Badri
07-12-2009, 09:00 AM
أنني أفتح نوافذي للشمس ، ولكنني أتحدي أية ريح تقتلعني من جذوري
المهاتما غاندي
أتفاقية السلام في نظري ظلت تمثل في أدبيات الحركة الشعبية ليس سوي بعدا تكتيكيا وليس أستراتيجيا من خلاله تتم بلورة رؤي أخري ، يتم بموجبها خلق فوضي عارمة بغية تفكيك المجتمعات وصنع حالة من الأنفلات وعدم السيطرة ، ليحدث بعدها أنهيارا كاملا يصعب ترميمه ، ويتم ذلك من خلال سلسلة من القوانين والتشريعات بغرض تفريغ المؤسسات من مضمونها وأهدافها سوي كانت مدنية أو عسكرية وهذا مانسميه هنا بالثورة المخملية
وقد قرأت كتابا قديما عبارة عن سلسلة من المقالات شخصت هذا الوضع ل ( د/ التجاني عبدالقادر ) يقول فيه :
أوضح إيرنستو جيفارا، المنظر المتميز لحركات التحرر في أمريكا اللاتينية والمقاتل في صفوفها، أن الثورة الكوبية قد أسهمت بثلاثة دروس أساسية لإدارة الحركات الثورية، هي:
أنه ليس من الضروري الانتظار لحين توفر كل الشروط التي تصنع الثورة، (إذ أن التمرد) يمكن أن يوفر تلك الشروط ! وفي حالة دول أمريكا اللاتينية المتخلفة فإن الريف هو المنطقة الأساسية لانطلاق النضال المسلح وأن القوى الشعبية يمكنها أن تكسب الحرب ضد الجيش النظامي، غير أن النصر لا يمكن أن يكون نهائياً حتى يكتمل تحطيم الجيش الذي كان يدعم النظام القديم تحطيماً نهائياً وبصورة منظمة.
ويبدو للمتأمل في سيرة الحركة الشعبية لتحرير السودان (والتي من الراجح أنها قد تأثرت بالتجارب الثورية في أمريكا اللاتينية، وبالتجربة الكوبية خصوصاً أنها قد استوعبت الدرسين الأولين في النموذج الجيفاري ـ الكوبي: التمرد المتطاول والانطلاق من الريف ) ولكنها لم تأبه كثيراً بالدرس الثالث والأخير المتعلق بضرورة تحطيم الجيش النظامي تحطيماً نهائياً السؤال هنا: لماذا اختارت الحركة الشعبية إذاً إيقاف حرب الغوريلا والدخول في اتفاقية سياسية وذلك قبل أن تستكمل تصفية المؤسسة العسكرية للعدو الاستراتيجي، وقبل أن تنضج عوامل الثورة الاجتماعية الشاملة؟ ولماذا رفضت ـ مثلاً ـ خيار السلام قبل عشرة سنوات؟ حينما كانت تواجه أسوأ إنشقاق داخلي في تاريخها، وأكبر تراجع في الميدان العسكري؟ ثم قبلته أخيراً ولكن في وقت تحسن فيه وضعها السياسي والعسكري بينما وصلت حكومة الإنقاذ (العدو الاستراتيجي) إلى أضعف حالاتها وذلك في أعقاب الإنقسام الذي وقع في داخلها، وما تبعه من بلبلة في منظومتها الفكرية، وخلخلة في صفها القيادي، وإحباط نفسي في قوتها القاعدية؟ أو إذا وضعنا السؤال بصيغة أخرى: هل يشير دخول الحركة الشعبية في عملية السلام إلى ((تغيير استراتيجي)) (أو ربما آيديولوجي) في مسارها أملته ضغوط وإملاءات الواقع السياسي والعسكري أم هو مجرد (استراحة محارب) يعاد فيها رسم الأدوار وترتيب القوى؟ وإذا قلنا أن الحركة الشعبية لم تغير آيديولوجيتها واستراتيجيتها، فهل يعني ذلك أن اتفاقية السلام تحمل في طياتها المضامين الاستراتيجية السابقة ذاتها ولكن بأشكال وأساليب جديدة؟
قد يقال هنا أن (الدروس) التي استخلصها جيفارا من الثورة الكوبية هي دروس خاصة بتلك الثورة، وليست هناك ضرورة تحتم سريانها على الحالة السودانية، ثم يقفل النقاش، ولكن قد يقال أيضاً أن (التصفية) التي يتحدث عنها جيفارا آخذة في التحقق ولكن على نار هادئة، إذ ليس من اللازم أن تقفر حرب الغوريلا بالمجتمع دفعة واحدة من مرحلة السكون إلى مرحلة الثورة الكاملة، إذ يكفي أن تصل به إلى ما يسمى في أدبيات اليسار (بالوضع الثوري) (Revolutionary situation) وهو حال تواجه فيه الدولة المركزية تحدياً من داخل أروقتها أو من داخل المجتمع يتعذر معه حفظ الأمن والاستقرار،( ناهيك عن تخفيف المعاناة الاقتصادية)، وهو الوضع المثالي الذي سيوفر المناخ المطلوب للثورة الاجتماعية الفعلية حيث تتاح للمجموعات الثورية الاستيلاء على السلطة وإحداث التغيير الجذري الذي ترجوه، على أن ذلك لا يتم إلا في وجود (حزب طليعي) يناط به تسريع الوضع الثوري وقطف ثماره (وفي هذه الحالة لا ندري ما إذا كانت الحركة الشعبية ستكون هي ذاتها (الطليعة) التي يناط بها إكمال تصنيع الوضع الثوري وتعميمه في غرب البلاد وشرقها، أم أن ذلك الدور سيترك للحزب الشيوعي القديم، أم للحركات الثورية الناشئة في مناطق التهميش؟).
ولكن وكيف ما كان الأمر فاتفاقية السلام وإن بدت للبعض كأنها مناقضة ـ في ظاهرها ـ لمشروع (الثورة الاجتماعية) إلا أنها تجيء (بحسب هذه الرؤية) متزامنة مع مرحلة نضج فيها الوضع الثوري، مرحلة تتوارى فيها ((الغابة المسلحة)) فاتحة المجال لمرحلة (المدينة المناضلة، إذ أن حرب الغوريلا مهما تطاولت لا بد أن تعقبها فترة تتشكل فيها صيغة تكاملية بين القوى المسلحة التي كانت تقود النضال العسكري في الغابة، والقوى المدنية التي كانت تقود النضال السياسي في المدينة بحيث يعمل مقاتلوا الحركة الشعبية على تثوير قطاعات المهمشين في المدن ويعمل أولئلك على تسيس المقاتلين ومن خلال هذا التثوير والتسييس المتبادل يتم تفكيك ما تبقى من النظام القديم فينفتح المجال للثورة الاجتماعية الشاملة.
أما إن دخول الحركة الشعبية في عملية السلام يمثل استكمالاً لفكرة الثورة الاجتماعية الشاملة وليس خروجاً عليها أو تعديلاً فيها فيتأكد من خلال ثلاثة محاور (تفكيكية) ثابتة (على الأقل) يمكن ملاحظتها في فكر الحركة وممارستها: عزل حكومة الإنقاذ (إبان المفاوضات وبعدها) عن محيطها الحيوي وعمقها الاستراتيجي، إفراغ مؤسسات الدولة المركزية (الجهاز التشريعي/ القضائي/ المؤسسة العسكرية/ البنك المركزي.. الخ)، وعزلها عن مركز (أو مراكز صنع القرار)، الإيحاء وربما الدفع للحركات الثورية الأخرى بمواصلة حرب الغوريلا في مناطق أخرى في البلاد.
أما عزل (العدو) عن عمقه الاستراتيجي فيبدو في موقف الحركة الشعبية الرامي لإجراء مفاوضات منفردة مع المؤتمر الوطني على غرار اتفاقية كامب ديفيد بين المصريين وإسرائيل. علينا هنا أن نتذكر أن أهم مبدأ في التفاوض المصري الإسرائيلي (والذي جرى في السبعينات من القرن الماضي تحت رعاية الرئيس الأمريكي كارتر ووزير خارجيته سايروس فانس) هو ضرورة إبرام (صلح منفرد) بين مصر وإسرائيل عن طريق (عزل مصر عن الدول العربية الأخرى) (سوريا والأردن) التي تشاركها في القضية وتشكل مجالها الحيوي، ثم عزل قضية المستوطنات الإسرائيلية في سيناء عن الاستيطان الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية والجولان.
فالسمة الغالبة في تلك الاستراتيجية التفاوضية (التفكيكية) هي التركيز على مبدأ التجزئة والفصل، تجزئة موضوعات النزاع وفصل الأطراف المعنية في النزاع عن بعضها، أي أن تفصل الأطراف المفاوضة فصلاً تاماً عن الأطراف الأخرى التي تشاركها في القضية، وتمثل عمقها الاستراتيجي، ولكنها قد تختلف معها في أسلوب النضال، أو في أسلوب التفاوض، أو في بعض تفاصيل التسوية، أو نحو ذلك من الأمور الثانوية.
فإذا تأملنا في هذه الاستراتيجية وحاولنا أن ننظر من خلالها إلى مفاوضات السلام بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ فسنجد كثيراً من العناصر المشابهة ابتداءً بفكرة منتجع نيفاشا الكيني التي تكاد تكون تكرار لفكرة منتجع كامب ديفيد، مروراً بتحول الولايات المتحدة من دور الوسيط إلى دور (الشريك) في عملية السلام وانتهاءً بالإصرار على (عزل) حكومة الإنقاذ (ربما بموافقة منها ولكن تحت التهديدات والضغوط الأمريكية) عن محيطها الحيوي الداخلي المتمثل في القوى السياسية الشمالية وعن محيطها الحيوي الإقليمي (المتمثل في الدول العربية والإسلامية) وقد يقال هنا: كيف تمثل الأحزاب الشمالية عمقاً حيوياً لحكومة الإنقاذ؟ وهي (أي تلك الأحزاب) تندرج مع الحركة الشعبية في تنظيم سياسي ـ عسكري واحد ظل يقاتل حكومة الإنقاذ منذ نشأتها؟ وهذا صحيح ولكن ينبغي أن نفرق بين النخب الفوقية والقوى الاجتماعية القاعدية التي تتابعها حيناً وتنفصل عنها أحياناً كما ينبغي ألا تخدعنا صيغة (التحالف التكتيكي) الذي جمع بين تلك النخب والحركة الشعبية فالتفرقة الأولى بين النخب القيادية في تلك الأحزاب وقواعدها تفرقة هامة، لأن قواعد الأحزاب في الشمال هي قواعد اجتماعية مشتركة بين حكومة الإنقاذ وغيرها من النخب، هذا الاشتراك (القاعدي ـ الثقافي) كان ينبغي أن يوضع من قبل حكومة الإنقاذ في خانة الثوابت الاستراتيجية، وأن يرتب عليه موقف سياسي تصالحي مع الأحزاب الشمالية المعارضة فيعترف بها طرفاً ثالثاً في المفاوضات كما كانت طرفاً في النزاع، ويتنازل لها في بعض الأمور كما فعل مع الحركة الشعبية خاصة وأنالحرب لم تستعر أصلاً بين الحركة الشعبية والإنقاذ إلا بسبب تلك القاعدة الاجتماعية الثقافية ولكن لارتباك في الرؤية الاستراتيجية، أو لأمر آخر لا نعلمه، فضلت حكومة الإنقاذ أن تترك مجالاً واسعاً للخلافات الثانوية بينها وبين الأحزاب الشمالية أن تتحول لتناقضات أساسية فوقعت في الفخ الذي نصبته لها الحركة الشعبية من حيث لا تدري، ووفرت لها بذلك ذخيرة كبيرة صارت تراهن من خلالها على هشاشة النظام الإنقاذي وحتمية تفككه وتلاشيه
ولكم أرق التحيات
المهاتما غاندي
أتفاقية السلام في نظري ظلت تمثل في أدبيات الحركة الشعبية ليس سوي بعدا تكتيكيا وليس أستراتيجيا من خلاله تتم بلورة رؤي أخري ، يتم بموجبها خلق فوضي عارمة بغية تفكيك المجتمعات وصنع حالة من الأنفلات وعدم السيطرة ، ليحدث بعدها أنهيارا كاملا يصعب ترميمه ، ويتم ذلك من خلال سلسلة من القوانين والتشريعات بغرض تفريغ المؤسسات من مضمونها وأهدافها سوي كانت مدنية أو عسكرية وهذا مانسميه هنا بالثورة المخملية
وقد قرأت كتابا قديما عبارة عن سلسلة من المقالات شخصت هذا الوضع ل ( د/ التجاني عبدالقادر ) يقول فيه :
أوضح إيرنستو جيفارا، المنظر المتميز لحركات التحرر في أمريكا اللاتينية والمقاتل في صفوفها، أن الثورة الكوبية قد أسهمت بثلاثة دروس أساسية لإدارة الحركات الثورية، هي:
أنه ليس من الضروري الانتظار لحين توفر كل الشروط التي تصنع الثورة، (إذ أن التمرد) يمكن أن يوفر تلك الشروط ! وفي حالة دول أمريكا اللاتينية المتخلفة فإن الريف هو المنطقة الأساسية لانطلاق النضال المسلح وأن القوى الشعبية يمكنها أن تكسب الحرب ضد الجيش النظامي، غير أن النصر لا يمكن أن يكون نهائياً حتى يكتمل تحطيم الجيش الذي كان يدعم النظام القديم تحطيماً نهائياً وبصورة منظمة.
ويبدو للمتأمل في سيرة الحركة الشعبية لتحرير السودان (والتي من الراجح أنها قد تأثرت بالتجارب الثورية في أمريكا اللاتينية، وبالتجربة الكوبية خصوصاً أنها قد استوعبت الدرسين الأولين في النموذج الجيفاري ـ الكوبي: التمرد المتطاول والانطلاق من الريف ) ولكنها لم تأبه كثيراً بالدرس الثالث والأخير المتعلق بضرورة تحطيم الجيش النظامي تحطيماً نهائياً السؤال هنا: لماذا اختارت الحركة الشعبية إذاً إيقاف حرب الغوريلا والدخول في اتفاقية سياسية وذلك قبل أن تستكمل تصفية المؤسسة العسكرية للعدو الاستراتيجي، وقبل أن تنضج عوامل الثورة الاجتماعية الشاملة؟ ولماذا رفضت ـ مثلاً ـ خيار السلام قبل عشرة سنوات؟ حينما كانت تواجه أسوأ إنشقاق داخلي في تاريخها، وأكبر تراجع في الميدان العسكري؟ ثم قبلته أخيراً ولكن في وقت تحسن فيه وضعها السياسي والعسكري بينما وصلت حكومة الإنقاذ (العدو الاستراتيجي) إلى أضعف حالاتها وذلك في أعقاب الإنقسام الذي وقع في داخلها، وما تبعه من بلبلة في منظومتها الفكرية، وخلخلة في صفها القيادي، وإحباط نفسي في قوتها القاعدية؟ أو إذا وضعنا السؤال بصيغة أخرى: هل يشير دخول الحركة الشعبية في عملية السلام إلى ((تغيير استراتيجي)) (أو ربما آيديولوجي) في مسارها أملته ضغوط وإملاءات الواقع السياسي والعسكري أم هو مجرد (استراحة محارب) يعاد فيها رسم الأدوار وترتيب القوى؟ وإذا قلنا أن الحركة الشعبية لم تغير آيديولوجيتها واستراتيجيتها، فهل يعني ذلك أن اتفاقية السلام تحمل في طياتها المضامين الاستراتيجية السابقة ذاتها ولكن بأشكال وأساليب جديدة؟
قد يقال هنا أن (الدروس) التي استخلصها جيفارا من الثورة الكوبية هي دروس خاصة بتلك الثورة، وليست هناك ضرورة تحتم سريانها على الحالة السودانية، ثم يقفل النقاش، ولكن قد يقال أيضاً أن (التصفية) التي يتحدث عنها جيفارا آخذة في التحقق ولكن على نار هادئة، إذ ليس من اللازم أن تقفر حرب الغوريلا بالمجتمع دفعة واحدة من مرحلة السكون إلى مرحلة الثورة الكاملة، إذ يكفي أن تصل به إلى ما يسمى في أدبيات اليسار (بالوضع الثوري) (Revolutionary situation) وهو حال تواجه فيه الدولة المركزية تحدياً من داخل أروقتها أو من داخل المجتمع يتعذر معه حفظ الأمن والاستقرار،( ناهيك عن تخفيف المعاناة الاقتصادية)، وهو الوضع المثالي الذي سيوفر المناخ المطلوب للثورة الاجتماعية الفعلية حيث تتاح للمجموعات الثورية الاستيلاء على السلطة وإحداث التغيير الجذري الذي ترجوه، على أن ذلك لا يتم إلا في وجود (حزب طليعي) يناط به تسريع الوضع الثوري وقطف ثماره (وفي هذه الحالة لا ندري ما إذا كانت الحركة الشعبية ستكون هي ذاتها (الطليعة) التي يناط بها إكمال تصنيع الوضع الثوري وتعميمه في غرب البلاد وشرقها، أم أن ذلك الدور سيترك للحزب الشيوعي القديم، أم للحركات الثورية الناشئة في مناطق التهميش؟).
ولكن وكيف ما كان الأمر فاتفاقية السلام وإن بدت للبعض كأنها مناقضة ـ في ظاهرها ـ لمشروع (الثورة الاجتماعية) إلا أنها تجيء (بحسب هذه الرؤية) متزامنة مع مرحلة نضج فيها الوضع الثوري، مرحلة تتوارى فيها ((الغابة المسلحة)) فاتحة المجال لمرحلة (المدينة المناضلة، إذ أن حرب الغوريلا مهما تطاولت لا بد أن تعقبها فترة تتشكل فيها صيغة تكاملية بين القوى المسلحة التي كانت تقود النضال العسكري في الغابة، والقوى المدنية التي كانت تقود النضال السياسي في المدينة بحيث يعمل مقاتلوا الحركة الشعبية على تثوير قطاعات المهمشين في المدن ويعمل أولئلك على تسيس المقاتلين ومن خلال هذا التثوير والتسييس المتبادل يتم تفكيك ما تبقى من النظام القديم فينفتح المجال للثورة الاجتماعية الشاملة.
أما إن دخول الحركة الشعبية في عملية السلام يمثل استكمالاً لفكرة الثورة الاجتماعية الشاملة وليس خروجاً عليها أو تعديلاً فيها فيتأكد من خلال ثلاثة محاور (تفكيكية) ثابتة (على الأقل) يمكن ملاحظتها في فكر الحركة وممارستها: عزل حكومة الإنقاذ (إبان المفاوضات وبعدها) عن محيطها الحيوي وعمقها الاستراتيجي، إفراغ مؤسسات الدولة المركزية (الجهاز التشريعي/ القضائي/ المؤسسة العسكرية/ البنك المركزي.. الخ)، وعزلها عن مركز (أو مراكز صنع القرار)، الإيحاء وربما الدفع للحركات الثورية الأخرى بمواصلة حرب الغوريلا في مناطق أخرى في البلاد.
أما عزل (العدو) عن عمقه الاستراتيجي فيبدو في موقف الحركة الشعبية الرامي لإجراء مفاوضات منفردة مع المؤتمر الوطني على غرار اتفاقية كامب ديفيد بين المصريين وإسرائيل. علينا هنا أن نتذكر أن أهم مبدأ في التفاوض المصري الإسرائيلي (والذي جرى في السبعينات من القرن الماضي تحت رعاية الرئيس الأمريكي كارتر ووزير خارجيته سايروس فانس) هو ضرورة إبرام (صلح منفرد) بين مصر وإسرائيل عن طريق (عزل مصر عن الدول العربية الأخرى) (سوريا والأردن) التي تشاركها في القضية وتشكل مجالها الحيوي، ثم عزل قضية المستوطنات الإسرائيلية في سيناء عن الاستيطان الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية والجولان.
فالسمة الغالبة في تلك الاستراتيجية التفاوضية (التفكيكية) هي التركيز على مبدأ التجزئة والفصل، تجزئة موضوعات النزاع وفصل الأطراف المعنية في النزاع عن بعضها، أي أن تفصل الأطراف المفاوضة فصلاً تاماً عن الأطراف الأخرى التي تشاركها في القضية، وتمثل عمقها الاستراتيجي، ولكنها قد تختلف معها في أسلوب النضال، أو في أسلوب التفاوض، أو في بعض تفاصيل التسوية، أو نحو ذلك من الأمور الثانوية.
فإذا تأملنا في هذه الاستراتيجية وحاولنا أن ننظر من خلالها إلى مفاوضات السلام بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ فسنجد كثيراً من العناصر المشابهة ابتداءً بفكرة منتجع نيفاشا الكيني التي تكاد تكون تكرار لفكرة منتجع كامب ديفيد، مروراً بتحول الولايات المتحدة من دور الوسيط إلى دور (الشريك) في عملية السلام وانتهاءً بالإصرار على (عزل) حكومة الإنقاذ (ربما بموافقة منها ولكن تحت التهديدات والضغوط الأمريكية) عن محيطها الحيوي الداخلي المتمثل في القوى السياسية الشمالية وعن محيطها الحيوي الإقليمي (المتمثل في الدول العربية والإسلامية) وقد يقال هنا: كيف تمثل الأحزاب الشمالية عمقاً حيوياً لحكومة الإنقاذ؟ وهي (أي تلك الأحزاب) تندرج مع الحركة الشعبية في تنظيم سياسي ـ عسكري واحد ظل يقاتل حكومة الإنقاذ منذ نشأتها؟ وهذا صحيح ولكن ينبغي أن نفرق بين النخب الفوقية والقوى الاجتماعية القاعدية التي تتابعها حيناً وتنفصل عنها أحياناً كما ينبغي ألا تخدعنا صيغة (التحالف التكتيكي) الذي جمع بين تلك النخب والحركة الشعبية فالتفرقة الأولى بين النخب القيادية في تلك الأحزاب وقواعدها تفرقة هامة، لأن قواعد الأحزاب في الشمال هي قواعد اجتماعية مشتركة بين حكومة الإنقاذ وغيرها من النخب، هذا الاشتراك (القاعدي ـ الثقافي) كان ينبغي أن يوضع من قبل حكومة الإنقاذ في خانة الثوابت الاستراتيجية، وأن يرتب عليه موقف سياسي تصالحي مع الأحزاب الشمالية المعارضة فيعترف بها طرفاً ثالثاً في المفاوضات كما كانت طرفاً في النزاع، ويتنازل لها في بعض الأمور كما فعل مع الحركة الشعبية خاصة وأنالحرب لم تستعر أصلاً بين الحركة الشعبية والإنقاذ إلا بسبب تلك القاعدة الاجتماعية الثقافية ولكن لارتباك في الرؤية الاستراتيجية، أو لأمر آخر لا نعلمه، فضلت حكومة الإنقاذ أن تترك مجالاً واسعاً للخلافات الثانوية بينها وبين الأحزاب الشمالية أن تتحول لتناقضات أساسية فوقعت في الفخ الذي نصبته لها الحركة الشعبية من حيث لا تدري، ووفرت لها بذلك ذخيرة كبيرة صارت تراهن من خلالها على هشاشة النظام الإنقاذي وحتمية تفككه وتلاشيه
ولكم أرق التحيات