عاطف عولي
26-02-2010, 07:40 AM
أنماط التعبير الصوفي في روايات الطيب صالح
أحمد إبراهيم أبوشوك (منقول من منتديات التوثيق العام للفائدة
يقول الناقد الفرنسي فيليب سولرس "إن الأثر الأدبي العظيم يتنفس برئة الدين"، لأن التعبير الديني في الفن الروائي، كما يرى البروفيسور إبراهيم محمد زين، هو الذي يبرز الصلة القائمة بين المطلق والمقيد (المتجذر). وتبدو هذه الصلة بين الاثنين بدخول المطلق إلى حيز التاريخ الذي يصنعه الإنسان في خلال توظيفه للعلاقة الجامعة بين الحق والخلق، وهنا تتمايز أنماط التوظيف البشري بين الديانات التي تسعى إلى تأليه الإنسان، والديانات التي تفصل بين إطلاقية الحق ونسبية الخلق. ويظهر هذا التواصل بين المطلق والمقيد جلياً في روايات الطيب الصالح التي ترتكن إلى الإرث الصوفي كوسيلة للبحث عن الحقيقة المطلقة في عالم الغيب، وكيفية توظيفها للعودة بالكون إلى صفائه، وانسجامه، وتصالح متناقضاته. والربط بين الطرفين يعكس مدى إلمام الراوي (الطيب صالح) بمدونات التصوف الكلاسيكية، وقدرته الفائقة على اصطحاب تجلياتها في قاموس الحياة السودانية، وذلك من خلال استدعائه للخطاب الصوفي المحلي إلى دائرة السرد الروائي العالمي، المشبعة بحوار البُعْد الصوفي المطلق مع الذات الإنسانية المقيدة. وبذلك يضحى توطين المطلق في حيز المقيد (المتجذر) سلوكاً جارحاً في رتابة الفعل البشري المألوفة؛ لأنه يسهم في توسيع أوعيتها المحلية وفق تطلعات البشارة الصوفية (الكرامة)، أو التجليات الأسطورية، الناقضة لغزل القوانين الاجتماعية وأنساقها المرعية. وعند هذا المنعطف تتبلور النظرة الكونية للأديب الطيب صالح، شاخصةً بكلياتها تجاه قيم التعايش الإنساني واستيعاب الآخر بتناقضاته المختلفة، ومتحديةً لجدلية التسلط الإنساني الرافضة لحقوق الآخر في العيش الكريم، وبهذه النظرة الاستعلائية يفقد التعايش الإنساني مضمونه الحضاري. لذا نلحظ أن التدافع الإنساني في روايات الطيب صالح يستمد شرعيته من الإرادة الإنسانية القوية المغايرة لأعراف الاجتماع البشري، والتي تجسد نمط المجاهدة الصوفية، أو بشائرها المتجاوزة لموروثات الفعل البشري ومضامينه الشرعية والاجتماعية.
تطرَّق الأستاذ إبراهيم محمد زين إلى هذه الخصومة والتصالح بين المطلق والمتجذر في روايات الطيب صالح من خلال مناقشته الرصينة والممتعة في آنٍ واحدٍ لمعاني الميلاد والزواج في محيط التعبير الديني الطقسي، وموقع ذلك التعبير الديني في النص الروائي وشبكة علاقاته الإنسانية المعقدة. أما الأستاذ رجاء النقَّاش (1935-2008م) فقد قدم قراءة ذهنية شاعرية لإشكالية الموت، وتجلياته الصوفية في فضاء الجزء الثاني من رواية مريود (بندرشاه). وفي هذا البحث نحاول أن نستدعي هذه القراءات النقدية الثاقبة للأستاذين زين والنقَّاش، ثم نسلط الضوء على أنماط التعبير الصوفي في روايات الطيب صالح من خلال ثلاث زوايا رئيسة، تجسد النمط الصوفي المرتبط بشرعية وجود الأشياء المحسوسة كـ"دومة ود حامد" في فضاء النص الروائي، ثم الإرادة الإنسانية القوية المسكونة بقيم الهاجس الصوفي كمواقف مريم "القُنْديّل"، وسعيها في طلب العلم، ثم إصرارها على طلب الزواج من مريود. وأخيراً نناقش معنى الموت وتجلياته الصوفية في رحيل بلال الطوعي من ود حامد الرمز إلى دار البقاء، ونصطحب ذلك بانتقال مريوم العُرسي الذي كان يعبر عن "موت حُلم" في أقصى تجلياته الصوفية. ثم نتوج هذه السياحة في ثنايا السرد الروائي المدهش وطقوسه المصاحبة بقراءة تحليلية للبُعد الصوفي خارج موسيقى النص الروائي، مستأنسين في ذلك بسلوك الراوي (الطيب صالح) الممزوج بالحس الصوفي، ومنهجه الحياتي المُشبَّع بنفحات القُوم.
دومة ود حامد بين جدلية الباطن والظاهر
ود حامد هي قرية ريفية رمز، تحمل بين ثناياها تناقضات المجتمع الإنساني البسيط، وفي أحشائها ثنائية الريف والحضر، وقيم الماضي والحاضر والمستقبل، وإشكاليات التحديث ورد الفعل التقليدي الموازي لها، وفوق هذا وذاك تعيش قرية ود حامد مثقلة بإسقاطات العلاقة الجدلية بين المطلق والمقيد، وكيفية توظيفها في فضاءات الصراع البشري. وإذا أمعنا النظر في ود حامد من كُوة السرد الروائي نلمح أنها مطوقة في صعيدها بحلة القوز، حيث يقطن عرب الكبابيش، والهواوير، والمريصاب الوافدين من كردفان، وفي وسطها بمساكن أهلها الطيبين ومقابرهم، وفي سافلها بمجرى النيل وحقوله الغناءة ومراتع ضروعه الحوالب، وفوق الضريح، والأرض المزروعة، والبيوت، والمقبرة، تتمدد دومة ود حامد شامخةً، كأنها "عقاباً خرافياً باسطٌ جناحيه على البلد بكل ما فيها". والدومة لا يوجد أحد يدعي أنه زرعها، بل "أغلب الظن أنها نمت وحدها"، في "أرض حجرية مسطحة مرتفعة ارتفاعاً بيناً على ضفة النهر، كأنها قاعدة تمثال، والنهر يتلوى تحتها، كأنه ثعبان مقدس من آلهة المصريين القديمة". ويجزم جميع أهل ود حامد أنهم لم يروها "على غير حالتها التي ... [هي] عليها الآن". وإن الشيخ ود حامد الذي حملت القرية اسمه يقال إنه كان "في الزمن السالف مملوكاً لرجل فاسق، وكان من أولياء الله الصالحين، يتكتم إيمانه، لا يجرؤ على الصلاة جهاراً حتى لا يفتك به سيده الفاسق. ولما ضاق ذرعاً بحياته مع ذلك الكافر، دعا الله أن ينقذه منه. فهتف به هاتف أن أفرش مصلاتك على الماء، فإذا وقفت بك على الشاطئ فأنزل. وقفت به المصلاة عند موضع الدومة الآن، وكان مكاناً خراباً". وبعد ذلك الميلاد الصوفي أضحى ود حامد يظهر في أحلام الناس ومجالس أنسهم في صورة "رجل صبوح الوجه، له لحية بيضاء غزيرة، قد غطت صدره، رداؤه أبيض ناصع، وفي يده سبحة من الكهرمان"، لكنهم لا يعرفون أين يسكن هذا الرجل الصالح، ومن أين يأتي، وإلى أي جيل ينتمي. أما قرية ود حامد فكذاب "من يقول لك أنه يعرف تاريخ نشأتها. البلاد الأخرى تبدأ صغيرة ثم تكبر. ولكن [ود حامد] قامت دفعة واحدة. وأهلها لا يزيد عددهم ولا ينقص، وهيأتها لا تتغير".
بَيْدَ أن هذا الغياب الحسي للشيخ ود حامد، لم يؤثر في حضوره الدائم في ذاكرة الناس الجمعية وعقولهم الباطنة، وأحلامهم التي تشبه أحلام اليقظة. و يحضرنا في هذا المقام الحُلم الذي روته إحدى السيدات لصاحبة لها، قائلة: "كأنني في مركب سائر في مضيق البحر، فإذا مددتُ يديَّ مسستُ الشاطئ في كلا الجانبين. وكنتُ أرى نفسي على قمة موجة هوجاء تحملني حتى أكاد أمس السحاب، ثم تهوي بي في قاع سحيق مظلم ... رأيتُ على الشاطئ دومة ود حامد. ووقف القارب تحت الدومة، وخرج منه الرجل قَبْلِي، فربط القارب، ومد لي يده فأخرجني. ثم ضربني برفق بسبحته على كتفي، والتقط من الأرض دومة وضعها في يدي. والتفتُ فلم أجده". فتشَّهدت الصاحبة واستغفرت لربها، ثم قالت مفسرة الحُلم: إن الرجل الذي كان معك في القارب هو "ود حامد .. تمرضين مرضاً تشرفين منه على الموت. لكنك تشفين منه. تلزمك الكرامة لود حامد تحت الدومة"، وبجوار الضريح.
أما زيارة ضريح ود حامد فكانت تمثل بُعداً آخر في منظومة الصراع بين القديم والحديث، فلعل رفض الأهالي إنشاء محطة للباخرة الأسبوعية بجوار الدومة، يمثل شاهداً قوياً في هذا المضمار؛ علماً بأن حجتهم كانت دافعة بأن مواعيد الباخرة تتعارض مع مواعيد زيارتهم الأسبوعية، يوم الأربعاء عصراً، إلى ضريح ود حامد، والتي يصطحبون فيها نساءهم وأطفالهم، ويذبحون تحت ظلال الدومه الوارفة نذورهم المنذورة، تثميناً لفيض صاحب الضريح عليهم. فاقترح موظف الحكومة عليهم، في طيب خاطر يماس القشامة، بأن يغيروا مواعيد الزيارة الأسبوعية، دون أن يدرك أنه لو قال: "لأولئك الرجال في تلك اللحظة أن كلاً منهم ابن حرام، لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك. فهبوا لتوهم هبة رجل واحد، وعصفوا بالرجل، وكادوا يفتكون به". ونتيجة لذلك الموقف العفوي المتشدد والممزوج بمحبة الأهالي لضريح ود حامد أضحت الباخرة لا تقف في قريتهم التي آثر سكانها امتطاء حُمرهم الأهلية إلى المحطات القريبة على ضفة النيل اليسرى بدلاً من أن يغيروا مواعيد زيارة الضريح التي توارثوها أباً عن جد، وهم غير نادمين على ذلك، ولا على رفضهم لمقترح الحكومة بإنشاء محطة للباخرة الأسبوعية في قريتهم.
لا جدال أن هذا الحادث يؤكد علو كعب رجال الحقيقة على أهل السلطان، ويثبت أن شأن الضريح الديني والاجتماعي يضاهي دور المجلس في تلك القرية القصية، وبشارات أهل القوم أشد وقعاً في نفوس الناس من قرارات الحكام. ويبدو أن الكاتب قد استدعى ذلك التأثير الصوفي من طبقات ود ضيف الله في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، التي تثمن علو شأن رجال الحقيقة على علماء الشريعة وأهل السلطان. وأبلغ شاهد في هذا المقام هو السجال الديني الذي جرت حلقاته في جامع أربجي بوسط السودان بين الشيخ محمد الهميم ود عبد الصادق الركابي وقاضي العدالة دشين، فكانت النُّصرة لصالح الشيخ محمد الهميم وسلوكه الاجتماعي المستند إلى تزكية الشيخ إدريس ود الأرباب، علماً بأن الشيخ الهميم تجاوز في زيجاته الأربع، وجمع بين الأختين. لكن الطريف في الأمر أن جمهور الحاضرين ناصروا الشيخ في كشفه الصوفي، القائم على تجليات الباطن، وبخسوا حكم قاضي العدالة دشين المسترشد بثوابت الشرع الظاهرة.
ويتجسد هذا الموقف نفسه في ود حامد، حيث تحظى المؤسسة الصوفية بتأييد السواد الأعظم من الأهلين؛ لأنهم كانوا يعتقدون في صلاح الشيخ الحنين الذي "كان رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة. يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم، ثم يحمل أبريقه ومصلاته ويضرب مصعداً في الصحراء، ويغيب ستة أشهر، ثم يعود. لا يدري أحد إلى أين ذهب. ولكن الناس يتناقلون قصصاً غريبة عنه. يحلف أحدهم أنه رآه في مروي في زمن معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده في كَرْمَة في ذلك الوقت نفسه، وبين البلدين مسيرة ستة أيام". وفي المقابل يبخسون كيل الإمام الأزهري الذي عينته الحكومة إماماً راتباً لمسجدهم العتيق في ود حامد، ولا ينادونه باسمه؛ لأنه في نظرهم ليس شخصاً، بل مؤسسة لها هدفها المرسوم في القرية. ومن ثم يصفونه بأنه رجل ملحاح، ومتزمت، وكثير الكلام، ويحتقرونه في دخيلتهم؛ لأنه "كان الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملاً واضحاً ...لم يكن له حقل يزرعه، ولا تجارة يهتم بها، ولكنه كان يعيش على تعليم الصبيان، وله في كل بيت ضريبة مفروضة، يدفعها الناس عن غير طيب خاطر". ويعلق زعيم القرية محجوب عن واقع الإمام بينهم بكلمات موجزات، مفادها أن الإمام "راجل صعب. لا يأخذ ولا يدي" في أحاديثهم وقضاياهم التي تهم شأنهم المحلى وواقع قرية ود حامد؛ ولكن شغله الشاغل يتمركز حول تتبع أخبار العالم في الصحف والإذاعات وصراع الأضداد وحروباتهم.
ومن القضايا التي تعكس طرفاً من أطراف هذا النزاع الذي كان قائماً بين رجال الحقيقة وفقهاء الشريعة في ود حامد قصة زواج الزين، الذي تصفه أمه بالولاية والصلاح، ويعُده أهل ود حامد رسول حب، ينقل عطره من مكان إلى مكان؛ لأن حب الحِسان كان يبدأ به، وينتهي بصاحب حظوة آخر، يقطف ثمار ذلك الحب. فشأن الزين في هذا المقام كشأن "سمسار، أو دلال، أو ساعي بريد"، فعندما يلهج لسانه بذكر الفتاة المقتول في حبها، "يصبح اسمها حيثما كان، فلا تلبث الآذان أن ترهف، وما تلبث العيون أن تنتبه، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد[ها]". هذا السلوك الوظيفي الذي أضحى سلوكاً محموداً في ود حامد جعل الناس يساومون بين خِلْقَة الزين الدميمة وسلوكه المنبوذ أحياناً، ويرجحون الظن بأنه "نبي الله الخضر" أو ملاكٌ أنزله "الله في هيكل آدمي زري، ليذكِّر عباده أن القلب الكبير قد يخفق؛ حتى في الصدر المجوف، والسمت المضحك، كصدر الزين وسمته". وتتجه نظرة الشيخ الحنين في الاتجاه ذاته؛ لأنه يصف الزين بـ "المبروك"، ويَعِدَه بأنه سيتزوج أجمل حسناوات القرية، ويؤثر صحبته على مجالسة الآخرين. الأمر الذي جعل محجوب يحس بخفقة قلب، لأنه كان يدرك في عقله الباطن أن "نبوءات ... النساك لا تذهب هدراً"، ولكنه في الوقت نفسه كان يخاطب شعوره الذاتي بصفته زعيم لقرية ود وحامد، فـ"يقول بصوت مرتفع فيه رنة احتقار: "منو البتعرس البهيم دا؟ داير يجيب لنا جنيه". أما موقف الإمام فهو موقف نشاز من موقف المؤسسة الصوفية وسواد القرية المناصرين لها؛ لأنه كان معارضاً لزواج الزين من الآنسة نعمة بنت حاج إبراهيم، الشابة المتنورة والدارسة للقرآن، بحجة أن الزين إنسان غير كفؤ، و"إن الناس أفسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ"، وإن القول بأنه "ولي صالح حديث خرافة، وأنه لو ربي تربية حسنة لنشأ عادياً كبقية الناس".
في ظل هذا الصراع الخفي بين المؤسستين الدينيتين حول عُرس الزين، صدعت حليمة بائعة اللبن بالقول الذي كان يمثل ضمير ود حامد النابض، عندما أخبرت زبونتها آمنه: "بأن نعمة رأت الحنين في منامها. فقال لها: "عرسي الزين. التعرس الزين ما بتندم". وأصبحت الفتاة، فحدثت أباها وأمها، فأجمعوا على الأمر. فهذا الحُلم يمثل انتصاراً حقيقياً للمؤسسة الصوفية في ود حامد؛ لأن عرس الزين من نعمة بنت حاج إبراهيم جمع بين إرادة نعمة الإنسانية القوية في اتخاذ القرار، والبشارة الصوفية التي اقنعت الرأي العام بشرعية ذلك الاختيار الذي كان مرفوضاً من وجهة نظر بعض وجهاء القوم وأهل عصبية نعمة؛ إلا أنهم كظموا غيظهم، وأذعنوا لموقف المؤسسة الصوفية التي تقف خلف قرار نعمة بنت حاج إبراهيم الجريء والشجاع. هكذا كان دور المؤسسة الصوفية فاعلاً في تغير الأنساق الاجتماعية في قرية ود حامد، وتلك الفاعلية حسب قراءة إبراهيم محمد زين هي التي أعطت الزين الدرويش، وسيف الدين بن البدوي العابث بإرث والده الديني والاجتماعي ميلاداً اجتماعياً جديداً في قرية ود حامد.
الإرادة الإنسانية وشرعية التغيير الصوفي
أحدث الطيب صالح نقلة نوعية في الأدب الروائي العربي، عندما انتقل من عالم الواقعية التقليدي إلى المشهد الصوفي والأسطوري في تصوير سلوكيات شخصياته الروائية، التي تجسد أنماطاً حياتيةً مختلفةً في جدل الماضي والحاضر والمستقبل، وتتفاعل مع موروثات التاريخ الثقافي في قالبها المحلي وانبساطها العالمي القائم على ثلة من المتناقضات. فلا مندوحة أن هذه النقلة النوعية قد أضفت على النص المروي نوعاً من الحركة والتجدد في إطار الفعل الإنساني المقيد بقيم الواقع الاجتماعي؛ لأن الراوي كان يحاول دوماً أن يصنع التحدي ويبعث الاستجابة داخل نسيج النص الروائي، وكانت الاستجابة في كثير من الأحيان تأتي في شكل إرادة إنسانية قادحة في موروثات الواقع المعيش، وأحياناً معضدة بالسند الصوفي الذي يجسد إرادة الله في الأرض.
فهذا النمط الصوفي المتدثر بجدلية التحدي البشري والاستجابة الصوفية كان حاضراً حضوراً كثيفاً في سيرة حسناء الريف، "حواء بنت العربي"، التي هبطت إلى ود حامد من ديار الكبابيش مع أبويها في سنوات قحط وجدب. "فماتا عنها، وبقيت وحدها، تمشط وتغزل، وتعمل في دور الميسورين في البلد. ووصفوا أن وجهها كان كفلق الصباح، وشعرها أسود كالليل، مُسدل فوق ظهرها إلى عجيرتها، وأنها كانت فرعاء لفَّاء، طويلة رموش العينين، أسيلة الخدين، كأن في فمها مشتار عسل، وأنها كانت مع ذلك شديدة الذكاء، قوية العين، مهذاراً، حلوة الحديث، متبرجة، في حديثها شيء من تفحش وتغنج. فأرادها الكثيرون. ومنهم بعض علاة أهل البلد، فتمنعت واعتصمت، ولم تقبل منهم طالب حلال، أو حرام".
لعمري هذه لوحة شاعرية مدهشة وموحية بالجمال عن حواء بنت العربي، التي لم يقعدها شقاء الحال الظاهري، ويُتْم الأبوين، والإغراءات المادية، من أن تؤثر وجدها الصوفي ومحبتها الباسقة إلى بلال، الذي "كانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته، فلا يرد عليها، ولا يجاوبها"؛ إلا أنها هامت به هياماً كاد يذهب عقلها، ولكن عندما أعيتها الحيلة في إقناع الحبيب الناسك الذي كان يرى في تبادل حبها بحب انصراف بغيض إلى شأن الحال الدنيوي، اتصلت بالشيخ نصر الله ود حبيب، وشكت له وجدها المكلوم في بيداء حبيبها الناسك. فأشار الشيخ نصر الله على بلال أن يتزوج حواء بنت العربي؛ لأن زواجها ربما يجسد طرفاً من إرادة الله سبحانه وتعالى في الأرض. فرد عليه صاحبنا في طوعٍ مشوب بالحياء: "يا سيدي روحي فداك. لكن لا تخفى عليك خافية من أحوال عبدك المسكين. أنا ماشي في دروب أهل الحضرة، وأنت تأمرني بأفعال أهل الدنيا". فأردف الشيخ نصر الله حجته السابقة بحجة أقوى منها، مفادها: "يا بلال. إن دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة. مشيئة الحق غامضة. يا بلال، إن حب بعض العباد من حب الله، وهذه المسكينة تحبك حباً لا أجده من جنس حب أهل الدنيا، فعسى الحق أن يكون أرسلها إليك لأمر أراده. عساه جلت مشيئته أراد لك أن تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك، فإما صحوت وانقطع سبيلك، وإما ازددت ظمأ إلى كأس الحب السرمدي، ويكون سبحانه وتعالى قد أنفذ مشيئته بإذلالك في إرادته القصوي".
لا مرية أنها حجةً صوفيةً شامخةً، شموخاً يلامس نهايات حب حواء بنت العربي إلى بلال، وإرادتها القوية الناهضة نحو إقناعه، وبالفعل صدقت العزيمة الصوفية عندما تزوج بلالاً حواء، زواجاً كانت غايته إرضاء الشيخ نصر الله الذي أعلن بلال فداءه بروحه. هكذا حدث زواج حواء بنت العربي على صيغة غير قابلة للتأبيد؛ لأن بلالاً لم يجتمع بعروسه البكر "إلا ليلة واحدة، بعدها استأذن شيخه أن يسمح له بأن يبرئ ذمته منها، فأذن له". فكانت تلك الليلة اليتيمة ليلة سُعدٍ بالنسبة لحواء بنت العربي؛ لأنها حبلت من بلال، فأنجبت ابنها الوحيد الطاهر ود الرواسي. وبعد ذلك "أبت أن تدخل على رجل آخر، وانصرفت لتربية ابنها، فكان شأنها في ذلك شأن المتصوفة العاكفين. وذكروا أنها لما رحلت عن الدنيا، وهي تناهز السبعين، كانت على أبهى هيئتها وحسنها، لم ينقص من جمالها مثقال ذرة، ولم يغير الزمن منها مقدار شعرة، فكأن تصاريفه كانت في حصن حصين".
يتبع
أحمد إبراهيم أبوشوك (منقول من منتديات التوثيق العام للفائدة
يقول الناقد الفرنسي فيليب سولرس "إن الأثر الأدبي العظيم يتنفس برئة الدين"، لأن التعبير الديني في الفن الروائي، كما يرى البروفيسور إبراهيم محمد زين، هو الذي يبرز الصلة القائمة بين المطلق والمقيد (المتجذر). وتبدو هذه الصلة بين الاثنين بدخول المطلق إلى حيز التاريخ الذي يصنعه الإنسان في خلال توظيفه للعلاقة الجامعة بين الحق والخلق، وهنا تتمايز أنماط التوظيف البشري بين الديانات التي تسعى إلى تأليه الإنسان، والديانات التي تفصل بين إطلاقية الحق ونسبية الخلق. ويظهر هذا التواصل بين المطلق والمقيد جلياً في روايات الطيب الصالح التي ترتكن إلى الإرث الصوفي كوسيلة للبحث عن الحقيقة المطلقة في عالم الغيب، وكيفية توظيفها للعودة بالكون إلى صفائه، وانسجامه، وتصالح متناقضاته. والربط بين الطرفين يعكس مدى إلمام الراوي (الطيب صالح) بمدونات التصوف الكلاسيكية، وقدرته الفائقة على اصطحاب تجلياتها في قاموس الحياة السودانية، وذلك من خلال استدعائه للخطاب الصوفي المحلي إلى دائرة السرد الروائي العالمي، المشبعة بحوار البُعْد الصوفي المطلق مع الذات الإنسانية المقيدة. وبذلك يضحى توطين المطلق في حيز المقيد (المتجذر) سلوكاً جارحاً في رتابة الفعل البشري المألوفة؛ لأنه يسهم في توسيع أوعيتها المحلية وفق تطلعات البشارة الصوفية (الكرامة)، أو التجليات الأسطورية، الناقضة لغزل القوانين الاجتماعية وأنساقها المرعية. وعند هذا المنعطف تتبلور النظرة الكونية للأديب الطيب صالح، شاخصةً بكلياتها تجاه قيم التعايش الإنساني واستيعاب الآخر بتناقضاته المختلفة، ومتحديةً لجدلية التسلط الإنساني الرافضة لحقوق الآخر في العيش الكريم، وبهذه النظرة الاستعلائية يفقد التعايش الإنساني مضمونه الحضاري. لذا نلحظ أن التدافع الإنساني في روايات الطيب صالح يستمد شرعيته من الإرادة الإنسانية القوية المغايرة لأعراف الاجتماع البشري، والتي تجسد نمط المجاهدة الصوفية، أو بشائرها المتجاوزة لموروثات الفعل البشري ومضامينه الشرعية والاجتماعية.
تطرَّق الأستاذ إبراهيم محمد زين إلى هذه الخصومة والتصالح بين المطلق والمتجذر في روايات الطيب صالح من خلال مناقشته الرصينة والممتعة في آنٍ واحدٍ لمعاني الميلاد والزواج في محيط التعبير الديني الطقسي، وموقع ذلك التعبير الديني في النص الروائي وشبكة علاقاته الإنسانية المعقدة. أما الأستاذ رجاء النقَّاش (1935-2008م) فقد قدم قراءة ذهنية شاعرية لإشكالية الموت، وتجلياته الصوفية في فضاء الجزء الثاني من رواية مريود (بندرشاه). وفي هذا البحث نحاول أن نستدعي هذه القراءات النقدية الثاقبة للأستاذين زين والنقَّاش، ثم نسلط الضوء على أنماط التعبير الصوفي في روايات الطيب صالح من خلال ثلاث زوايا رئيسة، تجسد النمط الصوفي المرتبط بشرعية وجود الأشياء المحسوسة كـ"دومة ود حامد" في فضاء النص الروائي، ثم الإرادة الإنسانية القوية المسكونة بقيم الهاجس الصوفي كمواقف مريم "القُنْديّل"، وسعيها في طلب العلم، ثم إصرارها على طلب الزواج من مريود. وأخيراً نناقش معنى الموت وتجلياته الصوفية في رحيل بلال الطوعي من ود حامد الرمز إلى دار البقاء، ونصطحب ذلك بانتقال مريوم العُرسي الذي كان يعبر عن "موت حُلم" في أقصى تجلياته الصوفية. ثم نتوج هذه السياحة في ثنايا السرد الروائي المدهش وطقوسه المصاحبة بقراءة تحليلية للبُعد الصوفي خارج موسيقى النص الروائي، مستأنسين في ذلك بسلوك الراوي (الطيب صالح) الممزوج بالحس الصوفي، ومنهجه الحياتي المُشبَّع بنفحات القُوم.
دومة ود حامد بين جدلية الباطن والظاهر
ود حامد هي قرية ريفية رمز، تحمل بين ثناياها تناقضات المجتمع الإنساني البسيط، وفي أحشائها ثنائية الريف والحضر، وقيم الماضي والحاضر والمستقبل، وإشكاليات التحديث ورد الفعل التقليدي الموازي لها، وفوق هذا وذاك تعيش قرية ود حامد مثقلة بإسقاطات العلاقة الجدلية بين المطلق والمقيد، وكيفية توظيفها في فضاءات الصراع البشري. وإذا أمعنا النظر في ود حامد من كُوة السرد الروائي نلمح أنها مطوقة في صعيدها بحلة القوز، حيث يقطن عرب الكبابيش، والهواوير، والمريصاب الوافدين من كردفان، وفي وسطها بمساكن أهلها الطيبين ومقابرهم، وفي سافلها بمجرى النيل وحقوله الغناءة ومراتع ضروعه الحوالب، وفوق الضريح، والأرض المزروعة، والبيوت، والمقبرة، تتمدد دومة ود حامد شامخةً، كأنها "عقاباً خرافياً باسطٌ جناحيه على البلد بكل ما فيها". والدومة لا يوجد أحد يدعي أنه زرعها، بل "أغلب الظن أنها نمت وحدها"، في "أرض حجرية مسطحة مرتفعة ارتفاعاً بيناً على ضفة النهر، كأنها قاعدة تمثال، والنهر يتلوى تحتها، كأنه ثعبان مقدس من آلهة المصريين القديمة". ويجزم جميع أهل ود حامد أنهم لم يروها "على غير حالتها التي ... [هي] عليها الآن". وإن الشيخ ود حامد الذي حملت القرية اسمه يقال إنه كان "في الزمن السالف مملوكاً لرجل فاسق، وكان من أولياء الله الصالحين، يتكتم إيمانه، لا يجرؤ على الصلاة جهاراً حتى لا يفتك به سيده الفاسق. ولما ضاق ذرعاً بحياته مع ذلك الكافر، دعا الله أن ينقذه منه. فهتف به هاتف أن أفرش مصلاتك على الماء، فإذا وقفت بك على الشاطئ فأنزل. وقفت به المصلاة عند موضع الدومة الآن، وكان مكاناً خراباً". وبعد ذلك الميلاد الصوفي أضحى ود حامد يظهر في أحلام الناس ومجالس أنسهم في صورة "رجل صبوح الوجه، له لحية بيضاء غزيرة، قد غطت صدره، رداؤه أبيض ناصع، وفي يده سبحة من الكهرمان"، لكنهم لا يعرفون أين يسكن هذا الرجل الصالح، ومن أين يأتي، وإلى أي جيل ينتمي. أما قرية ود حامد فكذاب "من يقول لك أنه يعرف تاريخ نشأتها. البلاد الأخرى تبدأ صغيرة ثم تكبر. ولكن [ود حامد] قامت دفعة واحدة. وأهلها لا يزيد عددهم ولا ينقص، وهيأتها لا تتغير".
بَيْدَ أن هذا الغياب الحسي للشيخ ود حامد، لم يؤثر في حضوره الدائم في ذاكرة الناس الجمعية وعقولهم الباطنة، وأحلامهم التي تشبه أحلام اليقظة. و يحضرنا في هذا المقام الحُلم الذي روته إحدى السيدات لصاحبة لها، قائلة: "كأنني في مركب سائر في مضيق البحر، فإذا مددتُ يديَّ مسستُ الشاطئ في كلا الجانبين. وكنتُ أرى نفسي على قمة موجة هوجاء تحملني حتى أكاد أمس السحاب، ثم تهوي بي في قاع سحيق مظلم ... رأيتُ على الشاطئ دومة ود حامد. ووقف القارب تحت الدومة، وخرج منه الرجل قَبْلِي، فربط القارب، ومد لي يده فأخرجني. ثم ضربني برفق بسبحته على كتفي، والتقط من الأرض دومة وضعها في يدي. والتفتُ فلم أجده". فتشَّهدت الصاحبة واستغفرت لربها، ثم قالت مفسرة الحُلم: إن الرجل الذي كان معك في القارب هو "ود حامد .. تمرضين مرضاً تشرفين منه على الموت. لكنك تشفين منه. تلزمك الكرامة لود حامد تحت الدومة"، وبجوار الضريح.
أما زيارة ضريح ود حامد فكانت تمثل بُعداً آخر في منظومة الصراع بين القديم والحديث، فلعل رفض الأهالي إنشاء محطة للباخرة الأسبوعية بجوار الدومة، يمثل شاهداً قوياً في هذا المضمار؛ علماً بأن حجتهم كانت دافعة بأن مواعيد الباخرة تتعارض مع مواعيد زيارتهم الأسبوعية، يوم الأربعاء عصراً، إلى ضريح ود حامد، والتي يصطحبون فيها نساءهم وأطفالهم، ويذبحون تحت ظلال الدومه الوارفة نذورهم المنذورة، تثميناً لفيض صاحب الضريح عليهم. فاقترح موظف الحكومة عليهم، في طيب خاطر يماس القشامة، بأن يغيروا مواعيد الزيارة الأسبوعية، دون أن يدرك أنه لو قال: "لأولئك الرجال في تلك اللحظة أن كلاً منهم ابن حرام، لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك. فهبوا لتوهم هبة رجل واحد، وعصفوا بالرجل، وكادوا يفتكون به". ونتيجة لذلك الموقف العفوي المتشدد والممزوج بمحبة الأهالي لضريح ود حامد أضحت الباخرة لا تقف في قريتهم التي آثر سكانها امتطاء حُمرهم الأهلية إلى المحطات القريبة على ضفة النيل اليسرى بدلاً من أن يغيروا مواعيد زيارة الضريح التي توارثوها أباً عن جد، وهم غير نادمين على ذلك، ولا على رفضهم لمقترح الحكومة بإنشاء محطة للباخرة الأسبوعية في قريتهم.
لا جدال أن هذا الحادث يؤكد علو كعب رجال الحقيقة على أهل السلطان، ويثبت أن شأن الضريح الديني والاجتماعي يضاهي دور المجلس في تلك القرية القصية، وبشارات أهل القوم أشد وقعاً في نفوس الناس من قرارات الحكام. ويبدو أن الكاتب قد استدعى ذلك التأثير الصوفي من طبقات ود ضيف الله في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، التي تثمن علو شأن رجال الحقيقة على علماء الشريعة وأهل السلطان. وأبلغ شاهد في هذا المقام هو السجال الديني الذي جرت حلقاته في جامع أربجي بوسط السودان بين الشيخ محمد الهميم ود عبد الصادق الركابي وقاضي العدالة دشين، فكانت النُّصرة لصالح الشيخ محمد الهميم وسلوكه الاجتماعي المستند إلى تزكية الشيخ إدريس ود الأرباب، علماً بأن الشيخ الهميم تجاوز في زيجاته الأربع، وجمع بين الأختين. لكن الطريف في الأمر أن جمهور الحاضرين ناصروا الشيخ في كشفه الصوفي، القائم على تجليات الباطن، وبخسوا حكم قاضي العدالة دشين المسترشد بثوابت الشرع الظاهرة.
ويتجسد هذا الموقف نفسه في ود حامد، حيث تحظى المؤسسة الصوفية بتأييد السواد الأعظم من الأهلين؛ لأنهم كانوا يعتقدون في صلاح الشيخ الحنين الذي "كان رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة. يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم، ثم يحمل أبريقه ومصلاته ويضرب مصعداً في الصحراء، ويغيب ستة أشهر، ثم يعود. لا يدري أحد إلى أين ذهب. ولكن الناس يتناقلون قصصاً غريبة عنه. يحلف أحدهم أنه رآه في مروي في زمن معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده في كَرْمَة في ذلك الوقت نفسه، وبين البلدين مسيرة ستة أيام". وفي المقابل يبخسون كيل الإمام الأزهري الذي عينته الحكومة إماماً راتباً لمسجدهم العتيق في ود حامد، ولا ينادونه باسمه؛ لأنه في نظرهم ليس شخصاً، بل مؤسسة لها هدفها المرسوم في القرية. ومن ثم يصفونه بأنه رجل ملحاح، ومتزمت، وكثير الكلام، ويحتقرونه في دخيلتهم؛ لأنه "كان الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملاً واضحاً ...لم يكن له حقل يزرعه، ولا تجارة يهتم بها، ولكنه كان يعيش على تعليم الصبيان، وله في كل بيت ضريبة مفروضة، يدفعها الناس عن غير طيب خاطر". ويعلق زعيم القرية محجوب عن واقع الإمام بينهم بكلمات موجزات، مفادها أن الإمام "راجل صعب. لا يأخذ ولا يدي" في أحاديثهم وقضاياهم التي تهم شأنهم المحلى وواقع قرية ود حامد؛ ولكن شغله الشاغل يتمركز حول تتبع أخبار العالم في الصحف والإذاعات وصراع الأضداد وحروباتهم.
ومن القضايا التي تعكس طرفاً من أطراف هذا النزاع الذي كان قائماً بين رجال الحقيقة وفقهاء الشريعة في ود حامد قصة زواج الزين، الذي تصفه أمه بالولاية والصلاح، ويعُده أهل ود حامد رسول حب، ينقل عطره من مكان إلى مكان؛ لأن حب الحِسان كان يبدأ به، وينتهي بصاحب حظوة آخر، يقطف ثمار ذلك الحب. فشأن الزين في هذا المقام كشأن "سمسار، أو دلال، أو ساعي بريد"، فعندما يلهج لسانه بذكر الفتاة المقتول في حبها، "يصبح اسمها حيثما كان، فلا تلبث الآذان أن ترهف، وما تلبث العيون أن تنتبه، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد[ها]". هذا السلوك الوظيفي الذي أضحى سلوكاً محموداً في ود حامد جعل الناس يساومون بين خِلْقَة الزين الدميمة وسلوكه المنبوذ أحياناً، ويرجحون الظن بأنه "نبي الله الخضر" أو ملاكٌ أنزله "الله في هيكل آدمي زري، ليذكِّر عباده أن القلب الكبير قد يخفق؛ حتى في الصدر المجوف، والسمت المضحك، كصدر الزين وسمته". وتتجه نظرة الشيخ الحنين في الاتجاه ذاته؛ لأنه يصف الزين بـ "المبروك"، ويَعِدَه بأنه سيتزوج أجمل حسناوات القرية، ويؤثر صحبته على مجالسة الآخرين. الأمر الذي جعل محجوب يحس بخفقة قلب، لأنه كان يدرك في عقله الباطن أن "نبوءات ... النساك لا تذهب هدراً"، ولكنه في الوقت نفسه كان يخاطب شعوره الذاتي بصفته زعيم لقرية ود وحامد، فـ"يقول بصوت مرتفع فيه رنة احتقار: "منو البتعرس البهيم دا؟ داير يجيب لنا جنيه". أما موقف الإمام فهو موقف نشاز من موقف المؤسسة الصوفية وسواد القرية المناصرين لها؛ لأنه كان معارضاً لزواج الزين من الآنسة نعمة بنت حاج إبراهيم، الشابة المتنورة والدارسة للقرآن، بحجة أن الزين إنسان غير كفؤ، و"إن الناس أفسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ"، وإن القول بأنه "ولي صالح حديث خرافة، وأنه لو ربي تربية حسنة لنشأ عادياً كبقية الناس".
في ظل هذا الصراع الخفي بين المؤسستين الدينيتين حول عُرس الزين، صدعت حليمة بائعة اللبن بالقول الذي كان يمثل ضمير ود حامد النابض، عندما أخبرت زبونتها آمنه: "بأن نعمة رأت الحنين في منامها. فقال لها: "عرسي الزين. التعرس الزين ما بتندم". وأصبحت الفتاة، فحدثت أباها وأمها، فأجمعوا على الأمر. فهذا الحُلم يمثل انتصاراً حقيقياً للمؤسسة الصوفية في ود حامد؛ لأن عرس الزين من نعمة بنت حاج إبراهيم جمع بين إرادة نعمة الإنسانية القوية في اتخاذ القرار، والبشارة الصوفية التي اقنعت الرأي العام بشرعية ذلك الاختيار الذي كان مرفوضاً من وجهة نظر بعض وجهاء القوم وأهل عصبية نعمة؛ إلا أنهم كظموا غيظهم، وأذعنوا لموقف المؤسسة الصوفية التي تقف خلف قرار نعمة بنت حاج إبراهيم الجريء والشجاع. هكذا كان دور المؤسسة الصوفية فاعلاً في تغير الأنساق الاجتماعية في قرية ود حامد، وتلك الفاعلية حسب قراءة إبراهيم محمد زين هي التي أعطت الزين الدرويش، وسيف الدين بن البدوي العابث بإرث والده الديني والاجتماعي ميلاداً اجتماعياً جديداً في قرية ود حامد.
الإرادة الإنسانية وشرعية التغيير الصوفي
أحدث الطيب صالح نقلة نوعية في الأدب الروائي العربي، عندما انتقل من عالم الواقعية التقليدي إلى المشهد الصوفي والأسطوري في تصوير سلوكيات شخصياته الروائية، التي تجسد أنماطاً حياتيةً مختلفةً في جدل الماضي والحاضر والمستقبل، وتتفاعل مع موروثات التاريخ الثقافي في قالبها المحلي وانبساطها العالمي القائم على ثلة من المتناقضات. فلا مندوحة أن هذه النقلة النوعية قد أضفت على النص المروي نوعاً من الحركة والتجدد في إطار الفعل الإنساني المقيد بقيم الواقع الاجتماعي؛ لأن الراوي كان يحاول دوماً أن يصنع التحدي ويبعث الاستجابة داخل نسيج النص الروائي، وكانت الاستجابة في كثير من الأحيان تأتي في شكل إرادة إنسانية قادحة في موروثات الواقع المعيش، وأحياناً معضدة بالسند الصوفي الذي يجسد إرادة الله في الأرض.
فهذا النمط الصوفي المتدثر بجدلية التحدي البشري والاستجابة الصوفية كان حاضراً حضوراً كثيفاً في سيرة حسناء الريف، "حواء بنت العربي"، التي هبطت إلى ود حامد من ديار الكبابيش مع أبويها في سنوات قحط وجدب. "فماتا عنها، وبقيت وحدها، تمشط وتغزل، وتعمل في دور الميسورين في البلد. ووصفوا أن وجهها كان كفلق الصباح، وشعرها أسود كالليل، مُسدل فوق ظهرها إلى عجيرتها، وأنها كانت فرعاء لفَّاء، طويلة رموش العينين، أسيلة الخدين، كأن في فمها مشتار عسل، وأنها كانت مع ذلك شديدة الذكاء، قوية العين، مهذاراً، حلوة الحديث، متبرجة، في حديثها شيء من تفحش وتغنج. فأرادها الكثيرون. ومنهم بعض علاة أهل البلد، فتمنعت واعتصمت، ولم تقبل منهم طالب حلال، أو حرام".
لعمري هذه لوحة شاعرية مدهشة وموحية بالجمال عن حواء بنت العربي، التي لم يقعدها شقاء الحال الظاهري، ويُتْم الأبوين، والإغراءات المادية، من أن تؤثر وجدها الصوفي ومحبتها الباسقة إلى بلال، الذي "كانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته، فلا يرد عليها، ولا يجاوبها"؛ إلا أنها هامت به هياماً كاد يذهب عقلها، ولكن عندما أعيتها الحيلة في إقناع الحبيب الناسك الذي كان يرى في تبادل حبها بحب انصراف بغيض إلى شأن الحال الدنيوي، اتصلت بالشيخ نصر الله ود حبيب، وشكت له وجدها المكلوم في بيداء حبيبها الناسك. فأشار الشيخ نصر الله على بلال أن يتزوج حواء بنت العربي؛ لأن زواجها ربما يجسد طرفاً من إرادة الله سبحانه وتعالى في الأرض. فرد عليه صاحبنا في طوعٍ مشوب بالحياء: "يا سيدي روحي فداك. لكن لا تخفى عليك خافية من أحوال عبدك المسكين. أنا ماشي في دروب أهل الحضرة، وأنت تأمرني بأفعال أهل الدنيا". فأردف الشيخ نصر الله حجته السابقة بحجة أقوى منها، مفادها: "يا بلال. إن دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة. مشيئة الحق غامضة. يا بلال، إن حب بعض العباد من حب الله، وهذه المسكينة تحبك حباً لا أجده من جنس حب أهل الدنيا، فعسى الحق أن يكون أرسلها إليك لأمر أراده. عساه جلت مشيئته أراد لك أن تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك، فإما صحوت وانقطع سبيلك، وإما ازددت ظمأ إلى كأس الحب السرمدي، ويكون سبحانه وتعالى قد أنفذ مشيئته بإذلالك في إرادته القصوي".
لا مرية أنها حجةً صوفيةً شامخةً، شموخاً يلامس نهايات حب حواء بنت العربي إلى بلال، وإرادتها القوية الناهضة نحو إقناعه، وبالفعل صدقت العزيمة الصوفية عندما تزوج بلالاً حواء، زواجاً كانت غايته إرضاء الشيخ نصر الله الذي أعلن بلال فداءه بروحه. هكذا حدث زواج حواء بنت العربي على صيغة غير قابلة للتأبيد؛ لأن بلالاً لم يجتمع بعروسه البكر "إلا ليلة واحدة، بعدها استأذن شيخه أن يسمح له بأن يبرئ ذمته منها، فأذن له". فكانت تلك الليلة اليتيمة ليلة سُعدٍ بالنسبة لحواء بنت العربي؛ لأنها حبلت من بلال، فأنجبت ابنها الوحيد الطاهر ود الرواسي. وبعد ذلك "أبت أن تدخل على رجل آخر، وانصرفت لتربية ابنها، فكان شأنها في ذلك شأن المتصوفة العاكفين. وذكروا أنها لما رحلت عن الدنيا، وهي تناهز السبعين، كانت على أبهى هيئتها وحسنها، لم ينقص من جمالها مثقال ذرة، ولم يغير الزمن منها مقدار شعرة، فكأن تصاريفه كانت في حصن حصين".
يتبع