آلاء عبد الرحمن
31-03-2012, 02:46 AM
السعادة ...
للشيخ الأديب : علي الطنطاوي
كنت أقرأ في ترجمة ( كانت ) الفيلسوف الألماني الأشهر أنه كان لجاره ديك قد وضعه قبالة مكتبه ،
فكلما عَمِدَ إلى شغله صاح الديك ، فأزعجه عن عمله ، وقطع عليه فكره.
فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ، ويذبحه ويطعمه من لحمه ، ودعا إلى ذلك صديقاً له ،
وقعدا ينتظران الغداء ، ويحدِّثه عن هذا الديك ، وما كان يلقى منه من إزعاج ،
وما وجده بعده من لذة وراحة ؛ ففكر في أمان ، واشتغل في هدوء ، فلم يقلقه صوته ، ولم يزعجه صياحه.
ودخل الخادم بالطعام معتذراً أن الجار أبى أن يبيع ديكه ، فاشترى غيره من السوق ، فانتبه ( كانت) فإذا الديك لايزال يصيح !
فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِي بهذا الديك لأنه كان يصيح ، وسَعِدَ به وهو لايزال يصيح .
.ما تبدّل الواقع ، ما تبدّل إلا نفسه ، فنفسه هي التي أشقته لا الديك ، ونفسه في التي أسعدته ،
وقلت : ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا ؟
ومادامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنّا ؛ إذ نمشي من غير طريقها ، ونلجها من غير بابها ؟
.إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته ، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك ؛
لأن الأرض مملوءة بالدِيَكة ، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن رفعها من الأرض ؟
لماذا لا نسدُّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدّ أفواهها عنّا ؟
لماذا لا نجعل أهواءنا وفقَ ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض ، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو ،
ولا أبواق السيارات وهي تُسمع الموتى ، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة ، وخطوة على ثراها خفيفة ،
فإذا نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي ،
فإذا كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي ،
ولا صوت القطار وهو يهتز بي ؛ فكيف احتملت هنا مالم أكن أحتمله هناك ؟ وآلمني هناك مالم يؤلمني هنا ؟
ذلك لأن الحسّ كالنور ، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره ،
وإن حجبته حجب الأشياء عنك ، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى ،
وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخْفَت ؛ لأنك وجَّهت إلى هذا حسَّك ، وأدخلته نفسك ؛
فسمعته على خُفُوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء ، وأغْفَلتَ ذلك وأخرجته من نفسك ،
فلم تَسْمَعه على شدته ، وخَفِي عنك كما تختفي في الظلام عظائمُ الموجودات.
.فلماذا لا تصرف حسّك عن كل مكروه ؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك ،
ولكن ما أدخلته أنت برضاك ، وقَبِلتَه باختيارك ، كما يُدْخِل الملك العدوّ قلعته بثغرة يتركها في سورها ،
فلماذا لا نقوِّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام ؟
إني أسمعكم تتهامسون، تقولون : 'فلسفة وأوهام' ؟ نعم ، إنها فلسفة ،
ولكن ليست كل فلسفة هذيانا ، وإنها أوهام ،
ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص ، ونسعد بها ونشقى ، أو شيء كالأوهام
للشيخ الأديب : علي الطنطاوي
كنت أقرأ في ترجمة ( كانت ) الفيلسوف الألماني الأشهر أنه كان لجاره ديك قد وضعه قبالة مكتبه ،
فكلما عَمِدَ إلى شغله صاح الديك ، فأزعجه عن عمله ، وقطع عليه فكره.
فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ، ويذبحه ويطعمه من لحمه ، ودعا إلى ذلك صديقاً له ،
وقعدا ينتظران الغداء ، ويحدِّثه عن هذا الديك ، وما كان يلقى منه من إزعاج ،
وما وجده بعده من لذة وراحة ؛ ففكر في أمان ، واشتغل في هدوء ، فلم يقلقه صوته ، ولم يزعجه صياحه.
ودخل الخادم بالطعام معتذراً أن الجار أبى أن يبيع ديكه ، فاشترى غيره من السوق ، فانتبه ( كانت) فإذا الديك لايزال يصيح !
فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِي بهذا الديك لأنه كان يصيح ، وسَعِدَ به وهو لايزال يصيح .
.ما تبدّل الواقع ، ما تبدّل إلا نفسه ، فنفسه هي التي أشقته لا الديك ، ونفسه في التي أسعدته ،
وقلت : ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا ؟
ومادامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنّا ؛ إذ نمشي من غير طريقها ، ونلجها من غير بابها ؟
.إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته ، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك ؛
لأن الأرض مملوءة بالدِيَكة ، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن رفعها من الأرض ؟
لماذا لا نسدُّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدّ أفواهها عنّا ؟
لماذا لا نجعل أهواءنا وفقَ ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض ، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو ،
ولا أبواق السيارات وهي تُسمع الموتى ، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة ، وخطوة على ثراها خفيفة ،
فإذا نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي ،
فإذا كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي ،
ولا صوت القطار وهو يهتز بي ؛ فكيف احتملت هنا مالم أكن أحتمله هناك ؟ وآلمني هناك مالم يؤلمني هنا ؟
ذلك لأن الحسّ كالنور ، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره ،
وإن حجبته حجب الأشياء عنك ، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى ،
وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخْفَت ؛ لأنك وجَّهت إلى هذا حسَّك ، وأدخلته نفسك ؛
فسمعته على خُفُوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء ، وأغْفَلتَ ذلك وأخرجته من نفسك ،
فلم تَسْمَعه على شدته ، وخَفِي عنك كما تختفي في الظلام عظائمُ الموجودات.
.فلماذا لا تصرف حسّك عن كل مكروه ؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك ،
ولكن ما أدخلته أنت برضاك ، وقَبِلتَه باختيارك ، كما يُدْخِل الملك العدوّ قلعته بثغرة يتركها في سورها ،
فلماذا لا نقوِّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام ؟
إني أسمعكم تتهامسون، تقولون : 'فلسفة وأوهام' ؟ نعم ، إنها فلسفة ،
ولكن ليست كل فلسفة هذيانا ، وإنها أوهام ،
ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص ، ونسعد بها ونشقى ، أو شيء كالأوهام