مشاهدة النسخة كاملة : عمالقة الادب و الثقافة في بلدي
عبدالله الصديق
10-08-2009, 12:53 PM
عبدالله الطيب, فراج الطيب ,علي المك , ابراهيم احمد عبدالكريم, الحسين الحسن وغيرهم الكثير ..رحلوا عن دنيانا بعد ان خلدوا اسماءهم في حياتنا..ماذا قدمنا لهم غير تكريم الموتى فنحن امة التأبينات ..معا لتأريخ سيرتهم للجيل القادم الذي تيتم قسرا وفقد ابوة الثقافة في بلدي ..ما زلت اذكر ضحكة المرحوم ابراهيم احمد المجلجلة ووجهه الصبوح وادبه الجم وثقافته الضاربة في جزور المعرفة..عرفناهم في برنامج فرسان في الميدان مع المقدم القدير حمدي بدرالدين
عبدالله الصديق
10-08-2009, 12:55 PM
رجال خدموا العربية في السودان: الشاعر فَرَّاج الطيب
أ.دمحمد أحمد علي الشامي
العميد السابق لكلية الآداب جامعة أم درمان الإسلامية
2009-08-10
ميلاده ونشأته:
وُلِد فراج الطيب في شهر مارس عام 1932م، في حي بيت المال بأم درمان، ثم رحل مع أسرته وهو طفل إلى منزل آخر بحي ودنوباوي
بأم درمان.
وفي عام 1938م انتقلت أسرته إلى منزل بحي أبي روف العريق
بأم درمان-جنوب، الذي يتميز بأنه يقع قبالة شاطئ النيل الغربي، حيث موقف معدية شمبات -سابقاً-، ومشروع أبي روف الشهير، ونهاية محطة الترام.
وعندما بلغ فراج سن السابعة، كان من المفترض أن يلتحق بالتعليم النظامي، ولكن والده آثر أن يتولى تعليمه بنفسه.
وفي أواخر عام 1946م، أو 1947م سافر الشيخ الطيب السراج إلى مصر، وبقي هناك حتَّى عام 1950م، وفي هذه الأثناء ألحقه أخوه -الأكبر لأمه- الزبير حسن إسماعيل ليدرس على يدي الشيخ محمد أحمد الفقيه، التاجر بسوق أم درمان الكبير لبعض الوقت، ومن بعد ذهب به إلى الأستاذ المربي (سوميت) صاحب مدرسة حي الضباط بالموردة بأم درمان، فتلقى على يدي سوميت شيئاً من دروس اللُّغة الإنجليزية.
بعد ذلك أخذ فراج يعلم نفسه بنفسه، يطلع في مكتبة والده العامرة بشتى فروع المعرفة، إلاَّ أوه أولع بصفة خاصة بعلوم العربية.
حياته العملية:
في عام 1951م التحق الأستاذ فراج بمدارس الشعب بالخرطوم بحري -التي أسسها ابن عمه الأستاذ ميسرة السراج- موظفاً، محاسباً، ثم مدرساً، وظل يعمل بمدارس الشعب حتَّى شهر مارس 1963م، حيث استشهد والده الشيخ الطيب السراج، ثم انضم إلى شقيقه الأصغر (حديد) الذي كان قد أسس مع والده مدرسة النيل الابتدائية الإعدادية في عام 1959م فأعادا معاً تأسيس المدرسة التي أضحت فيما بعد مدرسة أبي روف الأهلية الوسطى، ثم الشعبية الثانوية العامة، ثم المتوسطة (بنين) هذا، وهناك محطة في حياة فراج الطيب لا بد من ذكرها؛ لِما تشير إليه من معان، ففي عام 1951م وبعد عودته من مصر ذهب الشيخ الطيب السراج إلى القضارف في صحبة صديقه حسن أبو جبل، ليعمل بالزراعة ومكث هناك عاماً أو موسماً زراعياً عند صديقه الناظر عبد الله بكر، وما لبث الشيخ أن أرسل في طلب ابنه الأكبر فراج، فلحق به في القضارف.
وبعد نهاية الموسم الزراعي -الذي لَمْ يحظَ بالنجاح- عاد الشيخ الطيب، وسبقه في العودة ابنه فراج إلى أم درمان، عادا وهما يعانيان من حمى الملاريا الحادة، ولَمْ يجنيا شيئاً من جهدهما ومحاولتهما العمل في مجال الزراعة، ولكنها كانت تجربة على أية حال، تستحق الذكر. وفي عام 1970م، أوفد فراج الطيب إلى معهد التربية ببخت الرضا، حيث حصل على دبلوم التربية.
الأستاذ فراج هو ابن ذلك العالم اللُّغوي الجليل الشيخ الطيب السراج، فأخذ ابنه فراج بالدرس العميق الجاد لعلوم اللُّغة نحواً، وصرفاً، وبلاغةً، وعروضاً، ولغةً إنجليزية، ومرَّ به على مُختارات الأدب ودواوين الفحول من شعراء العربية بدءًا بالعصر الجاهلي وانتهاءً بالعصر الحديث. حتَّى تخرج شاعراً على يدي أبيه وفي حلقته وأكرم بها من حلقة.
هذا، وآل السراج من الأسر السودانية التي اشتهرت بالعلم، والمشاركة في فروع الثقافة الإسلامية المختلفة. والأستاذ فراج -سليل هذه الأسرة الكريمة- شاعر يقف في مقدمة شعراء السودان المعاصرين، والشاعر قبل هذا كله ملتزم جانب الحق والصدق، وظف شعره لخدمة دينه ولغته، تراه يثور ثورة البركان إذا مست عقيدته، ويغار غيرة الفحل الكريم إذا أحس من أحد غمزاً في لغة العرب أو شعرهم أو تراثهم فيقول عن هؤلاء:
يهجن الوزن والإعراب حين سمت** ذراهما وثناه الفجر والقصر
ولج يهزأ بالفصحى وبالأدب الجزل ** الأصيل فيما يلويه مزدجر
يدعو جهولاً إلى تلك الحداثة أو** تلك الخثانة وهي الزيف والزور
وهو يعتز بأنه من أمة سودانية مسلمة عربية، وينكر أشد الإنكار أن يكون شأن السودان غير ذلك:
إنا لَمِن عرب فصح شعارهم** الإسلام والعرب إمَّا رفعت شعر
تمشي العروبة في أنفاسهم لهباً** فهم بما صهرتهم نارها سمر
المناصب التي تقلدها:
1. عمل مديراً لمدرسة أبي روف الخاصة للبنين خلفاً لشقيقه (حديد).
2. عمل أميناً عاماً للمجلس القومي للآداب والفنون، عام 1988م.
3. عمل مستشاراً ثقافياً للسيد رئيس الجمهورية عند قيام ثورة الإنقاذ الوطني، ثم عضواً بالمجلس الوطني الانتقالي.
4. شارك في التمثيل بفرقة السودان للتمثيل والموسيقى، وبالإذاعة السودانية منذ أوائل الخمسينات.
5. قدَّم العديد من البرامج الإذاعية من أشهرها: في محراب الشعر، يقولون: (لسان العرب).
6. شارك ومثَّل السودان في الكثير من المهرجانات الأدبية والشعرية في الوطن العربي، أشهرها مهرجان المربد في العراق، ومهرجان الجنادرية في المملكة العربية السعودية.
7. شارك في تأسيس عدد من التنظيمات الأدبية، مثل: جمعية الأدباء، واتحاد الأدباء السودانيين.
8. واصل فراج ندوة والده الشيخ السراج، فكان يؤم ندوة الجمعة بمنزله بأبي روف عدد من كبار العلماء والأدباء والشعراء وطالبـي المعرفة ومُحبِّي اللُّغة العربية. وكان يتصدر هذه الندوة متحدثاً، شارحاً، محاضراً، وشاعراً.
مؤلفات الأستاذ فراج:
رغم الإنتاج الغزير للأستاذ فراج لَمْ يُطبع له ديوان شعر، ولكن طبعت له قصائد متفرقات، منها:
1/ رؤيا عربية على ضفاف الرافدين.
2/ دار السلام.
3/ ترانيم في محراب الليل.
4/ تراتيل في مقام الصديق.
البلدان التي زارها:
مصر، العراق، قطر، السعودية، اليمن، ليبيا، وغيرها من البلاد.
وفاته:
اختاره الله إلى جواره مساء يوم الاثنين الخامس من أكتوبر عام 1998م، فقدت الساحة الأدبية بفقده أديباً، وعالِماً، وشاعراً نابهاً، ومدافعاً صلتاً عن العربية، لسان أهل الجنة ولغة القرآن، رحمه الله رحمةً واسعة وأثابه بقدر عطائه لشعبه وأمته ودينه.
فرَّاج والشعر:
كانت حياة الشاعر فرَّاج الطيب السرَّاج، حافلة بصور شتى من الكفاح والجد في تحصيل العلم عامة وعلوم العربية خاصة، مع اهتمام أخص بفن الشعر الذي حقق فيه نجاحاً باهراً واشتهر بإجادته، بناء وإلقاء في داخل السودان وخارجه.
فهمه لرسالة الشعر وموقفه منه:
يقول: والشعر بعد، هو مظنة الزيغ، ومطية الضلالة والغي، إلاَّ لِمن اتقى غائلته بأدرعٍ ثلاث، هي: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والإكثار من ذكر الله. وذلك ما قررته الآيات الكريمة، قال تعالى: (وَالشُّعَرَآء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّــالِحَــاتِ وَذَكَـرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا وَانـتَصَرُواْ مِنم بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ؛ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(1).
ومِن هذا المنطلق أفهمُ الشعر، ومِن هذا المفهوم أُمارسُ قرضه.
وله رأي وموقف ثابت من الأشكال الجديدة للقصيدة العربية، مثل: قصيدة النثر، وتلك التي تخرج عن عمود الشعر العربي الموروث.
يقول في هذا الصدد: على إنني لا أؤمن بهذه الدعوات الجديدة التي تدعو إلى الخروج على طرائق العرب الأصول في الأداء الشعري، ذلك أن لكل أمة طريقتها في التعبير عن مشاعرها، والشعر أصلاً هو من خصائص العرب، لا أقول ذلك تعصباً، وإنما هي حقيقة، لا يماري فيها إلاَّ من جَهِل أو كابَر، على أني أُعد الدعوة إلى هذه الأنماط الجديدة التي لا تمت إلى الشعر العربي بصلة ولا تتصل بوشائجه، أُعدها واحدة من الحروب التي توجه للقضاء على الأمة العربية بالقضاء على لسانها وطريق بيانها.
وفيما يلي مقتطفات من شعره، لعل القارئ يقف على أسلوبه في صياغة القصيدة الشعرية، وما يتراءى من نهجه في الحياة كلها، معتصماً بمبادئ الإسلام، متسلحاً بلغة القرآن.
قال في رثاء والده قصيدة مطلعها(1):
رويدك ما هذي الدموع الهوامر ** بناقضة ما أبرمته المقادر
فرَّاج والمربد:
لقد كان للشاعر فراج صولات وجولات في مهرجان الشعر العربي (المربد) بالعراق صفق له الأصلاء من الشعراء والأدباء، وصعر خده كثير من الأدعياء.
يقول في قصيدة يحيي فيها (المربد):
دعوني أحـيي هنا المربـدا ** قد جـئت قبلُ أُلبِّي النـدا
وقد جئت بعد، أبل الصدى ** بأرض البهاليل أرض الندى
أقـدِّم قـلبي أنشــودة ** تسـرُّ العلا وتغيـظ العدا
يقول في قصيدته: رؤيا عربية على ضاف الرافدين:
حتَّام تسري وهذا الليل معتكر** ولا دليل ولا شمس ولا قمر
حتَّام حتَّام لا صوت يجيب ولا** مرْعىً ولا بحلم الهدى الفكر
حوار مع الشاعر:
أجرت مجلة الفيصل في عددها 237، حواراً مع الأستاذ فراج الطيب، تناول العديد من قضايا الفكر والأدب والشعر، نجتزئ بعض ما جاء فيه. ويمكن تلخيص إجاباته على مختلف الأسئلة، التي وُجِّهت له وهي كما يلي:
1. هناك كثير من الشعر المعاصر هبط مستواه عن مستوى الشعر القديم من حيث تدنِّي لغته، ومن حيث الخلل في أوزانه وصياغته وتدنِّي مضامينه.
2. شعر الحداثة الذي لا يقوم على الوزن؛ فيه خطر على الشعر العربي وعلى أذواق قرائه؛ لأنَّ الوزن هو أساس الشعر العربي، فإذا فقد الوزن لَمْ يعد شعراً.
3. تجديد الشعر لا يمكن أن يقوم به إلاَّ نحو: عرف القواعد التي ينبني عليها صحيحه، وهذه المهمة لا يضطلع عليها إلاَّ من كانت مَلَكَـته الشعرية أصيلة عميقة الجذور.
4. تطبيق المناهج النقدية الغربية على النصوص العربية خطأ كبير؛لأنَّ اللُّغة العربية تختلف عن غيرها من اللغات، لأنها لغة غنيةجداً، ويكفي أنها حوت القرآن الكريم بكل ما فيه من إعجاز إلهي.
5. يكون النقد إغناء لنتاج المبدع إذا كان نقداً صادقاً وأصيلاً وصادراً عن عالم به. فمن أهم أسس النقد البنَّاء أن يكون الناقد عالماً بأسرار النص المنقود.
6. الأدب الإسلامي في رأيي ليس بدعة؛ لأنه نشأ منذ فجر الإسلام.
7. فقدان اللسان العربي سليقته منذ فجر الإسلام واختلاط العرب بالإعاجم الذين اعتنقوا الإسلام وسرى اللحن منذ ذلك الحين في اللسان العربي.
8. تتمتع اللُّغة العربية بغنى وثراء يجعلانها قادرة على استيعاب مستجدات العصر من تقنية وخلافها، فباب الاشتقاق يتسع لكل مجال ويجعل اللُّغة العربية تستجيب لكل عصر، دون أن يكون هناك داع لإجازة استخدام المصطلحات الأجنبية.
9. مناهج النَّحو تحتاج إلى المعلم المتمكن من العربية، المقتدر على تفهيم الطلاب، ويحببهم للنحو، ويكون قادراً بأسلوبه وحذقه في جذب الطلاب وتشويقهم لدراسة النَّحو. فليس المهم أن يكون الكتاب المقرر جيداً، وإنما الأهم أن يكون المعلم عالِماً بأسرار المادة التي يدرسها.
10. المهرجانات الثقافية -كمهرجان الجنادرية وغيره- كافية في إقامة الجسور بين المبدعين العرب، فهي تقوم مقام الأسواق الأدبية العربية القديمة، كسوق عكاظ، والمربد، والمجاز.
مُختارات من شعره:
قال:
يا ضـياء الحـياة قد زاد ما بي ** من هيام ولوعـة وعـذاب
أسـهر الليل أرقب الطيف يأسو ** ما ألاقيه من لظى الأوصاب
أنت أحييت من كياني وأنعشت ** حـياتي وعدت بي لشـبابي
وقال:
رويدك ما هذه الدموع الهوامر ** بناقضــة ما أبرمـته المقـادر
ولكنه رزق تقطع دون القلوب ** ولا تـرقى لديـه المعاجــر
وكيف يطيق الصـبر من فوض ** لربي مناه وأصمتته البلايا الغوادر
فإن ذكرت أم اللغـات رأيـته ** حـفياً بذيـالك الذي هو ذاكر
يليـن له منه الجـناب مدانيـاً ** ويغدو له نعـم الأنيس المسـافر
ألم يك للفصـحى ولياً وناظراً ** يواصـل من جـرائها ويهاجر
عبدالله الصديق
11-08-2009, 11:23 AM
طه حسين , المرشد إلى فهم أشعار العرب --------------------------------------------------------------------------------
يقول الدكتور طه حسين:
" هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث.
ولست أقول هذا متكثّراً أو غالياً، أو مؤثراً إرضاء صاحبه، وإنما أقوله عن ثقة وعن بيّنة، ويكفي أني لم أكن أعرف الأستاذ المؤلف قبل أن يزورني ذات يوم، ويتحدث إليّ عن كتابه هذا، ويترك لي أياماً لأظهر على بعض ما فيه، ثم لم أكد أقرأ منه فصولاً، حتى رأيت الرضى عنه، والإعجاب به، يفرضان عليّ فرضاً، وحتى رأيتني ألح على الأستاذ المؤلف أن ينشر كتابه، وأن يكون نشره في مصر، وآخذ نفسي بتيسير العسير من أمر هذا النشر. وأشهد لقد كان الأستاذ المؤلف متحفظاً متحرجاً، يتردد في نشر كتابه، حتى أقنعته بذلك بعد إلحاح مني شديد. وقد يسّر الله هذا النشر، بفضل ما لقيت من حسن الاستعداد، وكريم الاستجابة، من شركة الطبع والنشر لأسرة الحلبي، فشكر الله لهذه الشركة حسن استعدادها، وكريم استجابتها، وما بذلت من جهدٍ قيم، لتطرف قراء العربية بهذا الكتاب الفذّ، الذي كان الشعر العربي في أشد الحاجة إليه.
وإني لأسعد الناس حين أقدم إلى القراء صاحب هذا الكتاب، الأستاذ عبد الله الطيب وهو شاب من أهل السودان، يعلّم الآن في جامعة الخرطوم، بعد أن أتم دراسته في الجامعات الإنجليزية، وأتقن الأدب العربي، علماً به، وتصرفاً فيه، كأحسن ما يكون الإتقان، وألّف هذا الكتاب باكورة رائعة لآثار كثيرة قيّمة ممتعة إن شاء الله.
أنا سعيد حين أقدم إلى قراء العربية هذا الأديب البارع، لمكانه من التجديد الخصب في الدراسات الأدبية أولاً، ولأنه من إخواننا أهل الجنوب ثانياً.
وأنا سعيد بتقديم كتابه هذا إلى القراء، لأني أقدم إليهم طرفة أدبية نادرة حقاً، لن ينقضي الإعجاب بها، والرضى عنها، لمجرد الفراغ من قراءتها، ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤونها آثاراً باقية، وستدفع كثيراً منهم إلى الدرس والاستقصاء، والمراجعة والمخاصمة، وخير الآثار الأدبية عندي، وعند كثير من الناس، ما أثار القلق، وأغرى بالاستزادة من العلم، ودفع إلى المناقشة وحسن الاختبار.
وأخصّ ما يعجبني في هذا الكتاب، انه لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية، وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكتّاب، حين ينشئون شعراً أو نثراً، فهذا الكتاب مزاج من العلم والأدب جميعاً، وهو دقيق مستقص حين يأخذ في العلم، كأحسن ما تكون الدقة والاستقصاء، وحر مسترسل حين يأخذ في الأدب، كأحسن ما تكون الحرية والاسترسال. وهو من أجل ذلك يرضي الباحث الذي يلتزم في البحث مناهج العلماء، ويرضي الأديب الذي يرسل نفسه على سجيتها، ويخلي بينها وبين ما تحب من المتاع الفني، لا تتقيد في ذلك لا بحسن الذوق، وصفاء الطبع، وجودة الاختيار.
وقد عرض الكاتب للشعر، فأتقن درس قوافيه وأوزانه، لا إتقان المقلّد، الذي يلتزم ما ورث عن القدماء، بل إتقان المجدد، الذي يحسن التصرف في هذا التراث، الذي لا يضيّع منه شيئاً، ولكنه لا يفنى فيه فناء، ثم أرسل نفسه على طبيعتها بعد ذلك، فحاول أن يستقصي ما يكون من صلة بين أنواع القوافي وألوان الوزن، وبين فنون الشعر التي تخضع للقوافي والأوزان، فأصاب الإصابة كلها في كثيرٍ من المواضع، وأثار ما يدعو إلى الخصام والمجادلة في مواضع أخرى، فهو لا يدع بحراً من بحور الشعر العربي، إلا حاول أن يبين لك الفنون التي تليق بهذا البحر، أو التي يلائمها هذا البحر، وضرب لذلك الأمثال في استقصاء بارع لهذا البحر، منذ كان العصر الجاهلي، إلى أن كان العصر الذي نعيش فيه، وهو يعرض عليه من أجل ذلك ألواناً مختلفة مؤتلفة من الشعر، في العصور الأدبية المتباينة، ألواناً في البحر إلى أقيمت عليه، وفي الموضوعات التي قيلت فيها، ولكنها تختلف بعد ذلك باختلاف قائليها وتباين أمزجتهم، وتفاوت طبائعهم، وتقلبهم آخر الأمر بين التفوق والقصور، وما يكون بينهما من المنازل المتوسطة، والمؤلف يصنع هذا بالقياس إلى بحور العروض كلها، فكتابه مزدوج الإمتاع، فيه هذا الإمتاع العلمي، الذي يأتي من اطراد البحث على منهجٍ واحدٍ دقيق، وفيه هذا الإمتاع الأدبي، الذي يأتي من تنّوع البحور والفنون الشعرية التي قيلت فيها، وتفاوت ما يعرض عليك من الشعر في مكانها من الجودة والرداءة.
والمؤلف لا يكتفي بهذا، ولكنه يدخل بينك وبين ما تقرأ من الشعر، دخول الأديب الناقد، الذي يحكّم ذوقه الخاص، فيرضيك غالباً، ويغيظك أحياناً، ويثير في نفسك الشك أحياناً أخرى. وهو كذلك يملك عليك أمرك كله، منذ تأخذ في قراءة الكتاب، إلى أن تفرغ من هذه القراءة، فأنت متنبه لما تقرأ تنبهاً لا يعرض له الفتور، في أي لحظة من لحظات القراءة، وحسبك بهذا تفوقاً وإتقاناً.
وليس الكتاب قصيراً يقرأ في ساعات ولكنه طويل يحتاج إلى أيام كثيرة، وحسبك أن صفحاته تقارب تمام المائة الخامسة، وليس الكتاب هيناً يقرأ في أيسر الجهد، ويستعان به على قطع الوقت، ولكنه شديد الأسر، متين اللفظ، رصين الأسلوب، خصب الموضوع، قيّم المعاني، يحتاج إلى أن تنفق فيه خير ما تملك من جهدٍ ووقت وعناية، لتبلغ الغاية من الاستمتاع به. هو طرفةٌ بأدق معاني هذه الكلمة، وأوسعها وأعمقها، ولكنها طرفةٌ لا تقدّم إلى الفارغين، ولا إلى الذين يؤثرون الراحة واليسر، ولا إلى الذين يأخذون الأدب على أنه من لهو الحديث، وإنما تقدم إلى الذين يقدرون الحياة قدرها، ولا يحبون أن يضيعوا الوقت والجهد، ولا يحاولون أن يتخففوا من الحياة، ويأخذون الأدب على أنه جد، حلوٌ مر، يمتع العقل، ويرضي القلب، ويصفي الذوق.
هؤلاء هم الذين سيقرؤون هذا الكتاب، فيشاركونني في الرضى عنه، والإعجاب به، والثقة بأن له ما بعده، ويشاركونني كذلك في ترشيح هذا الكتاب لجائزة الدولة، التي تقدمها الحكومة المصرية لخير ما يصدره الأدباء من كتب، إن جاز لك ولي أن ندل لجنة هذه الجائزة على ما ينبغي أن تدرس من الكتب، لمنح هذه الجائزة.
أما بعد فإني أهنئ نفسي وأهنئ قرّاء العربية بهذا الكتاب الرائع، وأهنئ أهل مصر والسودان بهذا الأديب الفذّ، الذي ننتظر منه الكثير. "
هذا هو بأيسر طريق رأي الدكتور طه حسين في الجزء الأول من كتاب المرشد للدكتور عبد الله الطيب، وهو رأي كما هو واضح لا تنقصه الجرأة ولا الصراحة، غير أني سمعت أن من وراء السطور شيئاً آخر، فقد حدثني صديقي الأستاذ التجاني سعيد القاطن بالسودان أن طه حسين كان يبتغي من وراء هذه المقدمة أن يصنع في السودان رجلاً مثله تماماً على طريقته ومذهبه، وأنه بمعاونة المستشرقين وجد بغيته عند الدكتور عبد الله الطيب، ولكنه فيما بعد لم يفلح لأن الدكتور الطيب منحدر من أسرة عريقة في التدين، كما ذكر ذلك هو في رسائله إلى الدكتور طه حسين في الرسالة المؤرخة في 21/9/1954م.
وكانت النتيجة الحتمية لهذا التدين عند الطيب أن ينحاز إلى الأمة وإلى قرآنها وتراثها، بشكل يتناقض تماماً مع توجهات طه حسين، والله أعلم.
__________________
الشيء المؤسف ان الكثير من المنتديات العربية تسأل بشغف وجوع ثقافي عن كتب البروفسور عبدالله الطيب ومنتدياتنا تعج بفضول الكلام
وهذا رابط لجزئين للكتاب بعد ان قام احد الاخوة بشراء النسخ ب200 ريال ورفعها
http://kabah.info/uploaders/Nahw/Mor...urcheed_II.pdf
http://kabah.info/uploaders/Nahw/Mor...mursheed_I.pdf
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir