مصعب الرمادي
08-12-2009, 07:21 AM
الطاعون !.
قصة قصيرة
مصعب الرمادي
(1)
كانت إيمان أزهري تجلس على الكرسي الأزرق ؛ ذات الكرسي البلاستيكي الجامعي الأزرق المُريح ؛ والذي كان يجلس عليه منذ أن كان تلميذا صغيراً بالمرحلة الابتدائية ؛ والذي حاور في تطور بنيته وشكله ولونه أنماطا مختلفة من التصميم الصناعي الذي أثار على مايظن قريحة المصمم السوداني بكلية الفنون الجميلة ليبتكر أنماطا بديعة منه، كجلسة إيمان أزهري اليومية عليه بمكتبة كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة القضارف الوليدة .
يذكر أن جده عثمان قد قال له ذات يوم غائر في ذاكرته كلاما عميقا يتعلق بلعبة الكراسي في السياسة ببلده السودان وبأية الكرسي وبالكرسي الذي كان يجلس عليه ليحل تمارين الرياضيات الصعبة ويهيم بعيدا بفكره في أشياء غامضة تتعلق بإيمان أزهري. الحرب مازلت بعيدة ليكبر في تصوره للحياة كما كبرت صورة إيمان عن نفسها وعنه وهي تجادل المكان الجديد برعونة وصلافة جده العجوز الذي كان يعود إلى البيت ملطخا بالزيت والعرق في نهاية كل مساء من مصلحة النقل الميكانيكي.
الحرب مازلت بعيدة عليه ليمسك جذر موضوعها بكفيه الصغيرتين ثم ينام مفتوحا العينين تأخذه هواجس وأحلام البنت إيمان . يذكر الآن قصته- بعد ذلك بسنوات عديدة
نهار أن كان على "مجروس الجيش" الذي كان يقل عساكر الفرقة الرابعة الذين كانوا يبذلون الجهد كله ليخرجوا من ميعة الوحل والطين الغروي اللزج وهو في طريقه مهم إلى القلابات ؛ قبل ان ينهمر عليهم وابل من رصاص عصابات الشفته . وكأن الطالبة إيمان أزهري كان تذكر على نحو غامضٍ بمخيلة منظمة وقريحة شديدة الالتهاب والدقة أضواء المدينة الجامعية الباهرة بتواوا التي تلاصفت من بعيد وهي تدخل عليها لأول مرة بعد ان ازيل معسكر اللاجئين الذي كان هناك ليحل بدلا عنه تاريخ جديد هو بحق تاريخ إيمان أزهري الخاص جدا به وبالمكان الجديد !.
(2)
الحرب لاتفعل ذلك !.
إنها خدعة السلام الذي هبط عليه فجأة ؛ فدعاه للإحساس العميق بان ثمة مؤامرة وطنية كبرى حيكت في الظلام ضده وضد وطنه وضد جده وضد إيمان بالذات ؛ في امتحان الشهادة السودانية قالوا له اكتب فكتب : عن القارة السمراء وقضياها الشائك
العسيرة عن الحل!. أيها السادة والسيدات كنت على الفراش ليلا مع ملو الحبشية
اعترف . انا الجهل والفقر والمرض وربما أكون قد أصبت بطاعون العصر ؛ وصلت" القلابات" متأخرا مع الجيش فوجدت نفسي مطلقة العنان لحياة الحرية والفوضى ؛ تعّرقت وسكرت وندمت وشعرت بلذة التجربة . في ذلك اليوم الذي فعل فيه ذلك لم تحضر إيمان كعادتها الى فناء كلية الطب . كانت تنتظر عودة ألاجئين وطائر البلشون الأبيض وذخة المطر الليلي الخفيف على نافذة الداخلية المفتوحة.
(3)
قال له صديقه سفيان خليل : قصتك ليست متماسكة انك تخلق اشياءاً غرائبية من أوهامك وتصدقها انك مجنون وفي حاجة إلى استشارة طبيب ؛ طز الفنتازيا لاتبدو مبررا كافيا لشرح هذا العالم الغريب والظالم في تقديرك ؛ الخرافة ذهبت إلى حال سبيلها لتحل بدلا عنها خرافات جديدة أكثر فتكا من مرض الايدز . ماالذي تريد اذا أن تقوله للعالم ؟هه انك تقريبا لا تعترف بشيء حتى المرض تعتقد انه صنعيه تصور علمي واجتماعي مبالغ فيه!.
ماالذي يقنعك ؟ التجربة وجربت .. ولكن على مايبدو أن لديك متسعٌ من العمر الآن لتكتب نهاية لكل هذا العبث الوجودي الذي أنت فيه ، أو بداية أخرى جديدة تدفع الآنسة إيمان ازهرى للاستمرار في حبك وحب الناس و الحياة !.
(4)
تقول تقارير منظمة الصحة العالمية إن أكثر من ألف شخص توفي قبل أسبوع
على الأقل جراء إصابتهم بفيروس مرض الايدز . أغلق بحنق المذيع وحاول أن يجد مسوغاً كافيا لحالة القلق الداخلي العارم الذي عصف بوحدة كيانه كلها جراء ماسمع . ربما كان هو ذات الوهم الذي دفع صديقه سفيان خليل ليقول ماقال . هو مايدفع وسائل الإعلام والتثقيف الصحي بالمرض باستمرار رغم حقائق الإحصائيات الدامغة – إلى تهويل الحقيقة المستقرة والرابضة في اعماقة عن خدعة السلام ومؤامرة الحرب .
في مدينة وهران انتشر مرض الطاعون بصورة وبائية بين الأوساط الشعبية بالمدينة الجزائرية الوادعة وحصد أرواح آلاف ؛ ولقد كان ألبير كامو يمسك بدربة وحذق بالغيان خيوط اللغة وهو يرسم شخصيات روايته الفرنسية الشهيرة .
السماء صافية والطقس جميل وو الخ .. هكذا كانت إيمان في ظهيرة ذلك اليوم
فيما يشبه تداعيتها الحرة بالأشياء والناس والأماكن في غرفة المختبر تحت المجهر تفحص الميكروبات الدقيقة لمرض عضال لم تفرغ بعد من حقيقة كنهه . ماهذا يالهي ؟؟ لكن الوقت قد مضى ولم تصل الى نتيجة حاسمة . تحدثني صديقتي الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري عن وسائل انتقال عدوى المرض . كانت مستشفى معسكر ام راكوابة للاجئين الاثيوبين غاصة بالمرضى ؛ كنت هناك أتابع ذات الموضوع الذي كنت احدث صديقي سفيان عنه .. لم نكمل الحديث ولكنه داعني لمواصلته بمطعم " الماظ الحبشية بحي بديم النور الشعبي .. تعرق جلدي بشدة وغشتني تلك الحالة الغريبة التي اعترتني وانا استلقى عاريا تماما على فراش" ملو " بام راكوابة . كان الزققني والدليخ الحارق يزيد من تبرمي وحنقي بكل شيء أمامي . انه الطيش
والجنون ذلك الذي دفعك للإفراط في تناول البيرة والانشة فيما بعد مع تلك الشيطانة .. ظل سفيان اللعين يسخر مني رغم ما كنت أحس به من الم بالغ في بطني وراسي وكياني شبه المحطم .
كان ميز الأطباء قريبا من هناك فتذكرت إيمان وتشجعت على الرد .. آه الساعة الآن السابعة مساء ستترك إيمان كرسيها الأزرق المريح وتغادر المكتبة . غادرنا المكان
أو غادرنا هو إلى الأبد لكني كنت أتقاطع بمخيلتي مع أطياف أوهامي الخاصة مأخوذا بقوة بسحر تزاوج فلسفتي الأمل واليأس المطبق بنفسي في ذلك المساء الرمادي المكفهر .
(5)
تحالف القوى الديمقراطية الوطنية المعارض يقول في ندوة دار المعلمين الأخيرة إن أحزابه مجتمعة ستخوض معركة الانتخابات المقبلة . وتهدد الحزب الحاكم بالانتفاضة الشعبية العارمة ان حدث تزوير في السجل الانتخابي او إعاقة لمسيرة التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة .. نهضت مبكرا قبل نهاية الندوة من ذات الكرسي الأزرق المريح الذي قامت عنه إيمان من المكتبة ؛ غير أني تركت لسفيان أن يكمل لي ماحدث صباح اليوم التالي بمقهى الجزيرة . كل الأحداث تبدو مألوفة وعادية في القضارف عند إيمان أزهري وهو مادفعني للإنصات أكثر لثرثرة سفيان خليل وسخريته اللاذعة من لعبة الكراسي في السياسة السودانية . قال لي مارأيك بدلا من جلوسنا هكذا دون معنى ان نذهب الى الفاشر نتاجر بالفرخ المثلج ونبيعه بأسعار جنونية لقوات الأمم المتحدة الرابضة هناك منذ فترة بسبب الصراع الدامي هناك !. سيتزوج سفيان من تماضر بعد ثلاثة شهور ويتركني وحيدا هنا في المقهى أهيم بعيدا بفكري أتصفح الأخبار الباردة في الجرائد واشرب الشاي واغوص في صمتي المطبق .
(6)
- انبطحوا للأرض !.
فانبطحنا جميعنا؛ جاء الصوت مدوياً ومرعدا ، كانت مفرزة الرصاص تأذ بقوة عندما حاول العبور للجهة الأخرى معطيا" المجروس " ظهره غير ان واحدة من الرصاصات استقرت بكتفة الأيمن فسقط مغشيا عليه ؛ برهة وفرت عصابة الشفته من إمامهم كأن ارضاً مجنونة قد انشقت و ابتلعتهم !. طمأنه الطبيب الإثيوبي عن صحته في مستشفى ام راكوبة الريفي بعد أن قام بإخراج الرصاصة .. لكنها ظل طوال الليل يتسأل : لماذا يضمروا لنا هؤلاء القوم كل هذا العداء ؟؟. تحدثه صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري "يذكر" عن أوضاع اللاجئين في السودان وكيف استطاعت منظمة أطباء بلا حدود أن تحاصر رغم الفقر المدقع والأوضاع المأسوية هناك كثيرا من الإمراض المستوطنة بالمنطقة ومن ضمنها طاعون العصر مرض الايدز . الأمن وانعدامه في كثير الأحيان ربما هو أهم الأسباب التي دفعته إلى أعادت التفكير في مسائل كثيرة تتعلق بحقيقة وواقع العلاقات بين الشعبين السوداني والإثيوبي ؛ لقد وجد نفسه في النهاية في القضارف محملا بالبن الحبشي وسجائر نيالا وغيرها من البضاعة المرغوبة المهربة . ان ثقافة الحدود الامتناهية تخلق عادة قدر وافرا من الفوضى الأمنية والاجتماعية التي لايمكن السيطرة عليها بسهولة علاوة على انه ليس هناك حدود ولو حتى دينية لهذه الثقافة .
(7)
في طريق الرجعة يحدثه صديقه الملازم أول عمر إدريس عن نساء" الحُمرا" و"قندر" الفاتنات . كان" القدران" يتهادى بطيئا في مشيته ويطقطق محملا بأجولة الذرة الثقيلة وقد كنا فوقه يستمعا بمشاهدة المناظر الطبيعية البديعة لقرى الريف ومزارعه الخضراء ؛ ياالهي كم علينا ان نضع حدودا للغرب وثقافة أهله حتى لاتخذنا الفتنة بحضارته إلى مرحلة الصدمة وتفوت علينا متعة ان نستشق مجرد هذا الهواء النقي في الصعيد السوداني المترامي الأطراف . الشرق شرق والغرب غرب وقد يلتقى به كالعادة يثرثر عن أشياء لاهي تنتمي للشرق ولهي كذلك للغرب . لكنه يذكر ان عمر إدريس طفق يحدثه عندما لاحت صومعة الغلال من بعيد عن فوضى رجال الجيش والتجار واللاجئين في تلك الأصقاع ولم يكن يدري وقتها أي روابط خفية وغير واضحة تجمع الملازم عمر إدريس وعشيقته الإثيوبية مُلو في قرية ام راكوابة وبين سخرية صديقه المثقف سفيان خليل والبنت المهذبة الطالبة الجامعية إيمان أزهري .
(8)
ليس هناك سبب وجيه يدعو إيمان أزهري لتفعل مافعلت !.
-هه وماذا فعلت بالله العظيم ؟!.
- لم تفعل شيء ياصديقي هي فقط أغلقت الباب خلفها ولم تخرج إليك !.
لقد كان بارد الأعصاب طيلة الوقت ؛ لكن سفيان خليل لايكف من ممارسة أن يدس انفه دائما فيما ؛ ويسخر من الموضوع برمته ؛ وربما قال له ذلك وربما كان يجهد نفسه في وضع تصور عقلاني ومنطقي بعلاقته غير الواضحة بالآنسة إيمان . لكنه فشل في النهاية مفضلاً ان ينقل الحديث عن السياسة والأدب إلى علم الباطن والأخلاق الماركسية والمدينة والجنس الخ .. ولربما وجدت صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري بعض مما كان يرمي به سفيان خليل من أفكار جريئة وعصرية شديدة المحافظة والالتزام تتعلق بعشيقته الإثيوبية مُلو , والتي ربما كانت تحمل فيروس مرض فقدان المناعة المكتسبة" الايدز "؛ فيجعلها ذلك التفكير يحس بالغثيان والبرد الشديد تحت جلده وعظامه ؛ فلقد كان يذكر إنها كانت تضغط على كلماتها وهي تقول له أن 97% من الإصابة بمرض الايدز هي عن طريق الاتصال الجنسي المُحرم . تباعدت مع مرور الأيام وفترت علاقته الوجودية بملاكه الرحيم الآنسة إيمان أزهري ،فلم يعد يألف رؤيتها في المساء عابرة فناء المستشفى الملكي وهي تحمل بين يديها كتب الطب الضخمة ومرجعه ؛ لقد كانت كعادتها الآسرة تعبر على الأشياء ولكنها لا تقف عندها , ترش ُعليه وعليها رزازاً من عطرها الأنثوي الصارخ ثم تمضى هكذا إلى حال سبيلها , ويذكر يومها أن الصاعقة ضربت بقوة جهازه النفسي والعصبي الدقيق والمتماسك عندما حدثه "سفيان خليل "بأنه قد راءها من خلال نافذة البص السفري السريع بميناء المدينة البري في ذلك الصباح الخريفي وهي طريقها إلى أهلها بالخرطوم .
ربما لن تعود إيمان أزهري مرة أخرى وربما تفعل من اجل أسباب جديدة غير مايعلم ويظن ويعتقد؛ لكن ليالي المدينة المطيرة ونهاراتها المُشمسة وكثير من حضور شخصية جده" عثمان "الاجتماعية القوية عليه وتربيته الفريدة له, ستدفعه ليتذكر دائما بقعة الضوء البيضاء التي تركتها في أعماقها بحيث يصعب عليه تجاوزها أو حتى نسيانها يوماً ما.
ديسمبر2009م
القضارف - السودان
قصة قصيرة
مصعب الرمادي
(1)
كانت إيمان أزهري تجلس على الكرسي الأزرق ؛ ذات الكرسي البلاستيكي الجامعي الأزرق المُريح ؛ والذي كان يجلس عليه منذ أن كان تلميذا صغيراً بالمرحلة الابتدائية ؛ والذي حاور في تطور بنيته وشكله ولونه أنماطا مختلفة من التصميم الصناعي الذي أثار على مايظن قريحة المصمم السوداني بكلية الفنون الجميلة ليبتكر أنماطا بديعة منه، كجلسة إيمان أزهري اليومية عليه بمكتبة كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة القضارف الوليدة .
يذكر أن جده عثمان قد قال له ذات يوم غائر في ذاكرته كلاما عميقا يتعلق بلعبة الكراسي في السياسة ببلده السودان وبأية الكرسي وبالكرسي الذي كان يجلس عليه ليحل تمارين الرياضيات الصعبة ويهيم بعيدا بفكره في أشياء غامضة تتعلق بإيمان أزهري. الحرب مازلت بعيدة ليكبر في تصوره للحياة كما كبرت صورة إيمان عن نفسها وعنه وهي تجادل المكان الجديد برعونة وصلافة جده العجوز الذي كان يعود إلى البيت ملطخا بالزيت والعرق في نهاية كل مساء من مصلحة النقل الميكانيكي.
الحرب مازلت بعيدة عليه ليمسك جذر موضوعها بكفيه الصغيرتين ثم ينام مفتوحا العينين تأخذه هواجس وأحلام البنت إيمان . يذكر الآن قصته- بعد ذلك بسنوات عديدة
نهار أن كان على "مجروس الجيش" الذي كان يقل عساكر الفرقة الرابعة الذين كانوا يبذلون الجهد كله ليخرجوا من ميعة الوحل والطين الغروي اللزج وهو في طريقه مهم إلى القلابات ؛ قبل ان ينهمر عليهم وابل من رصاص عصابات الشفته . وكأن الطالبة إيمان أزهري كان تذكر على نحو غامضٍ بمخيلة منظمة وقريحة شديدة الالتهاب والدقة أضواء المدينة الجامعية الباهرة بتواوا التي تلاصفت من بعيد وهي تدخل عليها لأول مرة بعد ان ازيل معسكر اللاجئين الذي كان هناك ليحل بدلا عنه تاريخ جديد هو بحق تاريخ إيمان أزهري الخاص جدا به وبالمكان الجديد !.
(2)
الحرب لاتفعل ذلك !.
إنها خدعة السلام الذي هبط عليه فجأة ؛ فدعاه للإحساس العميق بان ثمة مؤامرة وطنية كبرى حيكت في الظلام ضده وضد وطنه وضد جده وضد إيمان بالذات ؛ في امتحان الشهادة السودانية قالوا له اكتب فكتب : عن القارة السمراء وقضياها الشائك
العسيرة عن الحل!. أيها السادة والسيدات كنت على الفراش ليلا مع ملو الحبشية
اعترف . انا الجهل والفقر والمرض وربما أكون قد أصبت بطاعون العصر ؛ وصلت" القلابات" متأخرا مع الجيش فوجدت نفسي مطلقة العنان لحياة الحرية والفوضى ؛ تعّرقت وسكرت وندمت وشعرت بلذة التجربة . في ذلك اليوم الذي فعل فيه ذلك لم تحضر إيمان كعادتها الى فناء كلية الطب . كانت تنتظر عودة ألاجئين وطائر البلشون الأبيض وذخة المطر الليلي الخفيف على نافذة الداخلية المفتوحة.
(3)
قال له صديقه سفيان خليل : قصتك ليست متماسكة انك تخلق اشياءاً غرائبية من أوهامك وتصدقها انك مجنون وفي حاجة إلى استشارة طبيب ؛ طز الفنتازيا لاتبدو مبررا كافيا لشرح هذا العالم الغريب والظالم في تقديرك ؛ الخرافة ذهبت إلى حال سبيلها لتحل بدلا عنها خرافات جديدة أكثر فتكا من مرض الايدز . ماالذي تريد اذا أن تقوله للعالم ؟هه انك تقريبا لا تعترف بشيء حتى المرض تعتقد انه صنعيه تصور علمي واجتماعي مبالغ فيه!.
ماالذي يقنعك ؟ التجربة وجربت .. ولكن على مايبدو أن لديك متسعٌ من العمر الآن لتكتب نهاية لكل هذا العبث الوجودي الذي أنت فيه ، أو بداية أخرى جديدة تدفع الآنسة إيمان ازهرى للاستمرار في حبك وحب الناس و الحياة !.
(4)
تقول تقارير منظمة الصحة العالمية إن أكثر من ألف شخص توفي قبل أسبوع
على الأقل جراء إصابتهم بفيروس مرض الايدز . أغلق بحنق المذيع وحاول أن يجد مسوغاً كافيا لحالة القلق الداخلي العارم الذي عصف بوحدة كيانه كلها جراء ماسمع . ربما كان هو ذات الوهم الذي دفع صديقه سفيان خليل ليقول ماقال . هو مايدفع وسائل الإعلام والتثقيف الصحي بالمرض باستمرار رغم حقائق الإحصائيات الدامغة – إلى تهويل الحقيقة المستقرة والرابضة في اعماقة عن خدعة السلام ومؤامرة الحرب .
في مدينة وهران انتشر مرض الطاعون بصورة وبائية بين الأوساط الشعبية بالمدينة الجزائرية الوادعة وحصد أرواح آلاف ؛ ولقد كان ألبير كامو يمسك بدربة وحذق بالغيان خيوط اللغة وهو يرسم شخصيات روايته الفرنسية الشهيرة .
السماء صافية والطقس جميل وو الخ .. هكذا كانت إيمان في ظهيرة ذلك اليوم
فيما يشبه تداعيتها الحرة بالأشياء والناس والأماكن في غرفة المختبر تحت المجهر تفحص الميكروبات الدقيقة لمرض عضال لم تفرغ بعد من حقيقة كنهه . ماهذا يالهي ؟؟ لكن الوقت قد مضى ولم تصل الى نتيجة حاسمة . تحدثني صديقتي الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري عن وسائل انتقال عدوى المرض . كانت مستشفى معسكر ام راكوابة للاجئين الاثيوبين غاصة بالمرضى ؛ كنت هناك أتابع ذات الموضوع الذي كنت احدث صديقي سفيان عنه .. لم نكمل الحديث ولكنه داعني لمواصلته بمطعم " الماظ الحبشية بحي بديم النور الشعبي .. تعرق جلدي بشدة وغشتني تلك الحالة الغريبة التي اعترتني وانا استلقى عاريا تماما على فراش" ملو " بام راكوابة . كان الزققني والدليخ الحارق يزيد من تبرمي وحنقي بكل شيء أمامي . انه الطيش
والجنون ذلك الذي دفعك للإفراط في تناول البيرة والانشة فيما بعد مع تلك الشيطانة .. ظل سفيان اللعين يسخر مني رغم ما كنت أحس به من الم بالغ في بطني وراسي وكياني شبه المحطم .
كان ميز الأطباء قريبا من هناك فتذكرت إيمان وتشجعت على الرد .. آه الساعة الآن السابعة مساء ستترك إيمان كرسيها الأزرق المريح وتغادر المكتبة . غادرنا المكان
أو غادرنا هو إلى الأبد لكني كنت أتقاطع بمخيلتي مع أطياف أوهامي الخاصة مأخوذا بقوة بسحر تزاوج فلسفتي الأمل واليأس المطبق بنفسي في ذلك المساء الرمادي المكفهر .
(5)
تحالف القوى الديمقراطية الوطنية المعارض يقول في ندوة دار المعلمين الأخيرة إن أحزابه مجتمعة ستخوض معركة الانتخابات المقبلة . وتهدد الحزب الحاكم بالانتفاضة الشعبية العارمة ان حدث تزوير في السجل الانتخابي او إعاقة لمسيرة التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة .. نهضت مبكرا قبل نهاية الندوة من ذات الكرسي الأزرق المريح الذي قامت عنه إيمان من المكتبة ؛ غير أني تركت لسفيان أن يكمل لي ماحدث صباح اليوم التالي بمقهى الجزيرة . كل الأحداث تبدو مألوفة وعادية في القضارف عند إيمان أزهري وهو مادفعني للإنصات أكثر لثرثرة سفيان خليل وسخريته اللاذعة من لعبة الكراسي في السياسة السودانية . قال لي مارأيك بدلا من جلوسنا هكذا دون معنى ان نذهب الى الفاشر نتاجر بالفرخ المثلج ونبيعه بأسعار جنونية لقوات الأمم المتحدة الرابضة هناك منذ فترة بسبب الصراع الدامي هناك !. سيتزوج سفيان من تماضر بعد ثلاثة شهور ويتركني وحيدا هنا في المقهى أهيم بعيدا بفكري أتصفح الأخبار الباردة في الجرائد واشرب الشاي واغوص في صمتي المطبق .
(6)
- انبطحوا للأرض !.
فانبطحنا جميعنا؛ جاء الصوت مدوياً ومرعدا ، كانت مفرزة الرصاص تأذ بقوة عندما حاول العبور للجهة الأخرى معطيا" المجروس " ظهره غير ان واحدة من الرصاصات استقرت بكتفة الأيمن فسقط مغشيا عليه ؛ برهة وفرت عصابة الشفته من إمامهم كأن ارضاً مجنونة قد انشقت و ابتلعتهم !. طمأنه الطبيب الإثيوبي عن صحته في مستشفى ام راكوبة الريفي بعد أن قام بإخراج الرصاصة .. لكنها ظل طوال الليل يتسأل : لماذا يضمروا لنا هؤلاء القوم كل هذا العداء ؟؟. تحدثه صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري "يذكر" عن أوضاع اللاجئين في السودان وكيف استطاعت منظمة أطباء بلا حدود أن تحاصر رغم الفقر المدقع والأوضاع المأسوية هناك كثيرا من الإمراض المستوطنة بالمنطقة ومن ضمنها طاعون العصر مرض الايدز . الأمن وانعدامه في كثير الأحيان ربما هو أهم الأسباب التي دفعته إلى أعادت التفكير في مسائل كثيرة تتعلق بحقيقة وواقع العلاقات بين الشعبين السوداني والإثيوبي ؛ لقد وجد نفسه في النهاية في القضارف محملا بالبن الحبشي وسجائر نيالا وغيرها من البضاعة المرغوبة المهربة . ان ثقافة الحدود الامتناهية تخلق عادة قدر وافرا من الفوضى الأمنية والاجتماعية التي لايمكن السيطرة عليها بسهولة علاوة على انه ليس هناك حدود ولو حتى دينية لهذه الثقافة .
(7)
في طريق الرجعة يحدثه صديقه الملازم أول عمر إدريس عن نساء" الحُمرا" و"قندر" الفاتنات . كان" القدران" يتهادى بطيئا في مشيته ويطقطق محملا بأجولة الذرة الثقيلة وقد كنا فوقه يستمعا بمشاهدة المناظر الطبيعية البديعة لقرى الريف ومزارعه الخضراء ؛ ياالهي كم علينا ان نضع حدودا للغرب وثقافة أهله حتى لاتخذنا الفتنة بحضارته إلى مرحلة الصدمة وتفوت علينا متعة ان نستشق مجرد هذا الهواء النقي في الصعيد السوداني المترامي الأطراف . الشرق شرق والغرب غرب وقد يلتقى به كالعادة يثرثر عن أشياء لاهي تنتمي للشرق ولهي كذلك للغرب . لكنه يذكر ان عمر إدريس طفق يحدثه عندما لاحت صومعة الغلال من بعيد عن فوضى رجال الجيش والتجار واللاجئين في تلك الأصقاع ولم يكن يدري وقتها أي روابط خفية وغير واضحة تجمع الملازم عمر إدريس وعشيقته الإثيوبية مُلو في قرية ام راكوابة وبين سخرية صديقه المثقف سفيان خليل والبنت المهذبة الطالبة الجامعية إيمان أزهري .
(8)
ليس هناك سبب وجيه يدعو إيمان أزهري لتفعل مافعلت !.
-هه وماذا فعلت بالله العظيم ؟!.
- لم تفعل شيء ياصديقي هي فقط أغلقت الباب خلفها ولم تخرج إليك !.
لقد كان بارد الأعصاب طيلة الوقت ؛ لكن سفيان خليل لايكف من ممارسة أن يدس انفه دائما فيما ؛ ويسخر من الموضوع برمته ؛ وربما قال له ذلك وربما كان يجهد نفسه في وضع تصور عقلاني ومنطقي بعلاقته غير الواضحة بالآنسة إيمان . لكنه فشل في النهاية مفضلاً ان ينقل الحديث عن السياسة والأدب إلى علم الباطن والأخلاق الماركسية والمدينة والجنس الخ .. ولربما وجدت صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري بعض مما كان يرمي به سفيان خليل من أفكار جريئة وعصرية شديدة المحافظة والالتزام تتعلق بعشيقته الإثيوبية مُلو , والتي ربما كانت تحمل فيروس مرض فقدان المناعة المكتسبة" الايدز "؛ فيجعلها ذلك التفكير يحس بالغثيان والبرد الشديد تحت جلده وعظامه ؛ فلقد كان يذكر إنها كانت تضغط على كلماتها وهي تقول له أن 97% من الإصابة بمرض الايدز هي عن طريق الاتصال الجنسي المُحرم . تباعدت مع مرور الأيام وفترت علاقته الوجودية بملاكه الرحيم الآنسة إيمان أزهري ،فلم يعد يألف رؤيتها في المساء عابرة فناء المستشفى الملكي وهي تحمل بين يديها كتب الطب الضخمة ومرجعه ؛ لقد كانت كعادتها الآسرة تعبر على الأشياء ولكنها لا تقف عندها , ترش ُعليه وعليها رزازاً من عطرها الأنثوي الصارخ ثم تمضى هكذا إلى حال سبيلها , ويذكر يومها أن الصاعقة ضربت بقوة جهازه النفسي والعصبي الدقيق والمتماسك عندما حدثه "سفيان خليل "بأنه قد راءها من خلال نافذة البص السفري السريع بميناء المدينة البري في ذلك الصباح الخريفي وهي طريقها إلى أهلها بالخرطوم .
ربما لن تعود إيمان أزهري مرة أخرى وربما تفعل من اجل أسباب جديدة غير مايعلم ويظن ويعتقد؛ لكن ليالي المدينة المطيرة ونهاراتها المُشمسة وكثير من حضور شخصية جده" عثمان "الاجتماعية القوية عليه وتربيته الفريدة له, ستدفعه ليتذكر دائما بقعة الضوء البيضاء التي تركتها في أعماقها بحيث يصعب عليه تجاوزها أو حتى نسيانها يوماً ما.
ديسمبر2009م
القضارف - السودان