاد.... وتحاول أن تذهب للعزاء....لقد توفي شخص مهم بالبلدة....ولكن لمن تترك أولادها الصغار ولمن تترك ولدها صابر بأصبعه الملتهب ....ولكن لا مفر من الخروج.....
يا صابر أنا ذاهبة للعزاء.... احرس إخوانك الصغار....(طبعا مافيش خدامة)..... وخليكم واعيين وبعيدين من اللمبة.....المسْرَجَة (لمبة أم قيطان توقد بالجاز)...وما تخافوا ... ما بجيكم شيء....ودعتكم الله....وتذهب الأم...
يبدأ احد أخوته الصغار يبكي بكاءً مزعجا بعد خروج الأم ...يحتار صابر كيف يوقف بكاء أخيه....ففكر..وقدر...فخطرت له فكرة جهنمية ...فينادى صابر أخاه الذي يبكي ...تعال يا أخي شوف أصبعي حالو كيف!!! فليس بالبيت لعب أطفال أو أي شيء يلهيه ...فيسكت الطفل من البكاء.... فهذه فرصة بالنسبة له ليرى أصبع صابر الشهير الملتهب الذي لم يره أحد قط لشهرين متتابعين سوى المساعد الطبي...تعال اقترب وشوف....ويدني الطفل اللمبة فالدنيا ليل.... ويقول الطفل: "لا أرى شيئا" ...فالإضاءة غير كافية....ويدنو باللمبة.... فيفك له صابر الشاش الأول من الضماد ببطء شديد وكذلك الشاش الثاني ثم الثالث قتلا للوقت وخوفا من تعوير الأصبع... حتى لم يتبقَ غير القطن وتحته الأصبع.....يتوقف صابر....خلاص لا يقدر أن يفك أكثر وإلا فصابر نفسه سيبكي....أدنُ أنت....ويدنو الطفل الصغير باللمبة من الأصبع ولا يرى شيئا...ولن يرى شيئا فلا يمكن أن يرى ما تحت القطن... فالمقصود هو أن يسكت عن البكاء... ويصر أن يرى شيئا فقد سُمح له بذلك فيدنيها أكثر ....وفجأة ... عندما اقتربت اللمبة أكثر .... يلامس لهب اللمبة طرفا من ذلك القطن الموجود على الأصبع..... وبسرعة تشب النار في القطن الموجود حول الأصبع...وتشتعل وتعم كل الأصبع ويزداد حجمها ويستعر لهيبها...وصابر يجن جنونه ....كيف يتحمل صابر هذين الألمين... ألم الأصبع من النشرة بالإضافة إلى ألم الحريق... وبدأ يهرول كالمجنون هنا وهناك ....ماذا يفعل ... والنار تزداد اشتعالا...ويجري صابر يدور حول نفسه في محيط البيت المكون من غرفة واحدة بها كل أمتعة وممتلكات الأسرة المحدودة...فهي المطبخ وهي غرفة النوم وهي غرفة الجلوس لأسرة تتكون من تسعة أفراد وبها معدات تجهيز أكلهم المتواضع وملابسهم...يجري ...ويجري.. ولا أحد معهم بالبيت...الأم والأب وبقية الرهط جميعهم في العزاء..يجري وهو يصيح حاملا أصبعه والنار يستعر أوارها...الماء الماء...أين الماء....وسيلة الإطفاء الوحيدة... ويلتفت يمينا ويسارا ولكن للأسف لا يجد ماءً يطفئ به النار.... ماذا يفعل... والنار تشتد .. وأخيرا لا مفر... فيتوجه مباشرة إلى باب الغرفة ...وفجأة يلحظ بعينيه الدامعتين أحد الزيرين.... فيتوجه إليه مباشرة وبدون تردد يدخل فيه يده ذات الأصبع المشتعل....وتنطفئ النار في الزير.......الحمد لله كادت أن تحدث كارثة يروح ضحيتها صابر وأخواه الصغيران...والحمد لله كان الزير مليئا بالماء.
ولكن بعد قليل.... يدخل عليهم أخوهم الكبير... ويعرف الحكاية ...ويعرف تصرف أخيه صابر في عملية إطفاء النار .... ويحمل الأخ الكبير أداة ثقيلة (أداة الحفر) (الحفارة)... ويتوجه وعيناه تقدحان شررا ...ماذا يريد أن يفعل هذا المتهور...ماذا يريد أن يفعل بهذه الأداة الثقيلة...فصابر لم يخطئ.. لقد استغل ما هو متاح... وصابر يفتح عينيه واسعتين ينظر إلى أخيه خائفا....فهو لم يخطئ ....بل تصرف تصرفا صحيحا بإدخاله الأصبع في الزير....يتقدم الأخ بالحفارة ...يحمل شرا في عينيه.....فلا يوجد حاليا واحد كبير من أفراد الأسرة يردع هذا الأخ الأكبر أو يمنعه....فهو هائج ثائر...فهو أيضا صغير في السن ولا يعي خطورة أي تصرف يتصرفه... ويتوجه ملوحا في السماء بالحفارة وبكل قوته ينهال ضربا شديدا بلا هوادة ... يضرب ويضرب بجنون ... لقد فقد وعيه... يضرب ويضرب بالحفارة حتى خارت قـــواه...ثم انكسر الزير... فتهدأ ثورته....وفجأة يصيح الطفل الجاني ....لا لا ...بل أدخل صابر أصبعه في الزير الآخر.....ويُكسر الزير الثاني....
بعد ذلك تعود الأم بعد انتهاء مرحلة العزاء الأولى بعد عودة العنقريب من المقابر(هنا مسموح فقط بالمغادرة للنسوان العندهن أطفال)....تعود الأم إلى البيت إلى أولادها وتعرف الحكاية ...وتبدأ تبكي ...فالناس لا تدري على ماذا كانت تبكي...أكانت تبكي على ولدها وحريق أصبعه الملتهب في غيابها أم على الفقيد المقبور قبل دقائق...لقد كانت الأم تبكي لفقدانها الزيرين.... فقد كان توفير الزير والماء البارد من واجبات المرأة بالبلدة مع الوقود (الحطب) وطحن الغلال والطبخ...(توزيع الأدوار والمسئوليات)..فهذا مشوار جديد من المعاناة بالنسبة لها أو أنها ستعتبر مقصرة في حق أسرتها وزوجها....ولن يسلموها زيرا آخر فهي لم تسدد ما عليها من أقساط للزيرين المكسورين....أما صابر فينام بعد الحريق مباشرة...ينام صابر لأول مرة نوما متواصلا منذ ثلاثة أشهر...لأول مرة يذوق حلاوة النوم .....ولأول مرة يدخل في الصباح إلى الفصل من الطابور مباشرة بدون الذهاب إلى العيادة....هذه هي المرة الأولى التي يقف فيها بالطابور...وداعا يا دكتور...ويشفى الأصبع ولم يشعر بألم في أصبعه قط منذ ليلة الحريق.
النور محمد يوسف