تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تثاؤب عاطفي .. أو رحلة الهجرة إليها



ياسر فقيري
10-03-2005, 04:51 PM
بدأ التثاؤب العاطفي عندي عندما غادرت مطار الخرطوم للمرة الأولى في سفر طويل قد يتجاوز العشرون شهراً بقليل .. وعندما لامست أجنحة الطائرة عنان السحاب كانت العاطفة عندي قد دخلت في البيات الهجري .. وقد يمر بمخيلتك أن العاطفة عندي بها ضعف أو إنها في حالة موات .. كلا .. فقلة من يحملون بعض ما أحمل من العاطفة .. وأعيذها بالله من الذاتية .. فأنا في أيام الدونجوانية والدونكيشوتية كنت أستطيع أن أحب أكثر من واحدة في نفس الوقت وبنفس القوة ودون أن أخطئ مع واحدة فأعطيها مشاعر الأخرى إذ إن النساء يختلفن في كل شيء غير أنهن يتفقن في تمييز رائحة المرأة الأخرى في أحاسيسك .. هكذا كنت أنا والعاطفة في عنفوانها كما الأزرق .. ولكن عندما تغلب العقل عليها وروضها صارت تكتفي من الحب بالكفاف .. ولكنها ما تلبث أن تثور قائلة .. فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ..
- كما الشطة - والمتبلات تزيد الأكل شهية وإن ضعفت قيمته الغذائية .. كذا الإناث فحديثهن ولقائهن يلهب الأجواء من حولك .. كذب من يقول إن اللقاءات الأثيرية أو الإنترنتية أو غيرها من وسائل التواصل الحديثة يكون لها نفس الأثر المباشر حال التلاقي .. فالعين وسرعة ارتداد البصر إليها توحي بمعنى غير المعنى الذي توحي به إذا ما بطِأ ارتدادها .. كما أن بريق العينين يختلف ما بين اللهفة والشوق والضجر والاستياء .. كل هذه المشاعر التي تُقرأ في تعابير الوجه لا يستطيع الصوت الأثيري عكس حقيقتها ..
- كل تلك المتغيرات أدت بالتأكيد إلى ذلك البيات الهجري الذي أعقب التثاؤب العاطفي .. لامست عجلات الطائرة الأرض الجديدة التي رسمت لها ما للغربة من ملامح .. وكانت كما توقعتها تماماً شاحبة بعكس ما يشاع عنها .. تمتطي السرعة ركوباً بلا ما يدعو إليها .. زائغ بصرها لما لم تستطع الوصول إليه - مع العلم إنها لم تكمل ما بيدها من جديد – تلك هي مدينة الأحلام .. وعذراً إن كانت ضائعة .. الرياض .. إنها كما قلت شاحبة ذات الشحوب الذي بداخلي لمفارقة الوطن بما يحوي .. لا جديد فيها إلا الموت المتسارع الذي يجري على أربع ..
- في هذه المدينة الوقت دائماً يؤكد لك قرب حلول الساعة فما أن تصلِ الصبح حتى يؤذن للعشاء .. وما أن تحج .. حتى يتم الليلة تحري رؤية هلال رمضان .. وهكذا حتى وجدتني أمر بنفس تلك الخطوات وإن اختلفت الصالة فبعد أن كانت قدوماً أصبحت مغادرة .. في تلك اللحظات رأيتني كما ذلك الحصان الذي شد إلى عربة .. مع اختلاف الجار والمجرور .. والحامل والمحمول ..
- كما يخلع الضرس – علماً بأني لم أجربه – أقلعت تلك الطائرة وكأنما كانت تلك المدينة الشاحبة تشدنا إلى عذاباتها .. أو كأنها استساغت أرواحنا في العذاب ..
- وبقدرة قادر خرجنا من طياتها إلى سماوات أرحب تبدو فيها الرؤية أكثر إئتلاقاً .. ومرة أخرى كانت تلامس أجنحة الطائرة بالسحاب .. مع اختلاف الحالين في كل .. حيث بدأ هذا التلامس أكثر من كونه طبيعي .. بدأ ذوبان الجليد العاطفي الذي غطى القلب طوال النيف وعشرون من الشهور التي كان فيها البيات الهجري العاطفي .. ما أن وطئت أرواحنا سماء الوطن حتى انهمرت عواطفنا سيلاً .. دافقاً .. كاسحاً - شوق لكل جميل في الحي .. شوق للشينة لو صعبة - أود لو احتضن تلك المضيفة على الرغم من قبحها الذي لا تخطئه الأنوف .. وتلك الجالسة بقربي وتحمل نفس ما أحمل من تفجر عاطفي عاصف .. وهي تنظر إلى كل الوجوه تود لو تحتضنها جميعاً بلا تمييز .. وإلى ………
- فاجأني قائد الطائرة بقوله .. وإن جيت بلادي .. تلقى فيها النيل بيلمع في الظلام .. زي سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام .. ونزلت وبي ما بي من رعشة الشوق واهتزاز النفس وقولها .. لا تستحي وقبلها إنها منك وأنت منها وإليها تعود إنحن وقبلها وامام كل العيون الفضولية احتضنتها بفمي وقبلتها قبلة طويلة روت قليل من شوقي إليها وشممت رائحتها الممزوجة بالطمي وريحة الجروف .. ولم تتركني إلا وقد وشمتني بذرات من ترابها الزكي تركته على جبهتي .
- كان ذلك العناق أشبه ما يكون -بصلوات في هيكل الحب - عناق بلا أيدي وتقبيل بلا شفاه ما أحلاه .. ثم وطئتها بقدمي مترفقاً بها لا من تيه بل من شوق .. كل الأرض بيتي لا فرق في هذه اللحظة بين الخرطوم حيث أنا ولا بين مدني حيث أنا ..
- طويت الأرض سريعاً ودخلت في حضن أبي أولاً وعلى رغمنا سالت دمعات عزيزات ثم دخلت في حضن أمي وهي لا تراني ولكنها تفاجأت بحديث قلبها بأنني قادم .. وكان ما كان من قبلات وأحضان واحتضان وهكذا تجمع حولي أكثر من عشرة قلوب كلها تحتضني وأخذت ألملم الشوق إلى الجميع وأطرحه من عذابات البعد وأشواق السنين ..
- الإنسان لا يحس بزيادة حجم إصبعه الطبيعي وكذا الحال في مشاعرك نحو والديك وأخوتك .. فهي لا تحتاج منا للوله والهيام.. فمشاعرنا نحو أهلينا تتمثل في قول قيس بن الملوح :
لقد ثبتت في القلب منك مودة كما ثبتت في الراحتين الأصابع
ثم وضعت مائدة الغداء العامرة بتجمع الأحبة واختلطنا فيها نساءاً برجال أو كما قال لي والدي : اليوم كسرت القوانين بحضورك .. فعمتي التي حلفت إنها لم تأكل مع أبي في صينية واحدة منذ نيف وأربعين عاماً إحتراماً له .. كسرت هذا العرف وجلست تأكل معنا حلاوة اللقيا .. وما انفضت مائدة الغداء إلا حين سمعنا آذان المغرب وبدأت وفود الأعزاء في التهنئة بسلامة العودة .. والناس زرافات ووحداناً ناداني والدي وقال لي : أذهب وعزي في الأموات .. وخرجت بجسدي وقلبي يهفو إلى البقاء معللا النفس بحضورها ..
- وجاءت تمشي على استحياء .. وأنا على مرمى البصر منها ولكنها لم تدخل .. سألت عني .. بقلبها فأكد لها ابن أخي خروجي .. ولم تدخل .. مما أغضب بن أخي وقال لي فيما بعد .. هي جاءت لك وحدك؟؟؟؟ .. من المفروض أن تدخل لتسلم على أمي وبقية الأهل .. فضحكت من سذاجته ورددت بيني وبين نفسي .. الصب تفضحه عيونه ..
- كنت أتحرق شوقاً لاحتوائها بعيوني .. ورقدت منفرداً كعادتي وجفاني النوم .. وبعد منتصف الليل بقليل والقلب يتأرجح ما بين القلق والترقب .. رن الهاتف .. وكان يبعد عني أكثر من ثلاثة أمتار ولكنني قبل أن يكمل رنينه الأول كنت قد اختطفته وأفسدت عليه حلاوة المفاجأة التي يحملها من الطرف الآخر - والناس يتطيرون شراً عند رنين التلفون بعد منتصف الليل فرنين الهاتف في ذلك الوقت دائماً كما اعتاد الناس يحمل الأخبار السيئة ما بين موت أو استعداد لموت .. أو خبر مزعج – فقلت بلا تردد : أهلاً حبيبتي .. ولكني سمعت صوتها قبل أن أتم حروفي الأولى وهي تقول : كيف حالك يا أعز الناس .. فكلا القلبين كان متأكد من موقفه .. أنا بتوقعي اتصالها وهي بتوقعها ردي ..

نيازى كشك
11-03-2005, 08:27 AM
اخى ود فقيرى
اللة يجعل ايامك كلها سعادة وافراح
وانت قمة الابداع فة هذاء النص الادبى الرائع
بعيدا من محتواة حروف مرسومة لايرسمها الا فنان

وانت ابونا صح ابونا فى ا الرقة والشفافية

ياسر فقيري
11-03-2005, 08:34 AM
العزيز نيازي .. أنيق الحرف رائع الكلمات .. تشكرات أفندم ياغالي على أحساسك ومرورك الكريم ولك مني كل الود

ابراهيم
11-03-2005, 08:21 PM
الإنسان لا يحس بزيادة حجم إصبعه الطبيعي وكذا الحال في مشاعرك نحو والديك وأخوتك .. فهي لا تحتاج منا للوله والهيام.. فمشاعرنا نحو أهلينا تتمثل في قول قيس بن الملوح :
لقد ثبتت في القلب منك مودة كما ثبتت في الراحتين الأصابع

هذه حكمة أخى ياسر ... فقد ابدعت

غير أن النص متماسك وجذاب وزادته اللغة الجميلة اكثر عذوبة ورونق
كما يتبين الاحساس العالي في انسجام الخواطر في النص الذي
كل سطر فيه يزيدك اشواق للسطر تاليه...

ربنا يدوم المحبة ويجمع القلوب

ولك التحية والشكر على هذا الابداع

aborawan
11-03-2005, 10:34 PM
دخلت الموضوع وانا متاكد انو حا يكون 100% كما اتعودنا منك كل ما حلو ورائع فلك كل الود والاحترام العزيز فقيري ويديك الف عافية

ياسر فقيري
12-03-2005, 03:28 AM
أخي إبراهيم .. لك الشكر على مرورك اللطيف وتعليقك الالطف..
العزيز أبو روان .. تقديري وشكري على مرورك
ودمتم

أبوبكرحامد
12-03-2005, 05:10 AM
المبدع ياسر فقيرى .....................................سلامات

العمل المنشور قمة فى الروعة والتماسك الحسى والمعنوى .

استوقفتنى بعض الصور الجمالية مثل :

عناق بلا أيدي وتقبيل بلا شفاه ما أحلاه


واستوقفتنى كذلك :


ثم وطئتها بقدمي مترفقاً بها لا من تيه بل من شوق


لك منى كل الحب وفى انتظار المزيد .

ود الماذون

ياسر فقيري
12-03-2005, 11:48 AM
أخي ود المأذون .. لك الشكر على كلماتك الرقيقة الرائعة ..

waheeb
12-03-2005, 01:15 PM
الأخ العزيز ياسر فقيري.. والله هي حرارة الشوق عندما تجد الخيال الخصب

فتنبت ابداعا.. وهكذا انت ..ادام الله سعادتك واكثر من محبيك .. وربنا يجمع الجميع مع الاهل

والاحباب لينطفئ جزءا من الشوق بلقاء الاحبه..

ياسر فقيري
13-03-2005, 02:52 AM
اللهم آمين أخي waheeb ولك الشكر على مرورك الكريم

المخلصة
13-03-2005, 06:17 PM
أخي الكريم / ياسر فقيري
لك خالص التحيات والسلامات
يالك من بارع في إختيار الكلمات الجميلة المعبرة السريعه الوصول إلى القلب ، إن المنتدى جميل ولكن أنت زودته جمالاً بكلماتك العذبة وأحاسيسك المرهفة 0
دمت في رعاية الله

ياسر فقيري
14-03-2005, 10:46 AM
لك كل الشكر أختي المخلصة على كلماتك الرقيقة التي تدل على أدب جم ودمتي

naz_imam
19-03-2005, 12:34 AM
المبدع الخلاب ودفقيرى

لا اعرف من اين ابتدى ولاحتى ماذا اقول ... ولكنها عجلات الزمن التى تدور دون ان تختار مسارها الصحيح فحقا أن الانسان فريسة الزمن الخيون رد الله غربتك فحقا عشت معك تفاصيل الاحرف المكتوبة حرفا حرفا وانا اتخيل الماضى القريب البعيد لك منى اسمى التحايا وارجوا المواصلة فانت معين لاينضب معينه

نزار

ياسر فقيري
19-03-2005, 04:58 AM
أخي نزار أهديك هذا البيت
وأظل أبحث عن خيوط الضوء في دنيا الليالي .. المظلمات

لك مني كل تقدير ويا ليت ماضينا يعود

madaniboy
20-03-2005, 06:20 AM
والله اببداع وما قصرت والى المام دوووووووما

فاقد حنان

ياسر فقيري
20-03-2005, 09:13 AM
لك مني كل التقدير أخي فاقد حنان ونورت بيتنا بزورتك

روميساء 2004
20-03-2005, 03:01 PM
علمتني الخوف عيونك ...

ومافي من الريد مخافه ...

باعدت بينا الليالي ...

وقصر الشوق المسافة ...

ياسر ...

عمر المسافة ما قتلت الشوق ....

لك كل الود اجذله ...

أم وافـــي ...

madaniboy
21-03-2005, 02:23 AM
كاتب الرسالة الأصلية ياسر فقيري
العزيز نيازي .. أنيق الحرف رائع الكلمات .. تشكرات أفندم ياغالي على أحساسك ومرورك الكريم ولك مني كل الود

ياسر فقيري
22-03-2005, 05:25 AM
مبدع الروائع فاقد حنان .. لك كل تقديري على مرورك وتعليقك ..

ياسر فقيري
22-03-2005, 05:34 AM
عمر المسافة ما قتلت الشوق ....

لك كل الود اجذله ...

أم وافـــي ...
***************************
شوط أول ..
العزيزة أم وافي .. أولاً لك الشكر أيتها الرائعة على مرورك الرائع الذي ملآني سروراً .. فقد كان كبار الأدباء والكتاب يتحينون الفرص لكي يمر العقاد على كتاباتهم فلك أولاً الشكر ..

شوط ثاني ..
المسافة لا تقتل الشوق .. ولكن البعد عن العين هو الذي يقلله أو يجمده إلى حين .. أشوافنا تبدأ في الانخفاض بعد كل حين ثم تصبح كما قال محمد المكي إبراهيم ..
شيء في قلبي كالأكلان ..
كطنين بعوض داخل طبلة أذن
ولكن لا تمحي أبداً .. وأسألك .. عندما فارقت أرض الوطن لأول مرة وفارقت أحبابك ومراتع صباك .. كيف كان حزنك .. وكيف كانت لوعتك ؟؟؟؟؟
ثم بعد اسبوع من فراقك أهلك .. كيف كان شوقك أليهم ؟؟
ثم بعد سنة هل كان نفس الشوق وبنفس القوة؟؟
ولكن تبدأ أشواقك في الوصول إلى قمة حرارتها عندما يحدد وقت العودة .. وتلتهب تماماً وانت في الطائرة أو وسيلة العودة إلى ديارك .. وتنفجر عند دخولك في أول حضن يخصك يمتليء شوقاً إليك وتفيضين شوقاً إليه ؟؟؟
أليس كذلك أم وافي ؟؟
ولك مني كل تقدير .. وحقيقة تشرفت كثيراً بهذه الزيارة وليتها تتكرر كثيراً

صائد الأحلام
24-03-2005, 08:27 AM
اخي ياسر فقيري،،،اولا اهنئك على تلك المساحة التي ادخلت الاريحية بدواخلنا ،،والله جد اكثر من رائع .. حقيقة ما زالت ارضنا حبلى بالمبدعين طالما فيها امثال ياسر ،، بس ادعو الله ان لا تؤثر الغربة في ابداعاتك او ان تبعدك عن الكتابة ، ليتها (الغربة) وعذاباتها تولد الكثير من داخلك رغم مرارتها(واسأل الله ان يرد غربتك وجميع السودانيين سالمين غانمين
من هو المبدع المغترب؟ هو ذلك الانسان الشقي التعس، الذي يخفي في صدره عذابا عميقا ولكن شفتيه خلقت على نحو يجعل الأنات والآهات تتحول الى موسيقى ساحرة عذبة كما الحال عندك اخي ياسر فقيري
اخي ياسر في انتظار الحلقة الثانية من القصة ذاتها،،حقيقة رنة التلفون جعلت قلبي يرن ،،ومنيت نفسي بمتابعة القصة اكثر ،،،فهل من مزيد؟؟؟؟؟

ياسر فقيري
26-03-2005, 04:11 AM
أخي صائد الأحلام .. تشكرات يا رائع الأحلام .. وصائد الروائع .. لك عزيز الأماني ووافر التقدير على مرورك