وداحمرعين
04-08-2009, 10:50 PM
( 1 )
وقفت متحيّرا اطالع في كل الجهات وفي علم الله وحده متي يأتي من يعينني في الخروج من ذلك المأزق وانا في
تلك الفلاة المنقطعة... عقارب الساعة تقارب التاسعة صباحا وبرغم ذلك مازالت رياح الشتاء الباردة النشطة
تسفع وجهي واطرافي بذرات الرمال الخشنة وعيناي في غدو ورواح فيما بين السيارة الغارزة في الرمال وبين
الأفق علّني أري أحدا من السابلة او ان تمر مركبة عابرة يمكن ان استنجد بها... لمت نفسي علي تشتت ذهني
وعدم التركيز اثناء القيادة فقد كنت مشغولا ً بالتفكير في امور كثيرة يتوجب علي ّ انجازها قبل انتهاء اجازتي
السنوية التي كان قد مضي عليها حتي تلك الساعة مايقارب نصفها.. ولولا ذلك لما وقعت في هذا المأزق الذي
كان يمكن تفاديه بكل يسر وبعدة طرق... ليتني استجبت لما اقترحه اخي وانتظرته حتي انتهاء دوام عمله ليكون
رفيقا ً لي في هذه الرحلة لكني كنت في عجلة من امري و وددت الأستفادة من كل ساعة من ساعات الأيام القليلة
المتبقية.... وها انا الآن في صحراء لا يطرقها طارق وقد ابدد من هذه الساعات التي وددت ادخارها الكثير قبل
ان يأتي من يمد لي يد العون للخروج من هذه المحنة... كنت اقود منذ اكثر من ساعة و يلزمني وقت اكثر بقليل
من ذلك لأصل الي القرية التي يعيش فيها عمي والتي تقع في الطرف الأقصي من تلك الفلاة المترامية الأطراف
وبالتالي لم يكن في امكاني موصلة السير راجلا ً سوي للوراء او للأمام فالمسافة شاسعة والطريق وعر.. عتامير
ازهارها الأشواك والحجارة وفراشاتها العقارب وعصافيرها الحيّات....أما كان من الأفضل لعمي هذا لو كان
مستقرا ً في قريتنا الأكبر حجما والأكثر قربا ً لكان قد كفاني عنت هذا المشوار.. ما الذي يعجبه في بسابس جدباء
قاحلة كأنها جوف العير...قفار يتجسد البؤس علي كل معلم من معالمها !!... ما اكثر النساء في قريتنا..ألم يجد من
بينهن ما كانت توفر علينا كل هذه المشقة وكل هذا العناء !!؟.... ولكنه ظل يتكبّد مثل هذا لسنوات طوال دون ان
يشكو يوما او يتذمر ففي كل مرة اعود فيها للوطن في اجازتي السنوية كان يأتي لزيارتي فور تلقيه نبأ وصولي
ولا يؤخر فرضا ً في اي مناسبة من مثل ذلك...يأتي وخلف مطيته يربط كبشا او عنبلوكا ويندر ان يأتي بغير ذلك
اذن فأن تكلفي هذا العناء لأجل زيارته قبل سفري ليس جميلا ً من الجمائل بل فرضا وواجبا ينبغي علي ّ تأديته.
مضت ساعتان من الزمان دون ان يأتي منجد او معين ولا أحسب ان احدا سيأتي في مثل ذلك الوقت فأذا كان ثمة
رعاة فلا يتوقع ظهورهم الا قبل المغيب بوقت قليل في طريق عودتهم من المرعي هذا اذا كان هنالك رعاة
بالفعل في ذلك النطاق... ازدادت حدة قلقي وخشيت ان تمر الساعات و يدركني المغيب وانا في هذا المكان القفر
الموحش... علي ّ ان ابحث جاهدا عن مخرج قبل ذلك.. دنوت من السيارة الغارزة في الرمال وفتحت بابها في
محاولة يائسة لتحريكها... أدرت المحرك وضغطت علي دواسة البنزين بقوة مغيرا عاكس السرعة الي الخلف
مثيرا عاصفة من الغبار ثم اعود احاول التقدم الي الأمام ولكن كان كل ذلك دون جدوي اذ تنتهي كل محاولة
بتوقف المحرك عن الدوران ومضيت اكرر المحاولة حتي استنفدت طاقة البطارية ولم يعد من الممكن ادارة المحرك مرة اخري فأصبحت
امام مشكلتين... مشكلة العجلات الغارزة في الرمال ومشكلة البطارية التي لم تعد قادرة علي توليد الطاقة اللازمة
لأدارة المحرك بعد ان نفد معينها . ربّاه كيف الخروج من هذه الورطة !!؟ هل اعود الي الوراء علي قدمي ّ عبر
تلك العتامير التي خلفتها من ورائي تاركا السيارة في عهدة الرمال وذلك الخلاء أم أواصل السير الي الأمام علي
امل ان اجد من يساندني في امري !!؟ ... ترجلت صافعا باب السيارة بقوة وانا اكيل لها السباب واللعنات كأنها
هي المسؤولة عن ما انا فيه وكأنها تعي وتفهم مااقول ومضيت اسير علي غير هدي ربما لنصف ساعة او اكثر
ولما فطنت الي انني ابتعدت كثيرا عن مكاني ذاك استدرت عائدا وقد عزمت علي ان اعود الي قريتي سيراً
علي الأقدام عبر تلك الفيافي وليكن ما يكن...قد اضطر الي السير لثلاث او اربع ساعات او ربما اكثر من ذلك
وسيحل الظلام قبل ان اصل لكن لم يكن من سبيل آخر.. كانت الفكرة بأن امضي في ماعزمت عليه واعود من
بعد وفي معيتي مجموعة من الشباب مستعينين بسيارة اخري لأنتشال سيارتي من بحر الرمال الذي غاصت فيه
ومن ثم دفعها ليدور محركها... ولكن حين مضيت الي حيث توجد العربة رأيت لدهشتي من علي البعد رجلا يقف
بجانبها وظهره علي صندوقها وكأنه ينتظر مقدمي... كان في هيئة الرعاة يرتدي العراقي والسروال وعلي رأسه
طاقية بيضاء.. مسحت علي عيني ّ للتأكد من ان من أراه هو شخص بالفعل وليس خيالا ً.. تساءلت في نفسي وانا
اجرجر الخطي ناحيته.. من اين أتي هذا الرجل ياتري !! فلو كان من الرعاة لكن في صحبة اغنامه ولو كان
عابر سبيل لكنت رأيت مطيته حمارا كان ام جملا.. ولكن لا شيء يقف بجانبه.. ألقيت عليه التحية فردها في
صوت اقرب الي الهمس ورأسه صوب الأرض دون ان اتمكن من رؤية وجهه.. أحسست بشيء من الخوف
وعدم الأطمئنان فربما كان معتوها او قاطع طريق ! .. تحسبت لذلك واحتطت لأي مباغتة او تصرف قد يحدث
من جانبه. ودون ان ينبس بكلمة حشر نفسه تحت السيارة ومضي يزيح الرمل من خلف الأطارين الأماميين
بكل اناة ثم لم يلبث ان حرر جسده من ذلك الوضع وانسل بذات الهدوء وهو يشير علي بتشغيل المحرك. ولما
كنت علي يقين من ان المحرك لن يدور بسبب ضعف البطارية فقد تلكأت في ذلك وكنت علي وشك ان اقول له
ان ذلك لن يجدي لكنه بدا كمن قرأ ماكان يدور في ذهني فأعاد طلبه بتشغيل السيارة وتحت وطأة ذلك الشعور
الذي كان ساعتها يخالجني لم أشا ان اعصي له امرا وكم كانت دهشتي كبيرة حين استجاب المحرك للأمر دون
ان يبدي تمردا …. " ارجع..ارجع لي وراء ".. هكذا جاءني الصوت الواهن وبكل سهولة ويسر تحررت
الأطارات من قيود الرمال ودارت وكأنها علي شارع اسفلت… بدا لي وجهه واضحا ً كل الوضوح.. لم يكن
بالغريب بل كان مألوفا.. رأيته من قبل ذلك مرارا ولكن عبثا حاولت تذكر اين كان ذلك . وبعد ان ابتعدت
بالسيارة من بحر الرمال ذاك توقفت لتقديم الشكر للرجل ومعرفة وجهته لأخذه معي في طريقي الا انني رأيته
ينصرف مبتعدا موليا ً وجهه شطر الجهة المعاكسة لاتجاه سيري ملوحا بيده من خلفه مشيرا علي ّ بمتابعة السير
وعدم التوقف… هممت باللحاق به واخذه الي حيث يريد مكافأة له علي مساندته لي لكنه انطلق يسابق الريح
فبقيت في موضعي ذاك ارقبه الي ان تواري خلف مجموعة من الشجيرات…اندهشت حقا للطريقة التي ظهر بها
واختفي بمثلها فقد كان كالخيال… أين مقصده ياتري في هذه الفلاة الواسعة !! …قدرت ان يكون قد ذهب للحاق
بأغنامه التي ربما كان قد تركها في مكان ما قبل ان يأتي لنجدتي او لعله عائد الي مضرب خيام قومه وما اكثر
الرحّل في تلك الأصقاع. انطلقت مسرعا ولكن بحذر صوب قرية عمي وصورة ذلك الرجل لا تفارق ذهني..كنت
علي يقين من انني قد رأيته في مرات عديدة قبل ذلك بل ويكاد يكون معروفا لدي ّ لكن الذاكرة ابت ان تعينني في
تذكر ذلك. وهكذا ظلت الصورة تتردد في ذهني في اوضاع مختلفة.. تقترب حينا وتبتعد في آخر.. تصغر وتكبر
الي ان ثبتت عند وضع معين وبدأت تظهر وتكتمل شيئا فشيئا تماما مثل الصورة الملتقطة بواسطة الكاميرا
الفورية… نعم عرفته الآن وتأكدت من صدق حدسي… انه بائع البرسيم في سوق قريتنا..يأتي اسمه في ذاكرتي
ثم يمضي دون ان اتمكن من الأمساك به .. لايهم ذلك فقد اتذكره في وقت آخر لكن مايهم هو ان الشخص بات
معروفا لدي ّ…بائع البرسيم الذي كنت كثيرا ما اذهب اليه في صحبة جدي في يوم السوق لشراء البرسيم حينما
يقفر ّ المرعي صيفا…ذات الاكتاف العريضة والوجه المستدير واثر لجرح قديم في منتصف الجبهة…وحسب
تقديري فقد تكون آخر مرة رأيته فيها قد لاتقل عن ربع قرن من الزمان او اكثر ولكن مع ذلك لم تتغير
هيئته ولم تأخذ السنوات التي مرت منه شيئا.. ظل كما هو . وبينما كنت منهمكا في التفكير في امر الرجل جادت
الذاكرة بأسمه.. نعم تذكرت ذلك فأسمه (ودضياب )… اذكر ان جدي عليه رحمة الله كان يناديه كما يناديه
الآخرون بهذا الاسم ولكن في بعض احيان سمعته يناديه بأسمه مجردا…كنت اذكر حتي اسمه المجرد اما بعد
تلك السنوات الطوال فلا احسب بأني قادر علي تذكر ذلك… المهم انه ود ضياب بائع البرسيم..كان جدي يطيل
الحديث معه ويذكره بين حين وآخر بالعلاقة الرحمية التي تربط بين جده لأمه ووالد جدي…"اولاد خالات في
الحساب ".. ولا أدري ما اذا كانت هنالك علاقة بالفعل ام ان تلك كانت احدي حيل جدي لأستعطاف الرجل
والحصول علي ربطة البرسيم بسعر اقل .
كانت الساعة قد تعدت الثالثة عصرا حين وصلت الي قرية عمي وحسب الجدول الذي وضعته آنفا كان يفترض
ان اغادر بعد ذلك بقليل في طريق العودة اما الآن فقد لا يكون في وسعي العودة قبل صباح يوم الغد واني علي
يقين من ان عمي لن يسمح لي بالتحرك ليلا واول كلمة سوف يدلي بها حين اعزم علي ذلك ستكون .."الصباح
رباح.. ان قعدت للحول ماتقوم بخاطر زول ".
كان عمي يضحك الي درجة انه يضطر أحيانا الي صد اللقمة عن فمه ونحن نتناول طعام الغداء.. ضحك حتي
سالت الدموع من عينيه فيمسحها بين فينة واخري بطرف ثوبه المحمر... " قلت لي ْ لاقيت سليمان ود ضياب !!
سليمان دا يا جنا مات قبّال عشرين واللا تلاتين سنة... بعدين حتي كان فرضنا انو حي.. لي هسع ما يتلقي فضل
فيه حيلا ً يمرقبو عربيتن وحلانة " !!.... وامام اصراري بأن الرجل الذي رأيته هو سليمان ود ضياب بعينه لا
غيره تزداد قهقهة عمي البشير... " انت عارف اتلقي دا واحدا ً من عرب الحسانية النزلوا وراء الباجة ...دائما
بشوفهم في المكان القلت عليه دا... الحاجة التانية ود ضياب دا حتي لو بقيتن حي.. شن بجيبه للخلاء دا..هو من
ناس الشقيق.. هناك رد البحر " !!.... وعلي الرغم من ان كلام عمي كان منطقيا الا انني كنت مصرا علي رأيي
ولم اشا التنازل عن ذلك فعمي كثيرا ما يخلط بين الأمور وينسي اكثر مما يتذكر فلربما يكون ود ضياب من هذه
النواحي... اضاف عمي الذي يبدو انه احس بعدم اقتناعي بما اورده من حقائق ..." طيب ياعمر ياولدي..انت قلت
ود ضياب دا كان ببيع شنو !؟ ".... فأجبته بأنه كان يبيع البرسيم فأردف ..." اها مادام كان ببيع البرسيم معناه
زول بحر... واللا داير تقول لي ْ بزرع البرسيم في العتمور دا "!!... امام هذه الحقيقة لم يتبق لي ما ادحض به
منطق عمي علي الرغم من انني علي يقين تام بأن الشخص الذي رأيته لم يكن سوي بائع البرسيم حيّا كان ام ميتا ً
ولكني آثرت عدم التمادي في النقاش الذي لن يوصلنا الي بر فسقت الحديث الي مناح أُخر.(يتبع)
وقفت متحيّرا اطالع في كل الجهات وفي علم الله وحده متي يأتي من يعينني في الخروج من ذلك المأزق وانا في
تلك الفلاة المنقطعة... عقارب الساعة تقارب التاسعة صباحا وبرغم ذلك مازالت رياح الشتاء الباردة النشطة
تسفع وجهي واطرافي بذرات الرمال الخشنة وعيناي في غدو ورواح فيما بين السيارة الغارزة في الرمال وبين
الأفق علّني أري أحدا من السابلة او ان تمر مركبة عابرة يمكن ان استنجد بها... لمت نفسي علي تشتت ذهني
وعدم التركيز اثناء القيادة فقد كنت مشغولا ً بالتفكير في امور كثيرة يتوجب علي ّ انجازها قبل انتهاء اجازتي
السنوية التي كان قد مضي عليها حتي تلك الساعة مايقارب نصفها.. ولولا ذلك لما وقعت في هذا المأزق الذي
كان يمكن تفاديه بكل يسر وبعدة طرق... ليتني استجبت لما اقترحه اخي وانتظرته حتي انتهاء دوام عمله ليكون
رفيقا ً لي في هذه الرحلة لكني كنت في عجلة من امري و وددت الأستفادة من كل ساعة من ساعات الأيام القليلة
المتبقية.... وها انا الآن في صحراء لا يطرقها طارق وقد ابدد من هذه الساعات التي وددت ادخارها الكثير قبل
ان يأتي من يمد لي يد العون للخروج من هذه المحنة... كنت اقود منذ اكثر من ساعة و يلزمني وقت اكثر بقليل
من ذلك لأصل الي القرية التي يعيش فيها عمي والتي تقع في الطرف الأقصي من تلك الفلاة المترامية الأطراف
وبالتالي لم يكن في امكاني موصلة السير راجلا ً سوي للوراء او للأمام فالمسافة شاسعة والطريق وعر.. عتامير
ازهارها الأشواك والحجارة وفراشاتها العقارب وعصافيرها الحيّات....أما كان من الأفضل لعمي هذا لو كان
مستقرا ً في قريتنا الأكبر حجما والأكثر قربا ً لكان قد كفاني عنت هذا المشوار.. ما الذي يعجبه في بسابس جدباء
قاحلة كأنها جوف العير...قفار يتجسد البؤس علي كل معلم من معالمها !!... ما اكثر النساء في قريتنا..ألم يجد من
بينهن ما كانت توفر علينا كل هذه المشقة وكل هذا العناء !!؟.... ولكنه ظل يتكبّد مثل هذا لسنوات طوال دون ان
يشكو يوما او يتذمر ففي كل مرة اعود فيها للوطن في اجازتي السنوية كان يأتي لزيارتي فور تلقيه نبأ وصولي
ولا يؤخر فرضا ً في اي مناسبة من مثل ذلك...يأتي وخلف مطيته يربط كبشا او عنبلوكا ويندر ان يأتي بغير ذلك
اذن فأن تكلفي هذا العناء لأجل زيارته قبل سفري ليس جميلا ً من الجمائل بل فرضا وواجبا ينبغي علي ّ تأديته.
مضت ساعتان من الزمان دون ان يأتي منجد او معين ولا أحسب ان احدا سيأتي في مثل ذلك الوقت فأذا كان ثمة
رعاة فلا يتوقع ظهورهم الا قبل المغيب بوقت قليل في طريق عودتهم من المرعي هذا اذا كان هنالك رعاة
بالفعل في ذلك النطاق... ازدادت حدة قلقي وخشيت ان تمر الساعات و يدركني المغيب وانا في هذا المكان القفر
الموحش... علي ّ ان ابحث جاهدا عن مخرج قبل ذلك.. دنوت من السيارة الغارزة في الرمال وفتحت بابها في
محاولة يائسة لتحريكها... أدرت المحرك وضغطت علي دواسة البنزين بقوة مغيرا عاكس السرعة الي الخلف
مثيرا عاصفة من الغبار ثم اعود احاول التقدم الي الأمام ولكن كان كل ذلك دون جدوي اذ تنتهي كل محاولة
بتوقف المحرك عن الدوران ومضيت اكرر المحاولة حتي استنفدت طاقة البطارية ولم يعد من الممكن ادارة المحرك مرة اخري فأصبحت
امام مشكلتين... مشكلة العجلات الغارزة في الرمال ومشكلة البطارية التي لم تعد قادرة علي توليد الطاقة اللازمة
لأدارة المحرك بعد ان نفد معينها . ربّاه كيف الخروج من هذه الورطة !!؟ هل اعود الي الوراء علي قدمي ّ عبر
تلك العتامير التي خلفتها من ورائي تاركا السيارة في عهدة الرمال وذلك الخلاء أم أواصل السير الي الأمام علي
امل ان اجد من يساندني في امري !!؟ ... ترجلت صافعا باب السيارة بقوة وانا اكيل لها السباب واللعنات كأنها
هي المسؤولة عن ما انا فيه وكأنها تعي وتفهم مااقول ومضيت اسير علي غير هدي ربما لنصف ساعة او اكثر
ولما فطنت الي انني ابتعدت كثيرا عن مكاني ذاك استدرت عائدا وقد عزمت علي ان اعود الي قريتي سيراً
علي الأقدام عبر تلك الفيافي وليكن ما يكن...قد اضطر الي السير لثلاث او اربع ساعات او ربما اكثر من ذلك
وسيحل الظلام قبل ان اصل لكن لم يكن من سبيل آخر.. كانت الفكرة بأن امضي في ماعزمت عليه واعود من
بعد وفي معيتي مجموعة من الشباب مستعينين بسيارة اخري لأنتشال سيارتي من بحر الرمال الذي غاصت فيه
ومن ثم دفعها ليدور محركها... ولكن حين مضيت الي حيث توجد العربة رأيت لدهشتي من علي البعد رجلا يقف
بجانبها وظهره علي صندوقها وكأنه ينتظر مقدمي... كان في هيئة الرعاة يرتدي العراقي والسروال وعلي رأسه
طاقية بيضاء.. مسحت علي عيني ّ للتأكد من ان من أراه هو شخص بالفعل وليس خيالا ً.. تساءلت في نفسي وانا
اجرجر الخطي ناحيته.. من اين أتي هذا الرجل ياتري !! فلو كان من الرعاة لكن في صحبة اغنامه ولو كان
عابر سبيل لكنت رأيت مطيته حمارا كان ام جملا.. ولكن لا شيء يقف بجانبه.. ألقيت عليه التحية فردها في
صوت اقرب الي الهمس ورأسه صوب الأرض دون ان اتمكن من رؤية وجهه.. أحسست بشيء من الخوف
وعدم الأطمئنان فربما كان معتوها او قاطع طريق ! .. تحسبت لذلك واحتطت لأي مباغتة او تصرف قد يحدث
من جانبه. ودون ان ينبس بكلمة حشر نفسه تحت السيارة ومضي يزيح الرمل من خلف الأطارين الأماميين
بكل اناة ثم لم يلبث ان حرر جسده من ذلك الوضع وانسل بذات الهدوء وهو يشير علي بتشغيل المحرك. ولما
كنت علي يقين من ان المحرك لن يدور بسبب ضعف البطارية فقد تلكأت في ذلك وكنت علي وشك ان اقول له
ان ذلك لن يجدي لكنه بدا كمن قرأ ماكان يدور في ذهني فأعاد طلبه بتشغيل السيارة وتحت وطأة ذلك الشعور
الذي كان ساعتها يخالجني لم أشا ان اعصي له امرا وكم كانت دهشتي كبيرة حين استجاب المحرك للأمر دون
ان يبدي تمردا …. " ارجع..ارجع لي وراء ".. هكذا جاءني الصوت الواهن وبكل سهولة ويسر تحررت
الأطارات من قيود الرمال ودارت وكأنها علي شارع اسفلت… بدا لي وجهه واضحا ً كل الوضوح.. لم يكن
بالغريب بل كان مألوفا.. رأيته من قبل ذلك مرارا ولكن عبثا حاولت تذكر اين كان ذلك . وبعد ان ابتعدت
بالسيارة من بحر الرمال ذاك توقفت لتقديم الشكر للرجل ومعرفة وجهته لأخذه معي في طريقي الا انني رأيته
ينصرف مبتعدا موليا ً وجهه شطر الجهة المعاكسة لاتجاه سيري ملوحا بيده من خلفه مشيرا علي ّ بمتابعة السير
وعدم التوقف… هممت باللحاق به واخذه الي حيث يريد مكافأة له علي مساندته لي لكنه انطلق يسابق الريح
فبقيت في موضعي ذاك ارقبه الي ان تواري خلف مجموعة من الشجيرات…اندهشت حقا للطريقة التي ظهر بها
واختفي بمثلها فقد كان كالخيال… أين مقصده ياتري في هذه الفلاة الواسعة !! …قدرت ان يكون قد ذهب للحاق
بأغنامه التي ربما كان قد تركها في مكان ما قبل ان يأتي لنجدتي او لعله عائد الي مضرب خيام قومه وما اكثر
الرحّل في تلك الأصقاع. انطلقت مسرعا ولكن بحذر صوب قرية عمي وصورة ذلك الرجل لا تفارق ذهني..كنت
علي يقين من انني قد رأيته في مرات عديدة قبل ذلك بل ويكاد يكون معروفا لدي ّ لكن الذاكرة ابت ان تعينني في
تذكر ذلك. وهكذا ظلت الصورة تتردد في ذهني في اوضاع مختلفة.. تقترب حينا وتبتعد في آخر.. تصغر وتكبر
الي ان ثبتت عند وضع معين وبدأت تظهر وتكتمل شيئا فشيئا تماما مثل الصورة الملتقطة بواسطة الكاميرا
الفورية… نعم عرفته الآن وتأكدت من صدق حدسي… انه بائع البرسيم في سوق قريتنا..يأتي اسمه في ذاكرتي
ثم يمضي دون ان اتمكن من الأمساك به .. لايهم ذلك فقد اتذكره في وقت آخر لكن مايهم هو ان الشخص بات
معروفا لدي ّ…بائع البرسيم الذي كنت كثيرا ما اذهب اليه في صحبة جدي في يوم السوق لشراء البرسيم حينما
يقفر ّ المرعي صيفا…ذات الاكتاف العريضة والوجه المستدير واثر لجرح قديم في منتصف الجبهة…وحسب
تقديري فقد تكون آخر مرة رأيته فيها قد لاتقل عن ربع قرن من الزمان او اكثر ولكن مع ذلك لم تتغير
هيئته ولم تأخذ السنوات التي مرت منه شيئا.. ظل كما هو . وبينما كنت منهمكا في التفكير في امر الرجل جادت
الذاكرة بأسمه.. نعم تذكرت ذلك فأسمه (ودضياب )… اذكر ان جدي عليه رحمة الله كان يناديه كما يناديه
الآخرون بهذا الاسم ولكن في بعض احيان سمعته يناديه بأسمه مجردا…كنت اذكر حتي اسمه المجرد اما بعد
تلك السنوات الطوال فلا احسب بأني قادر علي تذكر ذلك… المهم انه ود ضياب بائع البرسيم..كان جدي يطيل
الحديث معه ويذكره بين حين وآخر بالعلاقة الرحمية التي تربط بين جده لأمه ووالد جدي…"اولاد خالات في
الحساب ".. ولا أدري ما اذا كانت هنالك علاقة بالفعل ام ان تلك كانت احدي حيل جدي لأستعطاف الرجل
والحصول علي ربطة البرسيم بسعر اقل .
كانت الساعة قد تعدت الثالثة عصرا حين وصلت الي قرية عمي وحسب الجدول الذي وضعته آنفا كان يفترض
ان اغادر بعد ذلك بقليل في طريق العودة اما الآن فقد لا يكون في وسعي العودة قبل صباح يوم الغد واني علي
يقين من ان عمي لن يسمح لي بالتحرك ليلا واول كلمة سوف يدلي بها حين اعزم علي ذلك ستكون .."الصباح
رباح.. ان قعدت للحول ماتقوم بخاطر زول ".
كان عمي يضحك الي درجة انه يضطر أحيانا الي صد اللقمة عن فمه ونحن نتناول طعام الغداء.. ضحك حتي
سالت الدموع من عينيه فيمسحها بين فينة واخري بطرف ثوبه المحمر... " قلت لي ْ لاقيت سليمان ود ضياب !!
سليمان دا يا جنا مات قبّال عشرين واللا تلاتين سنة... بعدين حتي كان فرضنا انو حي.. لي هسع ما يتلقي فضل
فيه حيلا ً يمرقبو عربيتن وحلانة " !!.... وامام اصراري بأن الرجل الذي رأيته هو سليمان ود ضياب بعينه لا
غيره تزداد قهقهة عمي البشير... " انت عارف اتلقي دا واحدا ً من عرب الحسانية النزلوا وراء الباجة ...دائما
بشوفهم في المكان القلت عليه دا... الحاجة التانية ود ضياب دا حتي لو بقيتن حي.. شن بجيبه للخلاء دا..هو من
ناس الشقيق.. هناك رد البحر " !!.... وعلي الرغم من ان كلام عمي كان منطقيا الا انني كنت مصرا علي رأيي
ولم اشا التنازل عن ذلك فعمي كثيرا ما يخلط بين الأمور وينسي اكثر مما يتذكر فلربما يكون ود ضياب من هذه
النواحي... اضاف عمي الذي يبدو انه احس بعدم اقتناعي بما اورده من حقائق ..." طيب ياعمر ياولدي..انت قلت
ود ضياب دا كان ببيع شنو !؟ ".... فأجبته بأنه كان يبيع البرسيم فأردف ..." اها مادام كان ببيع البرسيم معناه
زول بحر... واللا داير تقول لي ْ بزرع البرسيم في العتمور دا "!!... امام هذه الحقيقة لم يتبق لي ما ادحض به
منطق عمي علي الرغم من انني علي يقين تام بأن الشخص الذي رأيته لم يكن سوي بائع البرسيم حيّا كان ام ميتا ً
ولكني آثرت عدم التمادي في النقاش الذي لن يوصلنا الي بر فسقت الحديث الي مناح أُخر.(يتبع)