حسن سادة
11-07-2011, 12:15 AM
1
لا أدري لما تقفز إلى ذهني مراراً كلمات
رائعة الفنان ابراهيم حسين الشهيرة التي تقول مطلعها:
" وين وين كنت وين؟
لما العمر كانت سنينهُ مخضّرة
جيتني بعد العمر راح
الريدة جات متأخرة"
كلما أمسكت بيراعي كي أسطر يوميات السماني (السوداني) في الغربة،،،
ولا أدري أيضاً أين كان السماني يوم كانت للغربة إلى دول المهجر بشكل عام
وإلى دول الخليج النفطية على وجه الخصوص بريقاً خاصاً
بدءاً من منتصف السبعينات ومروراً بالتسعينات من القرن الماضي
حينما كانت الظروف الاقتصادية طاحنة ومريرة في سوداننا العزيز
وكانت لدول الإغتراب بهرجها وألقها الوهاج!!!
لست أدري!! وما الذي دعاه يقدم إلى هذه الفكرة المجنون
وقد شبه أحدهم من يود الإغتراب في دول الخليج في الآونة الأخيرة بأنه كمن يأتي إلى مكان الحفل في منتصف الليل ويجد أن الصبية يهمون بجمع الكراسي وفك أسلاك المايكرفون بينما تقف ثلة من فلول المدعوات ينتظرن قدوم البص وقد شارفت الشمس إلى الشروق!!
المهم أن السماني قد وجد نفسه بغتة وقد سئم العمل فراشاً في بلدية بحري لسنوات طويلة لم يجن منها سوى الهم والغم على حد تعبيره وإختمر في ذهنه فكرة الإغتراب بعد أن بلغ من العمر عتياً وشارف خريف العمر أو كاد وبدت تباشيره المزعجة من ضغط وكوريسترول وروماتيزوم (حمانا الله) وقدم إلى الرياض بفيزة عمل وسرعان ما حالفه الحظ ووجد عملاً في شركة سعودية خاصة في وظيفة فراش وقد كان سعيداً بهذه الوظيفة وما أن تشرق شمس كل يوم يستيقظ متثاقلاً من نومه ويهرول إلى العمل ليقوم بتنظيف مكاتب الشركة وإعداد الشاي والقهوة وما إلى ذلك غير أن الهاجس اليتيم الذي كان يقلقه ويقض مضجعه كان يكمن في عدم إلمامه بالعامية السعودية وكم من مرة كان يسخر منه صديقه تركي معقب الشركة الذي كان دوماً يجلس بجواره في غرفة إعداد الشاي ويرتشف كؤوس القهوة الواحدة تلو الأخرى ولا يكف عن الثرثرة والتشدق معه ولكنه ما كان يمل ويتذمر منه قط بل كان يداعبه أحياناً وهو يقول له:" يا تركي إنت زووول عيطة ساي"
" زول الله ما ناقش أي حاجة في الدنيا دي،، عليك الله كلامي ده مو نصيح؟" فيجيبه تركي وهو يساعده أحياناً في رص فناجين الشاي في الأرفف العلوية:" عز الله إنك إنت اللي مو تفتهم شيء أبد" وذات مرة كان السماني منهمكاً في تنظيف غرفة الشاي والسعادة تغمره وتصفو مزاجه وهو يدندن مردداً بصوت خفيض:
" حبيبي تعال تعال نتلم ،،
مادام الريد إختلط بالدم،،
أنا ذنبي إيه شيلوني الهم
يا حبيبي"
فدخل عليه تركي خلسة كالقط وقد كان يسترق السمع
لهذه الأغنية فصاح في وجهه قائلاً:"
إنت ما تنقطنا بي سكاتك إنت
إيش فيك؟
ترى ذبحتنا وعورت رأسنا على الصبح"
وبعدين تعال هني إنت ما تقول ويش ها الدم اللي الإختلط
باللي ما أدري وإيش يسمونها دي؟؟؟
فأجابه السماني وهو يتجاهل سخريته:
" طيب هاك دي عشان تكون الناقصة وتمت"
وأخذ يردد وبصوت عال هذه المرة:
" حبيبي المنقة والتفاح
حبيبي عسل والناس مسّاخ
يا حبيبي"
فقال له تركي وهو يهم بالجلوس قبالة الثلاجة:
" والله ماكو مسيخ إلا أنت"
يا الله إنقرع وعطني قهوتي والله حول"
----------------
2
بينما كان السماني منهمكاً بصب الماء على غلاية الشاي وقد أمسك بيمناه فوطة بيضاء دخل عليه يحيى اليماني (سواق الشركة) ليخبره أن ضاحي (مدير شئون الموظفين في الشركة) يريد مقابلته فوراً فوضع الفوطة جانباً فوق المنضدة وأخذ يهرول مسرعاً إلى مكتب الأستاذ ضاحي وعندما دخل إليه وجده منشغلاً بتقليب بعض الدفاتر وقد جلست بجواره بنته الصغيرة حصة ولعله كان يهم بأخذها إلى عيادة الأطفال بعد قضاء بعضاً من أعماله المتراكمة ويبدو أنه لم ينتبه لوقع أقدام السماني فواصل في الإنشغال في تقليب الدفاتر فتنحنح السماني وقال له:" صباح الخير يا طويل العمر ،،، سعادتك عايز حاجة" فأجاب ضاحي وهو يضع الإضبارة في الدرج الخشبي:" هلا وغلا والله صباح الخير يا زول إيشلونك اليوم وإيشلون الورعان" فأجاب السماني:" الحمد لله عال العال والورعان ما عندهم عوجة تب طوالي قاعد أتصل بيهم بالتلفون يوماتي " فأعقب ضاحي وهو يعدل غترته:" تكفَى يا السمان عطني شاي حليب وجيب لي عصير راني من التلاجة عشان المحروسة هذي" فقال السماني :" حاضرين طال عمرك" وبينما كان يهم بالإنصراف لإعداد الطلبات أوقفه ضاحي قائلاً:" يا السماني ،، لحظة لو سمحت،،، ما شفت فهد، المدير المالي والله للحين ما جاء أصلي أعرفه زين ما يجي ها الوقت" فقال السماني:" حسع كان فايت بي هنا" وفجأة ضحكت الصغيرة وقالت نعم" فأخذ ضاحي يضحك بملء شدقيه فوجم السماني وملكته الحيرة والإندهاش المشوب بالحرج والإرتباك فأدرك ضاحي ذلك وقال له وهو يحاول جاهداً أن يخفف من إرتباكه: " إنت لمان قلت "حسع" بنتي حصة إفتكرتك بتناديها" ثم إنصرف السماني متجهاً إلى غرفته وعندما دخل فيها وجد صاحبه تركي (معقب الشركة) يقف وسط الغرفة وهو يقلب في الأدراج وقد أدار ظهره فقال له السماني مازحاً:
"فتاح يا حليم مالك قاعد تقلب في الأدراج دي من صباح الرحمن داير شنو؟ وبعدين إنت ما تقعد محترم في مكتبك وتطلب اللي إنت دايره ذي التانيين،، يعني لازم تجي هنا وتدوشني وأنا ما ناقص"
وفجأة صاح تركي قائلاً:" ويلك يا السماني وإيش حاط هنا وإيش داخل الكيس البلاستيكي هذا" فنهض السماني مذعوراً وهو ينتزع منه الكيس وهو يزجره:" إنتو الواحد فيكم لازم يقلب كل حاجة والله حاجة تغيظ ،،، عليك الله ناولني التمباك ده" فقال له تركي وهو يجذب منه كيس الصعوط: " والله ترى أعلم المدير ما تدري إنو الصعوط ممنوع هني في السعودية" فأخذ السماني يطبطب في كتفه قائلاً:" معقول يا تركي إنت تعمل كدة وتهون عليك الخوة والعشرة أنا عارفك راجل جنتل،،، يا سلام عليك يا أمير" فقال له تركي وهو يبتزه:" تراني ما أعطيك الصعوط إلا بشرط" فقال له السماني وهو يدس الكيس في جيبه:" أشرط يا لئيم" فقال له:" أنا كل مرة أقول ليك جيب لي كيس قونقليس من بقالات الغبيرة وإنت ما تسمع كلامي ،،، أصلو يقولون زين حق الكلى" فقال له السماني:
" والله أجيب ليك شوال كمان لو حبيت ومعاه لالوب كمان لو عايز"
------------
3
أخذ السماني في الصباح الباكر يدندن بصوت خفيض مردداً
رائعة الراحل المقيم خليل فرح:
" واحدين قالوا نور
واحدين قالوا دوب
مروي ما بتنور
ذي بدر التمام
مين يقوم يتهور
يبري القيف هناك
تحته الدابي كور
ذي بدر التمام "
وهو منهمك برش مكاتب الشركة بمعطر هواء برائحة
اللافندر (الخزامي) ولم تكن تعجبه تلك الرائحة التي تحاكي
رائحة البرسيم على حد تعبيره غير أن المدير
أصر عليه أن لا يستبدله بمعطر آخر وعندما فرغ من رش المعطر
ذهب إلى غرفة إعداد الشاي فقد شارفت الساعة إلى التاسعة
حيث تفتح الشركة أبوابها أمام الموظفين
وفجأة دخل عليه متعب رئيس السواقين في الشركة
وقد عض نواجزه بمسواك غليظ وأخذ يحييه قائلاً:
" السماني إيش لونك،،، صبحك الله بالخير
إيش فيك يا رجال للحين ما بَرَز الشاي والله إيش لون؟"
فقال له السماني وهو يمسك بغلاية الشاي بالفوطة البيضاء:
" أهلا وسهلاً وصباح الخير يا أخونا متعب"
أخير أكلمك حسع قبل ما أنسى،، اتصل بي المدير قبل شوية
وقال لي أذكرك عشان تمشي أول حاجة تجيب بريد الشركة وتجي بي سرعة"
فقال متعب:" ما عليه، حاضرين بس قبل عطني الشاي تكفى
عشان رأسي يعورني واجد الحين"
فقال له السماني:" والله إنت صحي السماك متعب ما كضب،،
أقول ليك المدير قاليك أمشي طوالي جيب البريد أول حاجة
وإنت قاعد تقول شاي وعوار راس أسمع الكلام وأمشي حسع
ولمان تجي حأعمل ليك الشاي اللي على مزاجك"
فإنطلق متعب مسرعاً نحو الخارج وهو يردد رائعة عبد المجيد عبد الله:
" احبك ليه انا مدري
ليه اهولك انا مدري
لو مرت على ذكراك
احس بنبض في صدري "
فقال السماني مازحاً:
" عاين الراجل ده فقد المنطق
كيفن ما بيعرف ليه بيحب "
وعندما شارفت الساعة على الواحدة ظهراً حسب التوقيت المحلي
لمدينة الرياض جلس السماني يتصفح واحدة من الصحف اليومية
التي لا تتثاءب ودخل عليه بغتة غسان السوري الجنسية (محاسب الشركة)
وقال له: " كيفك سماني منيح شو عامل؟ الظهر أذن والله بعدهُ"
فأجابه السماني وقد وضع الصحيفة جانباً فوق المنضدة:
" آي أذن من زمان"
فقال له غسان وعيناه تجوبان المكان كمن يبحث عن شيْ:
" صليت والله بعدك؟
فقال له السماني:
" صلينا صلاتنا وأدينا زكاتنا"
فسأله غسان مستغرباً:
شو عم بتحكي؟؟؟
" صليت صلاتك دي فهمناها والله يتقبل،
وشو يعني أديت زكاتك؟
فقال له السماني:
" ده نشيد عندنا هناك في السودان"
فسأله غسان مجدداً:
" السماني مين اللي شال الشحاطة من الحمام؟
فقال السماني:
" وتطلع شنو الشحاتة دي كمان!!
وإستطرد في الحديث وهو يتمتم سراً:
" يا حليلك يا شحاتة ود خالي"
فسأله غسان مستفسراً:
" شو عم بتبرطم في سرك؟
فأجاب السماني:
" لا أبداً،، سلامتك،،
بس إفتكرت شحاتة ود خالي في ليبيا"
فضحك غسان وقال له:
" أنا ما سألت عن شحاتة أنا سألت عن شحاطة
يعني شبشب عندكم أو سفنجات
فضحك السماني وقال:
" أكيد واحد من الشباب أخذه معاه الحمام"
--------------
4
جلس السماني في غرفة إعداد الشاي يتأمل عبر النافذة الزجاجية التي تطل على شارع العليا العام رتل السيارات الفارهة التي تجوب الشارع جيئة وإيابا وهو يرتشف فنجان الشاي الذي أعده لنفسه وفجأة دخل إليه متعب سائق الشركة وهو يلقي عليه تحية الصباح ويسأله بنبرة لا تخلو من المزاح:" إيش فيك يا السماني أشوفك سرحان كلش عسى اللي مآخذ عقلك يتهنابه،، وإيش قاعد تفكر ها الحين" فأجابه السماني وهو ينهض متثاقلاً ويضع الفنجان في حوض الغسيل:
" أفكر فيه وأتأمل
أراه اتجلى واتجمل
هلالى الهل واتكمل
تذكر عهدنا الأول
صحى الأيام بتتدول
قريب يوم داك وما طول
مضت لحظات ويا حليلها "
فقال له متعب ولعله لم يستوعب شيئاً مما قاله:
" يعني قاعد تفكر في الهلال ومباراته أمام الترجي
والله إيش لون؟
فقال السماني وهو يهم بتنظيف أرضية الغرفة:
" هلال شنو إنت كمان !
أخوك مريخابي على السكين
وبعدين تعال هنا إنت مالك ومالي أنا قاعد
أفكر في شنو،،، ما تشيل شاييك ده وتخطانا
إنت مالك نضمك كتير كده"
فخرج متعب وهو يتمتم قائلاً:
" أجلس بروحك هنيا وإتأمل مأسرح على هواك
أصلي ما كنت ناوي أجيلك هني
بس كنت طايف من هني وقلت أسلم عليك بس"
فقال السماني وهو يمازحه:
" أمشي يا أخي وفارقنا
طايف والله جدة"
وبعد هنيهة دخل على السماني في غرفة الشاي فهد
سواق المدير الخصوصي وقد حمل بيمناه كيساً بلاستيكياً
وأخذ ينادي في السماني قائلاً:
" هلا وغلا بالسماني، حيا الله النشمي والأجودي
ترى اليوم جايب لك هدية خاصة
خذها وأدعو لي بالخير"
فتناول السماني الكيس منه وسأله:
" شكراً يا أبو الفهود والله إنت اللي شهم وأصيل
لكين ما قلت لي :" الكيس ده فيه شنو"
فقال له فهد أفتح وطالع بنفسك:
ففتح السماني الكيس بلهفة بالغة فوجد فيها تمراً شهياً
وأخذ يشكره قائلاً :" يا أخي جزاك الله خيراً
وإن شاء الله ما عدمناك يا طيب
أكيد جبت لي التمر ده من نسايبك في الإحساء
أخبارهم كيف إن شاء الله يكونوا كويسن؟
فقال فهد وهو يأخذ تمرة ويتذوقها:
" والله الحمد الله زينين توهم راجعين من العمرة"
فقاطعه السماني قائلاً:
" أسمع إنت جيت في وقتك،،،
أنا كنت دايرك تكتب لي بأسلوبك البليغ
وخطك الجميل ده،، طلب لي سعادة
المدير عشان يزيد راتبي الشهري"
فقال له فهد:
" من عيني التنتين وعلى ها الخشم"
لا أدري لما تقفز إلى ذهني مراراً كلمات
رائعة الفنان ابراهيم حسين الشهيرة التي تقول مطلعها:
" وين وين كنت وين؟
لما العمر كانت سنينهُ مخضّرة
جيتني بعد العمر راح
الريدة جات متأخرة"
كلما أمسكت بيراعي كي أسطر يوميات السماني (السوداني) في الغربة،،،
ولا أدري أيضاً أين كان السماني يوم كانت للغربة إلى دول المهجر بشكل عام
وإلى دول الخليج النفطية على وجه الخصوص بريقاً خاصاً
بدءاً من منتصف السبعينات ومروراً بالتسعينات من القرن الماضي
حينما كانت الظروف الاقتصادية طاحنة ومريرة في سوداننا العزيز
وكانت لدول الإغتراب بهرجها وألقها الوهاج!!!
لست أدري!! وما الذي دعاه يقدم إلى هذه الفكرة المجنون
وقد شبه أحدهم من يود الإغتراب في دول الخليج في الآونة الأخيرة بأنه كمن يأتي إلى مكان الحفل في منتصف الليل ويجد أن الصبية يهمون بجمع الكراسي وفك أسلاك المايكرفون بينما تقف ثلة من فلول المدعوات ينتظرن قدوم البص وقد شارفت الشمس إلى الشروق!!
المهم أن السماني قد وجد نفسه بغتة وقد سئم العمل فراشاً في بلدية بحري لسنوات طويلة لم يجن منها سوى الهم والغم على حد تعبيره وإختمر في ذهنه فكرة الإغتراب بعد أن بلغ من العمر عتياً وشارف خريف العمر أو كاد وبدت تباشيره المزعجة من ضغط وكوريسترول وروماتيزوم (حمانا الله) وقدم إلى الرياض بفيزة عمل وسرعان ما حالفه الحظ ووجد عملاً في شركة سعودية خاصة في وظيفة فراش وقد كان سعيداً بهذه الوظيفة وما أن تشرق شمس كل يوم يستيقظ متثاقلاً من نومه ويهرول إلى العمل ليقوم بتنظيف مكاتب الشركة وإعداد الشاي والقهوة وما إلى ذلك غير أن الهاجس اليتيم الذي كان يقلقه ويقض مضجعه كان يكمن في عدم إلمامه بالعامية السعودية وكم من مرة كان يسخر منه صديقه تركي معقب الشركة الذي كان دوماً يجلس بجواره في غرفة إعداد الشاي ويرتشف كؤوس القهوة الواحدة تلو الأخرى ولا يكف عن الثرثرة والتشدق معه ولكنه ما كان يمل ويتذمر منه قط بل كان يداعبه أحياناً وهو يقول له:" يا تركي إنت زووول عيطة ساي"
" زول الله ما ناقش أي حاجة في الدنيا دي،، عليك الله كلامي ده مو نصيح؟" فيجيبه تركي وهو يساعده أحياناً في رص فناجين الشاي في الأرفف العلوية:" عز الله إنك إنت اللي مو تفتهم شيء أبد" وذات مرة كان السماني منهمكاً في تنظيف غرفة الشاي والسعادة تغمره وتصفو مزاجه وهو يدندن مردداً بصوت خفيض:
" حبيبي تعال تعال نتلم ،،
مادام الريد إختلط بالدم،،
أنا ذنبي إيه شيلوني الهم
يا حبيبي"
فدخل عليه تركي خلسة كالقط وقد كان يسترق السمع
لهذه الأغنية فصاح في وجهه قائلاً:"
إنت ما تنقطنا بي سكاتك إنت
إيش فيك؟
ترى ذبحتنا وعورت رأسنا على الصبح"
وبعدين تعال هني إنت ما تقول ويش ها الدم اللي الإختلط
باللي ما أدري وإيش يسمونها دي؟؟؟
فأجابه السماني وهو يتجاهل سخريته:
" طيب هاك دي عشان تكون الناقصة وتمت"
وأخذ يردد وبصوت عال هذه المرة:
" حبيبي المنقة والتفاح
حبيبي عسل والناس مسّاخ
يا حبيبي"
فقال له تركي وهو يهم بالجلوس قبالة الثلاجة:
" والله ماكو مسيخ إلا أنت"
يا الله إنقرع وعطني قهوتي والله حول"
----------------
2
بينما كان السماني منهمكاً بصب الماء على غلاية الشاي وقد أمسك بيمناه فوطة بيضاء دخل عليه يحيى اليماني (سواق الشركة) ليخبره أن ضاحي (مدير شئون الموظفين في الشركة) يريد مقابلته فوراً فوضع الفوطة جانباً فوق المنضدة وأخذ يهرول مسرعاً إلى مكتب الأستاذ ضاحي وعندما دخل إليه وجده منشغلاً بتقليب بعض الدفاتر وقد جلست بجواره بنته الصغيرة حصة ولعله كان يهم بأخذها إلى عيادة الأطفال بعد قضاء بعضاً من أعماله المتراكمة ويبدو أنه لم ينتبه لوقع أقدام السماني فواصل في الإنشغال في تقليب الدفاتر فتنحنح السماني وقال له:" صباح الخير يا طويل العمر ،،، سعادتك عايز حاجة" فأجاب ضاحي وهو يضع الإضبارة في الدرج الخشبي:" هلا وغلا والله صباح الخير يا زول إيشلونك اليوم وإيشلون الورعان" فأجاب السماني:" الحمد لله عال العال والورعان ما عندهم عوجة تب طوالي قاعد أتصل بيهم بالتلفون يوماتي " فأعقب ضاحي وهو يعدل غترته:" تكفَى يا السمان عطني شاي حليب وجيب لي عصير راني من التلاجة عشان المحروسة هذي" فقال السماني :" حاضرين طال عمرك" وبينما كان يهم بالإنصراف لإعداد الطلبات أوقفه ضاحي قائلاً:" يا السماني ،، لحظة لو سمحت،،، ما شفت فهد، المدير المالي والله للحين ما جاء أصلي أعرفه زين ما يجي ها الوقت" فقال السماني:" حسع كان فايت بي هنا" وفجأة ضحكت الصغيرة وقالت نعم" فأخذ ضاحي يضحك بملء شدقيه فوجم السماني وملكته الحيرة والإندهاش المشوب بالحرج والإرتباك فأدرك ضاحي ذلك وقال له وهو يحاول جاهداً أن يخفف من إرتباكه: " إنت لمان قلت "حسع" بنتي حصة إفتكرتك بتناديها" ثم إنصرف السماني متجهاً إلى غرفته وعندما دخل فيها وجد صاحبه تركي (معقب الشركة) يقف وسط الغرفة وهو يقلب في الأدراج وقد أدار ظهره فقال له السماني مازحاً:
"فتاح يا حليم مالك قاعد تقلب في الأدراج دي من صباح الرحمن داير شنو؟ وبعدين إنت ما تقعد محترم في مكتبك وتطلب اللي إنت دايره ذي التانيين،، يعني لازم تجي هنا وتدوشني وأنا ما ناقص"
وفجأة صاح تركي قائلاً:" ويلك يا السماني وإيش حاط هنا وإيش داخل الكيس البلاستيكي هذا" فنهض السماني مذعوراً وهو ينتزع منه الكيس وهو يزجره:" إنتو الواحد فيكم لازم يقلب كل حاجة والله حاجة تغيظ ،،، عليك الله ناولني التمباك ده" فقال له تركي وهو يجذب منه كيس الصعوط: " والله ترى أعلم المدير ما تدري إنو الصعوط ممنوع هني في السعودية" فأخذ السماني يطبطب في كتفه قائلاً:" معقول يا تركي إنت تعمل كدة وتهون عليك الخوة والعشرة أنا عارفك راجل جنتل،،، يا سلام عليك يا أمير" فقال له تركي وهو يبتزه:" تراني ما أعطيك الصعوط إلا بشرط" فقال له السماني وهو يدس الكيس في جيبه:" أشرط يا لئيم" فقال له:" أنا كل مرة أقول ليك جيب لي كيس قونقليس من بقالات الغبيرة وإنت ما تسمع كلامي ،،، أصلو يقولون زين حق الكلى" فقال له السماني:
" والله أجيب ليك شوال كمان لو حبيت ومعاه لالوب كمان لو عايز"
------------
3
أخذ السماني في الصباح الباكر يدندن بصوت خفيض مردداً
رائعة الراحل المقيم خليل فرح:
" واحدين قالوا نور
واحدين قالوا دوب
مروي ما بتنور
ذي بدر التمام
مين يقوم يتهور
يبري القيف هناك
تحته الدابي كور
ذي بدر التمام "
وهو منهمك برش مكاتب الشركة بمعطر هواء برائحة
اللافندر (الخزامي) ولم تكن تعجبه تلك الرائحة التي تحاكي
رائحة البرسيم على حد تعبيره غير أن المدير
أصر عليه أن لا يستبدله بمعطر آخر وعندما فرغ من رش المعطر
ذهب إلى غرفة إعداد الشاي فقد شارفت الساعة إلى التاسعة
حيث تفتح الشركة أبوابها أمام الموظفين
وفجأة دخل عليه متعب رئيس السواقين في الشركة
وقد عض نواجزه بمسواك غليظ وأخذ يحييه قائلاً:
" السماني إيش لونك،،، صبحك الله بالخير
إيش فيك يا رجال للحين ما بَرَز الشاي والله إيش لون؟"
فقال له السماني وهو يمسك بغلاية الشاي بالفوطة البيضاء:
" أهلا وسهلاً وصباح الخير يا أخونا متعب"
أخير أكلمك حسع قبل ما أنسى،، اتصل بي المدير قبل شوية
وقال لي أذكرك عشان تمشي أول حاجة تجيب بريد الشركة وتجي بي سرعة"
فقال متعب:" ما عليه، حاضرين بس قبل عطني الشاي تكفى
عشان رأسي يعورني واجد الحين"
فقال له السماني:" والله إنت صحي السماك متعب ما كضب،،
أقول ليك المدير قاليك أمشي طوالي جيب البريد أول حاجة
وإنت قاعد تقول شاي وعوار راس أسمع الكلام وأمشي حسع
ولمان تجي حأعمل ليك الشاي اللي على مزاجك"
فإنطلق متعب مسرعاً نحو الخارج وهو يردد رائعة عبد المجيد عبد الله:
" احبك ليه انا مدري
ليه اهولك انا مدري
لو مرت على ذكراك
احس بنبض في صدري "
فقال السماني مازحاً:
" عاين الراجل ده فقد المنطق
كيفن ما بيعرف ليه بيحب "
وعندما شارفت الساعة على الواحدة ظهراً حسب التوقيت المحلي
لمدينة الرياض جلس السماني يتصفح واحدة من الصحف اليومية
التي لا تتثاءب ودخل عليه بغتة غسان السوري الجنسية (محاسب الشركة)
وقال له: " كيفك سماني منيح شو عامل؟ الظهر أذن والله بعدهُ"
فأجابه السماني وقد وضع الصحيفة جانباً فوق المنضدة:
" آي أذن من زمان"
فقال له غسان وعيناه تجوبان المكان كمن يبحث عن شيْ:
" صليت والله بعدك؟
فقال له السماني:
" صلينا صلاتنا وأدينا زكاتنا"
فسأله غسان مستغرباً:
شو عم بتحكي؟؟؟
" صليت صلاتك دي فهمناها والله يتقبل،
وشو يعني أديت زكاتك؟
فقال له السماني:
" ده نشيد عندنا هناك في السودان"
فسأله غسان مجدداً:
" السماني مين اللي شال الشحاطة من الحمام؟
فقال السماني:
" وتطلع شنو الشحاتة دي كمان!!
وإستطرد في الحديث وهو يتمتم سراً:
" يا حليلك يا شحاتة ود خالي"
فسأله غسان مستفسراً:
" شو عم بتبرطم في سرك؟
فأجاب السماني:
" لا أبداً،، سلامتك،،
بس إفتكرت شحاتة ود خالي في ليبيا"
فضحك غسان وقال له:
" أنا ما سألت عن شحاتة أنا سألت عن شحاطة
يعني شبشب عندكم أو سفنجات
فضحك السماني وقال:
" أكيد واحد من الشباب أخذه معاه الحمام"
--------------
4
جلس السماني في غرفة إعداد الشاي يتأمل عبر النافذة الزجاجية التي تطل على شارع العليا العام رتل السيارات الفارهة التي تجوب الشارع جيئة وإيابا وهو يرتشف فنجان الشاي الذي أعده لنفسه وفجأة دخل إليه متعب سائق الشركة وهو يلقي عليه تحية الصباح ويسأله بنبرة لا تخلو من المزاح:" إيش فيك يا السماني أشوفك سرحان كلش عسى اللي مآخذ عقلك يتهنابه،، وإيش قاعد تفكر ها الحين" فأجابه السماني وهو ينهض متثاقلاً ويضع الفنجان في حوض الغسيل:
" أفكر فيه وأتأمل
أراه اتجلى واتجمل
هلالى الهل واتكمل
تذكر عهدنا الأول
صحى الأيام بتتدول
قريب يوم داك وما طول
مضت لحظات ويا حليلها "
فقال له متعب ولعله لم يستوعب شيئاً مما قاله:
" يعني قاعد تفكر في الهلال ومباراته أمام الترجي
والله إيش لون؟
فقال السماني وهو يهم بتنظيف أرضية الغرفة:
" هلال شنو إنت كمان !
أخوك مريخابي على السكين
وبعدين تعال هنا إنت مالك ومالي أنا قاعد
أفكر في شنو،،، ما تشيل شاييك ده وتخطانا
إنت مالك نضمك كتير كده"
فخرج متعب وهو يتمتم قائلاً:
" أجلس بروحك هنيا وإتأمل مأسرح على هواك
أصلي ما كنت ناوي أجيلك هني
بس كنت طايف من هني وقلت أسلم عليك بس"
فقال السماني وهو يمازحه:
" أمشي يا أخي وفارقنا
طايف والله جدة"
وبعد هنيهة دخل على السماني في غرفة الشاي فهد
سواق المدير الخصوصي وقد حمل بيمناه كيساً بلاستيكياً
وأخذ ينادي في السماني قائلاً:
" هلا وغلا بالسماني، حيا الله النشمي والأجودي
ترى اليوم جايب لك هدية خاصة
خذها وأدعو لي بالخير"
فتناول السماني الكيس منه وسأله:
" شكراً يا أبو الفهود والله إنت اللي شهم وأصيل
لكين ما قلت لي :" الكيس ده فيه شنو"
فقال له فهد أفتح وطالع بنفسك:
ففتح السماني الكيس بلهفة بالغة فوجد فيها تمراً شهياً
وأخذ يشكره قائلاً :" يا أخي جزاك الله خيراً
وإن شاء الله ما عدمناك يا طيب
أكيد جبت لي التمر ده من نسايبك في الإحساء
أخبارهم كيف إن شاء الله يكونوا كويسن؟
فقال فهد وهو يأخذ تمرة ويتذوقها:
" والله الحمد الله زينين توهم راجعين من العمرة"
فقاطعه السماني قائلاً:
" أسمع إنت جيت في وقتك،،،
أنا كنت دايرك تكتب لي بأسلوبك البليغ
وخطك الجميل ده،، طلب لي سعادة
المدير عشان يزيد راتبي الشهري"
فقال له فهد:
" من عيني التنتين وعلى ها الخشم"