مشاهدة النسخة كاملة : تمزق ..رواية جديدة
عبدالغني خلف الله
12-05-2013, 05:44 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
تمزق ..رواية جديدة
عبدالغني خلف الله
الحلقة الأولي
إسمى عبد الوهاب ... واختصاراً ( وهبة ) موظف وعلىّ ديون , وأهوى كتابة الشعر والخواطر وأعجب بلفظة ( تمزق ) لذلك كثيراً ماتجدنى أرددها بمناسبة وبدون مناسبة , لكن هذه الموظفة الغريبة ( غادة ) تريد أن تلصق بى هذا الأسم إذ دخلت مكتبنا ذات مرة وأنا منهمك فى ترتيب ( الكابينت ) ويبدو أنها ام ترنى , فسألت ( فوزية ) زميلتى فى المكتب فى سخرية واضحة : أين الأستاذ تمزق ؟ توجهت إليها بوجه جهم وقلت لها : نعم .. أى خدمة ؟ يبدو أنها فوجئت بوجودى ..لذلك تراجعت إلى الوراء وفى ارتباك شديد حاولت أن تدارى أحساسها بالحرج , همست فى رقةمتناهية : ولا حاجة , فقط كنا نريد أن ندعوك لرحلة الزملاء بمناسبة زواج ( آمال ) حتى تتحفنا بروائعك الشعرية .
تأملتها بعمق وكأننى أراجع أجندتى ليوم الجمعة .. وأكثرت من كلمة والله .. والله .. وفى الواقع كنت أشرب من ذلك الألق المنداح من وجهها الطفل .. الحيرة والأرتباك يتناوبان على محياها الوسيم , وأنا أعب حتى الثمالة من جمالها الأخاذ .. وسيطر جو من التوتر على المكتب .. وهمهمت ( فوزية ) بكلمات غير مفهومة عندما لاحظت أننى أحدق بلا هواده .. , آها .. قلت شنو ؟ .. تعثرت الحروف فوق شفاهها موافق .. موافق .. طيب غداً نعطيك التفاصيل من أين ومتى يكون التحرك .. ( فوزية ) امتعضت من هذا الموقف , ولاحظت أنها لم تدع للرحلة , منعها أدبها الجم وطبعها المهذب ابداء أى نوع من الأعتراض , دائماً منكبة على ملفاتها تعمل فى صمت , وعندما تدعونى تقول لى هذا الملف يخصك يا أستاذ ( عبد الوهاب ) .. استاذ ؟ ولا حتى يا أستاذ وهبة , يا فوزية ونحن زملاء فى هذا المكتب لما يقارب العام .. ساكنة انت سكون البحر العميق وعميقة عمق القصائد المسكونة بالشجن , وفى دواخلك أسرار كثيرة لابد لى من استجلاء مكنوناتها . من منا لا يتألم يافوزية .. تجيش النفس بالآمال ولكن هنالك بصفة مستمرة الرقم المفقود فى معادلة الحياة .. وبرغم كل التحوطات يغيب ذلك الشئ
ذلك الشئ فتنهار العملية الحسابية برمتها .
( كمال ) يقتحم المكتب وضحكته المدوية تسبقه إلينا .. هكذا ( كمال ) يضحك بصوت عال , ويتحدث بصوت عالٍ , وأذا ما سمعته يتجادل مع زميل أو زميلة تحسب أنهما يتشاجران ..
- هل سمعتما بالنبأ الخطير ؟
هتفنا بصوت واحد : حصل شنو ؟
- سعادة المدير العام ..
- مالو ؟
- أحيل للصالح العام
- المدير ؟
- نعم السيد مصطفى أحيل للتقاعد وتم تعيين السيد عثمان خلفاً له .. ( ترى كيف
سيكون حالك ياغادة ) وبدون أن أشعر سألته فى بلاهه
- وغادة ؟!!
- مالها غادة يا وهبة إنها مجرد سكرتيرة , يذهب مدير , يحضر مدير آخر ..
غادة مجرد سكرتيرة وبس ..
لكن السيد مصطفى مدير وأى مدير , من النوع الذى نقول عنه ( تربية أنجليز .. إنسان دوغرى زى الخيط( , لا يعرف اللف والدوران وعلى أكتافه قامت هذه المصلحة , طبعها بطابعه الخاص , إنسان عجيب دقة فى المواعيد رهيبة , يعنى تستطيع أن تقول أنه من النوع ( السيستماتك ) .. وغادة هى الموظفة المفضلة عنده يعاملها معاملة خاصة ولا يبتسم إلا فى وجهها , ويغمرها بالهدايا كلما عاد من رحلاته خارج القطر , هرعنا إلى مكتب المدير ووجدنا أن الفوضى قد عمت أرجاء المصلحة ,ولغظ كثير يدور هنا وهناك , ووجدنا ( غادة ) وهى منكفئة على درج مكتبها تبكى , أخذتها الحاجة ( بتول ) كبيرة ( الفراشات ) بحنو وادخلتها إلى الجزء الداخلى من المكتب , وحرمتنا من تلك اللحظات النادرة , الألم يلون ذاك الوجه الرائع وبقايا الدموع تكاد تطفر من رموشها الطويلة , أجل كل شئ فيك يتمزق ياغادة وكأن رحيل السيد مصطفى يعنى بالنسبة لك نهاية الكون .. أنحشرنا وكنا ثلة من الموظفين والموظفات والعمال فى باص المصلحة بإتجاه منزل السيد مصطفى لنقول له .. نقول له ماذا ؟ نقول أو لا نقول الأمر لا يخصك فأنت لست أقدم موظف .
عبدالغني خلف الله
12-05-2013, 09:12 PM
الحلقة الثانية
أصابتنى الحيرة والأندهاش وأنا أدلف إلى الصالون الأنيق , حيث أخذت كراسى الجلوس الفخمة موقعها المتميز , وهناك سريران من النيكل وملاءات نظيفة , توجد سرائر أخرى فى البهو الداخلى لا حصر لها , وأنت طول عمرك تحلم بسرير واحد نظيف يخصك وحدك , وكلما تحدد موقفك من سرير واحد وتتعود عليه يأتى الأهل من البلد فاذا أنت نائماًعلى المساند , هل تنكر أنك عشت طفولتك وأنت تنام على ( عنقريب ) ليس عليه أى شئ , فقط تبدل الحال عندما تم ختانك حينها تعطفت عليك أمك ( ببرش ) أنيق إلا أنها عادت وطوته بعد أيام , عندما أنتهى أمد الختان الرائع , هل تذكر سرقة مفاتيح البيوت والأحذية وقد نام أهل القرية بعمق فى ( الحيشان الوسيعة ) وهم يتدثرون ( الهمبريب ) فى الصيف وقد أخذ التعب منهم كل مأخذ , وذلك بدعوى ( العادة ) فلا يلبثوا أن يستعيدوا أشياءهم من ( بيت الطهور ) بعد دفع ملاليم قلائل .. نعم نسرق وفى الساعات الأولى من الصباح ولا أحد يتضجر أو يقذفنا بحجر .. وفى الحقيقة لم تكن سرقة من أجل السرقة إذ لا يوجد لصوص أصلاً ..
تلقانا السيد مصطفى بوجه طلق المحيا وهو يردد إتفضلوا يا أبنائى إتفضلوا .. وأخذ كبير الكتبة زمام الموقف وتحدث إنابة عنا ... وكان التأثر واضحاً على السيد ( مصطفى ) ..
- حقيقة يا أبنائى أنا شاكر ومقدر لكم هذه الزيارة بالرغم أنها جاءت أثناء ساعات العمل الرسمية ( تانى ساعات العمل الرسمية ) ولكن نقول أن هذا ظرفاً استثنائياً والواحد بعد ثلاثين سنة خدمة دفع خلالها ضريبة الوطن لم يكن هنالك داع للأستمرار وأهو البركة فيكم أنتو.. وهنا أكتسب وجهه نوع من التجهم , لعله كان يتطلع إلى الوزارة , من يدرى ؟ , وشعرت بالخوف منه كعادتى .. كل شئ ولا يطلبنى المدير .. هل تذكر ياوهبه عندما عاد من إحدى المؤتمرات وطلب منك ترتيب أوراق المؤتمر , هل تذكر تلك المفاجأة غير المتوقعة , صورة بحجم ( البوستال ) لشابة مغربية فى غاية الجمال وقد كتبت على ظهر الصورة بخط اليد ( من علياء للسيد مصطفى لعله يتذكر الايام الحلوة التى امضاها معنا بكازبلانكا) أيام حلوة ؟ .. كيف وأين ؟ تلك الجميلة ذات العينيين الواسعتين والشعر المسدل على كتفها وتلك الأبتسامة الرقيقة التى أخذت موقعها فى ثقة على خارطة الفم الرقيق .. ما الشئ الذى جمع بينهما ومتى ... التجهم صنواً للروعة .. ترى أين ذهب بها فى ( كازبلانكا ) هذه .. لابد أنه أخذها إلى مطعم خلوى وحدثها عن .. عن ماذا يمكن أن يحدثها .. أظنه حدثها عن النيل وعن التماسيح التى تتهادى فى شوارع الخرطوم .. لابد أن هؤلاء القوم يعيشون بشخصيتين , تجد الواحد منهم كالليث الهصور وهو داخل السودان الإ أنه أنه عندما ينفلت خارج الحدود يتغير ويصبح شخصية أخرى .. المهم أكلنا الحلوى الفاخرة وشربنا العصير وودعنا السيد مصطفى حتى الباب وهو يوصينا على المبادئ والرسميات ومستقبل المصلحة ..
* * * *
عبدالغني خلف الله
13-05-2013, 08:43 AM
الحلقة الثالثة
طلب منى الحاج عطية إعطاء أبنته دروس فى اللغة الأنجليزية , وكانت فرحتى عظيمة بهذا التكليف, الحاج عطية من الشخصيات المحترمة فى الحى وهو تاجر فى السوق العربى , ولديه نصف دستة من البنات , سميرة وهى أوسطهن وطالبة بالثانوى , كانت دائماً تعجبنى بأدبها الجم ورزانتها الفائقة وهى تقف فى أول الشارع بأنتظار باص المدرسة . كنت سعيداً بأن أجد الفرصة لأدخل هذا البيت . إذ أن سيد الأبن الأكبر للحاج عطية شخصية شريرة حول منزل الأسرة إلى سجن , فهو يمنع شقيقاته من الأختلاط ببنات الحى , وعندما جلسنا أنا وسميرة على منضدة السفرة لأعطائها الدروس , كانت فرحة ومتوثبة كلما ألقيت عليها جملة وطالبتها بترديدها , وكانت بها لثغة لطيفة سيما فى حرف الراء , وقد عانت الأمرين فى ترديد أسم ( روبن هود ) , وكنت كلما أصححها تحرك وجهها الوسيم يمنة ويسرة فترتبك ضفيرتاها وترفض أن تستقر على أى من الكتفين الرائعين , : هل تنوى الزواج منها ياوهبة ؟ سألنى كمال ..ومن أنا لأرفض إذا اتيحت لى الفرصة .
* * * *
أكاد لا أصدق .. إن كنت أنا فعلاً المدير التنفيذى لمكتب السيد المدير , قرأت الأمر المكتبى أكثر من مرة , لابد أن السيد عثمان يقصد شخصاً آخر .. والإ فأين أولئك الفطاحلة من الموظفين أمثال هاشم والسر , ولكننى على كل حال تبوأت الكرسى الأنيق الدوار , ورمقت غادة بنظرة فاحصة ذات مغذى , وبعد هنيهة وصل السيد المدير ودخل إلى مكتبه والسائق خلفه يتأبط حقيبته الجلدية , وسحابة من الدخان الممزوج بالعطر سبقته إلينا فهو فيما علمت يغمس ( السيجارة ) فى العطر قبل أن يدخنها , ولكن قبل أن يتوغل إنتبه إلى وجودنا فعاد وسلم علينا , : صباح الخير يا عبد الوهاب .. صباح الخير يا غادة , ( أيوه كده لابد من الأقدمية حتى فى السلام ) , ثم ( عليك الله يا غادة ) أطلبى قهوة .. يا عبد الوهاب
( أنا عايزك ) ..
- شوف يا أستاذ من الأجدر أن تتعلم الطريقة التى تدير بها المكتب منذ الآن , الألتفات لواجبك لا غير , ولا أريد أى تسيب أو إجتذاب للموظفين وكل من هب ودب علي حساب الزمن الرسمى للمصلحة , لا أريد أى تمارض ولا تدخل فيما لا يعنيك , مع المحافظة على أسرار المكتب .. مفهوم ؟
- مفهوم سيادتك .. مفهوم
أنصرفت وأنا أتصبب عرقاً من المحاضرة التى أظنها أستمرت لعشرة دقائق .. وبحثت عن مقبض الباب المحشور فى الذخارف الخشبية ووجدته بعد لأى وجهد .. وعندها وجدت الحاجة بتول وهى تدخل القهوة , أفسحت لها الباب وعبارات من الأطناب وصالح الدعاء تسد الأفق .. مبروك عليك ياولدى إن شاء الله تتهنى بالوظيفة , وربنا يديك الفى مرادك يا ود ( حشاى ) .
سألتنى غادة : اتأخرت كدة ليه ؟ بعدين شكلك ما طبيعى : لا ولا حاجة .. ولا حاجة .. همهمت بكلام غير مرتب .. آنسة غاده .. جاءنا الصوت من الداخل والحاجة بتول تخرج وأطراف من الجنيهات إنشلحت من بين أصابعها
- آنسة غادة .. ياحاجة بتول خلى الآنسة غادة تجى من فضلك .
- سمح ياعشاى ..
كل الطيبة الموجودة على ظهر هذه الأرض تجمعت فى زوايا فمك الأزرق يا عمتنا بتول .. وخرجت غادة وشعور بالأرتياح البالغ يلون وجهها الطفل .. أيتها الحمامة البيضاء .. ياخلاصة الألق المندسل من أطراف القمر .. يافوح الصباحات الندية .. عيناك كوتان من جدار آلامى .. جرتان من عسل المنعرجات الجبلية واحتان من نغم .. يا .. ماذا ؟ يا وجع أيامى ويارجع أوتارى الممزقة ..
وأنتهى اليوم الأول بالنسبة لكلينا وهو ممزوج بالتوتر والحركة الدؤوبة , حلويات وشخصيات لها وزنها وتلفونات من خارج المصلحة ولكن كيف ستعرف إن كانت لهذه الشخصية أو خلافها وزن ؟ سؤال طرحته علىَ غادة , وهمست فى عيونها : إنها الحاسة السادسة يا أستاذة ..
عبدالغني خلف الله
14-05-2013, 05:26 AM
الحلقة الرابعة
وقبل أن أدير لها ظهرى لفت نظرى الشبه الكبير بين غادة وسميرة , الآن فهمت لماذا أنا مشدود لكليهما , لقد مهدت ملامح كل واحدة منهن للأخرى ولكن أنىَ لبراءة الطفولة أن تتطابق مع عمق التجربة وقوة الشخصية ..
رجتنى غادة أن أحمل عنها بعض المكاتيب والدوريات والخطابات التى حفل بها بريد السيد مصطفى ونحن نستأذن للدخول إليه بمنزله حتى تصلح من ثوبها , ولدى ولوجنا شعرت أن كل شئ رائع بحق , المزهريات الأنيقة والأثاثات الفخمة , وأهل علينا السيد مصطفى بقامته المديدة : أهلاً .. تفضلوا بالجلوس ..
ورن جرس الهاتف , فأخذ السيد مصطفى السماعة
- آلو مصطفى ..
- ..........
الحمد لله كل شئ على ما يرام , الواحد فينا أكتشف أخيراً أنه كان يضحى بأشياء رأئعة فى سبيل الواجب ..
- ..........
- والله على الأقل أنا لست مدان لأحد بوقتى وتفكيرى ..
- ..........
- كثير من الأساليب التى تدار بها المشاريع تكاد تقتل الانسان ..
- ..........
- الذكريات والصداقات والأولاد .. الواحد يتفرغ ليها بشغف
- ..........
- ما بحتاج يا حاج عمر الله يسلمك ..
الحاج عمر تمساح كبير هل تذكر ياسيد مصطفى يوم أن أقتحم عليك المكتب وهو يرغى كالثور الهائج وقد رسى العطاء على شخص آخر , وكيف أنه حاول أن يرشوك لتعيد النظر بالموضوع ولكنك لقنته درساً لن ينساه أبد الدهر , مادا كان يظن ذلك المعتوه , هل يشتري ذمة رجل مثلك بالمال , وكيف أنك لم تشعر بوجودى بينكما ولا هو , وظللت تردد أنا أستلم رشوة .. الحقير السافل ..
وعادت غادة من تأملاتها التى فجرها تلفون ذلك المقاول ..
- أهلاً وسهلاً ..
ياسيد مصطفى .. دى خطابات ودوريات وصلت من لندن ومذكرات أستلمتها
بالتيلفون
- أنا أشكرك يا غادة يا بنتى ..
- وأزيك هسع يا سيد مصطفى
- الحمد لله يا بنتى ..
- والله المصلحة بدونك لا شئ .. لا شئ أبداً ..
- يا بنتى دى سنة الحياة .. لو دامت لغيرك لما آلت إليك ..
- ولكن يا سيد مصطفى .. لكن ..
الدموع تنثال على وجه غادة وهى تهتز من شدة البكاء
- ما فى داعى للبكاء وتأكدى أنك عندى بمثابة ماريا وفاطمة ..
لكم يحب هذه البنت ولكن بطريقته الأبوية الخالصة , لعلها تشبه فى بعض ملامحها انساناً التقاه يوماً ما , وأنت يا وهبه الأ تذكرك غادة بآسيا بورتسودان .. كنت تنوى التقدم لخطبتها وأنت طالب بالثانوى وبعد عودتك من الإجازة الصيفية وجدتها قد تزوجت , ثلاثة أشهر فقط كانت هى الفاصل بين السعادة الأبدية والضياع الأبدى , هل تذكر عندما التقيتها وقد حضرت للخرطوم لتقيد أسمها فى مستشفى الراهبات , قالت لك إن الزواج قسمة ونصيب , ثم أنفجرت باكية إلا أنك لم ترحم عذابها , حملت عليها حملة شديدة وقلت لها هى غلطتك وأنت ستتحملين مسئولية عذابنا مدى الحياة , ولن تتاح لى بعد اليوم مقابلتك فأنت فى عصمة رجل آخر وبيننا الملح والملاح .
كل منا شرد قليلاً فى متاهاته الشخصية , وافقنا ثلاثتنا , سيد مصطفى وغادة وأنا على أصوات أنثوية تتفجر حيوية وبهجه .. إنهما ماريا وفاطمة وقد غرقتا تماماً تحت أطنان من الصحف والمجلات والحاجيات , طلب منهما السيد مصطفى أن يسلما علينا , ماريا سألت والدها ببراءة شديدة : انا سمعت فى المدرسة قالو طهروك شنو يعنى التطهير ؟ تجاهل مصطفى حديث ابنته واخذها الى جواره وسألها هل عاد ابو بكر من الجامعة ؟! واجاب ابو بكر بنفسه وهو يمد يده الينا مصافحاً ثم استطرد الاجواء متوترة جداً يا بابا فى الجامعة , بعد ان افلح البوليس فى منع اقامة ندوة الجنوب ... واتحاد الطلاب مصمم على اقامة الندوة مهما كانت النتائج , لكن هنالك اتجاه ينادى بالخروج فى مظاهرات .. وآخر مع ندوة ..
- ندوة إيه ومظاهرات إيه يا ابو بكر , هكذا قاطعه ابوه بحده .. صدقنى يا ابنى لن تجدوا حكماً افضل من حكم عبود .. الراجل ده وطنى غيور وهمه الاول البلد ولكن يبدو ان السيد الابن لا ينصت لمثل هذه الترهات ولا انا يضاً .. مظاهرات ؟! تمام التمام ...
* * * *
عبدالغني خلف الله
15-05-2013, 09:11 PM
الحلقة الخامسة
اشتكت لى سميرة من العم عبد القادر صاحب اكبر دكان فى الحى .. شيخ يناهز السبعين من العمر ولكن كل حركة من حركاته تقول انه فى شرخ الشباب .. الأجفان المكحلة ورائحة العطر النفاذة , ولكن ماذا قال لك يا سميرة ؟! قالت : كنت فى طريقى الى موقف البص اخر الشارع , ومن دون الايام مررت امام دكانه , خرج مسرعاً من خلف ( البنك ) وبدأ يطلق عبارات الاطناب والغزل وعندما نظرت اليه حرك حاجبيه فى صعلكه واضحة , لقد خجلت خجلاً شديداً يا استاذ .. وعجبت لهذا الشيخ الهرم اذ يسمح لنفسه بمثل هذه التصرفات ..
قلت لها : (( سيبك منو دا واحد مخرف )) ولكن الم تسمع برنامج ما يطلبه المستمعون يا استاذ ؟..
- لا .. لم اسمع .. ماذا هناك ؟
لقد اهديت لبنات فصلى ولك أغنية يا استاذ ..
اغنيه .. لى انا ؟ قلت ضاحكاً .. واى اغنية يا سميرة ؟
(( الزول الوسيم فى طبعو دائما هادى )) .. اغنية النعام أدم .. صدق .. سيد خنقنى وكاد يقتلنى لولا تدخل والدى .. وحرم على سماع الراديو نهائياً ..
ايتها الملاك الصغير ما اروعك ..
عم عبد القادر والله زمان يا حاج , اما يكفيك عشرة زوجات على امتداد السودان من حلفا الى نمولى ,الحاج عبد القادر كان بائعاً متجولاً وكان يتزوج فى كل قرية يحل بها , وبرغم كل تلك الزيجات إلا أن الله لم يفتح عليه بولد , ويتمتع الحاج عبد القادر بمحبة الجميع لخفه دمه ولطفه , وكانت كل صبايا الحى الصغيرات يفضلن الشراء من دكانه , لانه يوهم كل واحدة منهن يانها خطيبته ويصفها باجمل الاوصاف شعراً ونثراً , وقد تعود رجال الحى اداء صلاة المغرب امام دكانه وكان يأخذ هم بين المغرب والعشاء فى قصص لا تنتهى , احياناً عن زيجاته العشرة , وكيف تزوج كل واحدة منهن , واحياناً عن مشاهداته , وكانت لديه فى كل مرة تفاصيل جديدة وحكاوى جديدة , وهو دائم السخرية من كل رجل أكتفى بزوجة واحدة .. سمعته مرة يقول للحاج عطية : معقول يا حاج عطية دكان جملة وخمسة لوارى وثلاثة مخازن وزوجة واحدة ؟ .. بالله عليك ماذا يعجبك فى الحاجة ( عشة ) فلا تتزوج عليها ؟ ..
لقد أنجبت لى أولادى وكفى . . أجابه الحاج عطية فى حزم واضح .
* * * *
والآن يا وهبة وقد بكرت فى الحضور للمكتب .. لا بأس من كتابة بعض الخواطر فى المذكرة . عسى ولعل تقع فى يد غادة , إذن أكتب كلاماً حلواً يعطى بعض المؤشرات عما يختلج فى دواخلك نحو غادة , أمسكت بالقلم ( التروبن ) الذى أحتفظ به منذ الأولية وجاءت البداية متعثرة نوعاً ما ... عيناك بحار من أحزان وأنا الملاح التائه فى بحر عينيك بلا مجداف , عيناك ماستان منسيتان فى مغارة ما , بجبل ما , يحرسها ثعبان ضخم .. ما هذا يا وهبه ؟ إيه دخل الثعابين والجن والمغارات فى الحب ؟ أحذف كل هذا يارجل فأنت لست بـ ( هتشكوك ) .. ودلفت غادة إلى المكتب وأجيال من العطر والجمال تتشابك حول خصرها المفقود , الذى منطقته بحزام جلدى وهاج , وخصلات الشعر المسافرة مع الريح تحولت إلى ما يشبه أعشاش العصافير , إنها تسريحة هذه الأيام , عش الطير والشريط الأحمر يلملم الخصل التائهه .. ليتنى كنت عصفوراًصغيراً لأندس بين ثنايا خصل شعرك الطويل ياغادة ..
- سيد عثمان وصل ؟ - لم يحضر بعد , ولكن ! مافى حتى رسالة واحدة ؟ ..
- كيف يعنى ؟..
- ما فى صباح الخير ؟
- أنا آسفة .. صباح الخير ..
- . . . . . . .
- ما بترد التحية ليه يا وهبه ؟ ..
- والله أنا لا أرد على التحايا التى أستجديها ..
- عليك الله خلينا فى المهم .. لدى سؤال خاص ومباشر ؟
- نعم .. نعم .. أظننى سيغمى على لا محالة .. أى سؤال ؟
- ما رأيك فى المدير ؟ ..
أرتخت عضلات وجهى وشعرت بالأسى فى دواخلى .. كنت قد خلتها
ستسألنى عن أحساسى نحوها وها هى تسألنى عن المدير ..
شوفى يا غادة .. المدير دا شخصية غريبة جداً.. أى حاجة فيهو صاح ,
طريقتو فى الكلام صاح , طريقتو فى الشغل صاح , صاح ولا ما صاح ؟
همست وهى تغالب ضحكاتها : عشرة من عشرة ..
* * * *
عبدالغني خلف الله
28-05-2013, 06:04 AM
الحلقة السادسة
لم تكن لدى رغبة فى الأنضمام لرحلة الزملاء بمناسبة زواج ( آمال ) , ذلك لأن الحاجة والدتى كانت تشكو من آلام مبرحة وصداع , وقد عبرت عن تلك الأعراض بطبيعتها العفوية .. ( سهراجة وخمة نفس وأم شقيقة ) .. وعندما طلبت منها أن أصطحبها للطبيب رفضت بعناد , وعوضاً عن ذلك نضحت بعض زيت السمسم على جسدها ونثرت عليه مسحوقاً من ( القرض ) وهمهمت فى يقين ( الشافى الله ) .. هكذا نحن نتعامل مع المرض بشجاعة ولا مبالاه قد تصل إلى حد تعريض حياتنا للخطر .. الصبر وقوة التحمل سمة من سمات إنسان هذا البلد , لذلك لم يكن مستغرباً أن تسمع أن فلاناً قد مات وهو يصلى , أو وهو على ظهر دابته , طبعت على جبينها قبلة حارة حرارة جسدها النحيل وتمتمت بإخلاص ( الله يخليك لينا يا حاجة آمنه ) أسرعت لأركب البص مع الآخرين , ولما رأونى حيونى بدفء وتندر , حتى أن سائق البص خاطبنى من خلال آلة التنبيه بالأغنية المعروفة ( الليلة لاقيتو .. ) والتقط الجميع ذلك اللحن , وكأنهم ينتظرون هذه السانحة بفارغ الصبر , .. استعدت معنوياتى عندما لمحت غادة فى المقاعد الخلفية , وتدحرجنا عبر طريق جانبى إلى إحدى الحدائق المطلة على النهر , وقد وجدت سبيلى إلى الترجل من البص بصعوبة شديدة , وكان عليّ عبور أكواماً من الأوانى المنزلية والأكواب هنا وهناك .. , و ثمة آخرون قد سبقونا , وانهمك فريق منهم فى تجهيز الطعام وهم يتمايلون على أنغام الموسيقى , التى كانت تنساب من مسجل بحجم إطار عربة ..
تحلق الجميع حول العروسين , وقد نصبوا منصة ووضعوا عليها
( مايكرفون صغير ) , وتوالت الفقرات من هذا وذاك , وجاء دورى لألقى بعض الأشعار , وأستقبلتنى عاصفة من التصفيق والصيحات , مسحت المكان بسرعة لأحدد موقع غادة .. صافحت عينيها وبدأت إنشادى (( يا حلوة يا نبع العفاف ... شايقانا عينيك اللطاف .. ذاكرنا فى كتاب الغرام من الغلاف حتى الغلاف ,,, ما فهمنا أى حاجة وانتهى بينا المطاف )) ضج الجميع بالضحك والأبتهاج , وصاحت إحداهن ( غادة .. حقك راح ) ..
إنتهت تلك السويعات , ونحن لا نشعر بها , وعندما أوصلونى حتى باب المنزل تذكرت الوالدة آمنة .... وخفق قلبى بعنف من شدة الخوف عليها , وعدوت نحو غرفتها كالمجنون ( وين أمى .. وين ).. أمى بخير لكن أتضايقت شوية ونقلوها للمستشفى صاحت فى وجهى أحدى شقيقاتى ... متى وكيف ؟ ... نضب ريقى وخارت قواى , ثم فى ثوان معدودة أستعدت رباطة جأشى وأخذت عربة أجرة حتى مستشفى الخرطوم ...
وهبه أين أنت يا وهبه ؟ جاءنى صوتها من تحت الملاءة أخذت وجهها وقبلًته ... وجففتها من العرق الغزير الذى كان ينساب منه , وهتفت بحب : أنا هنا يا ( يمة ) ... سلامة يا حاجة , ألف .. ألف سلامة ,,
- شغلتنى عليك يا ولدى ..
أنا شغلتك ؟ تخافين علىً يا أمى حتى وأنت تكابدين العذاب ؟! أى إنسانة أنت يا حاجة آمنة ؟ .
* * * *
تنادى الأهل من البلد والجيران , بمجرد سماعهم نبأ مرض الوالدة وهى الجديرة بالحب والإحترام , إذ أنها لا تقصر فى أى مناسبة تخص الأهل والجيران , ودائما تجدها إما تجهز نفسها للسفر أو عائدة منه , أو متجولة من منزل إلى منزل داخل الحى تواسى هذا , وتسأل عن هذا , وتبارك لهذه وتلك , ورصت ( السجاجيد والمفارش ) تحت ظلال أشجار المستشفى , وجاء رهط من الأهل من البلد للأطمئنان على الوالدة , وكان عددهم كبير جداً حتى أن الطعام على كثرته لم يكف الإ النساء فقط , .. أسمع يا وهبه .. نمشى داخليات ( البركس ) بالجامعة لا سيما وأن اليوم عطلة ومعظم الطلاب سيكونون مع ذويهم , همس جيلى إبن الجيران وكان يدرس بجامعة الخرطوم وهو يرى الحيرة والأرتباك على وجهى إنطلقنا بعربة حتى هناك , وكم كانت دهشتنا ونحن نلج غرفة الطعام عندما وجدنا عدداً من الطلاب لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة , وقد غصت المائدة بطعام يكفى مئات الأشخاص ,, حملنا الطعام إلى العربة حتى ضاقت به على سعتها , وعدنا بسرعة للمستشفى ومرت الأزمة بسلام ..
أمضينا زهاء الأسبوع بالمستشفى وكان الزملاء من المصلحة يتوافدون علينا صباح مساء , حتى أن فوزية التى لم تعرف بأنها تختلط بأحد زارتنا , وفى معيتها أصنافاً مدهشة من الطعام , لكأننى أراها لأول مرة , الإ أننى وبإعتراف خاص لنفسى لاحظت أن غادة لم تزرنا كأستثناء هو نقيض ما هو متوقع وما هو منتظر .. وأصابنى هذا التصرف بأحباط لا أملك له رداً وكعادتى دائماً التمست لها الأعذار , وشق علىّ السؤال عنها , وحاولت أن أحافظ بقدر المستطاع على حيويتى وبهجتى لدى إستقبال الزملاء والزميلات , حقا ما أقسى وقع تقصير من نحب على أنفسنا , عندما لا يكون هناك بد من التوضيح والإعتذار , ناهيك عن مجرد السؤال , وعادت الحاجة إلى المنزل تسبقها الذبائح والهدايا , وكانت لحظات لا تنسى ..
* * * *
(( سميرة عقدوا عليها والزواج بعد أسبوع .. )) قذفت شقيقتى الخبر الذى كاد أن يقضى عليَ وهى ولا عليها كما يقولون , ماذا ؟ من قال ذلك يا ( مغفلة ) .. ثرت فى وجهها بدون أن أشعر .. لقد حضر أحد أقاربها من الشمالية وطلبها من أهلها , ووافق والدها , ونسبة لأنه مرتبط بالسفر إلى مصر حيث يعمل تقرر أن يكون الزواج بالخميس , هكذا وخلال أسبوع واحد تغادر سميرة الحى إلى
الأبد .. والإمتحانات بعد شهر .. أبوها قال البنت للزواج .. شقيقتى قالت لى أن سميرة كانت مرشحة لتكون الأولى على السودان , وأن أستاذ العلوم فى المدرسة قرر الاستقالة من مهنة التعليم , فقد كان يبنى آمالاً عراضاً على سميرة لتحرز نتيجة مشرفة للمدرسة , وتحايلت حتى دخلت إلى المنزل الذى ( حبست فيه ) لتجهز للزواج , وعندما رأتنى ارتاعت وبكت بفزع وهىترددعبارة ( ألحقنى يا أستاذ ) .. قلت لها : أصبرى يا سميرة ما هكذا تقابل البنت المتربية إختيار شاب لها بنكران الجميل , وأستدرت خارجاً كأننى إبليس عندما طرد من الجنه ..
* * * *
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir