مشاهدة النسخة كاملة : آخر صفحة في كتاب الألم ..رواية .
عبدالغني خلف الله
04-04-2013, 10:32 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
آخر صفحة في كتاب الألم- رواية
عبد الغني خلف الله الربيع
الحلقة الأولي – مع كل الود وعاطر التحايا
كنت في خضم الحشود الغفيرة التي خرجت إلي الشوارع وهي تهتف ..يسقط الاستعمار وأنا أهتف ..تسقط ( إمتثال ) ..كانت الجماهير ترفع عقيرتها بالغناء والأناشيد الثورية تردد ..الموت لأسرائيل وكنت أردد ..الموت ل (إمتثال ) ..ومن بين ثنايا الجماهير انخرطت مسرعاً لأكون في الصفوف الأمامية مع القادة والزعماء وتقدمتهم بضعة خطوات وأنا أفتح صدري لكافة الأحتمالات غير عابيءٍ بالموت .. تناولني أحدهم وكان رجلاً في العقد الخامس من العمر ونحاني جانباً وقال لي ..تبدو مرهقاً جداً يا بُني ووجهك شاحب ولونه أصفر ..هل أنت وطني أكثر من كل الحضور ؟ أم ماذا ؟ ..ما بك قل لي .؟ ..ترنحت من شدة الأعياء واستندت علي كتفه حتي لا أسقط ..أخذني إليه في حنو وحب ..كان من الممكن أن يكون في عمر المرحوم أبي لولا أنه رحل باكراً عن حياتنا . بكيت علي كتفه .. بكيت بشدة وكأنني أفرغ نهراً من الدموع ..طلب من أحد زملائي أخذي إلي عربتة التي تقف غير بعيدةٍ عن المكان وأمر السائق بتوصيلي للجهة التي أرغب بها ..انطلقت بنا العربة تنهب الأرض نهباً ولم أكن متعوداً علي الركوب بالمقاعد الخلفية ولا علي الهواء الرطب الذي غمر وجهي والموسيقي الكلاسيكية التي تنبعث من جهاز التسجيل ..وعندما توقفت العربة أمام منزلنا ساعدني السائق علي الترجل منها وأنا أتعثر من شدة التعب وهو يدفعني أمامه بيسر نحو باب منزلنا ..صرخت أمي مولولة وقد كانت تراقب الموقف من النافذة .. ( ولدي مالو؟ !!!..قصي اتكلم ..الحصل ليك شنو ؟! ) ..رد عليها السائق وهي تندفع نحوي تحضنني .. يا حاجه ولدك بخير .. كان في المظاهرة وحضرة الريس قال يوصلوه البيت ..أنا بخير ..بخير يا أمي ( مافي مشكله .)..الريس ..الريس منو ..؟! هنا تذكرت الوريقة الصغيرة التي دسها ذلك الرجل في جيبي لدي تحركنا ؟!! وبها اسمه وعنوانه وأرقام هواتفه ..سالم عبيد التهامي..شركة التهامي للاستيراد والتصدير.. الخرطوم .أخرجتها بعناية فائقة ووضعتها في ثنايا مصحف صغير أحتفظ به منذ الصغر حتي لا تضيع .. من يدري فقد احتاجه يوماً ما .
* * *
لم تتركني (امتثال ) وشأني .. فهأنا أغادرالمنزل خلسة حتي لا تشعر والدتي بغيابي بعد أن صعب عليّ سماع الصخب والضجيج الذي تحدثه أصوات الغناء المنبعثة قبالة منزلنا حيث تجلس هي وعريسها وبعض الطلقات النارية تخترق الأجواء بين الحين والآخر تعقبها أصوات الزغاريد .. ركضت بكل ما لدي من قوةٍ ما نحو الفناء الواقع خلف المدينة والأصوات لا تزال تلاحقني ..غنيت بصوت عالٍِ ..أجهشت بالبكاء .. صرخت كالمجنون في هستيريا عارمة ولا مهرب من ضجة العرس .. تناوشتني بعض الكلاب الضالة وخفف نباحها من غلواء الموسيقي والغناء لكنها ولت هاربةً وقد أخافها جنوني ..ولدي وصولي إلي الربوة التي تطل علي المدينة خفت صوت الموسيقي ومن ثمّ توقفت .. جلست القرفصاء وأنا أكفكف دموعي ونال مني التعب كل مأخذ فغافلني النعاس ونمت ..نمت نوماً عميقاً وكأنني أنام فوق فراش من الرياش والحرير وليس الحصي والرمال ..وبينما أنا بين اليقظة والحلم التفت لأجد ( امتثال ) أمامي كملاك صغير تلفه هالة من الأضواء الباهرة ..جلست إلي قربي وكفكفت دموعي وهدهدتني حتي غلبني النعاس وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) وحين استيقظت وجدت من فوقي والدتي وشقيقتي وخالي وهم يتمتمون ..الحمد لله ..الحمدلله ..قوم يا ولدي ..قوم.
***
عبدالغني خلف الله
04-04-2013, 10:35 PM
الحلقة الثانية
اعتكفت في غرفتي ثلاثة أيام لا أقابل أحداً ..وكانت شقيقتي رقية هي الوحيدة التي أسمح لها بالدخول ..حتي والدتي تتهرب من رؤيتي بهذه الحالة ..رقية تأتي لي بالطعام وتعيده للمطبخ بأكمله لأنني بالكاد آخذ منه شيئا ..توقفت عن التفكير ب(امتثال ) وزملائي وزميلاتي بالجامعة ورحلت بعيداً بعيداً إلي ربوع قريتنا عند السفح الغربي المطل علي النيل ..كنا نعيش حياة ملؤها الهدوء والسعادة ..فجدي عمدة الخط ووالدي شيخ القرية ..كان جدي رجلاً مهاباً من الجميع ..داره عامرة بالضيوف والزوار وأحياناً يزوره مفتش المركز البريطاني الجنسية فتولم له الولائم ..وقد يغيب أياماً بل وأسابيع وهو يقود قوافل الصلح و( الجودية ) بين القبائل ..ذلك لأنه عرف بالشهامة والنزاهة والجميع يحتفظ له بتقدير خاص ..ثم وبعد وفاته تولي العمودية من بعده والدي بالرغم من المنافسة الشديدة التي لقيها من بقية أعمامي فقد كان كل واحد منهم يطمح في تولي منصب العمدة ..وذات يوم مرض والدي مرضاً شديداً فأخذوه إلي مستشفي( البندر )..كنت وقتها طفلاً في الرابعة من عمري وشقيقتي رقية في الثالثة من العمر طفلة مترفة تتلمس طريقها في الركض والنطق ببعض الكلمات التي يطرب لها أبي ..ثم ومن بعد شهر تقريباً أعادوه لنا وكان ثمة همس يدور بأن حالته ميئوس منها ..والدتي جزعت وخافت رحيله في تلك السن المبكرة لا سيما وأنها ليست من المنطقة وأهلها يقيمون بالخرطوم ..وعلاقتها مع أعمامي وزوجاتهم لا تخلو من الفتور وربما التوتر أحياناً وقد يسمعنها عبارة ( لا أصل ..لا فصل ) ..فيؤلمها ذلك كثيراً فتبكي وهي تردد ( صحيح الما بعرفك بجهلك )..بيد أنها كانت تحتمل شتي الإهانات والمضايقات لأجل أبي ..كانت تحبه بجنون ولكن في صمت وهي نادراً ما تتفوه بما تشعر كما تقضي العادات والتقاليد بذلك فهي بالنهاية زوجة العمدة وهذا التوصيف جعلها تبدو أكبر من عمرها الحقيقي علي الأقل من زاوية التصرفات ..لكن ما كان الجميع يخشاه قد حدث ..فقد تضايق والدي وهو علي فراش الموت ..وتحلق الجميع كباراً وصغاراً حول فراشه ..واحتشدت النسوة في البهو الخلفي يبكين في خفوت مخافة إزعاجه ..في تلك اللحظات العصيبة تلبدت السماء بالغيوم الكثيفة وأرعدت بصورة أخافت الجميع والصواعق تتلاحق وكأن السماء قد تحولت إلي مضمار للرماية ..رفع إمام المسجد كلتا يديه وهو يقرأ الفاتحة علي روحة معلناً وفاته لتنفتح أبواب العويل والبكاء ..بكي الرجال قبل النساء ..كل واحد أسند وجهه إلي الحائط ووضع طاقيته في فمه ..وسكبت النسوة حبيبات الرمل الباردة فوق روؤسهن ..وهُرع القوم بالجسد الغالي المسجي في (البرش الأحمر..) والملفوف جيداً بقماش الإحرام فقد كان والدي يحج كل سنة ويحتفظ في خزانة خاصة بأردية الأحرام تيمناً وبركة وحين يسأل عن سر اهتمامه بها يقول لمن حوله من الأصحاب أريد أن أتخذها كفناً لي حين أموت ..فيقولون له ( بعد خرف إن شاء الله يا عمدتنا )..ومع آخر طوبة في القبر بدأ المطر في الهطول وعاد الناس ركضاً لبيوتهم ..واستمرت الأمطار في الهطول طوال الليل وكأن السماء تشاركنا دموعنا وآهاتنا .. الشيء الذي أربك تدابير المأتم وإطعام المئات الذين حضروا بالدواب من القري المجاورة حين سمعوا بخبر وفاة أبي الذي تناقلته مكبرات الصوت بمآذن المساجد لتحمله الريح بعيداً في جميع الاتجاهات ..لكن حدثاً مريعاً تكشف في ساعات الصباح الأولي ومع انبلاج ضوء النهار ..فقد سال الوادي القريب وأمتلاْ حتي آخره لينفلت منه سيلاً عارماً أطاح بالجانب الشمالي من المقابر حيث دفن والدي ..وعاد الناس مرة أخري للتأكد من سلامة قبور أحبائهم ..انشلح جانباً كبيراً من قبر أبي وعكف أعمامي علي ترميمه وثبتوا اللوحة الحديدية التي تؤشر إلي وفاة والدي العمدة في مكانها ووعد أكبر اشقائه بإرسال أحدهم للمدينة القريبة لإحضار كيساً من الأسمنت وبعض الطوب الأحمر لضمان عدم تكرار ما حدث ..مضي اليوم التالي علي وفاة أبي بسلام لا تعكره سوي أصوات الثكالي وبكاء الرجال القادمين من أماكن بعيدة وكنت أقرأ الصورة بإمعان وانتباه وأشعر بشيء من الفخر والسعادة لكون أبي علي كل هذه الدرجة من المكانة والأهمية الاجتماعية بالرغم من حزني الشديد علي فراقه ..جُن الليل ونام الجميع نوماً عميقاً من شدة التعب فقد كان يوماً عصيباً ومرهقاً ..وحرصت أمي علي أن أنام بقربها أنا وشقيقتي رقية في الغرفة الوحيدة الخالية إذ يتعين عليها أن تمكث بها أربعة أشهر وعشراً كما تقضي بذلك تعاليم ديننا الحنيف ..وقبيل الفجر بقليل سمعت صوت صرير الباب الخشبي وهو يفتح وثمة شخص لم أتبين ملامحه لشدة الظلام يقترب من أمي وهو يوقظها بصوت هامس ( النعمه ..النعمه ..أصحي يا النعمه ) ..استيقظت الدتي مرتعبة وقد عقدت الدهشة لسانها وهي تهمهم ( العمده ..بسم الله الرحمن الرحيم ..بسم الله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم ..ثم سقطت علي الوسادة مرة أخري وهي تصدر أنيناً خافتاً تتخلله عبارة ..أشهد أن لا إله إلا الله ..محمداً رسول الله ) بيد أن نفس الشخص الذي يشبه صوته صوت أبي عاد ليوقظها مرة أخري ..أصحي يا النعمه ..سألتك بالله تصحي ..انتزعت نفسها مرة أخري من الوسادة وهي ترتجف من شدة الخوف ..وكذلك خفت أنا بعد أن خُيل لي أن أبي عاد من الموت وانقلب إلي ( بعاتي ) وكان الناس في قريتنا يقولون أن فلاناً تحول إلي شبح ويعيش فقط بروحه التي تتجول فقط أثناء الليل ..العمده ..هي يا العمده خصمتك بالرسول أرجع لي قبرك ..مالك عاوز تجنني ..؟! ) ..أنا لم أمت يا رقيه ..أقسم بالله أنني لم أمت ..لقد كانت غيبوبة فقط ودفنت وأنا حي ..لكن الله ستر وجاء السيل ليكشف جانباً من القبر لتغمرني المياه فصحوت من غفوتي واستجمعت كل قواي ..مزقت الكفن وخرجت من القبر ثم توجهت نحو المغاره الواقعة خلف التلة وأمضيت بها بعض الوقت وهأنا أعود ..لا يا العمده لا تكذب ..أرجوك غادر وبسرعة حتي لا يراك أحد فيروج عنا القصص والحكايات ..أبوكم سحار ..وأبوكم طلع من قبرو ..طيب يا النعمه كما تشائين فقط أعطيني ملابس نظيفه وأوراق الميراث من الخزنه ..وابريقي ومسبحتي ومصحفي واحضري لي ماءاً لأستحم ..حاضر ..حاضر ..عاد يا الله وياالنبي و الأوليا الصالحين ما يشوفك زول ..إزدادت ضربات قلبي وتحولت لما يشبه دقات الطبول في يوم العيد الكبير وسال العرق غزيراً من جسمي يبلل جلبابي لا سيما بعد أن انسلت والدتي في هدوء باتجاه برميل الماء المنتصب في باحة المنزل وعادت بشيء من الماء ..وبعد أن نظف نفسه مما علق به من طين طلب منها أن تعد له شيئاً من الطعام فقامت وسكبت بعض اللبن بللته بنثار أرغفة هي ما تبقي من عشائها وقبل أن يغادر ناولته كيساً به نقود وأوراق كثيرة أخذه ثم وكأنه تذكر شيئاً ..النعمه ..الولد والبنيه وين ؟ .. ما أوصيك عليهم ..عاوز أودعم ..عليك الله ما تصحيهم يقومو يجنو علينا ..لكن برغم رفضها توجه نحو شقيقتي واحتضنها بقوة وهي غارقة في نوم عميق ومرر يده بين ثنايا شعر رأسي وهو يتمتم ..ودعتكم الله ..ودعتكم الله ..تظاهرت بأنني لم أسمع ولم أر شيئاً وظللت أحدق في سقف الغرفة حتي الصباح .
* * *
ذ
عبدالغني خلف الله
06-04-2013, 10:19 AM
الحلقة الثالثة
لم تطب الحياة لوالدتي بعد رحيل أبي وبتنا نسمع باشياء أشبه بالاساطير ..فالناس في يوم السوق يتحدثون عن الشيخ الصالح الذي ظهر بمنطقتهم وأطلقوا عليه اسم ( الشيخ الضهبان ) ..والذي اتخذ من المغارة الواقعة خلف التلة سكناً له بعد أن هيأها بالبروش وريش النعام وجلود الحيوانات وأنه يداوي أمراض الحصبة و( البرجم )التي انتشرت ذاك العام بين الأطفال فذاع صيته بين الأهالي ..وكانت كل سيدة يصاب لها طفل تأخذه للشيخ الضهبان في المغارة فيقوم بمسح وجوههم وأيديهم بمسحوق من الطين جلبه من حفرة قرب النهر ويقرأ عليه بعض الآيات من القرآن الكريم ..كانت النتائج مذهلة ..فالأطفال يتعافون بنسبة مائة في المائة تقريباً ..وفي تلك الأيام أصيبت شقيقتي رقية بالحصبة ونصحتها نسوة القرية بأن تأخذها للشيخ الضهبان وقلن لها ..الشيخ الضهبان( واصل وكلو بركه ) ..لكن شيئاً ما منعها من التوجه للمغارة خوفاً من أن يكون أبي هو الشخص المقصود وعوضاً عن ذلك أخذتها للمستشفي في المدينة القريبة .. لن تأخذي أولاد أخونا المرحوم العمدة ليتهملوا في الخرطوم ..وإذا كان غرضك بداية حياة جديدة وتفكرين في الزواج كل واحد منا علي استعداد للزواج بك وتربية أولاد العمدة فقط إختاري بيننا الخمسة..هكذا كانت تدور النقاشات المحتدمة صباح مساء بين أمي وأعمامي ..بيد أنها صممت علي الرحيل وبصورة لم أعهدها فيها من قبل ..لقد كانت سيدة علي قدر حالها ..رزينة وصبورة ولا ترفع صوتها أمام القوم ..لكنها في تلك الأثناء تحولت إلي كائن شرس لا يخشي أحد ..وبالنهاية اقتنع القوم تحت إصرارها ..قاموا بحصر الورثة وخيرونا بين الإبقاء علي الغنم والضأن والإبل ترتع في باديتهم وبين بيعها ومن ثّم أخذ نصيبها نقداً ففضلت البيع وكأنها قد قررت أن تقطع صلتها بالمكان وأهله وبصورة نهائية .
لم أكن أتصور في يوم من الأيام منذ أن التقيت ( امتثال ) للمرة الأولي أمام دكان الحاج عثمان في أول الحارة بأنني سأفقدها وبهذه السهولة لأصبح بلا قلب .. بلا أحلام ..وبلا مستقبل ..كان ذلك في الأسبوع الأول لانتقالنا من القرية للمدينة لنعيش مع أخوالي .. وبالرغم من الفتور والإعراض اللذين قوبلنا بهما من قبل زوجة خالي وأولادها إلا أننا شعرنا بالراحة والأمان ..فقد منحنا الغرفة الغربية بالدار والباحة التي أمامها بناءاً علي طلب من والدتي وبإلحاح شديد بالرغم من تواضعها وصغر حجمها فقد كانت غرفة جدتي قبل أن تصعد إلي بارئها ..وكانت أمي تشم فيها رائحة جدتي قالت لنا هنا كانت تعيش أحب إنسان ألي قلبي في هذه الدنيا ..أمي نفيسة ..يا لروعتها وحنانها ..كانت سيدة بمعني الكلمة ..جدتكم يا رقية ويا قصي هي التي علمتني أن يكون للحياة طعم خاص وقانون خاص ..وكان تأثيرها يتعدانا ليشمل الجميع.. فهي التي كانت تصلح فيما بين نساء الحي المتشاكسات علي الدوام ولأتفه الأسباب ..وهي من تتلقف المواليد الجدد لكل سيدات الحي إنابة عن أمهاتهن وتقوم مع القابلة بفصل الصرة وتعقيم الجرح وغسل الأطفال لتضعهم بحنو وحب بين أحضان الزوجات الصغيرات وهي تردد ( بسم الله ما شاء الله ) ..لكن معرفتي مع ( امتثال ) في ذلك الصباح الممطر الذي كان يتسربل بالرزاز بدأت بعراك سببه أنني وصلت قبلها لبقالة الحاج عثمان .. فقد أرسلتني أمي لإحضار بعض السكر والشاي ثم وصلت هي من بعدي بثوانٍ قليلة ٍ ومعها قائمة طويلة من الطلبات ..رطل زيت ورطلين سكر وكبريت ودقيق ومعجون أسنان وعندما شرع العم عثمان في تجهيز طلباتها اعترضت بطريقة بشعة علي تجاهلي فقد كنت لا أزال أتشرب روح وسطوة والدي العمده ..أنا أولاً يا عم ..لماذا تتخطاني من أجل هذه البنت الثرثاره .. ثرثاره أنا يا عربي يا جبان ..لا ..لا .. يا عزيزتي الفاضلة مثل هذا الكلام لا تقوله حرمة لابن سيد القبيلة..صفعتها بقسوة علي وجههاوتهيأت لأصفعها مرة أخري ..في البداية ألجمت لسانها المفاجأة ..لعلها لم تصفع حتي من قبل والدها وأفراد أسرتها لأجي أنا من لا شيء فأقوم بتأديبها ..استوعبت الصدمة وهي تردد ( ده شنو السويتو ده يا شافع ؟ ..) ثم وبدون مقدمات هجمت علي بقوة تنشب أظافرها في وجهي ..كانت قوية وجامحة وشعرت للحظات بأنه من العيب عليّ أن أتعارك مع امرأة ..بيد أنها طرحتني أرضاً وركبت من فوقي وكالت بيديها الصغيرتين لكمة أطارت صوابي ..هُرع العم عثمان ليفصل بيننا وكان أنفي ينزف من شدة اللكمات التي صوبتها نحو وجهي ..لكنها وعندما رأت الدماء تسيل علي ملابسي أسرعت نحو إبريق الحاج عثمان تصب منه الماء فوق يدي بل وتغسل لي فمي وأنفي وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) نفس العبارة التي عادت لتعيدها علي مسامعي بعد ثمانية عشرة عاماً وهي تزف لي نبأ موعد خطبتها من الدكتور جلال .. المحاضر الذي يقوم بتدريسنا مادة الأدب الانكليزي بالكلية ..وأنا يا صباحات عيوني من تراه يأسف لحالي
mahagoub
06-04-2013, 08:36 PM
وعاد زخم الحرف يهطل علينا
كلمات وجمل فلا تكبح لجام قلمك
ودعه يسكب كل ما بداخله
عبدالغني خلف الله
07-04-2013, 08:44 AM
وعاد زخم الحرف يهطل علينا كلمات وجمل فلا تكبح لجام قلمك ودعه يسكب كل ما بداخله
كل الشكر والتقدير عزيزي محجوب ..ومساك الله ومن حولك بكل الخير ..لم أعثر علي أيقونات اللون وحجم الحرف ..ربما يكون هنالك خلل في اللابتوب الخاص بي ..أرجو معالجة الموضوع من قبل الأعزاء المشرفين حتي تسهل قراءة النص مع كل الود .
عبدالغني خلف الله
07-04-2013, 08:48 AM
الحلقة الرابعة
قرعُُ بالباب وكانت شقيقتي رقية هي الطارق لتخبرني بأن ثمة ضيوف بانتظاري ..من هم ..؟ سألتها في تثاقل واضح ... زملاؤك بالجامعة .. تقول البنت أنها علياء ومعها عصام وطارق ..قولي ليهم اتفضلوا ..ارتديت ملابسي علي عجل وخرجت إلي بهو الغرفة الخارجي ..أخذني عصام وطارق بالأحضان وهمست علياء في وجهي وهي تضغط علي يدي ..( افتقدناك في الجامعه ..الأساتذه بسألوا عنك ؟ ..معقول أسبوع كامل ما تجي الجامعه يا قصي ؟ ) ..علياء تسأل وكأنها لا تعرف السبب ..أسالي صديقتك وجارتك بالمدرج ( امتثال ) لتخبرك لماذا أنا متغيب عن الدراسة ولماذا أنا ضائع وبلا رغبة في الحياة ناهيك عن التعلم ..أنا بخير لدرجة أنني أتمني لو أموت الآن ..أكملت في سري.. بخير .. نعم بخير ..وتغيب عن الجامعه أسبوعاً بحاله يا قصي ..كيف يعني ؟ يما ..ديل زملائي وأصحابي في الجامعة ..الوالدة وقد أسعدتها هي الأخري تلكم الزيارة ..أقعدوا يا أولادي ..مالكم واقفين ؟ ..كان لزيارتهم صدي طيباً في نفسي إذ من النادر أن تزور طالبة منزل زميلها إلا في ظروف استثنائية للغاية .. وطارق وعصام هم شهود المأساة دون غيرهم من الطلاب ..أصدقاء وأحباء وكل واحد منهم أكثر من كونه مستودع أسراري ..والكتف التي أستند عندها في الملمات ..وهاهي الملمات قد أتت ..ملمات البسيطة دي يا قصي ؟!..ما تقول الموت الأحمر جاء يمشي علي رجلين .
أحاول أن أجد معنيً جديداً لوجودي بعد أن أنهار كل شيء حولي في أسبوع واحد ..وكأن الآلام لا تجد الوقت الكافي لتتكثف من حولي ..في أسبوع واحد قررت ( امتثال) قبول عرض الدكتور جلال بالزواج منها وفي نفس الأسبوع تمت مراسم العرس وسافرا لقضاء شهر العسل بالقاهرة ..في أسبوع واحد تحولت آفاق الحياة أمامي من اللون الوردي إلي اللون الأسود القاتم..وقررت أن أخرج من هذه الدوامة المفجعة والرحيل بعيداً من كل شيء يذكرني ب( امتثال ) ..بوابة منزلهم وشجيرة ( الجهنمية ) التي تسلقت مدخل المنزل ونافذتها الصغيرة التي تفتح لي كل صباح لتقول لي ..أنا جاهزه .. دقيقه واحده ..وأظل مصلوباً أمام منزلهم لتخرج لي بعد خمس دقائق وهي تجرجر خمارها تحاول إعادته لرأسها ..وحقيبة يدها التي تنفلت منها حتي توشك أن تقع وهي تلعن الدبوس الصغير المغروز في صفحة الحقيبة فتجده بعد عناءٍ وقبل أن نصل إلي محطة الباص تكون قد أكملت ترتيب اشيائها ..وأشاعت الفوضي في ضميري .. صباح الخير ( أنا آسفه ..وقفتك كتير مش ..) ..دائماً آسفه يا امتثال وأنا ..كيف هي أحوالي من بعدك ألم تفكري بهذا وأنت تعطيه معصمك ليضع عليه دبلة الخطوبة يا ألمي ..إذن لماذا لا أسافر إلي البلد حيث ولدت وترعرت لأعود بريئاً كما كنت فقط لو أستطيع تنظيف دواخلي من غبار الأيام السبعة التي أثقلت كاهلي ..لا يا ولدي لن تذهب إلي البلد ..لكن يا أمي ..قلت لك لن تذهب وإن انطبقت السماء علي الأرض .. مع من ستنزل يا قصي ؟ ..مع عمك بشاره أم مع عمك خضير ..؟.. كل واحد منهما تحل بداره قبل الآخر سيظن بأن إبن العمده القديم ينحاز له أو ينظرون إليك باعتبارك طرف ثالث فيقتلونك ..كيف فكرت بهذا الأمر الرهيب يا بني ..خلينا نعيش في أمان بعيداً عنهم ..أرجوك يا ولدي ..قالت ذلك وهي تبكي ..أرجوك ..أنت كل ما تبقي لي بعد وفاة المرحوم أبوك ..لا تبكي يا أمي ..لا تبكي أرجوك ..خلاص ..لن أذهب ..أمي معها حق يا قصي ..رقية وهي تدلو بدلوها ..ناس عمي للأسف الشديد بينهم ثأرات رهيبه ..كيف تجازف بحياتك بهذه البساطة ..حاضر يا فيلسوفة مدرسة الحي الرابع النموذجية للبنات ..نعم ..معك حق
عبدالغني خلف الله
15-04-2013, 06:11 AM
الحلقة الخامسة
فقد ساءت الأمور بصورة لا تصدق بين أعمامي بعد وفاة والدي ..وكان عمي بشارة وعمي خضير علي طرفي نقيض منذ صباهم الباكر وعندما احتدمت المنافسة بينهما علي خلافة أبي قرر كبار القوم اسناد العمودية لعمي ( الماهل ) كحل وسط ..وسارت الأمور علي ما يرام حتي توفي عمي قبل بضعة أعوام لتشتعل المنافسة من جديد وبالنهاية قرر كل واحد منهما أن ينسلخ بما يليه من أولاد وبنات عن الآخر ونسبة لأن عمي بشارة هو الأكثر عدداً باعتبار أنه تزوج زوجته الخامسة بعد أن توفيت الخالة حسنه ولديه أكثر من ثلاثين ولداً وبنت .. حمل عمي خضير وأولاده متاعهم ونصبوا خيامهم علي بعد خمسة كيلومترات من القرية ثم قاموا بهدم بيوتهم وحمل أنقاضها من طوب وأبواب ونوافذ علي اللواري وشيدو قريتهم الجديدة التي أطلقوا عليها اسم ( حلة العمده بشاره ) ..وسارت الأمور علي نحو مرضٍ ..بيد أن رقعة من الأرض في منتصف المسافة بين الفريقين أثارت معركة شرسة انتقلوا بها إلي المحاكم التي ماطلت في إصدار الحكم لهذا الطرف أو ذاك نسبة للتداخل في حيازات الأراضي قبل أن تنشطر القرية إلي نصفين ..وقبيل خريف أحد الأعوام قرر عمي خضير أخذ القانون بيده ..فخرج ومعه ثلة من أولاده وأتباعه وشرعوا في فلاحة الأرض ..سمع عمي بشارة بالأمر فأعد عدته وخرج هو في صبيحة اليوم التالي ومعه حشد كبير من أولاده وأتباعه فنشبت معركة دامية تداعي لها الجميع من القريتين وأستعملت فيها الفئوس والعصي وحتي الأسلحة النارية علي قلتها فكانت الحصيلة قتل ثلاثة من أبناء عمي العمدة بشاره وإثنين من أبناء عمي ( خضير ) واستقبلت مستشفي البندر العشرات من الجرحي والمصابين ..وتدخلت قوات البوليس لاحتواء الموقف واعتقلت كل من شارك في تلك المعمعة المؤسفة وينتظر حوالي سبعة عشر فرداً من الطرفين تنفيذ حكماً بالإعدام في حقهم .. والله وحده يعلم كيف ستحل تلكم المعضلة ..يا ألله .. ما كان ذلك ليحدث لولا وفاة جدي العمدة الكبير ووالدي برجاحة عقله وورعه ..ولكن هكذا الحياة .
* * *
هل أنت متضايق يا قصي بسسب زواج امتثال من الدكنور جلال أم من احتمال خروجها نهائياً من حياتك أم من الإثنين معاً ؟ ..متضايق ..ماذا تقصد بكلمة متضايق ؟ ..هذه الكلمة أصغر من توصيف حالتي ..قل هل أنا محطم ..محبط ..يائس ..ولا تقل لي هل أنت متضايق ..بالطبع أنا كذلك ..وكيف أشعر شعوراً مختلفاً و( امتثال ) تتسرب من بين يديّ كقطرات الماء ..لكمّ تحدثنا أنا وهي عن أضرار الزواج بين إثنين لديهما اختلافات في العمر ونمط التفكير والوسط الذي أنتج كل واحد منهما ..وكل هذه الفروقات موجودة بعمق بين الدكتور جلال وامتثال ..فهو في الثانية والأربعين من العمر وهي في الثانية والعشرين ..هو من أسرة أرستقراطية ثرية وهي من أسرة تستطيع أن تقول أنها من الطبقة المتوسطة طبقة الموظفين فوالدها باشكاتب المجلس البلدي .. كيف تسني لها أن تتنكر لكل تلك الأفكار التي كانت تتشبث بها لا سيما عندما يتعلق الأمر بصديقاتها ..لقد عارضت زواج علياء من مهندس يعمل في الخليج بحجة أنه يكبرها بعشرين عاماً إلي أن أقنعتها بذلك فغادر الرجل مكسور الخاطر ..وقال لعلياء في التلفون بعد أن حطت طائرته في مطار الرياض عبر الهاتف .. أسمعي يا علياء أنت أهم فرصة ضائعة في حياتي بل أكبر هزيمة يمكن أن يمني بها شخص مثلي في الحياة وبالرغم من ذلك لا أملك سوي أن أتمني لك السعادة ..أما أنا فلا أتمني لامتثال السعادة ..بل أريدها معذبة وتائهة وضائعة مدي الحياة ..لكن أنظر لنفسك يا صديقي وأنت تناقض ذلك الموقف النبيل للباشمهندس خطيب علياء ..ومالي أنا وماله ..قد يكون صبوراً وقد تكون هنالك علياء أخري تعوضه عنها ..أما أنا ..فمن يعوضني امتثال ؟ ..أنت تستحق الرثاء فعلاً يا قصي ..لذلك عليك أن تغادر هذه الغرفة وتذهب للجامعة تنغمس في المحاضرات وتقابل أصدقائك تتجاذب معهم أطراف الحديث وتناقشون كما في السابق مشكلة الجنوب والمشكلة الفلسطينية وانتقال ذاك اللاعب من المريخ للهلال في ذروة موسم التسجيلات ..لن أذهب لأي مكان .. فلأجرب سماع شيء من الموسيقي علها تخفف عني وطأة هذا الاحساس القاتل بالعجز واللاشيئية والعدم ..هيا ..هيا ..هنا لندن ..هنا مونتي كارلو ..هنا صوت أمريكا ..بالله عليكم ماذا أفعل بكم وبأخباركم ونقاشاتكم السخيفة هذه ..( في عز الليل ...ساعة النسمه ترتاح علي هدب الدغش وتنوم ..أنا مساهر..هد الحيل غرامك ..) والصوت العذب يتحدر كشلال من الفرح ..كفي يا كابلي ويا تجاني ..هل أنتما جادان فعلاً في هذا الكلام ..أنتما مساهران وأنا ميت ..مدفون وفي قلبي بقايا نبض يبكي ..لمن هذا الصوت ؟ ..إنه لصديقنا شرحبيل ..( الليل الهادي بذكرني ..حبيبي الغائب من بدري ) ..من بدري ؟ وماذا تنتظر يا عزيزي الفاضل ..فتش عنه وألحق به في آخر الدنيا لو تقدر ( أوووو ..لالالللا..) ..لن تجديك نفعاً زفراتك وآهاتك هذه ..صدقني لن تجديك شيئاً ..فلو كانتا تجديان لشعرت أنا بشيء من الراحة ..لا أريد سماع المزيد ..إذن لماذا لا تجرب الكتابة ؟ ..أكتب شيئاً في شكل خواطر أو مذكرات أو أي شيء ..فالأوراق كضمادات الجراح ..لا تجلب لك الشفاء التام ولكنها تريحك نوعاً ما ..والله فكرة لا بأس بها ..فقط أين أجد القلم ..هذه هي الأوراق ..رقية ..رقية ..أين أنت ؟ ..أنا هنا أذاكر ..لماذا تناديني بصوتٍ عالٍ هكذا وكأننا في غابة ؟ ..عفواً يا شقيقتي الغالية ..تبدو كئيباً وعصبياً منذ يوم أمس وشكلك لا يطاق ..آسف ..احتمليني بعض الوقت حتي أتعافي من هذا الوضع المزري وأعطني قلمك لنصف ساعة فقط ..قلمي ؟ ..لا يمكن ..لإ.. ليس الآن ..أنا أقوم بحل بعض المسائل الشائكة ويتعين عليّ تسليم كراستي غداً صباحاً وأريد أن أنام ..أرجوك يا رقية..سلفيني قلمك عشرة دقائق فقط.. ولو كنت أضمن وجود بقالة فاتحة في هذا الوقت لذهبت واشتريت قلماً ..طيب ..اتفضل.. بسرعة .. أكتب بسرعه ..أمسكت بالقلم وكتبت ..بسم الله الرحمن الرحيم ..التاريخ : العاشرل من مايو 1970 ..الساعة الثانية عشرة منتصف الليل .. أحتاجك يا امتثال ..أحتاجك وبصورة لا توصف ..الليل ينتصف وأنا أتجزأ لنصفين ..نصف هنا ونصف معك هنالك في فنادق القاهرة وأنديتها .. بل كلي معك يا روحي وذكرياتي ونفسي ..أنا هنا مجرد بقايا ظلال لشخص كان يعيش في هذا العالم ..شبح يروح ويجيء مثل هيكل بشري يتهدم علي رصيف الحياة ..أنا هنا ..) ..قصي ..قصي ..أرجوك قلمي ..الآن وبسرعة ..فأمامي خمسة مسائل وأستاذة الرياضيات وحش كاسر لا يرحم ..رقية وقد قطعت عليّ حبل أفكاري ..حسناً ..تفضلي أنا ذاهب لأنام ...تصبحين علي خير ..وأنت من أهله ..
mahagoub
17-04-2013, 09:34 PM
الحياة مليئة بالمناقضات
حب وضياع
تجمع وفراق
فلو لا التناقضات
لما احلوة الحياة
ولو سارت على وتيرة واحده
لملينا منها فهى كذلك بحلوها ومرها
والصابر بيلقا مصيره فى النهاية
عبدالغني خلف الله
05-05-2013, 09:34 PM
الرائع المترف محجوب ..وبعد أن إنتهي مشوارنا مع حربي في قاع المدينة وأنستاسيا ..تعال نبحر مع مشاكسات المدعو قصي هذا ..مع كل الود .
عبدالغني خلف الله
05-05-2013, 09:37 PM
الحلقة السادسة
..دفنت وجهي في الوسادة ورحت أنشج كالأطفال ..بكيت طويلاً ..ورميت بعصبية كل شيء كان علي طاولة المذاكرة فتناثرت الكتب يمنة وشمالاً ..دواوين شعر وروايات ودراسات في الأدب الإنجليزي والتاريخ ..هرطقات وأكاذيب لعشاق عاشوا قصص الحب في الخيال فقط علي ما أظن وعادو ليضحكوا علي بلاهتنا وغبائنا ..لعل التاريخ يذكرني كأغبي وأتعس إنسان في الوجود منذ حواء وآدم .
* * *
عدت للجامعة أجرجر اذيال الخيبة والندم وقد ضاع مني تؤام روحي ورفيقة صباي البكر ( امتثال ) سافرت لقضاء شهر العسل ..كنا نطمع فقط في أن نسافر معاً إلي أي مكان دون وجهة محدده ..قالت لي ذات مرة وكنا لوحدنا بالكافتيريا ..اشواقنا هذه يا قصي لا يطفئها إلا سفر طويل ..بالطائرة ؟ .. سألتها في بلاهة لا تصدق ..أنت لم تفهم قصدي ..دائماً لا تفهمني وكأنك بلا قلب ولا احساس .. قلت لك أشتهي السفر معك إلي مكان بعيد دونما زاد .. دونما اتجاه ..فليكن بعربة تشق بنا الوهاد والوديان وفي ثنايا الغابات الاستوائية لا يرانا أحد وعلي ظهر قارب صغير تتلاعب به الأمواج ..بيد أنها حققت أمنيتها في السفر ولكن مع شخص غيري هو الدكتور جلال ..قابلني الزملاء بفرح عارم لا سيما علياء وكأنني خرجت من المستشفي بعد إجراء عملية جراحية ناجحة ..حمداً لله علي السلامه ..الله يسلمك ..لكنني كنت مشتت الخاطر وبالكاد أفهم أو حتي أتابع ما أسمع من محاضرات ..مر اليوم الأول وكل ركن وزاوية ونبتة بالجامعة تعيدني إليها ..وبعد حوالي عشرة أيام وأنا أدلف إلي المدرج لمحت فتاة تضع علي وجهها إزاراً خفيفاً لا يظهر سوي عينيها ..وعاصفة من العطر تسبقها نحونا ..تجمدت وتجمد معي بقية الزملاء عاصم وطارق وعلياء لنكتشف أن القادم ليس سوي ( امتثال ) ..غادرت المكان بسرعة البرق وعبارات ( مبروك يا عروسه ..كيفك ..فقدناك ..اشتقنا ليك ) تركض خلفي ..اتخذت مكاني المعتاد بالمدرج استعداداً للمحاضرة التي سيلقيها علي مسامعنا دكتور يوسف زميل الدكتور جلال في شعبة اللغة الانجليزية ..وكانت حول النصوص المترجمة للانجليزية ل( رباعيات عمر الخيام )..التقت نظراتنا لثوانٍ ولم استطع مواصلة التطلع في عينيها ..كانت متألقة بصورة لا تصدق ..أشحت بوجهي عنها ورجعت إلي الوراء درجاً ثم الدرج الثاني ..تراجعت هي أيضاً في محاولة منها لتقريب المسافة بيننا ..قمت من مكاني وجلست في آخر مقعد أعلي المدرج ..فهمت هي قصدي فجلست في منتصف القاعة صحبة علياء ..دخل المحاضر وكان الدكتور جلال وليس زميله الدكتور يوسف ..وقام بتغيير الموضوع من رباعيات عمر الخيام إلي (قيصروكليوباترا ) للكاتب البريطاني برنارد شو ..ومع بداية المحاضرة شعرت بألم شديد أسفل عنقي من الخلف ..وكلما تمر دقيقة أو دقيقتان يزداد الألم سوءاً وكأن شخصاً ما يغرز سكيناً في نفس المكان ..قرأت مرة أن الألم خلف الرقبة هو.. ألم معنوي وليس حسي ..لا بد إنه كذلك ..وقبيل الانتهاء من المحاضرة طلب مني الدكتور جلال بأن أقف وأقوم بتلخيص المحاضرة ..وكنت قد سبق لي ولحسن الحظ قراءة الرواية بالمركز الثقافي البريطاني ..لخصت كل جوانبها وقمت بتحليل شخصياتها ..دهش الطلاب من إلمامي بالنص وتداعياته فضجت القاعة بالتصفيق كأنها تؤازرني في مواجهته ..أما هو فقد بدا عليه الضيق والعبوس فغادر القاعة مسرعاً .. انتظرت لحين تأكدي من أن ( امتثال ) قد غادرت القاعة فأقبلت نحوي علياء وجلست بقربي ..سألتها إن كانت تحمل معها ( باندول ) في حقيبتها ..اشعر بألم فظيع في ظهري ..فهرعت نحو المبرد وأحضرت لي كوباً من الماء وأخرجت من حقيبتها قرصاً واحداً فطلبت منها أن تخرج قرصاً آخر ..ولكن هذا كثير يا قصي ..رقبتي توجعني ..والآن ألن تذهب معنا لتناول وجبة الفطور بالكافتيريا ..لا يا علياء ..أريد أن أكون لوحدي ..ممكن ..أحتاج لأن أبقي وحدي حتي موعد المحاضرة الثانية ..كما تشاء ..عموماً سأحضر لك معي ساندوتش ..لا أرجوك ..لا داعي للتعب ..لا أشعر بالرغبة في الأكل الآن ..استدارت لتغادر بيد أنها قفلت راجعة وكأنها تذكرت شيئاً مهماً ..بالمناسبة يا قصي ..امتثال تضايقت جداً من تصرفاتك أمام المدرج ..وكانت طوال المحاضرة تسألني عن أحوالك ..أنا بخير .. قولي لها بأنني سأكون بخير ولا تقلقي بشأني .
عبدالغني خلف الله
06-05-2013, 08:33 AM
الحلقة السابعة
أحاول جاهداً إعادة ترتيب حياتي وأولوياتي بما في ذلك ترتيب الغرفة التي تضمنا أنا والوالدة وشقيقتي رقيه ..لم يقصر خالي لدي عودتنا من البلد وعرض علي أمي أن تسكن في الشق الشرقي من الحوش وبه غرفتان وحمام ومطبخ ولكن والدتي آثرت أن تعيش في غرفة المرحومة جدتي ..قالت هنا أشعر براحة أكثر وأشم رائحة أمي في كل جزء من الغرفة ..هذا التفكير العاطفي هو الذي أضاع علينا الكثير من الحقوق ..كيف ندع المكان الأكثر راحة لنا من أجل حفنة من الذكريات لنعيش في هذا الحيز الذي لا يسمح لك حتي بالتحرك ناهيك عن وضع منضدة للمذاكرة والإطلاع ..لكنني أحترمت قرارها ..فلو أننا فكرنا في كل شيء من زاوية الربح والخسارة وبحسابات دقيقة لتحولت الأسرة إلي ما يشبه المنشأة أو المصلحة الحكومية .. وحتي هذه المواقع وبالرغم من رسمياتها المشددة فهي لا تخلو من العواطف والمشاعر .. إذن فلندع القسم الشرقي من الحوش لعفش خالي ماجد ..سافر لأمريكا للدراسة منذ عشرة أعوام وتزوج من سيدة مسلمة من الفلبين ..وهو بالكاد يتذكر أن له أسرة وأهل في السودان باستثناء أيام الأعياد ..يتصل ليقول العيد مبارك عليكم والعفش كيف ؟ ..العفش ؟ هل تسمي هذه ( الكراكيب )المتهالكة عفشاً يا خال ؟ اطمئن فقد عاثت فيها ( الأرضة ) فساداً واتخذتها الفئران غرفاً لصغارها ..ما تسأل عايشين كيف ..؟ أو حيصلكم فلان من نيويورك أو نيوجرسي لا فرق ويسلمكم مبلغ كذا دولار ..يااااخال ..يلا ..وأنت ما دخلك بالدولارات وكل شيء ميسر والحمد لله ..إذ بعد انتقالنا للعيش هنا بعدة أعوام ناضلت أمي بقوة لألحاقي بإحدي المدارس الأولية وشقيقتي بروضة الأطفال وقد كلفها ذلك الكثير من الجهد والمال واستنزف معظم ما حملناه معنا من ريع أملاك المرحوم أبي ..هل تعمل وأين ستعمل وكل رصيدها من التعليم الفصل الثاني بالمدرسة قبيل خطبتها وزواجها من أبي ..حتي أن فكرة العمل ووجهت بمعارضة شديدة من خالي وقام هو بالإنابة عنها بدفع أغلب الرسوم من حر ماله بما في ذلك الملابس والحقائب المدرسية والكتب والكراسات ..لكن حدث شيئاً لم نكن نتوقعه .. فقد طرق باب منزلنا ذات مساء شخص عّرف نفسه بأن اسمه هاشم وأنه مندوب لمنظمة خيرية تُعني بالأرامل والأيتام ..وأن المنظمة ومذ ذلك اليوم ستتكفل بمعيشتنا وتعليمي أنا وشقيقتي رقية ..انعقدت ألسنتنا من شدة الدهشة وأصابنا نوع من الذهول والارتباك هو خليط من الفرحة والاستغراب ..ثم وقبل أن يغادر سلم والدتي مظروفاً به مبلغاً محترماً من المال وطلب منا أن يكون الأمر سراً بيننا وبينه لأن مدير المنظمة يحب العمل الخيري في صمت وهدوء ..رجاءاً لا تخبروا أحداً حتي أقرب الناس إليكم بهذا الأمر وسأزوركم أول كل شهر إن شاء الله ..لم ننم ليلتها وقد أرسل الله لنا هذا الرجل بعد معاناة مع الحياة في الخرطوم ومتطلباتها الكثيرة بعكس الحياة في الريف ..والتي لا تتطلب الكثير.. بحيث يمكنك شطب أكثر من فاتورة واجبة الدفع في الخرطوم ..الغاز ..المواصلات ..الكهرباء ..الرسوم الجامعية ..وما إلي ذلك ..هل كانت ليلة القدر ..أم ماذا ؟!وفي ثاني يوم لالتحاقي بالمدرسة الأولية المكونة من قسم للأولاد وآخر للبنات يفصل بينهما حائط علي امتداد المدرسة من الشمال للجنوب تعرفت علي ( امتثال ) داخل الحافلة التي تقلنا من وإلي المدرسة وكانت هي الأخري في الصف الأول ..توطدت العلاقة بيننا لا سيما ونحن جيران ..وسمحت لها أسرتها بالمذاكرة في منزلنا أيام الامتحانات وأحياناً أنتقل أنا إلي منزلهم الفخم بعكس غرفتنا المتواضعة ..كانت أكثر مني ذكاءاً واستعداداً للفهم والاستيعاب لذلك أجد نفسي محتاجاً لها في شروحات معظم المواد .. وقد أراحتني امتثال من عبء إعداد وجبة الفطور أو تدبير ثمنها ..فقد أقنعت والدتها بأن لديها زميلة مسكينة لا تملك ( حق الفطور ) ..وبتُ أقابلها في ( الفسحة ) عند السور الفاصل بين المدرستين ..كانت أطول مني لدرجة اضطرتني لأن أضع عدداً من الطوب الأحمر فوق بعضه البعض مشكلاً بذلك منصة تجعلني في مساواة وجهها الصبوح وعينيها اللتين تشعان ذكاءاً وروعة ..تسلمني الساندوتش وتعزمني علي أخذ قضمة من الساندوتش الخاص بها ..وقضمة من هنا وقضمة من هناك ..ثم الثرثرة في شتي المواضيع والتهكم علي المعلمين والمعلمات وأحياناً صنع (المقالب ) لهم فيمر الوقت بسرعة ليأخذنا صوت ( الجرس ) بعيداً عن بعضنا البعض ..لكننا نعود بعد انتهاء اليوم الدراسي في نفس الحافلة وقد اتسخت ملابسنا من كثرة الركض واللعب في فناء المدرسة ..في البداية كانت تجلس مع زميلاتها في مؤخرة الحافلة ومع مرور الوقت صارت تجلس إلي قربي تؤانسني ونتبادل القصص والحكايات وأحياناً مجلات الأطفال التي لا تتوفر لي .. وظللنا علي هذا المنوال علي مدي تسعة أعوام وظن الكثير من الأساتذة والمعلمات والزملاء بأننا شقيقين .. وافترقنا فترة الثانوي العالي لأذهب أنا للدراسة في الداخلية بإحدي مدارس واد مدني بالجزيرة وواصلت هي تعليمها الثانوي بإحدي مدارس أم درمان ..كنت اشتاقها وأفتقدها أثناء العام وقد أضحت كالماء والهواء بالنسبة لي لنعود فنلتقي في الإجازات ..نذاكر معاً ونذهب إلي السوق معاً لشراء حاجيات والدتها التي كانت تثق بي ثقة عظيمة وتعتبرني كواحد من أفراد أسرتها وكانت تحب والدتي أيضا ونشأت بينهما مع الأيام صداقة شهدت بها جميع نسوة الحي ..كانتا تتقاسمان كل شيء ..وكنت أسعد عندما تطلب مني أمي في مرات قليلة توصيل شيء من الطعام والحلوي لمنزلها إذ باتت هذه وظيفة شقيقتي الصغري رقية وليست وظيفتي كشاب بدأ شاربه في الظهور ..استمرت علاقتنا تتعمق وتتوثق بدون أن نمنحها عنواناً محدداً ..هل هي علاقة حب ..؟ هل هي علاقة جيرة وصداقة وأخوة ؟ أم ماذا ؟ ..حقيقة لم نكن متأكدين من كنه تلك الصلة ..لكن ما ندركه تمام الإدراك أن مرور يوم واحد دون أن نري فيه بعضنا البعض يعتبر بنظرنا يوما لا يحسب لنا ..وأظل أنا وتظل هي مشوشة ومتضجرة ومتوترة عندما نغيب عن بعضنا البعض بعد انتهاء العطلة الصيفية ..فأين ذهب كل هذا يا تري ؟ ..هل يغير أسبوع واحد مجري غرام دافيءٍ كالشمس ويحولها عن مدارها ..يبدو أن هذا ما يحدث فعلاً وإلا ..إلا ماذا يا قصي؟ ..دعنا من ذلك
عبدالغني خلف الله
06-05-2013, 08:40 PM
الحلقة الثامنة
لم أعد أحتمل رؤية ( امتثال ) كل يوم وهي تترجل من عربة زوجها الدكتور جلال وتواجدنا داخل قاعة واحدة توحدنا الجغرافيا ويباعد بينناإحساس عارم بالإذلال .. أن يخونك شخص ما التقيته صدفة ..هذا شيء طبيعي ..أما أن يخونك شخص حفظته وساهمت في تشكيل شخصيته ووضعته في قائمة احتياجاتك الروحية والمادية مباشرة بعد الماء وقبل الهواء الذي تتنفسه ..فهذا شيء لا يحتمل ..لذلك تقدمت بطلب كتابة لعميد الكلية لتحويلي إلي المجموعة ( ب ) التي يقوم بتدريسها الدكتور يوسف بدلاً عن مجموعة الدكتور جلال متعللاً باكتظاظ القاعة وعدم قدرتي علي فهم ( الأكسنت ) أو الطريقة التي ينطق بها الدكتور جلال فوافق علي طلبي .. وفي ثاني يوم لاحظ أصدقائي عصام وطارق وزميلتنا علياء غيابي فاعتقدوا بأنني مريض أو شيء من هذا القبيل ..لكنهم تفاجأوا بي وأنا أغادر في الجهة المقابلة مع طلاب المجموعة ( ب ) ..شخص واحد لم يلحظ ذلك ولعل عشرات الأسئلة دارت بخلده عندما لاحظ غيابي في مكاني المفضل بالدرج الأخير ..إنها الرائعة المؤلمة ( امتثال ) .. سلمنا علي بعضنا البعض وسألوني عن سر وجودي مع المجموعة ( ب ) ..فشرحت لهم تفاصيل مقابلتي مع العميد وما حصل بعد ذلك ..لم تضيع علياء وقتاً فانحنت علي مقدمة إحدي العربات في باحة الكلية وأخرجت قلماَ وورقة سطرت عليها طلباً مماثلاً وتوجهت مباشرة نحو مكتب العميد لأجدها في ثاني يوم تجلس بقربي في قاعة المجموعة ( ب ) ..وتبعها في ثالث يوم طارق وعصام .. وعندما اكتشفت ( امتثال ) هروبنا من مجموعة الدكتور جلال واستحالة أن تفعل الشيء ذاته جُن جنونها وأصابها نوع غريب من الإحباط وبكت فوق كتف علياء آخر النهار مثل طفلٍ صغير وقالت لها ..ماذا فعلت لتتخلوا عني بهذه البساطة ..هل كفرت بالله وبسيدنا محمد ؟ ..لقد تزوجت علي سنة الله ورسوله ..والزواج قسمة ونصيب فلماذا تعاقبونني بهذه الطريقة ..قالت علياء ذلك وزادت بأنها تتمني لو تموت لتريحنا وترتاح ..وكان أول شيء فعلته بين المحاضرتين الأولي والثانية أن توجهت نحو مقعدها وقد بكرت هي في الدخول قبل الجميع ..كانت منكبة علي بعض الأوراق .. ولم تشعر باقترابي منها ..صباح الخير ..صباح ..صباح النور ..سلمت عليها بمحبة وصدق وبادلتني نفس الشعور ..كيفك ( امتثال ؟ ) ..آمل أن تكوني سعيدة مع الدكتور جلال ..وأنا ..وأنا ..أنت ماذا ؟ هكذا سألتني عيناها ..وأنا لست عاتب عليك بعد ..صدقيني يا امتثال أنت الآن أغلي عندي من أي وقت مضي تماماً كرقية أختي ..وإذا أساء الدكتور جلال معاملتك أو اضهدك لأي سبب في يوم من الأيام ..فقط كلمينا لنحضر أنا وبقية الشلة لنغتاله أو علي الأقل نعلمه كيف يتعلم أن يصون جوهرة غالية مثلك ..وكنت أعني كل كلمة أقولها ..نهضت من مكانها وقالت لي بحرارة ..أشكرك من كل قلبي يا قصي أشكرك جداً علي تفهمك لموقفي .. وفي الواقع ..وفي الواقع ..ثم لحظة صمت ودمعتان غاليتان انحدرتا علي وجنتيها الساحرتين ..كان الموقف فوق احتمالي وخفت أن يدخل أحد الزملاء فجأة فيسيء الظن بنا . .تركتها تكفكف دموعا ..وأنا أهمهم ..نشوفك ..اتفقنا ؟ ..اتفقنا..قالتها وهي تؤمي برأسها ونصف ابتسامة ارتسمت فوق شفتيها الورديتين .
عبدالغني خلف الله
09-05-2013, 05:41 AM
الحلقة التاسعة
هذا موسم الأحلام المؤجلة بل والميتة ..ما الذي بيديك لتؤجله وقد انتهي كل شيء ..انتهي الدرس يا غبي ..اين سمعت هذا الكلام ..في الإذاعة ؟ ..ربما .. أم في التلفاز والصحف اليومية ..هل أنا غبي فعلاً.. اذهب كل يوم إلي الجامعة وأتظاهر أمام زملائي لا سيما امتثال بأن كل شيء عال العال ..أضحك بكل العنفوان لأوهم الجميع بأنني بخير وفي الواقع كنت إنما أضحك علي نفسي وعلي حالي ..وعلي أية حال لن أذهب إلي الجامعة اليوم .. سأتسكع في مكان ما ..مكان يمكنني أن أرهن فيه أحزاني ..توجهت صوب محطة السكة حديد إنه أفضل مكان لذرف دموع الوداع ..وباحة لتلويحة متعبة بمنديل ..يطير بلا جناحين في فضاء المحطة ليعود بعد أن تطلق القاطرة صافرتها الحزينة ليكفكف دمعة ما تسربت من بين زوايا العيون ..باااي ..مع السلامه ..ما تنسي تتصل ..الجوابات ..نعم ..؟! ..قلت ليك الجوابات ..ما تنسي تكتب لي بعد ما تصل ..بيد أن كلماتها ارتطمت بجدار طقطقات عجلات القاطره ..وفي لمحة واحدة ..تباعدت عيون وأحضان ولم تبق سوي الذكريات ..لمحتها وهي تنتحب بشدة والزفرات ترجها رجاً الجوابات ؟! ..مع من تود التواصل هذه الأنيقة الصغيرة .زيا الله ..يا لنعموتها وإشراقها ....علي مهلك يا صغيرتي علي مهلك يا ..مي ..اسمي مي ..هل تعرفني ؟ ..أم حدث والتقينا من قبل ..لا ..أنا لا أعرفك ..لكن دموعك من بين جميع المودعين شدتني إليك ..هل أنت عاشقة ..أم ..آسف إذا سألت يعني ..لا ليس كما تتوقع ..إنه شقيقي الأكبر والوحيد يسافر إلي كوستي ومنها بالباخرة للجنوب ..هل هو جندي في الجيش ؟..لا في البوليس ..أخشي أّلا أراه ثانية ..لقد تخرج حديثاً من كلية البوليس ونقلوه إلي ملكال ..ملكال مدينة عظيمة وكبيره ..مثل الأبيض وكسلا والقضارف فلا داعي للخوف ..أمي لم تتمكن من الحضور لوداعه لأنها مريضة ولكنها كانت تبكي طول الليل ..ووالدك ..أين والدك ؟ ..والدي توفي منذ عام ..كان يتلهف لرؤية شقيقي (طلحة ) وهو يرتدي البزة العسكرية ..لكن سائق شاحنة متهورة دهسه وهو يهم بالدخول إلي مكتبه ..كان يعمل في حقل المحاماه ..ولكن لماذا اتكلم معك بهذه الصراحة ..من أنت ؟ ..حتي أنني لا أعرف اسمك ..أنا قصي وأدرس في الجامعة كلية الآداب ..ويتيم أيضاُ ..نحن إذن يتيمان في المدينة ..وأخيراً عادت الإبتسامة إلي فمك الرقيق يا مي ..تعرف يا قصي ..ما جعلني أطمئن إليك ذلك الشبه الرهيب بينك وبين طلحة ..علي الأقل في الشكل بيد أنه عصبي ومشاكس وقوي الشكيمة وهذا ما يجعلني أخاف عليه .. طلحة إنسان حبيب إلي قلبي ولا نريد أنا ووالدتي أن نفقده في حرب الجنوب .. ليت السلام يعم البلد ليعود لنا طلحة سالماً ..أتمني ذلك ..ولكن قل لي ..من كنت تودع ..لا أحد ..جئت لأرهن أحزاني هنا حيث الدموع والمناديل ولحظات الفراق الصعبة ..وأظنني وجدت الشخص المناسب لأودعه أحزاني ..ولماذا أنت حزين ؟ ..تزوجت حبيبتي وزميلتي من شخص آخر ..ما هذا الهراء يا .... قصي .. يا قصي ..تعرف ؟ ..اسمك صعب جداً ..أنت في مقتبل العمر وأمامك الكثير من الفرص ..زواج حبيبتك لا يعني نهاية العالم ..أها ..هنا فيلسوفة أخري تماماً مثل شقيقتي رقيه ..اختك اسمها رقيه ..نعم ..اسم حبوبات لكنه حلو وهو في البداية والنهاية اسم إحدي كريمات الرسول صلي الله عليه وسلم ..يا سلام عليك يا مي ..مذاكره كويس ..جبت 75% ورفضت التقديم السنه الفاتت وسأعود لأجلس ثانية لأدخل الطب ..موفقه يا مي ..طيب ..عندك مانع نمشي لأي مكان نتعرف فيهو علي بعض أكثر ..زي وين يعني ؟ ..جنينة الحيوانات مثلاً ..والله فكره هائله ..علي الأقل نخفف الضغوط الواقعه علينا ..واقعه علينا بس ؟ ..قولي عامله فينا عمايل ..وضحكنا بعفوية لا تصدق ..أخيراً ضحكنا بصدق وليس إدعاءاً .
عبدالغني خلف الله
09-05-2013, 05:46 AM
الحلقة العاشرة
وإلام ستظل تحمل فوق ظهرك ( صخرة سيزيف ) هذه ..لقد تزوجت إمتثال وأضحت خارج حياتك ..لا لم تخرج ..بل خرجت ..قلت لك لم تخرج ..إذن إذهب وتكوم خارج غرفة نومها لتكفكف دموعها .. طلبت من امتثال أن نخرج في نزهة لدقائق خارج أسوار الجامعة لدي بعض الفروض .. فروض ؟ ..سألتها بانزعاج واضح ..بحث حول قصة ( روميو وجوليت ) طلبه مني الدكتور ..قصدك الدكتور جلال ..؟ ..بالضبط ..ولكن ما دخل( روميو وجوليت) بمقرر السنة الثانية ..هذا جزء من مقرر السنة الثالثة ..لا أعرف ..عموماً لا بأس ..فلنخرج ..توجهنا نحو الشاطيء ..وجلسنا لساعة كاملة وربما أكثر ..أفصحت لها عما يجيش بخاطري ..حدثتها عن طيفها الذي ما أنفك يزورني في أحلامي ومن ثمّ يؤرقني حتي الفجر ..قلت لها كلاماً كثيراً أضحكها معظم الوقت وأحياناً أبكاها ..قتلتني نهنهاتها واضطرابها ..قدمت لها منديلاً لتكفكف دموعها وتمنيت لو كنت أنا ذلك المنديل الذي مررته علي خديها المصقولين كقطعة من المرمر ..والآن .. قصي ..قصي ..هل تسمعني أنت هناك ؟ نعم ..نعم ..كيف نعرب هذه الجملة ( معللتي بالوصل والموت دونه ) ..نعم دكتور ..معللتي ..معللتي ..لعلك كنت شارداً أثناء المحاضرة صحيح ..إنه علي حق..كانت أحلام يقظة لا أخالها تتحقق .. إجابتي جاءت خاطئة تماماً سرت علي إثرها همهمة وعبارات تندر وسخرية من الزملاء والزميلات ..علياء التقطت القفاز وأجابت نياية عني ..وما بين المحاضرتين قالت لي ..ما بك قصي ؟ ..كيف تشرد بهذا الشكل وأنت في المحاضرة ..لا ..لا ..قلت لها ..إنما كنت أعاني من صداع بسيط بسبب الأرق ..لم أنم جيداً ليلة البارحة ..أنت تفكر بامتثال ..صاح ..؟ لا علياء ولم أفكر بها ؟..امتثال خرجت من حياتي ومن تفكيري ..لا يبدو ذلك يا قصي ..علي العموم أنا جوعانه هل ترافقني للكافتيريا ؟ ..بالطبع أفعل ..يبدو أن لدينا ضيوف ..نسرين ..طالبه بالسنة الأولي اقتصاد ..عصام وهو يقدمها لنا ..سلافه ..طالبة بالسنة الثالثة حقوق ..طارق وهو يحذو حذو عصام ..أهلاً بيكم ..اتشرفنا ..علياء زميله في ثانية آداب ..الآن حان دوري أنا لأقدم قصي ..قصي يا شباب زميلنا في ثانية آداب ..اتشرفنا ..وأنا لن تفوتني هذه الرفقة الرائعة ..امتثال وهي تفرد يدها تسلم علسي طارق ثم عصام ونسرين وسلافة وأخيراً توقفت لدي وهي تتمتم ..حقو الزول ما يسلم عليك يا قصي ..اتفضلوا يا جماعه واقفين ليه ..علياء وكأنها بصدد ترأس الإجتماع ..ايه المفاجأة دي يا امتثال ..؟ ..طارق وهو يسأل ربما بالإنابة عني ..ليك مده ما فطرت معانا ..أهو جيت وتقدرو تعتبروني عازماكم علي شرف الآنستين ..منو ..؟ ..نسرين وسلافة .. طارق يعرفها علي الزميلات الجدد .. ومضي الوقت سريعاً دون أن نشعر به وكانت سلافة تطوف بنا حول العالم وتحكي لنا مشاهداتها وذكريات طفولتها في جنيفا وباريس وأكرا ..أنا شخصياً لم أغادر السودان ولا مرة واحدة ولا أعرف شكل الطائرة من الداخل ..وطبعاً البقية هي الأخري خارج إطار العالم الجديد .. نسرين من الجزيرة وطارق من الشرق ( أدروب يعني ) ..إيتنانينا يا طارق ..نسرين وهي تبدأ مشوارها مع طارق ..شنو يعني ( إيتنينا ) ؟! ..معناها السلام عليكم ..حلوه مش ؟! ..سلافه تعلق علي المفردة الهدندويه ..بالمناسبه أنا عشت في كسلا حوالي شهر ..والمناسبه شنو ..لا أبداّ مشيت قعدت مع شقيقتي محاسن وهي تضع مولودها الأول ..لكن المسائل دي مهمةالأمهمات ..أمي متوفيه ..رحمها الله ..هتفنا بصوت واحد ..أنا آسفه يا سلافه نسرين الرائعة وقد أرخت لدموعها العنان .. وعصام القادم من كردفان يسفح كل حنان الربي والوديان السمراء أمام عينيها ويطوقها بإحساس لافت ..خلاص يا نسرين ..خلاص ..في الأول ما تسالني ليه أنا ببكي ..لأني برضو فقدت الوالده الله يرحمها ..رحمها الله هتفنا مرة أخري وبصوت لافت ..دي جامعه ولاّ دار أيتام ..طارق أدروب وهو يضفي علينا شيئاً من المرح ..في البداية ضحكت امتثال يصوت عالٍ لكنها وضعت يدها علي فمها وهي تحرك عينيها يمنة ويسرة ليطلق الجميع لأنفسهم العنان فضحكنا كلنا ..في البداية كانت الضحكات الحبيسة تأني فرادي لتنتظم الجميع الشيء الذي أثار انتباه كل الحاضرين بالكافتيريا .. ..لكن شخصاً ما أراد لتلك الدقائق المترعة بالروعة أن تنتهي إلي لحظة صمت وألم ..فقد ظهر الدكتور جلال في مدخل الكافتيريا وصرخ في وجه امتثال في حدة وغلظة ..امتثال ..تعالي هنا بسرعة ..فوجئت المسكينة بصراخه وزعيقه في وجهها واعتراها إحساس جارف بالحرج والمهانة فقامت علي عجل تلملم أشيائها فاصطدمت بكوب العصير القابع أمامها ليأخذ العصير طريقه عبر سطح الطاولة مباشرة نحو ملابسي .. هل هي رسالة من نوع جديد ؟ ..هُرعت نسرين الرائعة تخرج منديل لها من حقيبتها تساعدني في إزالة البلل الذي لحق بملابسي وهي تردد حصل خير يا جماعه ..إندفق الشر ..أما إمتثال فقد رددت عبارتها التي أحفظها عن ظهر قلب ..أنا آسفه وتمسح أحزانها وهي تغدو وتروح ..والدكتور جلال يسومها سوء العذاب بعد أن تأكد له أنها معه فقط بجسدها وليس قلبها ..تحرر يا صديقي من استعمار إمتثال وعد إلي تلك اللحظات المترعة بالروعة مع ( مي ) في حديقة الحيوانات .. يا لعزوبة الطفولة في عينيها ..بل آه من الدهشة والإنبهار وهي تتقافز وتعدو أمامك من حظيرة إلي حظيرة كفراشة جذلي ترفرف للمطر ..هل تتذكر يا قصي تلك العاصفة من الحبور التي ظللت وجهها الصغير وهي تضع حبات ( التسالي ) في كف الشمبانزي ..والمجنون يمنحها ابتسامة عريضة ..لعله قرأها بنفس اللغة التي أفهمها وتاه في سطور انفعالاتها كما أفعل .
عبدالغني خلف الله
10-05-2013, 09:27 AM
الحلقة العاشرة
لا تزال علاقتنا مع أعمامي في البلد قائمة بالرغم من الأحداث المروعة التي وقعت هنالك وسقوط عدد من أبناء عمومتي بين قتيل وجريح ..فقد كانوا بالرغم من كل ذلك الواقع المرير يرسلون لنا نصيب والدنا كل من التركة التي تليه ..بعض الأغنام والبلح والفول المصري والقمح ..لذلك عندما حضر عمي بشارة لمنزلنا اعتقدت أن زيارته تجيء في هذا الإطار ..بيد أنه فاجأ الجميع عندما شرح لأمي الغرض من زيارته ..إنه يطلب شقيقتي رقية لابنه المعتصم بالله وكان قد حضر معه في آخر زيارة لنا .. قالت له المعتصم علي العين والرأس وهو منا وإلينا ولكن رقية صغيرة علي الزواج وأمامها مشوار طويل في التعليم .. متي ستكمل الثانوي العالي وهي في السنةالأولي .. ومتي تلتحق بالجامعة وتتخرج ..والمعتصم ما شاء الله ولد ليهو قيمه وتاجر مواشي كبير ..خلينا ننتظر شويه يا عمده ..وأنت يا كبير العائلة ..ما رايك ؟ ..وكان يوجه الحديث لي ..والله يا عم أنا أتشرف بالمعتصم بالله زوج لشقيقتي ..فهو شاب خلوق ومهذب وهو في النهاية إبن عمي ..أري أن نسأل رقية عن رايها فهي صاحبة الشأن ..ثم .. كيف نقيم عرساً وأبناء عمومتي من الجانبين ينتظرون تنفيذ أحكاماً بالإعدام ..ألا تري يا عنمي أن الوقت غير مناسب للأعراس ..صحيح نسيت أن أخبركم ..لقد توسط الشيخ ( الضهبان ) بارك الله فيهو بيننا وأبرم صلحاً برعاية حاكم الأقليم يتولي بموجبه شقيقي العمده ( خضير) العمودية وأمثّل أنا أهل الدائرة في الانتخابات القادمة وقد بارك الرئيس جعفر النميري ذلك الصلح وأصدر عفواً شاملاً عن المحكومين ..لقد أقمنا احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة ..يا الله كيف فات علينا دعوتكم ..أصابني نوع من الأحباط من القضية برمتها خطوبة شقيقتي واحتمال أن توافق وتقطع تعليمها ..لماذا ؟ ..ألم توافق ( امتثال ) بالزواج من الدكتور جلال خلال أيام ..لكن ما أحبطني حقيقة تجاهل أعمامي لنا .. نحن من نحن .. والله آسف وتمسحوها لينا في وجوهنا وليكم عليّ نعزمكم ونحتفل معاكم أسبوع كامل ..اسبوع ؟ ..ما قصة هذا ( الأسبوع ) معك يا قصي ..تتزوج امتثال خلال اسبوع ويحتفل بكم أعمامك لمدة أسبوع ..ها قد عادت رقية من المذاكرة ..أهلاً عمي بشاره ..كيفك .. إن شاء ناس البلد بخير ..بخير يا عروستنا ..أقصد يا بنيتي .. رقية قبل ما تقعدي دايرك في كلمتين .. أخذتها خارج الغرفة وحملت لها السبب من زيارة عمي ..هل تمزح يا قصي ..أم أن هذه نكته سخيفه ..عشان كدااا .. يا عروستنا ويا بتنا ..لا بالله .. معقول أتزوج وأنا في أولي عالي وأترك مستقبلي ودراستي ..؟ ..المهم رأيك شنو ..أرفض رفضاً باتاً بالرغم من احترامي وتقديري لابن عمي المعتصم فهو ( زول جنتلمان ) ..يعني هذا رأيك الأخير ..طبعاً يا قصي ..تركتها وهي تردد يا الله ..دي مفاجآت شنو دي ؟ .. قلت لعمي بطريقة الكبار ..والله يا عمي كان لينا عظيم الشرف لكن القسمه ما ساقت ..رقية ترغب بالدراسة .. لم تتفوه أمي بكلمة واحدة وتحولت إلي قطعة حجر لا تري ولا تسمع بعد أن جاء عمي علي ذكر الشيخ (الضهبان ) ..هل يكون هو أبو قصي ؟ ..استغفر الله العظيم .
عبدالغني خلف الله
10-05-2013, 09:33 AM
الحلقة الحادية عشرة
علياء تلتف حولي كالسوار للمعصم..تضبط إيقاع يومي كسكرتيرة خاصة وليست كزميلة..هذا الأهتمام الشديد أربكني ..تحفظ جدول المحاضرات ..وتنتظر مقدمي لدي بوابة الجامعة ولا تدخل إلا وهي معي..لماذا وكيف ؟!! ..نعرج علي ( كنبة ) نائية بأحد أركان الجامعة تحت شجيرة بلوط عتيقة فتأمرني بالجلوس نذاكر دروس الأمس ونستعد لمحاضرات اليوم والسمنارات والبحوث التي يطلبها منا الأساتذة ..هذه الصبية جادة ومنضبطة برغم جمالها الساحر ..لو أن فتاة أخري تملك قوام وجمال علياء لأصبح شغلها الشاغل تعذيب الآخرين ..لكنها تتجاهل حقيقة أنها جميلة وملفتة للأنظار ..وكانت رؤية أعناق الزملاء تلتفت نحونا لدرجة أن بعضهم تتعثر خطاه تشعرني بالغضب ..هل هي الغيرة يا قصي ؟! .. ربما ..وعليّ أن أعترف بأن علياء تتشرنق حولي في لطفٍ وتؤدة يوماً بعد يوم ..هل ستذهب معي إلي الندوة يا قصي ؟ ..وما هو الموضوع ؟ ..تجربة عبد الناصر في الحكم ..تعلمين يا علياء أنني لست مهتماً بأمور السياسة ..أعرف ..ولهذا السبب بت تتهرب من صديقك أسامة ..أسامة شاب لطيف للغاية لكنه ما أنفك يدعوني للانضمام للأخوان ..وأنا أيضاً مثلك ..فترت علاقتي بصديقتي سامية لأنها تلمح لي وبإلحاح غريب للأصطفاف مع الشيوعين .. قالت لي إنها رغبة الرفاق بالجامعة ..ألا يوجد حزب وسط ؟ ..بالطبع ..فهنالك حزب البعث العربي ..حزب البعث ؟! ..لا تقل لي بأنك لم تسمع بحزب البعث أو أنك لا تستمع لخطب زعيمه ( ميشيل عفلق ) ..هل أنت متأكدة بأن هذا هو اسمه الصحيح ..آمل ألاّ يكون اسم وزير خارجية لبنان..لا ..لا ..أظنه هو ..حزب البعث يا قصي هو بالأصل سوري عراقي لكنه يجتذب الكثير من الشباب العرب هذه الأيام كحزب منافس للقوميين العرب والأخوان والشيوعيين ..تعرفي يا علياء ..بطلي الخطب الرنانة هذه يااا ..ماذا ؟! .. رنانه ..ودعينا ندخل سينما ال ( بي . أن ) ..والتذكرة علي حسابي يا شيخة ..شيخه أنا ؟!! ..مقبوله منك ..والفلم اسمو شنو ..صوت الموسيقي ..لم نتأخر في الوصول إلي سينما النيل الأزرق ..ذهبنا سيراً علي الأقدام علي طول شارع النيل نثرثر في مواضيع شتي وغير مرتبة..كنت مشوش الذهن وهذه الجميلة تسير إلي جواري ..تأملنا لحظة بزوغ القمر واتفقنا أنه وبعد التخرج يغادر كل واحد منا مكانه مهما كانت الظروف ومهما تكن أهمية من هم في معيته لتأمل البدر لحظة اكتماله ويقول ..يقول ماذا ؟ يقول كيفك يا علياء ؟ ..كيفك يا قصي ؟ مشتاق ليك ومشتاق لأيام الجامعة ..ساعتها تكون آلام الرطوبة وضجة العيال قد هدت حيلي ..حيلك ..حيلك يا قصي ..لقد ذهبت بعيداً جداً إلي آخر نقطة في المستقبل ..والحاضر يا قصي ألا يستحق منك ولو التفاتة قصيرة ..أم أن امتثال أصابتك بعمي الألوان ؟..لا والله يا علياء .. يستحق وأكثر ..بالجد يستحق ..وهكذا مضي الوقت ولم نشعر به كما أننا لم نتابع مجريات الفلم ..بل هوّم كل منا في أحلامه السرية وطموحاته الغائبة ..وعند مدخل داخلية البنات ودعتها وكأنني سأفارقها للأبد وليس بعد سويعات قلائل ..ولدي حضوري صباح الغد أخذتني إلي ذلك الركن القصي وقالت لي في غضب شديد لم أعهده فيها .. ليتنا لم ندخل السينما معاً يا قصي ..لماذا وما المشكلة ؟ .. إنها امتثال ..قابلتها قبل مجيئك وسلمت عليها بحرارة وود كعادتنا دائماً بيد أنها سلمت عليّ بفتور شديد ..واختصرتني بحجة أنها علي عجلة من أمرها ..كانت في ما مضي تأخذني لساعات تحكي لي أدق أسرارها وبالتفاصيل المملة ..بدأت كلامها بالحديث عن فلم البارحة وكيف أنها قد شاهدته مع الدكتور جلال .. حدثتني عن الوفاء المفقود في هذا الزمان وكأنها تريد أن تقول لي ..( لا تكذبي إني رايتكما معاً ) ..سرعان ما أخذت مكاني يا صديقتي الغالية مع قصي ..قلت لها إذا كنت تلمّحين إلي أن ثمة علاقة ما تربطني مع قصي فإنها مجرد زمالة لا أكثر ..وأنني لا أفكر في هذه المرحلة سوي في دراستي فقط ..لكنها لم تقتنع ..لا بد أن السيدة امتثال لا تزال مغرمة بك يا أستاذ قصي ..حديثها عنك وبحماسة متدفقة ليس له تفسير سوي أنها لا تزال تحبك ..لا ..لا يا علياء أنت مخطئة تماماً ..امتثال خرجت من حياتي ..تماماً يا قصي ؟! ..عفواً علياء ..استطيع أن أقول بأن ثمة جراح يصعب أن تلتئم بالسرعة المرجوة ولكنها تأخذ وقتها ..لا أريد لتلك الجراح أن تنزف مجدداً لذلك سأتركها للزمن فهو كفيل بها ..وأنت ماذا تظنين ؟ ..هل كنت صادقة مع نفسك عندما شكلت العلاقة التي تربط بيننا علي أنها زماله فقط ؟ وهل يملك المرء حرية اتخاذ القرارات فيما يخص علاقاته بالآخرين دون التعرف علي وجهة نظرهم ؟ ..ماذا تقصد بكلامك هذا يا قصي ؟ ..ما خلاص أنت حللت واستنتجت وشكلت الإطار العام لما بيننا ..كنت أطمع علي الأقل في أن تنقليني إلي مرتبة الأصدقاء مثلاً ..فإذا بك تقيّمين العلاقة التي تربطنا بأنها مجرد زماله ..اسمع يا قصي ..هنالك مشاعر لا تحتمل الأخذ والرد وأي إفصاح عنها يقلل من روعتها ..هل تفهمني ؟ ..يعني .. 50% ..لا بأس يا قصي ..( الباص مارك ) في أمور الحياة يعادل ( كريدت ) في الجامعات.
عبدالغني خلف الله
13-05-2013, 08:26 AM
الحلقة الثانية عشرة
إقتربنا من إجازة نصف العام ..طارق أدروب قررتمضيتها في الشرق مع أهله الهدندوة ..صدقني يا قصي أنا لا أشعر بالراحة إلا في أربعة مواضع ..عندما أكون علي ظهر ناقتي أذوب في ثنايا السهول الخضراء ..أو عندما أسامر نهر القاش وهو يداعب الشاطيء بجنونه الغامر ..وعندما أجلس تحت شجيرة ظليلة في غابة ( هداليا ) ..أصنع لنفسي كوباً من القهوة وأتصيد الظلال ..والموضع الرابع يا أدروب لعلك نسيته ..الموضع الرابع يا صديقي الصدوق قصي هو الأهم وهو عندما أكون وسط جميلات الشرق أغني وأرقص رقصة السيف ..رقصة كسلا ..لذلك لا مكان لي في الخرطوم وأنا في إجازة ..أما نسرين وعصام فقد قررا قضاء الإجازة بالخرطوم وخططا لقراءة نصف مكتبة ( البريتش كاونسل ) معاً ..عصام يلقب نسرين بالواحة ..ويسأل عنها عندما تتأخر في الوصول للجامعة ..يا أخوانا الواحه ما عاودت .. ثم يتابع .. ( واحة البشيري )..هلا..هلا ..يا بت الجزيره ..يا بحر الدميره ..وقد يغني ( فتيل البخاخ ..وقع مني راح ..إن شاء الله كان ساعتين ..أنا بقّبل وين ..) ..ما جننتنا جن يا عصام بفتيلك ده .. سلافه وهي تعلق في امتعاض ..وأنت يا ( اسير الغرام يا قلبي ) ..أين ستذهب ؟! ..أما أنا فسأذهب للبلد أيضاً فقد توطدت علاقتنا بابن عمي المعتصم بالله ..ما شاء الله عليهو ..أصبح من تجار المواشي المرموقين واشتري عربة بوكس آخر موديل ..والدتي سمحت لي بالسفر بعد أن اطمأنت لصحبة المعتصم والذي صار تقريباً فرداً من العائلة ..ينزل عندنا كلما أتي لمتابعة إجراءات تصدير الماشية لدول الخليج ويغدق علينا الأموال باستفاضة بالرغم من أننا لا نحتاج لدعم يذكر سيما ومندوب المنظمة لا يتأخر في توصيل الهبة المقررة لنا أول كل شهر..لكننا وفي آخر يوم للدراسة وبينما نحن نتأهب للدخول لقاعة المحاضرات لمحت خيال فتاتين تتقدمان نحونا وعندما اقتربتا وجدت أن البنت الأنيقة التي تركض باتجاهي ليست سوي الغالية ( مي ) ..مي !!! ..مش معقول ..إزيك يا قصي ..كيف يعني ولا مره واحده تسأل علينا ..الوالدة مصممه أني أزورك في الجامعة وأطمئنها عليك ..عقدت كلتا يديها أمام صدرها وهي تتحرك بكل الإتجاهات تنشر الدهشة والذهول وكأن الجميع يقول في سره ..يا لهذه الصبية الحلوة ويا لكل هذا النشاط ..كانت تتفجر حيوية ومرحاً ..قلت لها إنتظري سآتي معك ..قالت لي ..لا ..ما في داعي ..خالي ينتظرني بعربته عند بوابة الجامعة ..اشوف وشك بخير ..وإنتي كمان ..علياء سألتني باضطراب واضح ..دي أختك ؟ ..لا ..وإلا كنت قد حدثتكم عنها ..إنها من أقاربنا ..قرابه بعيده وكده ..لكن القلق لم يبارح وجهها الصبوح ..أما امتثال فقد حدجنتنا من الجانب المقابل بنظرات مستغربة ذلك الموقف ..أدروب علق قائلاً ..دي شافعه ولاّ كورة تنس ؟! ..هكذا أدروب ..دائما يبعث السرور في أنفسنا بتعليقاته المرحة .
تدحرجنا أنا والمعتصم في الطريق الترابية الوعرة وسط الوديان والمنعطفات الجبلية باتجاه قريتنا ..وكانت لحظات الفراق قاسية علي الوالدة وكذلك علي شقيقتي ( رقية ) ..فهي المرة الأولي التي أغادر فيها المنزل لمكان ما خارج العاصمة بدون رفقتها الحلوة ..وظلت طوال الليل مسهدة لا يغمض لها جفن وهي توصي المعتصم عليّ وكأنني طفل في السادسة من العمر وليس طالباً جامعياً في السنة الثانية بكلية الآداب لي راي وموقف حتي من رئيس الجمهورية وسياسات الحكومة واتحاد طلاب الجامعة ..لقد كبرت يا أماه وليتك تستوعبين هذه الحقيقة ..أنا أقدر لك حرصك وخوفك عليّ يا حياتي ولكن لا تبالغي في إظهار قلقك بهذه الطريقة ..يوماً ما ستدرك مقدار ما أعانيه يا قصي ..يوماً ما ستدركون جميعاً ما معني أن يكون لك ولد وتكون لك بنت ..أنت ولدي الوحيد ورجل هذا المنزل خاصة بعد وفاة المرحوم أبوك ..كيف تريدني أن أتجمل بالصبر بينما أنا أموت شفقة عليك يا ولدي ..ربما أمي معها حق في كل الذي قالته ..فنحن مهما كبرنا نظل أطفالاً بنظر آبائنا وأمهاتنا .
..استقبلتني القرية بحفاوة لا تصدق وكأنني زعيمها وسيدها الأوحد ..ربما كانوا يجدون في شخصيّ المتواضع ملامح أبي المرحوم العمدة ..كان ذلك واضحاً من الدموع التي ذرفت والآهات والزفرات التي خرجت من صميم الحنايا ..لله دركم يا أهلي وعشيرتي ..لقد اكتشفت ومنذ الوهلة الأولي أن الإنسان لا يساوي شيئاً بدون أهله وعشيرته الأقربين
عبدالغني خلف الله
14-05-2013, 05:36 AM
الحلقة الثالثة عشرة
..وبعد أن استعدنا حيويتنا ونشاطنا مما ألم بهما نتيجة المشوار القاسي بين الخرطوم والقرية تتبعنا قطعان الماشية أنا والمعتصم ليشتري ما يحتاجه منها للتصدير ..واكتشفت أنه أصبح خبيراً ضليعاً في هذا المجال ..كان يكشف عليها وكأنه طبيب بيطري وكلما نؤمن كمية بقدر ما يسعه صندوق العربة نعود أدراجنا للقرية لنعاود الترحال من جديد ..وكم كانت دهشتي عندما أخرج المعتصم بندقيته ذات صباح وظل يطارد سرباً من الغزلان حتي ضحي ذلك اليوم لنظفر باثنتين منهما ..لم استمتع كثيراً بالصيد وقد تعمدت عدم إصابة إحداهن وكانت في محاذاة العربة تماماً ..الشيء الذي أحبط المعتصم ..وعمدت النسوة إلي تجهيز وجبة مميزة من لحم الغزلان وسهرنا علي الغناء ينبعث من مسجل العربة ..وكان للفنان المعروف ( أحمد المصطفي ) ..أيام بتمر ووراها ليالي .. سقتني المر وأبت ترتالي ..أظنني أنا المقصود بهذا الكلام ..ولا أدري لماذا أعادني الغناء مباشرة إلي امتثال وليس علياء ..لكن أغنية أخري سجنتني في باحة طيفها ..في سكون الليل ..الليل ..دعنا نجتلي الصمت الرهيب ..إن في عينيك معنيً فوق إدراكي عجيب ..وتذكرت حديثها لي عن القمر ولحظة اكتماله وكان في واقع الأمر يكمل استدارته في تلكم اللحظة من تلك الأمسية الصيفية الرائعة وقد لف السكون القرية إلا من صوت المسجل وغثاء الشياه ونباح الكلاب وزغرودة سابحة في الفضاء أتتنا من الشاطيء الآخر ..هذا هو عرس الشيخ ابراهيم من ( هناء ) ذات العشرين ربيعاً ..والله إني لأغبط الشيخ ابراهيم إبن الستين سنة وهو يتزوج من أجمل بنات الناحية ..فتاة كثيرة الصفات ..فهي بجانب جمالها الفائق معلمة وسليلة أسرة عريقة بالجانب الشرقي وسرعان ما واتتنا أصوات النحاس والطلقات النارية ..لتؤكد لنا ما ذهب إليه المعتصم .
مرت أيام الإجازة هانئة لا يعكر صفوها شيء ..بيد أن حدثاً استثنائياً هو انتخابات الدائرة المؤهلة لمجلس الشعب بالخرطوم فجرت النزاع القديم بين أعمامي من جديد بالرغم من الصلح المكتوب الذي شهده حاكم الإقليم ..فقد أصّر عمي العمدة ( خضير ) علي الترشح للإنتخابات مخالفاً بذلك نصوص الصلح التي قضت بأن يتبؤا هو منصب العمده ويترشح عمي الماهل للمجلس التشريعي ..ودار صراع خفي واستقطاب حاد عندما ترشح كلاهما ..وفي صبيحة اليوم المحدد للتصويت تجمع عدد كبير من رهط وعشيرة الطرفين للإدلاء باصواتهم ..وكنت قد بذلت جهوداً جبارة للحيلولة دون وقوع ذلك النزاع مستثمراً مكانة والدي المرحوم والعمدة السابق غير أن نداءاتي ذهبت أدراج الرياح ..وفي لحظة حاسمة عندما أدرك أنصار عمي الماهل بأن أصوات العمدة قد باتت أضعافاً مضاعفة وقد جذبها بريق السلطة كما في كل أركان الدنيا هجم أبناء عمي الماهل ومرافقيهم علي غرفة الاقتراع بالمدرسة الأولية واقتحموها وحطموا الصندوق وأشعلوا النار في المكان الشيء الذي أدي لتدخل الشرطة وفض الاشتباك بين الطرفين وقد تطور من مجرد الملاسنات والاشتباك بالأيدي إلي تسبيب الأذي بالعصي والفئوس .. وكان موقفاً مؤسفاً لم أكن أتصور بأنني سأكون شاهداً عليه ..اعتقلت الشرطة مثيري الشغب وكان عددهم حوالي العشرين وهرعنا إلي رئاسة شرطة المنطقة وتدخل الأجاويد من الجانب الشرقي وبعض المسئولين وتم احتواء النزاع بعد أن قررت لجنة الانتخابات إعادة الإنتخاب تحت الحراسة المشددة ..وخاض عمي الماهل الانتخابات بمساندة الجميع بعد أن تنازل له العمدة ليفوز بالدائرة علي مرشح آخر من السياسين القدامي الذي ينتمي للقرية المجاورة ولا يقيم بها.. إنما يقيم بالخرطوم ونادراً ما يزور المنطقةهو وأسرته ..أقيمت الأفراح ونحرت الذبائح ابتهاجاً بفوز عمي الماهل وقد علمت فيما بعد أن ذلك الخصم استغل ذكائه ودهائه السياسي وخبراته لزرع الخلاف بين أعمامي وكان حتماً سيفوز بالدائرة فيما لو ترشح الإثنان ..وفي خضم تلك الساعات المترعة بالروعة بزغ القمر وأكمال استدارته فتذكرت علياء وطيفها الرفراف يدعوني للوفاء بوعدي لها ..استأذنت الحضور وصعدت علي التلة الصغيرة المطلة علي القرية وهتفت بصوت مسموع ..علياااااء ..كيفك يا علياء ..فجاوبتني أنسام المساء الفارهة وكأنها تحمل إليّ صدي مناجاتها .. وعدت للمنزل وأنا أحتضن طيفها حتي الصباح .
mahagoub
15-05-2013, 05:59 AM
غبت عنك كثيراً
ووجدت الاشياء تشابكت
ولكن استمتعت كثيراً
وانت تجيد القياده السلسه
عبدالغني خلف الله
15-05-2013, 09:00 PM
عزيزي محجوب ..عساك بألف خير..وقد إفتقدتك وشعرت بشيء من القلق عليك ..الحمد لله علي حضوركم المفرح وإلي حلقة جديده لك ولكل المترفين بهذا المنتدي المورق .
عبدالغني خلف الله
15-05-2013, 09:03 PM
الحلقة الرابعة عشرة
غادرنا القرية عائدين أدراجنا وفي معيتنا عمي الماهل نائب الدائرة الجديد ونزل الجميع بمنزلناكبادرة تقدير واحترام لذكري المرحوم والدي ولم نكن بحاجة لشراء خراف لتحتفل الأسرة بعودتي سالما فقد كان بصندوق العربة ما يكفي .. وكم كانت أمي سعيدة بهذه الرفقة الغالية علي قلبها رفقة أهل البلد .
* * *
كانت عودتنا لقاعات المحاضرات بعد إنتهاء إجازة نصف العام عودة صاخبة ومفرحة .. فقد عدنا بلهفة وشوق للجامعة ولسان حالنا يقول إن أية لحظة نمضيها خارج أسوارها كئيبة ومملة ..وكان أول فرد من المجموعة التقيه الرائعة سلافة وما بين المحاضرتين الأولي والثانية أسرت لي بأنها ستضع أدروب في موقف لا يحسد عليه عندما يلتئم شملنا ..ولم تتأخر في الإفصاح عن نواياها وأخرجت علبة صغيرة بها خاتم ذهبي وقالت ..هذا الخاتم يخص شقيقتي رؤي ..وهي مخطوبة وقد طلبت مني أن أعرج علي سوق الذهب وأنظفه لها ..سأقوم بوضعه علي معصمي باعتبار أنني قد خطبت أثناء الإجازة لأري ردة فعل طارق أدروب فقد لاحظت أنه متيم بي ولكن طبعه البدوي المتأصل في دواخله يمنعه من التعبير صراحة عّما يجيش بخاطره ..قلت لها الكل يعرف إعجابه الشديد بك وهو بالمناسبة يلقبك بسلافه القيافه ..والله ..؟! قالت وهي تضحك ..بختكم يا ماما .. كل واحد في المجموعة لديه لقب إلا العبد لله .. نسرين الواحه وسلافه القيافه وأنا ..من يبيعني ولو شبح لقب أتفاخر به بين أقراني الطلاب ..لماذا ؟ ..ألم تسبغ عليك امتثال ولو لمرة واحدة أي لقب؟ ..وما الداعي لتذكيري بها الآن يا سلافة .؟ ..هل عادت من الإجازة ؟ ..والله لا أعلم ولا أريد أن أعرف .. وبالفعل أخذنا مواقعنا في الكافتيريا ونحن نقضم الساندوتشات ونرشف العصير الطبيعي لأننا نقاطع وبصفة شبه يومية قاعة الطعام بالرغم من أن الوجبات مجاناً وغنية بما لذّ وطاب لدواعي الكسل والحرص علي اغتنام زمن الإفطار لنجلس معاً .. سلافه يا خاينه ..صرخت نسرين وقد لاحظت الخاتم الأنيق وقد أخذ موقعه في أروع أنملة رايتها في حياتي ..معقول يخطبوك وما تدينا خبر أو تعزمينا ..منو الانخبطت ؟!! أدروب وقد هالته المفاجأة وجعلته يترنح كالسكاري من هول الصدمة ..سلافه .. ما شايف الخاتم يا طارق ..خاتم لشنو ..؟ ..ولم يكمل المسكين جملة واحدة علي بعضها البعض ..وتداخلت الحروف في الحروف والكلمات في الكلمات ..هنا شلحت سلافة الخاتم من أصبعها وهي تقول ..لا اتخطبت ولا انخبطت .. كل ما في الأمر أن رؤي شقيقتي طلبت مني أن أعمل شوية صيانه للخاتم وقد أعجبني فقلت في نفسي لم لا أجربه ..يمكن يجيب لي عريس ..كلها سنه واتخرج وأودعكم يا ( برالمه ) ..تنفس أدروب الصعداء وهو يهمهم ..ما جننتنا يا خي ..أيه الهظار البايخ ده ؟ ..لعلك تنوي خطبة سلافه يا أدروب ؟ ..فأجأته بسؤالي وأنا أنظر مباشرة في عينيه ..إنتو قايمين علي الليله دي مالكم ..منو المحرشكم ؟! ..تبادلت النظرات مع سلافة وكأنها تقول لي .. شايف يا قصي ..كلامي طلع صاح مش ؟! ..لكن يا سلافة .. يا عزيزتي الغالية حرام أن يتلاعب الإنسان بمشاعر الآخرين حتي ولو عن طريق المزاح فمثل هذه الأمور لا تقبل التلاعب ..كيف لأدروب المسكين أن يطال سماواتك البعيدة ومراسيك الصعبة ..إبنة سفير طافت العالم وتتكلم ثلاثة لغات أجنبية ولديها وثيقة سفر بريطانية ..وتسكن في منزل من ثلاثة طوابق ..هل سترضي بالحياة الصعبة التي يعيشها الناس في البادية ..ولم لا يا قصي ؟ ..فالحب يصنع المعجزات ويحطم الفوارق الأجتماعية في لمحة من البصر ..علي العموم سنري كيف ستسير الأمور بين هذين النقيضين إذا مد الله في الأيام ..
عبدالغني خلف الله
28-05-2013, 05:51 AM
الحلقة الخامسة عشرة ويتواصل المشوار معكم وبكم ..
نحن الآن في عامنا الرابع بالجامعة ولم تتبق سوي أيام قلائل لنجلس لامتحانات التخرج وقد حدثت أشياء وأشياء كثيرة خلال العامين المنصرمين .. سلافة سبقتنا بعام في التخرج وتزوجت من القائم بالأعمال بسفارتنا بواشنطن..وكان وقع رحيلها صعباً للغاية علي أدروب لكن التحاق الصغيرة ( مي ) بالجامعة قد خفف عليه الأمر قليلاً لينصرف لها تماماً كشقيقها الأكبر ..وكدنا نفقد نسرين بسبب مرض البلهارسيا اللعين لولا لطف الله وعنايته.. فقد هُرعنا بها وهي في حالة الخطر للمستشفي .. وعندما علم عصام بما ألمّ بها جن جنونه فركض نحو شارع الجامعة يلتمس عربة أجرة تقله حتي المستشفي وفي غمرة انفعاله فقد القدرة علي التركيز لتطيح به عربة ملاكي وتهشم ساقيه ليصبح لنا مريضان بدلاً من مريض واحدة ..بيد أن نسرين تعافت وواصلت دراستها لكن عصام فقد عاماً دراسياً كاملاً وهو يتنقل من مشفيً إلي مشفي ومن طبيب إلي طبيب وأقسمت نسرين بأنها لن تستلم شهادة التخرج ما لم يكمل عصام الجامعة وستظل بجانبه تراجع معه مققر السنة الرابعة محاضرة بمحاضرة حتي يلحق بنا ..ذلك لأن نسرين بطبيعتها الريفية وووجانها السليم أدركت بأن عصاماً هذا القادم من ضواحي بارا لم يكن ليعاني لولا حبه الشديد لها ولهفته عليها .... أما امتثال فقد تعقدت علاقتها مع زوجها الدكتور جلال بصورة دراماتيكية أقرب للخيال .. فقد سبقت زوجها ذات يوم في التوجه من الجامعة لمنزلها لتفاجأ بامرأة بريطانية وهي داخل المنزل ..أخبرتها الخادمة بأن ضيفة أجنبية تدعي ( هيلين ) قد وصلت صباح اليوم من لندن وبمجرد وصولها توجهت مباشرة نحو غرفة النوم ..بدلت ملابسها وطلبت منها أن تعد لها كوباً من القهوة وعندما أتت به إليها وجدتها وقد راحت في ثبات عميق ..اتصلت علي الفور بالدكتور جلال لتخبره بوصول ( هيلين ) فاضطرب اضطراباً عظيماً ..ولم يقدم لها تفسيراً مقنعاً ..فأخذت عربة أجرة لتعود للجامعة..بحثت عن الدكتور جلال في كل مكان بالجامعه ولم تجده ..رأيتها تقف مع علياء وهي تبكي ..توجهت نحوهما أحاول تشجيعها ولأسري عنها قليلاً ولأخبرها أن عليها أولاً وقبل كل شيء أن تفهم كنه علاقة تلك الضيفة بالدكتور جلال قبل أن تقرر .. يا جماعه أنا آسفه قالت وهي تكفكف دموعها ..عدنا للاسف من جديد ..آسفه لأني تعبتكم معاي ..هل أذهب معك ؟ ..علياء تسأل في صدق ومحبة .. لا يا علياء سأتدبر الأمر بنفسي .. وتحت إلحاح وضغط علياء وبتشجيع مني وافقت علي إصطحابها .. أما أنا فقط ظللت واقفاً تلفني غيمة من الذهول والغضب علي ما آلت إليه أحوال امتثال من ضعف وخور وهي الباذخة القوية وكأنها صخرة عاتية لا تهزها الأعاصير ..يا حسرتي عليك يا امتثال. .ليتني أستطيع أن أفعل شيئاً لأجلك ..ليتني يا حياتي وعمري أستطيع ..ولم يتبق أمامي سوي انتظار علياء لتكشف لي سر تلك الزائرة المجهولة وما يمكن أن يمثله ذلك بالنسبة لامتثال وكيف ستعالج الموقف ..إذن لا بد من الانتظار وما أقصي الانتظار عندما يتعلق بمصير امتثال ..ورحت في شبه غيبوبة وأنا أرسم كافة السيناريوهات المحتملة للقضية برمتها .
مشكله كبيره يا قصي ..مشكله كبيره ..ما الأمر يا علياء أرجوك أخبريني ماذا حدث بالضبط ؟ ..أخذنا أنا وامتثال عربة أجرة أقلتنا حتي منزلهم ولدي دخولنا سمعناً عراكاً وضجيجاً داخل غرفة نومهما ..وكان صوت تلك الأجنبية هو الأعلي والأكثر شراسة والدكتور جلال يحاول دون جدوي تهدئتها ..زوجتك ؟ ..هذه البائسة الفقيرة زوجتك يا دكتور ..وأنا من أكون ..؟!! لقد تركتنا وأطفالي بانجلترا بحجة العودة للخرطوم وتدبر أمر شراء منزل لنا هنا وبدلاً من ذلك أنفقت مالي علي ملذاتك والزواج من فتاة باهتة لا تساوي شيئاً هي بالأحري إحدي تلميذاتك كما تقول .. هنا انهارت امتثال تماماً ..أخذتها برفق نحو ال( صوفيا ) الوحيدة الموجودة بالصالون وطلبت من الخادمة أن تحضر لها كوباً من الماء بسرعة ..في هذه اللحظة انخرطت ( هيلين ) من الغرفة وهي توجه كلامها له .. سأكون بال( قراند أوتيل ) وعليك أن تلحق بي هنالك مساء اليوم إن رغبت في البدء بمراسم إجراءات الطلاق وليكن معلوماً ليديك بانني سأغادر إلي لندن في أول طائرة متوجهة إلي هناك أما ( سوزان وناتالي) فلا تحلم برؤيتهما ثانية لأنني سأسافر إلي أي بلد أوروبي وأستقر به ولن تجدنا حتي ولإن استعنت بشرطة العالم مجتمعةً..والدكتور جلال جلال يمسك بها وهي تتملص منه وقبل مغادرتها توقفت لدي امتثال التي وضعت كفها بين يديها وهي تبكي وتهتز في شبه هستريا ..وهمهمت بكلمات مثل ..غبيه .. مسكينه ..تافهه ..إيه يا زمن ..كيف يحدث كل هذا وفي طرفة عين ..كيف ؟!!
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir