مشاهدة النسخة كاملة : رحلة في قاع المدينة ..رواية في حلقات
عبدالغني خلف الله
22-09-2013, 12:40 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة في قاع المدينة ..رواية في حلقات
عبدالغني خلف الله
ألتقيكم أحبتي بعد طول غياب مع هذه الرواية التي تمت طباعتها بوادمدني :
الحلقة الأولي
أحيانآ تضعك الظروف في موقف لا تحسد عليه وأحيانآ تضعك في موقف تحسد عليه وفي أحايين كثيرة لا تضعك في أي موقف .. بل تجرفك معها كقطعة طافية فوق الزبد ..تتقاذفك الأنواء وتبحر بك إلي المجهول .
ولو أن الأمور تسير علي وتيرة واحدة لأمكن التعامل معها بنمط سلوكي ثابت لكنها تتقلب مثل طقس هذا البلد .. وهأنا بعد كل هذه السنين الطويلة التي شكلت حياتي بكل تقلباتها الموجعة والمفرحة أحاول أن أفهم نفسي ولماذا كان عليها أن تمضي بهذا الطريق دون غيره .. وهل كان من الممكن تفادي ما حدث هنا أو هناك أم أنها سخرية الأقدار طوفت بي من هذه الناحية إلي تلك وما بينهما أكثر من صدفة خرجت من جنون الوقت لتضحكني أو لتبكيني ..ولماذا كل هذا اللف والدوران يا هذا ؟.. إسمي حربي ..صالح عويضه عبد النور الملقب ب(حربي ) .. لماذا لا تدخل مباشرة إلي صلب الموضوع يا حربي فتريحنا وتريح نفسك .. حسنآ .. سأفعل .. فقط دعني أعود بذاكرتي إلي الوراء ..لا ليس قليلآ ..بل كثيرآ .. فالمسألة أكبر من مجرد حكاية نلهو بها قليلآ ثم ينتهي الموضوع ..أريد أن أحاكم كل الذين زوروا ظلمآ وعدوانآ تاريخي ..غيروا من طبيعتي .. ذبحوا في دواخلي البراءة .. وأصبغوا علي الألقاب والصفات ..فأنا تارة البطل والمنقذ وتارة الخائن وربما المحتال والمنافق .. لم أكن بحاجة إلي كل هذه التعقيدات .. فقد كنت أعيش حياتي البسيطة بمنزلنا الكائن بالحي الجنوبي من المدينة في قلب الأحياء العشوائية .. منزل بسيط من (الجالوص) وشيء من الكرتون والمواد المحلية .. ومعي والدتي الحاجه (حوه قزاز) .. هكذا ينادونها في الحي بإعتبار أنها أحسن صانعة لل (كسره ) اللامعة مثل الزجاج .. ولم يكن لي أخ بل شرذمة من البنات ..وأنا كبير العائلة كما يقولون .. (ناديه) وتعمل ممرضة بالمستشفي العمومي .. و(سلمي ) وتساعد أمي في إعداد ( الكسره وأحيانآ تصنع (الطعمية وتسلق البيض) وتبيعهما في المساء أمام دكان الحاج رضوان ..وكان في وجودها بهذه الزاوية السبب في دخولي حراسة الشرطة أكثر من مرة بدعوي الإزعاج العام وتسبيب الأذي البسيط ..وكانت الأمور تنتهي بجلدنا عشرين جلده أمام محكمة (العمد ) .. فقد لاحظ غيري ولاحظت أنا أيضآ أن (سلمي )هي الأكثر جمالآ في الحي والأحياء المجاورة حتي جبل الأولياء .. كانت تعني بمظهرها رغم فقرنا.. ترتدي أحسن الثياب المعروضة بسوق ( الحرامية ) كل جمعة .. وكان أكثر من صعلوك يستفزّها ويتحرش بها فتقتحم علينا البيت وهي تبكي ..(مالك يا بت ؟ ) ..فلان قرصني وفلان قال لي كلام ( قلة الأدب ) .. فتثور الدماء في عروقي فأذهب وأبطش بهم ..فقد كنت كأي صبي ميكانيكي مفتول العضلات حتي وأنا في تلك السن المبكرة من عمري .. لذلك لقبوني ب ( حربي ) .. أما شقيقتي الثالثة نسمه .. فهي (تعبانه ..هلكانه ) .. عنوان لجميع أمراض المناطق الحارة وربما المستعصيه .. لا تكاد تتعافي من مرضها حتي تقع مجددآ .. مصيبة عانيت منها وعانت منها نادية أكثر فأكثر ..تأخذها معها للمستشفي حيث تعمل وتحضر لها أطنانآ من الأدويه .. والنتيجة .. لا شيء .
لكن الحياة تمضي بدون مشاكل ولا تخلو من المسرات ..فقد كان الجيران منفتحين علي الحياة بصورة غريبة يعبون منها عبآ وكأنهم سيموتون غدآ .. يعيشون ليومهم و( بكره ) في علم الغيب .. فلن تكون الحال بأسوأ مما تركوها خلفهم في تلك البلاد البعيدة والتي هجروها بسبب الحروب والجفاف وتلك قصة أخري .. حياة تبحث عن الفرح .. تقتنصه كلما وجدت إلي ذلك سبيلآ .. مثل ماذا يا حربي ..؟ كنا نخرج كل عطله في رحلة إلي الحدائق العامة .. نجهز ما تيسر من الطعام ونستأجر ( دفار ) عبدو الفولاني .. وعبدو هذا بدأ بعربة كارو تلتها أخري وثالثة حتي وصل إلي ما وصل إليه .. عربة نصف عمر كثيرة الأعطال وكانت حين تتعطل ينادي عليّ من فوق السور فألبي طلبه بسرعة البرق ..تعلمون لماذا ؟ ..لأن بالداخل صغري بناته أميره .. تحلف عندما تراها بأنها القمر ليلة إكتماله .. (شنكل) القادم الجديد للحي والذي اختارني من دون الصبية لأكون رفيقه وكاتم اسراره ..همس في أذني ذات يوم وقال لي ( الشافعه دي يا حربي خطيره ..والله المنقه ذاتو ) وأضاف في غيرة واضحة (ظاهر عليها الجو بتاعك ..) أجبته وأنا محرج ..أبدآ والله دي بت الجيران يا (شنكل )..بت طيبه ومؤدبه .. كانت تحضر لي (الشربات) وأنا أعمل بهمة ونشاط مستخدمآ كل مهاراتي الميكانيكية لصيانة عربتهم .. وهي تخصني بنظرات يلفها الخفر والحياء .. وإذ ما أحاول أن أقول لها شيئآ أتذكر كم هو شاسع البون بيننا .. فهي طالبة وأنا صبي ميكانيكي .. ولكننا حين نصل إلي الحدائق تسمعني كلامآ يسري كالكهرباء في عروقي وتشتري لي ( آيس كريم ) ..مثل ماذا يا حربي .. ؟ أشياء لا أفهمها .. تقول ليك .. تقول ليك كلام ( الغنا ) وكنت اعتذر عن الإنضمام لكل رحلة لا تضم أميرة ..وفي مرحلة من المراحل صرت أنتظر لحظة خروجها من منزلهم لتركب في الحافله لأقول لها صباح الخير.. شنكل قال لي تشجع وقل لها ما يجول في ضميرك ولا تخش الرفض .. ( صنف البنات المتعلمات ديل ما زي الحبوبات .. بدورن الكلام النضيف ) .. وهي فيما يبدو مقتنعة بي وإلا لماذا تسمعني في كل مناسبة ذلك الكلام اللذيذ .. الحاج رضوان ( سيد الدكان ) .. قال في وجود أمي الحاجه ( حوه قزاز) .. هذا الولد ممتاز وينتظره مستقبل باهر ..وأخذت كلامه علي أنه مجرد مجاملة لأمي التي تحرص كل الحرص علي تسديد ديونها في أول كل شهر .. وهذا بالطبع ما يسعد عمنا رضوان..
ياسر عمر الامين
22-09-2013, 02:55 AM
عودا حميدا مستطاب أستاذنا عبد الغنى...وها انت تعود حاملا معك الجديد المثير والذى نستمتع بقراءته والاستفادة من مراميه والبحث عن خباياه ومعانيه لتزداد المتعة والامتاع...
لك دوما ودى وتقديرى...
محمد عبد الله عبدالقادر
22-09-2013, 03:28 AM
متابع ..........
عبدالغني خلف الله
22-09-2013, 09:36 PM
أشكرك من كل قلبي عزيزي ياسر ..تأخذنا منكم ظروف الحياة ولكن أبداً ما غبتم عن البال ..مودتي وتقديري ومعاً ندلف للحلقة الثانية :
( شنكل) ياسرني بشخصيته القويه ..عيناه الزرقاوان توحيان لي بأن هذا الشاب ينطوي علي أسرار كثيرة وبالرغم من أنه يعتبر أحد أبناء الحي فإن لون بشرته وعينيه تقولان الكثير .. وكثيرآ ما تساءل الحاج رضوان في حيرة ونفاد صبر .. ( الولد المتل جنا الخواجات ده قلّع من وين ..؟) .. وهو نفسه قال لي أنه يعاني من تفاصيل وجهه معاناة شديدة ولو أنه يشعر في بعض الأحيان بأنها أفادته في مواقف كثيرة وقد أضحكته كذلك مثلما حدث مع (تكتكه) الحلاق عند شجرة اللالوب في سوق الحي .. فقد جلس إليه وطلب منه أن يقص له شعره .. إستغرب صاحبنا من شعره السبيبي وهو الذي تعود علي قص شعرنا نحن .. كان شنكل يراقب تصرفاته ويضحك منها في سره .. إرتبك الرجل إرتباكا كبيرآ ولم يدر من أين يبدأ .. أخيرآ إعتذر عن قص شعره وحمل أدواته واختفي .
آه من تلك الأيام .. النوم في الحصير والسقف المثقوب الذي لا يحتمل الرذاذ ناهيك عن المطر وأكل( البوش) ..هل تسمي عيشة كهذه (أيام) يا أستاذ .. ولو .. كان لها طعمها الخاص وكان الجميع بجواري .. فرحل من رحل ومات من مات وتزوجت من تزوجت .. والله أبيع بقية عمري لمن يعيدني ويعيد لي تلك الأيام . أواظب علي العمل بالورشه ..ورشة ( الأوسطي سلمان الفاضي ).. هكذا ينادونه في المنطقه .. (سلمان الفاضي) وهو لكذلك .. فبالرغم من طيبته وضحكته المجلجلة إلا أنه فضولي .. يريد أن يعرف كل كبيرة وصغيرة عن العربة والزبون .. لا سيما العربات التي تكون طرفآ في حوادث الحركة .. وكنت لا أحب سماع تلك التفاصيل .. ( تخيل ..اللحم لقطوه حته حته من جوه العربيه ..و ) ..وعندما يصل الراوي إلي هذه النقطة أغادر الورشة إلي بائعة الشاي ( نانا الحبشيه ) وأنا في غاية الإحباط .. أبحر في سمرتها وأرتاح .. تناولني الشاي بيدها والبهجة بعينيها وتدندن لي وحدي ( الماز بجي تاني ..الماز بجي تاني ).. وكنت أذوب من الطرب فأرقص بجنون ..ولا أتوقف إلا عندما تختتم الأغنية ب( زمنآ ما بجي ) وهي تضحك من أعماقها ضحكتها التي تحاكي سقوط المطر فوق سطح من الصفيح بحي( الكرتون) .. (زمنآ ما بجي وعاد شن الدباره كان ما بجي ؟!) .. لماذا أتذكر كل هذا الآن وأنا جاثم داخل هذه الزنزانه ..؟ لماذا ..؟ إنها أصول اللعبة السياسية يا معلم .. يوم لك ويوم عليك .. وهل سأنسي ؟ ليتني أستطيع ..أم أنني سأظل حبيس زنزانتي وذكرياتي إلي الأبد .. وقد نسيني كل من أحببتهم وأحبوني أو هكذا أتصور .. إلا( شنكل ) .. رفيق الصبا والشباب .. الشخص الذي حولني إلي لص في بداية حياتي دون أن أدري .. فقد كان يصور لي السرقات الصغيرة علي أنها نوع من المغامرة المثيره .. بدأنا بسرقة (طاسات ) الإطارات .. كل ما نحتاجه لإتمام السرقة (مفك ) صغير لا أكثر .. نتجول أيام الجمع بين أزقة وشوارع الإمتداد الجديد حيث تراصت عشرات العربات .. وكانت حصيلتنا في أول غارة لا تصدق .. ثلاث وعشرون قطعة حملناها داخل أكياس من جوالات السكر الفارغة .. وفي ثاني يوم حضر لي (شنكل) بالورشة وأعطاني نصيبي .. كان مبلغآ خرافيآ لم أحلم به من قبل .. ذلك لأن المعلم سلمان الفاضي لا يكاد يمنحني أكثر من ثمن وجبة الإفطار وتذكرة الباص .. وعدت إلي منزلنا آخر اليوم كأي موظف أحمل بيميني (كيسآ) من الفاكهة وبشمالي ( كيسآ) من الخضروات وحفنة من الأرغفه .. توجست والدتي الحاجه (حوه قزاز) من الموضوع برمته وأخضعتني لإستجواب رهيب ..( القروش دي جبتهن من وين يا وليد ؟ .. من شغلي يما ..شغل بجيب قروش قدر ده ؟ .. هوي يا وليد أمسك الدرب عديل .. أبوك الشاويش عويضه عبد النور خدم في الديش لغاية ما مات في الجونوب .. عمرو ما سوي العيب ..) ولا أنكر أنني ندمت ندمآ شديدآ علي ما فعلته وخاصمت ( شنكل ) أسبوعآ كاملآ .. أتهرب من مواعيده بحجة مرض (نسمه ) التي تدهورت حالتها بشكل مريع و( نادية ) شقيقتي الممرضة قالت إن الطبيب قرر لها أدوية غالية الثمن لكنها ستساعد في شفائها إن شاء الله ..ذهبت إلي الورشة في ثاني يوم وفي ذهني طلب سلفية من المعلم سلمان .. بيد أنه ردني بجفاء .. فكانت السرقة الثانية مع شنكل ) وهذه المرة إطار ورافعه.. وتنازل لي شنكل عن نصيبه وحلت عقدة الروشته وصممت بعدها أن لا ألج هذا المجال أبدآ وقد كان .
ساريه
24-09-2013, 10:41 PM
أحيانآ تضعك الظروف في موقف لا تحسد عليه وأحيانآ تضعك في موقف تحسد عليه وفي أحايين كثيرة لا تضعك في أي موقف .. بل تجرفك معها كقطعة طافية فوق الزبد ..تتقاذفك الأنواء وتبحر بك إلي المجهول .
بداية قوية لرواية قوية ... لعبة الظروف التى يهابها الكثير وينحنى لها الضعيف ويطوعها القوى كما يشاء ...
استمر اخى عبدالغنى ...
ننتظر ماذا فعلت الظروف بالفتى ( حربى ) وشقيقاته ... وامه حوه قزاز ...
تــــــــــــــــــابع ...
عبدالغني خلف الله
29-09-2013, 07:31 PM
عزيزتي ساريه ..صباحات السلام والطمأنينة والود لك ولكل مواطن ومواطنه بواد مدني الحبيبة حفظها الله من كل سوء ..هل يزدهر الحراك الثقافي في ايام الأزمات أم يخبو ويتلاشي ؟ ..سؤال طرحته علي الشاعر كجراي عبر برنامج ( ريحة الدُعاش ) الذي تشرفت بإعداده وتقديمه بإذاعة واد مدني الفتية علي مدي عام كامل ..منتصف الثمانينات ..وكان جوابه ببساطه يجب أن يستمر النشاط لأن مسيرة الحياة لا تتوقف ..لذلك نعود معك وكل أسرة المنتدي وضيوفه لرحلتنا في قاع المدينه ..هذا مع تحياتي .
عبدالغني خلف الله
29-09-2013, 07:34 PM
الحلقة الثالثة
واجهت المعلم بشروطي في الإستمرار معه .. أولآ نصف العمولة لأي عربة أقوم بصيانتها إضافة إلي وجبة إفطار أو أغادر الورشة .. وكانت أكبر مفاجآت حياتي عندما وافق وكلفني بمناقشة الزبائن علي الأجر وأخذ نصيبي مقدمآ .. كانت فرحتي عظيمة ذلك الصباح ولم يمض بعض الوقت حتي توقفت عربة أنيقة وترجلت منها فتاة في ريعان الصبا والجمال وقد أحدثت زيارتها للمنطقة فوضي لا مثيل لها .. أولآ لأن رؤية فتاة تقود سيارة ليس بالأمر المعتاد ولكونها جميلة وآسره ..طلب مني المعلم أن أعاين عربة الأستاذه ..سحر إسمي سحر وأعمل مضيفه جويه .. وأنت .. فاجأتني بتقديم نفسها وأنا أرفع غطاء الماكينة لدرجة أنني نسيت إسمي لبعض الوقت .. ها .. معاي أنا .. أيوه طبعآ .. قلت شنو ؟ ..قلت ليك إسمي سحر وأنا مضيفه .. العربيه دي بتاعتي .. عاوزاك تراجع الماكينه .. تشوف السخانه دي من شنو .. حاضر يا ست ..إنتي بس إتفضلي أقعدي جنب المعلم وأنا حأقوم بالواجب ..لم يصدق المعلم سلمان الفاضي أن كل تلك الوسامة تجلس بجانب مكتبه في مقعد هو بالأساس مقعد عربة تحت الصيانة وأنها ستمكث بعض الوقت .. فنادي علي (نانا الحبشية ) وطلب منها قدحين من الشاي ومن ثمّ عاد ليمارس هوايته في الثرثرة وهو الذي أصّر علي بائعة الشاي أن تبيع من أمام ورشته حتي يتسني له محادثة كل من جاء يطلب كوبآ من الشاي .. لم يكن بالعربة خلل كبير ..ذلك لأن ( طرمبة ) الماء لا تعمل وتحتاج إلي قطعة غيار جديده .. ناولتي حزمة من المال وطلبت مني أن أشتري قطعة الغيار وأعيد لها الباقي .. ولم تحدثني نفسي الأمارة بالسوء بأن أختلس بعض المال المتبقي وهو كثير فأعدته لها بالكامل .. ربما لأن الإحساس بالحيوية والإمتلاء الذي أحدثته زيارتها لنا كان أكبر من أن أدنسه بكسب مادي رخيص .. نظرت في عينيّ لحظة ودست في يدي بضعة جنيهات .. وعكفت علي العربة أعمل فيها بهمة ونشاط وأنا أختلس النظر إلي وسامتها كلما وجدت إلي ذلك سبيلآ .. وسارت الأمور بسلام وطلبت منها أن ننطلق لتجربة العربة التي صارت تعمل بصورة جيدة ..أعادتني للورشة بعد أن دفعت الحساب وشكرتني بحراره ولم تنس أن تسألني للمرة الثانية عن إسمي ..صالح ..وملقب بحربي ..حربي ؟! ..أيوه حربي ..أنا حأناديك بس صالح .. ممكى ن ؟ .. ممكن طبعآ .. مع السلامه .. مع السلامه . عدت إلي منزلنا مشغول البال مشوش الفكر .. وبرغم الجنيهات التي إستقرت في جيبي جراء صيانة عربة المضيفة (سحر) إلا أن صورتها تملأ كياني .. ناولت شقيقتي سلمي بعض الحاجيات وسلمت بقية المبلغ لوالدتي .. سألتني سلمي ( أخت ليك غداء ؟ ) .. قلت لها لا أريد .. أنا تعبان وأود أن أنام بعض الوقت .. لحقت بي سلمي وقد قرأت شيئآ ما في عيوني .. حاولت أن تستدرجني في الكلام .. مالك يا حربي .. سمعت بخطوبة جارتنا ولّه الحكايه شنو ؟ أميره إتخطبت .. صرخت وأنا أقف علي أرجلي .. وكأن بي مسآ من الجنون .. غادرت المنزل علي الفورفتلقفني (شنكل ) لدي الباب واقترح عليّ أن نتمشي قليلآ ووجدته وقد أخذني تجاه منطقة المقابر .. حاول أن يطيب خاطري ببعض الكلمات دون جدوي .. كنت أعلم أن شيئآ كهذا سيحدث وبأنني لن أكون العريس بأية حال .. فوالدها الحاج ( عبدو الفولاني) رجل طماع وأناني وسيفكر في بيع أميره لا تزويجها .. ولكنني لم أتوقع أن تسير الأمور بهذه السرعه .. فأميرة لا تزال بالسنة الثانية بالثانوي العالي وهي ذكية وطموحة ..فلماذا لا يدعها تكمل تعليمها ؟ لماذا ؟ .. دع الأمور لله وهاك يا صاحبي هذه ..( ده شنو يا شنكل ؟ .. سجاره .. بنقو ؟) ..لا لا يا (شنكل) أعفيني من هذه المصايب (..مصايب شنو ؟ إنت ما راجل ؟ ..ظنيتك لسه ولد صغير .. ) وتحت ضغطه وإلحاحه دخنت لفافة ولفافتين وثلاثه .. كنت أود أن أغيب عن الوعي تمامآ حتي أنسي مشكلتي مع أميره وأنسي صورة المضيفة ( سحر) .. (آه لو شفت عينيها وهي بتقول لي مع السلامه ..عيون متل الفناجين والرقبه طويله .. ملساء .. والعجب الصوت والشعر .. أوصف شنو وأخلي شنو .. يا شنكل .. عليك الله جربت حاجه زي كده ؟ ) ..
عبدالغني خلف الله
29-09-2013, 07:40 PM
عزيزي محمد ..صدقني لم أر عبارة متابع واختلط علي الأمر ..لك العتبي حتي ترضي ومثلك لا يمكن تخطيه بهذه البساطه ..معذرة مرة أخري .
عبدالغني خلف الله
29-09-2013, 07:44 PM
الحلقة الرابعة
أرسل شنكل آهة طويلة أردفها بزفرة حارة لفحت وجهي بلهيبها وهو يهمهم .. ما جربته يا حربي لا يمكن أن يخطر ببالك .. حياتي قبل أن أجيء إلي هنا كانت جحيمآ لا يطاق .. فأنا نتاج زواج غير شرعي .. حملت بي أمي سفاحآ وقذفت بي إلي صندوق لحفظ النفايات .. أيوه ( ود حرام ) ..أليس هذا ما تود قوله يا حربي ..العفو يا (شنكل) ..(وإنت كان بإيدك شنو ؟ ) ..أشكرك يا صديقي .. لقد وضعت بالقرب مني نصف قطعة معدنية من فئة العشرة قروش ..لعلها لا تزال تأمل في إستعادتك .. بعد سبعة عشرة عامآ يا حربي .. لا أريدها وإن ظهرت سيكون حسابها معي عسيرآ .. كان يتوجب عليها إسقاطي أو تحمل مسئولية إنجابي سفاحآ .. إمرأه ضعيفه ..إمرأه دنيئه .. لعل الظروف التي كانت حولها أقوي منها .. لا تدافع عنها ..ظروف أقوي من الأمومه ..أية ظروف هذه ..ترميني هكذا دون رحمة ولا تخاف عليّ من البرد والجوع والكلاب الضالة .. كيف تفكر يا غبي ؟..هل فعل البنقو فعله فيك .. أنا آسف ..آسف جدآ ..المهم وجدني إبن حلال بين الحياة والموت وسلمني للسلطة والتي بدورها سلمتني لمنزل اللقطاء .. وبقيت هناك خمس سنوات والأسئلة الحائرة تزلزل كياني الصغير والمسئولة تعطيني أجوبة ساذجه .. فتارة أنا إبن الرعد وأمي السحابة وأخري إبن الشمس وأمي ( القمرا ..) .. وكبرت وكبر معي آخرون ..احبهم وأقربهم إلي قلبي طفل يطلقون عليه إسم (كافوله ) في نفس سني تقريبآ ..وذات مساء لفته الظلمة وهوج الرياح هربنا من النزل وذبنا في قاع المدينة .. كان (كافوله) يحرص علي قطعة من القماش توضع تحت ذقن الطفل وثلاث (بزازات ) وجدها المصلون داخل السلة التي كانت تحتويه ومعها رسالة من أم مجهولة توصيهم خيرأ برضيعها .. وقد ملئت الزجاجات الثلاث بالحليب .. وقد روي أول من غادر المسجد بعد أداء صلاة الفجر أن اللبن كان دافئآ لدرجة أنهم تشككوا في منازل الجيران .. لذلك حرص علي قطعة القماش تلك ومن إسمها أخذ إسمه .. تصور شخصآ كل نسبه قطعة من القماش وثلاث زجاجات حليب .. وفي قاع المدينة تلقفتنا عصابة من الصبية يكبروننا سنآ فعلت بنا العجائب .. لقد إستغلونا بشكل بشع .. توزعونامثل قطيع من النعاج ولم يراعوا فينا إلآ ولا ذمة .. ناس ما بتخاف من الله .. وأسرف شنكل في وصف مأساته داخل المجاري بالسوق .. ينام بين شذاذ الآفاق ويرتدي أسوأ الثياب .. ولو علم أن والدته ( جوليا ) تسهر الليالي بالسنين الطوال في ( نيويورك ) البعيدة بإنتظار عودتها للخرطوم لتبحث عنه من جديد وتأخذه إلي حضنها وتضمه إلي شقيقته ( لوسيانا ) المولودة لها من أب أمريكي .. لو علم كم تتعذب بعيدآ عنه ربما التمس لها العذر ولكن .. ماذا قلت يا (شنكل) .. تأكلون بقايا الموائد بالمطابخ وتلحسون أوراق ( الباسطة ) المنسية في القمامه بعد أن تهشوا عنها النمل .. معقول الكلام ده يا شنكل ؟! ..(وحياة خوتك الما منها فايده ) .. لم أعد بقادر علي تتبع الحكاية فقد أحسست ثقلآ شديدآ في أجفاني وأن رجليّ بالكاد تحملانني فطلبت من شنكل أن يكمل لي القصة في وقت آخر واستندت علي كتفه لأصل بصعوبة إلي باب منزلنا .
عبدالغني خلف الله
30-09-2013, 08:45 AM
الحلقة الخامسة
عدت من الورشة وأنا بمعنويات عالية وكأنني امتلكت الدنيا بما فيها ومن فيها فقد زارتنا بالورشة المضيفة سحر لإجراء بعض الصيانة بعربتها .. كنت وقتها مستلقيآ تحت عربة حكومية أراجع بعض النتوءات التي حدثت هنا وهناك بعد تعرضها لحادث مروري في طريقها من وادمدني للخرطوم .. عندما غمرني صوت هامس .. أوسطي حربي ..أوسطي حربي .. لم أتبين صوتها للوهلة الأولي ولكن قدماها وحذاؤها اللامع ذكراني من تكون .. سحبت نفسي من تحت العربة بعد أن اصطدمت بألف شيء قبل أن أقف علي رجليّ .. أستاذه سحر ؟! .. مش معقول ؟! ..( شنو المش معقول يا غبي .. لعلك توهمت أنها بنت الجيران أو واحدة من الأهل ..) هكذا قال لي ضميري موبخآ .. تغيرت لهجتي وصورة الفرح الذي احتواني إلي لهجة هادئة .. مرحب يا أستاذه .. أيّ خدمه ..؟ .. يعني ما نسيت إسمي ؟ ..همست في وجهي وابتسامة ملائكية تتوزع علي شفتيها وعينيها وتضاريس قدّها الصبي ..لا ما نسيت معقول أنسي يا أستاذه سحر ( هو شنو الما معقول ومعقول دي يا شاب ؟! أظنك قايلها دفعتك في الجامعه ) .. هكذا عقب ضميري .. ولا أدري لماذا يضيق عليّ وهو جزء مني .. أليس بوسعنا أن نتآخي مع هولاء الناس الرايقين النظيفين ولو للحظات ؟ .. وهنا تذكرت طبقة التراب الكثيفة التي تربعت فوق ( الأبرول) وفي مؤخرة رأسي .. وعندما فتحت باب العربة لتريني الإشارة الضوئية بال( طبلون ) والتي تشير بوضوح إلي أن ( الماقنيتا ) لا تعمل .. ترددت برهة في الجلوس خلف المقود وبدأت في نفض التراب عن ظهري فإذا بها تساعدني في ذلك .. لامستني أصابعها الرقيقة التي طرقت ظهري وقلبي طرقات رقيقة وكادت أن ترسلني إلي غرفة الإنعاش .. شجعتني علي الدخول وهي تقول لي لا تهتم .. غدا موعد صيانتها الأسبوعية .. (علي فكرة )لماذا لا تحضر لنا بالبيت غدآ وهو يوم جمعه ولا أظن الورشة تعمل يوم الجمعة لمراجعة الماكينة وتبديل الزيت والغسيل هذا طبعآ إذا لم يكن لديك مانع .. أعرف إنك أوسطي كبير والغسيل لا يليق بك ولكنني سأدفع ( للعفريتة ) في كل الأحوال فلماذا لا تستفيد أنت من المبلغ .. ها قلت شنو ..؟ أقول شنو يا .. يا أستاذه سحر .. (بلاش) من الألقاب يا حربي ..أنا مضيفه ولست معلمه .. ناديني باسمي فقط .. وهكذا صنت لها العطل وأخذت منها عنوانها وأخذت هي روحي وضميري ومصيري .. لقد أخذت كل شيء .. كل شيء وغادرت والفرح الطفولي الغامر يلون كل إيماءة .. كل حركة من حركاتها ..انطلقت بالعربة تاركة لنا الغبار والدهشة والأشواق .. نعم عدت وأنا أترنح كالسكاري من فرط سعادتي .. توجهت مباشرة نحو أمي أسألها .. من أنا ومن أكون وكيف كبرت وترعرعت ولماذا لم نكن هنالك بذلك الحي الراقي قرب سحر وأسرتها .. اسندت كتفي علي صدرها وبدأت أنشج بالبكاء كطفل صغير .. كنت متعبآ وحائرآ وقلقآ وخائفآ من الغد ومن سحر .. من روعتها ونعومتها وهيبتها .. فهل يجوز لي مجرد التفكير بها علاوة علي حبها وعشقها .. أرسلت تنهيدة عميقة خرجت من بين حنايا صدرها .. آه يا ولدي لو تعلم ما قاسيناه وكابدناه من أوجاع .. كنت أعمل في الوادي حين ولدتك .. أجلستك فوق الأعشاب وكأنني دجاجة تفقس بيضها في الهواء الطلق .. لملمت بقاياك وصراخك يزلزل كياني وكأنني سأفقدك في منعطفات تلك البرية .. صرخت باعلي صوتي علّ أحدآ يسمع ندائي فيحملنا إلي بيتنا أعلي السفح ولكن لا أحد .. جاوب الصدي صراخي وهتافي ولكن لا أحد .. حملتك وأنا أستحم بالدم والألم أسقط ثم أنهض .. اسقط ثم أنهض .. حتي وصلت مشارف القرية حيث تلقفني خالك وصرخ باعلي صوته ( عووك ..هوي يا ناس ..حوه إخيتي ولدت ليها ولد ) ..وعاشت القرية أياما وليالي ترقص تحت ضوء القمر وعلي ضوء ( الرتاين ) فرحآ بمقدمك .. فقد ولدتك بعد أن مضي علي زواجي من أبيك سبع سنين بالتمام والكمال .. وعندما سمع بالخبر وكان وقتها في الجنوب يعمل في الجيش ..أخذ إذنآ وعاد للبلد وبالرغم من معارضة أهلي أصرّ أبوك علي أن نذهب معه حيث يعمل .. ومن ثمّ بدأت رحلتنا الغريبة والفريدة مع التجوال والحركة المستمرة من بلد إلي بلد ومن نقطة إلي نقطه .. وكنت عندما يشتد أوار القتال بين المتمردين وجيش الحكومة أحملك علي عجل وآخذك للمسجد ..وأغطيك بآيات الله أدعوه .. وأدعو الرسول ومن بعدهم أولياء الله الصالحين أقول ( يا الله تحفظ لي وليدي صالح .. يا الله إن أنا مت وليدي يعيش ويكبر ويبقالي ظابط متل الظباط رفقا أبوه ..) .. وظللنا علي هذا المنوال ..هي تحكي الحكايات المشوقة عن أناس وأماكن وحروب وقتلي .. وكانت تقلد صوت الأسلحة وكأنها خبير في المتفجرات ( الإنرجيا تعوي متل الجراو .. والمورتر يسوي يييي دو .. والبرين تتاتت تتا تت ..) ..حدثتني عن ظروف مرت بهم ومصاعب لا تخطر علي بال ..واختتمت مرافعتها بقولها ( الحرب كعبه يا وليدي ..الله لا يضوقك ليها ) .
عبدالغني خلف الله
06-10-2013, 12:45 AM
الحلقة السادسة نأيت بنفسي عن الوقوف كل صباح لتحية أميرة وهي تخطو نحو باص المدرسه .. ويبدو أنها انزعجت من تهربي منها لما يقارب الأسبوع فاقتحمت منزلنا قبيل الغروب وقد تعللت بأنها تود الإطمئنان علي شقيقتي (نسمه) فكانت المواجهة بيننا .. إغتنمت فرصة مغادرة شقيقتي (سلمي) لتعد لها كوبآ من الليمون لأقول لها في إنكسار شديد مبروك الخطوبه ..(خطوبة منو ولمنو ؟ ..) وقد ردت عليّ بغلظة واضحة ..خطوبتك طبعآ .. ضحكت ضحكة هي مزيج من الضحك والرفض والبكاء .. ورانت لحظة صمت قاتله .. ثم .. هل تسمي الحاج رضوان سيد الدكان خطيبآ ..الحاج ..؟!! ..نعم قابل أبي وخطبني عروسة له تؤنسه ما تبقي من عمره لأقضي أنا ما تبقي من عمري بلا أنيس .. وسكب في وجه أبي الوعود البراقة .. سأشتري لها منزلآ وأسجله بإسمها وأسجل لها الطاحونة والطابونة ..وطبعآ لم يصدق والدي النعمة التي هبطت عليه من السماء فوافق علي الفور وناداني ليبارك لي في حضوره الخطوبة ..إنتفض كمن لسعه ثعبان وانهال علي بعبارات الإطراء .. فقد الرجل وقاره وانكسر أمامي مثل غّر مراهق ..قلت لهما في حزم شديد لا يقبل التأويل .. أنا أريد أن أكمل تعليمي حتي الجامعة ولا أريد الزواج .. لملم الرجل بقية كرامته المجروحة إن كان لديه أصلآ كرامه وخرج .. أنا أحبك أنت يا حربي .. أحبك حبآ ملك علي حواسي ولا بد أن تكون شيئآ ليقبلك والدي .. إلي متي ستكون صبي ميكانيكي ؟!.. إن حبنا يكبر يا حربي فلماذا لا تكبر معه .. وصرت أردد أنا ؟! .. فتقاطعني بمزيد من التحريض .. سافر ياخي إغترب أعمل حاجه وإلا سوف أهرب معك إلي آخر الدنيا فنتزوج بالقانون .. قالت هذا والإنفعال الشديد أفقدها أعصابها فبكت .. بكت بكاءآ مرآ .. دنوت منها أخفف نهنهاتها .. وصرت أمد يدي نحو شعرها مترددآ خائفآ ولست واثقآ إن كنت في عالم الحقيقة أم في عالم الأحلام .. وتشجعت فوضعت يدي في كتفها وأنا أردد عبارات لا أفهمها فانفلتت نحو باب الغرفة لتصطدم بسلمي المتعجلة كعادتها .. فتطايرت الأواني يمنة ويسرة وهي تردد أنا آسفه يا جماعه أنا آسفه يا جماعه . زارني شنكل بالورشه ولم يكن بيدي شيء يذكر ..مجرد (بوليتين ) إنتهيت من إستبداله واستأذنت من المعلم (سلمان الفاضي) ومن ثمّ توجهنا نحو (نانا الحبشيه ) .. ولدي جلوسنا همس شنكل في أذني ( ديشك يا حربي ..دي ما منقة كسلآ عديل .. إسمها نانا وهي صاحبتنا .. أها تشرب شنو ؟ قول لي تاكل شنو ؟ أخوك ما أكل من أمبارح .. طيب نمشي المطبخ .. ومالك مدبرس كده ؟ .. والله يا حربي ما قادر أشتغل .. الطبليه ما جايبه حاجه بعد ما إكتشفت الشرطه إني ببيع البنقو .. تبيع البنقو يا شنكل ؟ .. حرام عليك ياخي ما لقيت حاجه تاكل منها عيش غير البنقو ؟ .. صدق أنا تاني يوم لسجارات المقابر ما جيت الشغل .. وفضلت كذا يوم ما قادر أفك أو أربط حاجه .. لالا مش بنقو بنقو .. وزنات خفيفه يعني تمشي الحال .. بالمناسبه عندي صاحب عزيز عليّ نفسو يتعرف عليك .. يظهر أن ليلة القدر نزلت عليك ..حأسيبك أعمل كذا مشوار وأمر عليك بعد الشغل ).. لم أكن مرتاحآ لهذه الدعوة وقد صدق حدسي .. فقد أخذني شنكل إلي الطرف الغربي من المدينه وقد وصلناه بعد حلول الظلام .. طرق الباب طرقآ خفيفآ وتبادل مع شخص بالداخل عبارات مثل (المنفله في العربيه ) .. وعبارات أخري لم أستوعبها .. فتحت لنا الباب صبية مليحة قدمها لي علي أنها بطه .. وفي غرفة معزولة بالمنزل دخلنا لنجد رجلآ في الخمسينيات من العمر .. المعلم الكيك .. الأوسطي حربي .. نهض الرجل في تثاقل واضح ويبدو أنه واقع تحت تأثير ما .. وسلم علينا بحرارة ..عادت بطه بزجاجة من الخمر وثلاثة أكواب وصبت منها لثلاثتنا وهمست في وجهي .. شرفتنا .. شرف الله قدرك .. جاوبتها هامسآ وأنا لست متأكدآ تمامآ بأنها فهمت ما أعني .. تجرعت الكأس الأولي لأجد شيئآ مر المذاق سري كالنار في حلقي .. ( عرقي بلح أصلي ) .. وكانت تلك هي المرة الثانية التي أتذوق فيها الخمر .. هذا إذا كانت ( المريسة ) تقارن بهذه (الصودا الكاويه ) .. ودخل الرجل في الموضوع مباشرة .. بصراحه يا حربي .. هنالك إخوة لنا يحضرون لنا العربات المسروقة ونقوم بتفكيكها إلي إسبيرات وبيعها ولدينا ثلاثة شبان يعملون معنا ونحتاج إلي رابع .. وقد حدثني (شنكل) عنك حديثآ طيبآ .. فكر في الموضوع جيدآ فإما أن تقبل وإما أن تحفظ أسرارنا .. لأن الخيانة في مثل هذه المواضيع جزاؤها الذبح .. قال ذلك وقام بتمثيل الذبح وفمه يصدر صوتآ كصوت السكين .. ولا أطيل عليك ..ثم .. (بطه ..بت يا بطه .. خدي الأستاذ وكملوا سهرتكم براكم ..) . قادتني(بطه) إلي غرفة مجاوره وصبت لي المزيد من الخمر .. سألتها في سفور واضح .. لماذا أنت هنا ولديك كل هذا القدر من الجمال .. ترددت في الإجابة علي سؤالي ولكنها عادت لتقول لي .. أنا هنا غريبة الأهل واللسان .. كنا نعيش في أطراف الجنوب أنا ووالدي ووالدتي وثلاثة إخوه لم يتجاوز أكبرهم السادسة من العمر .. وفي ذلك الصباح المشئوم ذهبت إلي الحقل لإحضار بعض الحطب بصحبة والدتي وعندما عدت وجدت الثوار قد ذبحو أهلي .. ذبحوهم كلهم .. أوثقوهم بالحبال وذبحوهم .. سالت الدموع من عينيها الواسعتين وهي تواصل قصتها .. علمت منها ان الثوار لم يتركوا لها شيئآ .. نهبوا الأبقار وحتي العنزات الصغيرات .. وجوالات الذره التي حصدوها حديثآ وقامت بدفن أهلها دون مساعدة من أحد .. دفنتهم في (المطمورة) التي حفرها والدها بيديه ليحفظ فيها مئونة العام .. طيبت خاطرها ونقدتها بعض المال ووعدتها بأن ألتمس لها مهنة تحافظ بها علي شرفها.. وتعول بها نفسها .
عبدالغني خلف الله
07-10-2013, 12:51 AM
الحلقة السابعة
أتاني صوت من اللاشيء يقول ( منو الفي الباب ؟ ) .. تلفت يمنة ويسرة لأعرف مصدر الصوت ولم أجده .. نظرت إلي أعلي السور وبين ثنايا البوابة الفخمة فلم أر شيئآ .. ومرة أخري قرعت جرس الباب ليأتيني نفس الصوت وهذه المرة بشيء من الغلظه ( منو.. منو الفي الباب ؟!!) فأدركت أن الصوت لا بد أن يكون قد خرج من ثقب في السور أشبه ب(مايكرفون ) ..قلت في تردد (أنا .. أنا حربي الميكانيكي ) .. ولكن صوتي ذهب أدراج الرياح .. إنتظرت خمسة دقائق أخري وقرعت الجرس مرة أخري لتفتح الباب خادمة صغيره ..( عاوز شنو ؟ .. من فضلك قولي للأستاذه سحر .. الميكانيكي وصل .. سحر نايمه .. تعال بعد ساعه ) .. كان استهلالآ سيئآ بعكس ما توقعت .. هذا لأنك لم تحسن التوقيت .. اليوم جمعه وهؤلاء الساده يروحون في نوم عميق حتي وقت متأخر من نهار اليوم .. ولكن الحياة تبدأ مبكرآ عندنا في الحي .. هذا عندكم في الحي العشوائي .. لأنكم إستيقظتم في هذه الحياة بعد فوات الأوان بعكس الناس هنا .. والعمل ؟ ..العمل أن تتسكع في دروب هذا الحي الراقي حتي تستيقظ سحر .. إتفضل .. قالت لي بأريحية مدهشه .. ( الخدامه قالت إنك جيت بدري .. أنا آسفه شالتني نومه ..إ تفضل أدخل .. ) .. ومنذ الخطوة الأولي شعرت بأنني ألج قصرآ من صنع الأساطير وليس منزلآ .. هذا المرمر والسيراميك الذي يغطي كل شيء .. أم الحديقة الغناء بأزهارها الملونة أم الفيلا الفخمة بطوابقها الأربعة ؟ .. وغير بعيد جثمت عربة سحر .. إستأذنتني لتغيّر ملابسها فقد هبطت بملابس النوم وآثار النعاس بادية عليها .. لم تكن منزعجة أو سعيدة بوجودي وقد إرتسمت علي وجهها هالة من الجمال المطمئن دون سفور .. جمال يريح النفس والخاطر ويبعث علي الحيوية والتجدد .. لم أضيع وقتآ فأمامي مهمة عسيرة .. غيرت ملابسي التي حضرت بها وارتديت (الأبرول ) وبسم الله إبتدينا .. أخذت مني الصيانة وغيار الزيت والتشحيم سحابة ذلك اليوم بعيد المغرب .. وكانت سحر تطوف وتطوّف بي في دنيا غريبة من الروعة والإمتاع .. تناولني الطعام وأقداح الشاي وتتجاذب معي أطراف الحديث .. ماذا كنت تقول لها وماذا كانت تقول يا حربي ..حدثتها عن ناس البيت ووالدي الجاويش عويضه الذي أستشهد في ( واسكيج ) وقد أسبغت عليه صفة البطولة والإقدام وحدثتها عن سلمي شقيقتي والمستقبل الذي ينتظرها في عالم الغناء وكيف أنها غنت في حفل نجاح بنت الجيران وكانت ولا البلابل .. وهنا قالت لي الخميس الجاي عرس (سلافة) إبنة خالي ليت سلمي تغني لنا في ذلك اليوم وطبعآ وافقت وقلت لها ( وكمان مجانآ عشان خاطر الأستاذه سحر .. تاني الأستاذه يا حربي ما قلنا بلاش ألقاب .. عشانك يا .. يا سحر .. أيوه كدا كويس .. قلت ليها كل الكلام ده وزياده وهي قالت ليك شنو ؟ .. هو أنا عارف كانت تبتسم ومرات تضحك .. المهم مضت الصيانة بسلام وعندما فرغت منها كنت قد تعرفت علي جميع أفراد العائلة .. والدها ووالدتها وشقيقها عصام ..وطبعآ الخادمة التي قامت بخدمتي .. سلمتها المفاتيح وأنا أقول لها ( غايتو مش علي الغرض ) .. بيد أن الجميع قد شهدوا بأن عربة سحر لم تلق صيانة كهذه منذ اقتنائها لها .. كانت بكامل أناقتها وهي تتهيأ للخروج في مشوار مسائي .. أصّرت علي توصيلي حتي منزلنا وحين ولجت الحي العشوائي بأزقته المتعرجة لوت أعناق ساكنيه رجالآ ونساءآ .. شيبآ وشبابآ وأطفالآ .. حتي شجيرات (النيم) المتباعدة تمايلت طربآ لمقدمها .. وانتظرت لتسلم علي سلمي وأمي وهي داخل عربتها وكأنها حورية صغيرة خرجت لتوها من أعماق البحر . جاءني (كافولة ) ليقول لي أن ( بطة ) قد عادت من البلد وتود رؤيتك .. وكيف هي ؟! سألته في لهفة وتشوق .. والله لا أكذب عليك .. أحوالها سيئة جدآ .. فمنذ عودتها والمعلم يضربها ويستفزّها ويهينها ولا أدري لم وكيف صبرت عليه حتي اليوم .. ولم كل هذا الإضطهاد ؟ ..الموضوع وما فيه أن الزبائن بدأوا يتذمرون من تصرفاتها .. فهي لم تتعد متحمسة لممارسة البغاء وقد أغضب ذلك المعلم (الكيك) لا سيما وأنه يدعو لها طبقة من الأغنياء يهيء لهم جلسات خاصة لتدخين البنقو ويجلب لهم الخمور الراقية .. وقد تمردت بطة علي القيام بدور الساقية العابثة .. وعندما شعر المعلم بان ما يدفع أقل بكثير سألهم عن السبب فأخبروه بان بطة تتهرب من مشاركتهم الفراش بمختلف الذرائع .. وقد اعترفت لي بأنها صابرة علي هذا الوضع لحين لقائها بك وترجوك ألاّ تتأخر عليها .
عبدالغني خلف الله
20-10-2013, 09:40 AM
الحلقة الثامنة والجميع بألف خير..
أنهيت عملي وانطلقنا إلي وكر المعلم ( الكيك ) .. إلتقتنا عند الباب وكأنها تتوقع حضورنا .. ولحسن الحظ لم يكن من أحد بالمنزل .. سلمت عليها فناولتني يدها بدون أن تنبس ببنت شفه .. واغرورقت عيناها بالدموع .. وكأنما دموعها تقول لي لقد عانيت بسببك وأوفيت بوعدي ولم توف بوعدك .. ومضي وقت طويل وهي لا تتفوه بكلمة واحده .. حاولت أن أخفف من شعورها باليتم والغبن والمهانه دون جدوي .. توسلت إليها بأن تكف عن البكاء وتكفكف دموعها .. كان الموقف فوق احتمالي .. وأنا الذي لم يتعود علي رؤية إمرأة تتمزق أمامي ومن أجلي ولم أحلم أصلآ حتي تلك الفترة في أن تكون لي إمرأة ما .. إمرأة تهتم بي وتبكي من أجلي .. ياااه يا لروعة الإحساس الذي يتملكني .. كل هذا الإخلاص لي أنا .. كل هذه الأشواق تخصني وحدي .. ولكنها مجرد عاهره .. ودموعها دموع تماسيح هكذا قال لي ضميري الذي استمرأ تعكير صفو حياتي .. كانت عاهرة يا غبي .. ولكنها اليوم ليست بعاهرة وسأشاركها همومها وأخرجها من ماضيها بكل تفاهاته ومرارته وأعيد لها إعتبارها وكرامتها المفقودة .. سأعيدها إلي طبيعتها التي فطرت عليها .. طبيعة القروية الطيبة الصافية كالحليب .. قالت لي بين دموعها وتنهداتها .. أخرجني من هنا .. أرجوك أخرجني من هذا الجحيم .. نعم أفعل .. ولكن إلي أين ومنزلنا بالحي العشوائي نصفه كرتون والنصف الآخر من الجالوص .. خذني إلي أي مكان .. أرجوك إلي أي مكان .. قالت ذلك وعادت مرة أخري للبكاء .. بيد أنها نهضت فجأة .. لقد تذكرت .. ها .. لي إبنة خاله تسكن بالخرطوم ..زوجها سائق لواري سفرية .. ولقد أعطتني وصفآ لبيتهم ..هي في ..في ..أعرف ولكن ..لكن ماذا ؟ هذا الحي كبير يا بطه .. هل أعطتك وصفآ محددآ .. هيا تذكري .. نعم .. نعم .. هي تعمل في إتصالات .. إتصالات .. والله لا أتذكر الأسم يا حربي .. إذن هيا .. لملمي أشياءك وسوف نمر علي جميع مكاتب الإتصالات بذلك الحي واحدآ واحدآ حتي نعثر عليها . انفلت صوت من ( المايكرفون ) داخل الطائرة معلنآ الوصول إلي مشارف الخرطوم طالبآ من الركاب الامتناع عن التدخين وربط الأحزمة .. ولكن (جوليا ) شردت بنظراتها تقرا البيوت والأشجار من ذلك العلو الشاهق تحاول فك طلاسم معالمها المتغيرة بعد كل هذه السنين .. نبهتها المضيفة لربط حزامها وحزام ابنتها ففعلت وهي لا تحول نظراتها عبر النافذة نحو الخرطوم الرائعة .. نحو ثري الوطن الجميل .. إييه .. لكمّ انتظرت هذه اللحظات .. أيام وأسابيع وشهور .. بل وسنوات وهي تعد الثواني والساعات بانتظار العودة إلي أحضان الخرطوم والناس والأشياء والأهل وقبل كل هؤلاء طفلها المفقود .. طفلها الذي يفترض إن كان علي قيد الحياة قد صار رجلآ .. إنها تتذكر قدميه الصغيرتين وابتسامته الملائكية وهي تدسه داخل ذلك الصندوق الصغير بعد أن قبلّته وضمته إلي صدرها مليون مرة دون أن ترتوي .. وهرولت بعيدآ تغادر المكان ولكنها ما أن تبتعد قليلآ حتي تعود أدراجها لتقبّله من جديد .. ولم تغادر إلا بعد أن ألحّت عليها صديقتها ( هند) وأكدت لها بأنها قد وضعت كل الإحتياطات الضرورية لضمان سلامته .. كانت لحظات قاسية ظلت تؤرقها وتوقظها من نومها مذعورة في جنح الليالي الباردة هنالك بنيويورك .. كوابيس لا تعلم متي وكيف تنتهي وزوجها الرائع رتشارد يهديء من روعها في كل مرة وينهض ليحضر لها بعض الماء لتشرب ومن ثمّ يأخذها إليه يمسّد شعرها حتي تنام .. انتهت إجراءات الجوازات والجمارك وخرجت لتجد كل أفراد أسرتها بانتظارها خارج المطار وداخل الصاله وهم يهتفون ( جوليا مرحبا ) ..وأخذوها بالأحضان .. أحضان الوالد والوالدة والشقيقات .. الخالات والعمات ..وحتي أسرة وجدي كانت هناك .. إنها حقوق الجيرة والعشيرة والرهط والأصدقاء .. سلمت عليهم تحت دهشة الصغيرة ( لوسيانا ) التي لم تتعود في أمريكا علي مثل هذا الطقس الدافيء وتلك العواطف المشبوبة .. كانت مرهقة ومتعبة من رحلة استمرت لأكثر من سبع وعشرين ساعة من الطيران المتواصل والانتظار الطويل بالمطارات .. (أمستردام والقاهرة ) وأخيرآ آن لها أن تلقي عصا الترحال وترتاح ولكن لحين .. ففي جعبتها الكثير من الهموم وما ينتظرها من مفاجآت تصيبها باليأس والإحباط ..وقد توشحها بالبهجة والأفراح .
عبدالغني خلف الله
21-10-2013, 09:56 AM
الحلقة التاسعة
لا تزال بطة تحاصرني بروعتها وأنوثتها الطاغية ..معها أجد نفسي وذاتي .. تتدفق عواطفي ثرة وندية بلا رتوش أو تكلف .. معها لا أحتاج كل ذاك العناء الذي أكابده في كل لحظة أقف فيها أمام سحر ..هذه تعطيني الإحساس بالتفوق وتلك تعطيني الإحساس بالتواضع .. هذه تمنحني الشعور بالراحة والإطمئنان .. فإن تكلمت فهي التلقائية والبساطة والعفوية ومع تلك أشعر بالخوف وإن تكلمت فهي التأتأة وإنحباس الأنفاس ومحاولة إنتقاء العبارات .. لذلك أشتاق بطة وسوف أزورهم اليوم وسأحمل لها بعض الهدايا والفاكهة والحلوي .. ماذا سأقول لها إن سألتني عن الخطوبة ..هل أعطيها وعدآ وأحافظ عليه وكيف يتسني لي زيارتها بانتظام في منزل قريبتها وقد لاحظت ولا ريب كيف تضايق زوجها من وجودي معهم ولا بد أنه أخضعها لسؤال ( نكير ) كما يقولون .. يجب أن يكون للموقف شكل آخر .. فهل أطلب من سلمي شقيقتي أن تذهب معي فنخطبها أم أن عليّ الإنتظار قليلآ فلا أتسرع .. هذه الأمور يا حربي لا ينفع معها الإستعجال .. لا بد أولآ أن تكّون نفسك وتعرف إلي أين سينتهي بك المقام بعد الإزالة وهل تملك دخلآ ثابتآ يمكّنك من تكوين أسرة حقيقية و.. و .. كفي أسئلة لقد دوختني بتساؤلاتك الممّلة يا هذا .. النصيحة غالية وصعبة .. فاسمع كلام من يبكيك يا صديقي ولا تسمع كلام من يضحكك . بكت وهي تردد أمامي أنا ( مشتاقه ليك يا حربي .. مشتاقه ليك بشكل ما تتصورو.. ) ..هدأت من روعها وهي تأخذ عني أكياس الفاكهة التي حملتها معي وجاءني صوت قريبتها من الداخل يرحب بي بحرارة لا تصدق .. شرفتنا يا حربي .. وين كل المده الفاتت دي .؟ أظنك نسيتنا ونسيت حاجه إسمها بطه ..أسأليه ..أسبوع تمام ما نشوفك ..؟ ..كيف أهون عليك ياحربي .. معقول إنت قاسي للدرجه دي..؟ ) .. ومرت ساعة تذوقت خلالها معني السعادة الحقيقية .. ولكن ..لكن ماذا ..هذا صوت عربة زوج بنت خالي ..لعله عاد من السفر ..السلام عليكم ..( إحم ..إحم ..أهلآ يا خينا .. ثم .. عن إذنكم أنا جاي تعبان من السفر .. خلي المساعد يدخّل الحاجات المهمه وينوم في العربيه ) .. ومن ثمّ أخذ زوجته معه إلي غرفة جانبية وسمعت أصواتهما تتعالي فيما يشبه الشجار ..( كيف يعني ما فيها حاجه .. ؟!! ) وقد كان هو من يتكلم ..علي العموم ( يا يجيب أمو وأبوهو ويخطبوها رسمي يا إمتآ لو شفت الزول ده تاني مره هنا ما يلوم إلا نفسو ..) ودار بينهما حديث مطوّل وقد حاولت بطة عبثآ منعي من سماعهم .. وعند ما تأكد لها أنني أتابع ما يدور بقلق وإهتمام .. إنخرطت في البكاء وهي تردد عبارة ( أنا آسفه يا حربي ..أنا آسفه يا حربي ) .. إستأذنتها في الإنصراف وهي تحاول أن تستبقيني بقوه .. ولدي الباب ضغطت علي يدها أشدها بكل ما أملك من عنفوان .. وأنا أردد ..( أشوف وشك بخير يا بطه ..أشوف وشك بخير..) .
عبدالغني خلف الله
23-10-2013, 09:39 PM
اللحلقة العاشرة أمضيت سحابة ذاك اليوم وأنا منهمك في صيانة عربة سحر كما هو الحال كل يوم جمعة .. بيد أنني كنت شارد البال ومحبطآ من لقائي الأخير ببطة .. وعلي غير عادة سحر لم تمر عليّ إلا لمامآ وقد لاحظت عليها التوتر الشديد .. ماذا هناك يا حربي ؟ ..ماذا هناك يا تري ؟ .. معقول أكون أنا السبب في كل هذا التجهم ؟ .. (بمناسبة شنو ) يا أخانا ؟ .. هل تتسبب أنت في تعاسة إنسان ملائكي مثل سحر .. ومن أنت لتفعل هذا ..؟ أنت تبالغ دون شك .. هل أسألها وأقول لها لماذا أنت تعيسة ومهمومة يا آنسة سحر ؟ .. لا .. لآ .. دونك العربة الصغيرة عربتها تنسم العطر المبعثر في زواياها .. تلمس موضع أكتافها ويديها علي المقود والثم حتي الزجاج الذي نظرت من خلاله إلي الشارع .. أما أن تربط نفسك بمجرد زفرة حرّي تغادر صدرها فهذا هو الجنون بعينه .. دعنا نذهب بك إلي أقرب عيادة نفسية يا زعيم لتعالج من حالة الفصام هذه التي تعتريك منذ الأمس .. كانت صامتة وهي تعيدني إلي الحي العشوائي .. شاردة وحزينة ولم يصدر عنها أي صدي سوي أصابعها تحركها فوق المقود بعصبية متفاقمه .. ثم .. اسمع يا حربي .. إنت بقيت واحد من ناس البيت ومن حقك تعرف ما يدور فيه .. والدي سيحاكم غدآ بتهمة الإختلاس .. فهو مدير مصلحة كبيره وقبل حوالي عامين أدخلوه السجن قيد التحري بتهمة باطله .. تهمة إختلاس ملايين الجنيهات .. كانت مؤامره يا حربي مؤامرة قذره .. واستمرت جلسات المحاكمة أكثر من عامين وغدآ النطق بالحكم .. ليتك تحضر لتقود عربة والدي حتي مباني المحكمة وكل ما يريده الله سبحانه وتعالي خير .. بالطبع سآتي يا أستاذه سحر ..( تاني ) أستاذه سحر .. أنا آسف يا آنسه سحر وأشكرك من كل قلبي لكونك إعتبرتني كواحد من أفراد العائلة هذا شرف لي وساكون فجر الغد عندكم إن شاء الله . وأخيرآ أسندت ( جوليا ) راسها إلي الوسادة بعد يوم حافل إستقبلت فيه العديد من أفراد أسرتها وأصدقائها .. كانت مثقلة بالانفعالات والشجن وبذلت كل ما بوسعها لكي تكون طبيعية وأن تتصرف كما يتصرف أي عائد بعد غربة للوطن .. ولكنها برغم ذلك فشلت في مداراة الأحاسيس التي تعتورها جراء تلهفها علي البحث عن وحيدها ومن ثمّ ضمه إليها وتعويضه سنوات الحرمان واليتم اللذين لا بد أن يكون قد عاني منهما .. حاولت أن تنام ولكن أسئلة الصغيرة ( لوسيانا) المبهورة بكل شيء حولها إنهمرت عليها كالمطر ..( مامي هل رأيت ذلك الحيوان الغريب الذي كان يركب عليه ذلك الرجل الذي سكب اللبن لجدتي .. وتقصد طبعآ الحمار ..هل سمعته كيف يبكي ؟ .. ومامي لماذا لا توجد لدي جدتي أكواب كافية لشرب الماء ؟ ولعلها قد لاحظت أن الجميع يشرب بكوب واحد وضعوه فوق ( سيرمس الماء البارد ) .. ومامي التواليت ليس نظيفآ بما يكفي .. أسئله عن كل شيء وطبعآ لا ردود جافة وإنما محاولة صبورة لتفسير ما يمكن تفسيره من أمور تبعث علي إندهاش الصغيرة ( لوسيانا ).. وهكذا ما أن أسفر الصبح حتي عهدت لجدتها وأبناء شقيقتها الإهتمام بابنتها وانطلقت بأسرع ما تستطيع للمنظمة حتي تلتقي صديقتها وزميلتها ( هند ) من جديد وكانت قد التقتها بالمطار علي عجالة .. بدا لبقية الموظفين وكأن السيدة جوليا أو مسز رتشارد كما ينادونها بالمنظمة .. بدا للوهلة الأولي وكأنها تتلقي تقارير رسمية عن سير الأداء بالمنظمة .. ولكن الأسئلة التي طرحتها علي ( هند ) تنصب كلها عن رحلة وحيدها مع الحياة منذ أن أودعته المجهول في ذاك الصباح الباكر . طمأنتها صديقتها بأنها قد تتبعت تحركاته عن كثب بالرغم من كل المخاطر المحيطة بموضوع كهذا .. إذ كيف تفسر اهتمامها به لو انكشف أمرها .. فالأرجح أن الجميع سيعتقد بأنها أمه الحقيقية وقد تجر إلي أقسام الشرطة بتهمة الإهمال في رعاية طفل رضيع وتدخل السجن .. لقد أخذوه في بادىء الأمر إلي المستشفي لبضعة أيام ثم وبعد أن اطمئنوا علي صحته .. سلموه إلي ملجأ اللقطاء .. وقد استطاعت هي ومن خلال ترأسها لإحدي الجمعيات الخيرية من توسيع دائرة أنشطة تلك الجمعية والتي تعني أصلآ بالمرضي من الأطفال الفقراء .. لتشمل الأطفال اللقطاء لا سيما في أيام الأعياد .. كن يحملن الحلوي والملابس والنقود ويمضين صباح العيد مع أولئك التعساء .. وكان طفل صديقتها مميزآ من دون بقية الأطفال .. كان طفلآ رائعآ وجميلآ وموفور الصحة وعلي قدر عال من الحيوية والجمال .. لذلك انهالت طلبات ضمه علي الملجأ من أسر كثيرة محرومة من الأطفال .. فكانت هند توعز لمديرة الملجأ بالتريث إذ ربما يظهر أحد ذويه . التقطت له الكثير من الصور لوحده ومع رفقائه الصغار ودأبت علي زيارة الملجأ مع عضوات الجمعية علي مدي أعوام إلي أن فوجئت في إحدي المرات بنبأ هروبه مع زميل له وبرغم الجهود المضنية التي بذلتها الشرطة في البحث عنه إلا أنها لم تعثر له علي أثر .. لكن ما أدهشهم فيما بعد مداومة رفيقه الذي هرب معه علي زيارة الملجأ فجأة وبعد عدد من السنوات مع إطلالة كل عيد وقد كانت ( هند ) وقتها قد تزوجت من زميل لها بالمنظمة ونقلا ليعملا في إحدي العواصم الإفريقية إلي أن عادا قبل أشهر .. شعرت (جوليا) وكأن الحظ يعاندها وبكت بحرقة داخل المكتب وهي تعض بنان الندم .. وعلي كل حال سيذهبان معآ للملجأ لتقصي آخر المعلومات المتوفرة لدي سلطاته. تعانقت ( هند ) ومديرة الملجأ التي ظلت تقوم بمهامها في رعاية هؤلاء الأطفال وغيرهم إلي أن وخط الشيب شعر رأسها .. سألتها مازحة ألا تتزوجين يا صديقتي ..؟ قالت لها إنما نتزوج لننجب وأنا أم لكل هؤلاء الحلوين .. ليتني أجد الصحة والوقت لأعتني بهم .. وبعد أن تبادلا عبارات المجاملة المعتادة عرّفتها علي زميلتها القادمة من نيويورك وأخبرتها أنها بصدد تقديم دعم سخي لجمعيتهم الخيرية وعندما علمت بأن مساعدة الملجأ تدخل ضمن أنشطة الجمعية أصّرت علي زيارته وأنها وبعد إطلاعها علي ألبوم الصور الذي يوثق لزيارات الجمعية كل عيد لفت انتباهها طفل وسيم دائم الإبتسام شديد الشبه بطفل لها توفي في حادث حركة بأمريكا .. فقررت ضمه إليها وأخذه معها لعلّه يعوضها عن طفلها المتوفي .. ومقابل ذلك تتعهد بتقديم دعم سنوي للملجأ يكفي مقابلة كل الإلتزامات الصحية والمعيشية .. طلبت منهم إعطاء بيانات عن ذلك الطفل فعرضتا عليها صورته .. فأخبرتهم المديرة بتفاصيل هربه وعبرت لهما عن أسفها لذلك .. وفي الوقت ذاته أعطتهما بصيصآ من الأمل في العثور عليه .. ذلك أن الطفل الذي هرب معه لا يزال يواظب علي زيارة الملجأ كل عيد وأنهم يجهلون عنوانه ولا يعلمون أين يقيم .. وهو بلا ريب سيدلهما علي مكان وجوده .
عبدالغني خلف الله
25-10-2013, 08:13 AM
الحلقة الحادية عشرة عادت جوليا لمنزلهم لتجد الفوضي ضاربة بأطنابها فيه.. إذ علمت أمها من ابن شقيقتها أنهم ضيّعوا الصغيرة ( لوسيانا) في زحمة زوار الحديقة وأنهم يواصلون البحث عنها ..جن جنون ( جوليا ) وأظلمت الدنيا أمام عينيها فهرعت نحو عربتها تسابق الريح نحو حديقة (المقرن) وأمام المدخل لمحوا ( لوسيانا) وأبناء أختها وهم يهمّون بمغادرة الحديقة ..احتضنت صغيرتها وهي تبكي وتردد الحمد لله ..الحمد لله ..همست الصغيرة في وجه أمها ( مامي أنا آسفه ..أقسم لك بأنني أخبرتهم بأنني سأتمشي قليلآ علي أطراف النيل وأعود لأنضم إليهم .. وها قد عدت ..) ..والدتهم وبختهم علي الإزعاج الذي سببوه لجوليا ولم يمض علي وجودها بالخرطوم يوم واحد .. قالوا لها هي تتحدث بانجليزية غير مفهومة ولم نفهم تمامآ ما قالته لنا .. عاد الجميع للمنزل ونقلت جوليا لزوجها عبر الهاتف خلاصة ما توصلت إليه فيما يخص البحث عن ابنها وأن عليها الإنتظار بضعة أسابيع أخري حتي العيد القادم .. فاقترح عليها مواصلة رحلتها إلي ( روما ) والقيام بمراجعة ميزانية فرع المنظمة هنالك قبل أن تعود مجددآ للخرطوم . إقتحم عليّ الورشة ( كافوله ) وهو يرتعد من شدة الخوف .. وكنت وقتها قد أنهيت صيانة احدي العربات وبصدد الخروج بها في ( تستا ) .. طلبت منه أن يدخل العربة ومن ثمّ انطلقنا خارج المنطقه .. سألته عن سبب اضطرابه فقال لي ( الشرطة ..الشرطة تطاردني ) .. وماذا فعلت يا شقي ..فأخبرني أنه وأربعة من زملائه من مجموعة المعلم ( الكيك ) اتفقوا مع أمين مخزن احدي المصالح الحكومية وعدد من الخفراء علي سرقة كميات كبيرة من الإطارات .. تحركوا بشاحنة في وقت متأخر من الليل ويبدو أن الشرطة كانت علي علم بتحركاتهم فنصبت لهم كمينآ وقبضت كل المجموعة متلبسين بالجرم المشهود .. أما هو فقد تمكن من الهرب والقفز فوق سور المصلحة واختبأ حتي بزوغ الفجر وجاء إلي هنا دون تأخير .. وبخته علي فعلته هذه وقلت له يا طالما حذرتك يا ( كافولة ) من الانغماس في حياة المجون والجريمة وأنك لا بد ستلحق بصديقك (شنكل ) في السجن ..حذرتك ولكنك لا تسمع الكلام .. عرضت عليك العمل معي كصبي ميكانيكي ولكنك تعودت علي الكسب السهل .. مخدرات وسرقة قطع غيار وإطارات وهاأنت تدخل نفسك في مشكلة ليس لها أول ولا آخر .. أعدك بأنها ستكون المرة الأخيرة .. فقط خبئني عندك كذا يوم وسوف أواظب علي العمل بجوارك .. أقسم لك بأنني قد تبت ولن أمشي في طريق الحرام مهما كانت المغريات .. وكيف أضمن بأنك لن تمد يدك إلي ممتلكات الورشة وعربات الزبائن .. لن أعض اليد التي تمتد نحوي .. جربني وستري مدي إخلاصي وأمانتي .. وهكذا انخرط (كافولة ) بالعمل معي في همة ونشاط وأظهر قدرات عالية في فك وتركيب قطع الغيار .. وما هي إلا أيام قلائل حتي كسب ثقة المعلم فوافق علي مبيته داخل الورشة ( علي الأقل يحرس لينا عدة الشغل ) . قلت له ذات مرة ما رأيك في زيارة صديقنا ( شنكل ) بالسجن ؟ انتفض وكأن به مسآ من الجنون .. الشرطة يا حربي .. معقول أذهب لأضع القيد بنفسي علي يدي .. إذهب أنت وبلغه مني السلام وعندما تنسي الشرطة ملامحي سأذهب لزيارته وأواظب عليها .. مسكين ( شنكل ) .. لم يعرف الراحة والسكينة منذ هروبنا من الملجأ .. كان علينا الإنتظار بضع سنين أخري فقد نحظي بأسرة محترمة تضمنا إليها ولكنها الشفقة والتململ والجهالة . إستقبلني بحفاوة كبيرة واحتضنني بحرارة ودموعة تتحدر علي وجهه .. حربي أخوي .. كيفك ..أخيرآ تذكرتني يا زعيم .. لم أنسك في يوم من الأيام يا ( شنكل ) ولكنها ضغوط الحياة ومشغولياتها .. أختي مريضة ومرضها ميئوس منه ومطلوب مني أن أقوم بنفقات البيت والسلطات تضيّق علينا الخناق وقد أمهلتنا بضعة أشهر لنغادر الحي وقد رحل عدد كبير من الأسر .. بدأ الحي يتحول شيئآ فشيئآ إلي أنقاض ينعق فيها البوم .. تصور الناس يهدمون بيوتهم بأيديهم ولا نعلم حتي الآن إذا كانوا سيوفون بوعودهم ويمنحوننا قطعآ جديدة .. أمضيت معه وقتآ رائعآ وكان حراس السجن يستغربون عدم زيارة أي قريب له أسوة ببقية السجناء .. ولم يفصح لهم بالطبع عن قصته وقد أكدت لهم بأن أسرته تبحث عنه ولا يعلمون أنه في السجن .. وودعته علي أمل زيارته مرة أخري ولم يفتني طبعآ إيداع مبلغ لا باس من المال لدي سلطات السجن تحت تصرفه . لم أنم ليلتها تلك .. فغدآ سأقود عربة والد سحر (المرسيدس) وأحمله عليها إلي المحكمة .. صحيح أنني قدت كل أنواع العربات وأنا أعمل لها ( تستات) .. ولكن ما يقلقنى شخصية والد سحر بحد ذاتها .. رجل كالأسطورة .. طويل القامة حليق الذقن كثير الصمت .. مع شيء من الغلظة .. ضغطت علي أحد الأزرار بالباب فجاءني صوت من الداخل يقول ( منو الفي الباب وكان صوت سحر ) وها نحن قد تعلمنا التعامل مع التكنلوجيا الحديثة يا صاحبي ( مايكرفون في الحيطه ؟! ) ..أنا حربي .. صباح الخير .. صباح النور .. لحظه من فضلك .. كان صوتها هامسآ وتبدو عليه آثار النعاس .. صوت هامس مترف وكأنه مطلع لأغنيه .. فتحت لي الباب بنفسها .. كان واضحآ أنها غادرت سريرها للتو .. شعرها المبعثر فوق أكتافها وقميصها البنفسجي وفرعها المتناسق ونسمة فاترة من العطر الأنيق ينداح من حولها وكل شيء فيها يشيء بأسرار غامضة من السحر والدلال .. قلت لها سأجلس هنا في الحديقة .. فأصّرت عليّ أن أدخل الصالون .. وكانت تلك هي المرة الأولي التي أغادر فيها دائرة اختصاصي هنالك في الزقاق خلف المبني حيث تحفظ العربات .. توغلت في البهو وكدت أتزحلق علي الرخام المصقول وغرقت في نهر من الموكيت الكثيف وهتفت في نفسي وأنا في غاية الإنبهار .. يااه هل أنا في قصر من قصور ألف ليلة وليله ؟ أم ماذا ؟ .. تأملت اللوحات والصور وكان كل شيء حولي ينضح بالأناقة والجمال ..عادت سحر بعد ربع ساعة وهي تحمل ( صينية الشاي .. وهمست في وجهي ..(أخد راحتك البيت بيتك ) ..بيتي أنا ؟!! .. كيف ؟! .. حاولت أن أتعامل مع الأشياء التي وضعتها أمامي دون جدوي ..فال( سيرمس ) لا تعمل .. حاولت ضغطها من جميع الزوايا والجهات وهي ترفض أن تمنحني ولو قطرة واحدة من الشاي .. وال(سكرية ) هي الأخري لا تجود بشيء .. عادت سحر بعد أن غيرّت ملابسها لتجد كل شيء في موضعه .. ( معقول لسه ما شربت الشاي ؟ ) .. يالك من إنسان خجول .. تعاملت هي مع الأواني وشربنا الشاي سويآ .. كانت بسيطة ولطيفة وهي توصيني علي والدها .. أبي لا يحب القيادة المتهورة ..لا يحب أن يقطع عليه السائق أفكاره ويشوش عليه بالثرثرة الفارغه .. وما إلي ذلك من النصائح التي …استوعبتها تمامآ .. وغادرتني علي أن تذهب للمصلحة تأخذ إذنآ وتلحق بنا في المحكمة .
عبدالغني خلف الله
26-10-2013, 08:14 PM
الحلقة الثانية عشرة
عملت بنصيحة سحر وقدت العربة باتزان شديد وفي صمت مطبق .. دلّني علي طريق المحكمة وهو يداعب حبات مسبحته إلي أن وصلنا .. إلتقاه شخص يبدو أنه محاميه وعدد من أقاربه .. وشعرت بغربة حقيقية وسط هؤلاء القوم .. وبالرغم من أنني بذلت جهدآ واضحآ من حيث المظهر لكي أشكل شيئآ ما .. إلا أن الجميع تجاهلني .. عادت سحر ومعها شقيقها ولوّحت لي من بعيد وهي تركض فوق درجات المدخل .. شقيقها عصام هذا لا يطيق رؤيتي وكان كثيرآ ما يتعمد إذلالي .. لدرجة أنه طلب مني في إحدي المرات أن أنظف له حذاءه .. مكثت أكثر من ساعتين داخل العربة ولا شيء يدل علي أن النطق بالحكم قد صدر وفجأة تناهي إلي أسماعي صوت صخب وضجيج .. ومن ثمّ خرج الجميع سحر ووالدها وأقاربه ولاحظت أن الجميع يسلم عليه مباركآ .. فماذا حدث يا تري .. ركضت سحر نحوي .. بارك لبابا يا صالح .. لقد برأته المحكمة وأمرت بإعادته لمنصبه ومنحه كل حقوقه .. مبروك يا أستاذ التهامي .. الله يبارك فيك يا ابني .. والله قدمك علينا قدم خير .. وهكذا عدنا في رتل من السيارات للمنزل ونحرت الذبائح ووزعت الحلوي .. وأمضيت ذاك اليوم وأنا أتحرك (كالبلدوزر ) .. أحضر الخراف وأذبحها وأنصب (الصيوان وأرص الكراسي ).. احضر الحاجيات من السوق وأناول هذا وأوصل تلك .. وفي المساء دس والد سحر مبلغآ كبيرآ من المال في يدي وكذلك فعلت سحر وعدت إلي الحي العشوائي وقد ضمنت علي الأقل المبلغ الذي يكفي لخطوبتي ببطه .
سطع نجم شقيقتي سلمي في عالم الغناء ببيوت الأفراح وتحسنت تبعآ لذلك أحوالنا المالية بشكل مطرّد .. لذلك قمنا ببناء عريشة أنيقة من الحديد والخشب ونثرنا في جنباتها الورود والزهور حتي نتمكن من استقبال سيدات المجتمع اللواتي يأتين لتحديد موعد مع سلمي لإحياء حفل الزفاف هذا أو ذاك سيدات مثل الجياد المطهمة يخلبن الألباب .. وكانت معظم الحفلات نهارية .. وفاجأتنا الوالدة ذات يوم بأن أخرجت من بين ثنايا مقتنياتها أوراقآ قديمة تثبت ملكيتنا لقطعة أرض في أحد الأحياء المأهولة التي تتمتع بكافة الخدمات وقالت لنا وهي تبكي هذه القطعة منحتنا لها الحكومة إثر إستشهاد والدكم بالجنوب في ( واسكيج ) وكانت تلك القطعة بمثابة هبة من السماء وضعتنا أمام تحد حقيقي في أن نعمل بجد وإجتهاد حتي نتمكن من تشييد ولو غرفتين نأوي إليها عند تنفيذ السلطات وعيدها بالإزالة بعد أسابيع .. بيد أن سلمي وفرت علينا عناء التفكير عندما أعلنت لنا بأنها تملك المبلغ الذي يكفي لبناء المنزل المنشود وتأثيثه .. وهكذا تنفست الأسرة الصعداء .. ومن جانبي قلت لهم أنني أيضآ أملك مبلغآ لا بأس به وقصدت بذلك طبعآ الحافز الضخم الذي منحني إياه والد سحر .. ولكن .. لكن ماذا يا حربي ؟ سألتني والدتي وسلمي بصوت واحد .. في الحقيقة أفكر في الزواج .. الزواج ؟!!..هل أرسل زغرودة تجاوز السماء ( جيد لينا وجيد لينا ) .. سلمي وقد رحبت بالفكرة .. والله أغني لك يا حربي في يوم عرسك كما لم أغن منذ ولادتي .. ( عاد اليوم داك ما ببالغ عديل في الغنا والرقيص .. تسلمي يا سلمي ) إذن من تكون العروس .. العروس موجوده ولو لم يكن لديك ارتباط اليوم يا سلمي نذهب أنا وأنت (وندفع قولة خير .. علي عيني ورأسي يا أحلي أخو في الوجود ) .. وهكذا أصبح الحلم حقيقة ما بين ليلة وضحاها وهاهي بطة قاب قوسين أو أدني من يدي .. طلبنا من سائق التاكسي الذي أقلّنا بأن يعود لنا بعد ساعة من الزمن .. تلقفتنا قريبة بطة عند الباب .. وكان ترحيبها بنا فاترآ .. جلسنا في بهو الحوش لنعطيها فرصة لتجهز حالها .. عادت لنا بعد قليل لتقول ( إتفضلوا جوه .. شرفتونا كتير ..) ومن ثمّ د ست ورقة من النقود في يد أحد الصبية وطلبت منه شراء شيء من ( الكولا ) ..أهلآ وسهلآ .. جاء صوتهابطعم الرماد وكأنه يخرج من أعماق سحيقة .. ولاحظت بشيء من القلق أن (بطة ) غير موجوده .. ( وين بطه ؟ .. ما شايفنها ) .. موجوده مشت علي الجيران .. هنا شعرت بإرتياح مشوب بالحذر .. وكأنما نحن بصدد كارثة ما .. لعلها خمنت ما نحن بصدده .. مظهرنا الأنيق والعلبة التي تحتوي علي ( دبلة الخطوبة ) وقد وضعتها علي المنضدة لتعلن هي القصد من زيارتنا لهم .. قلت لها وأنا اتجاوز حالة الصمت التي رانت علينا .. ( في الحقيقه أنا وأختي سلمي جينا نخطب بطه ويكون لينا عظيم الشرف في تقديم هديه بسيطه .. ) ثم تناولت العلبة وفتحتها مردفآ .. وأهو دي الدبلة .. في هذه اللحظة دخل علينا زوجها وما أن تعرف علينا حتي اكفهر وجهه وبانت عليه علامات الإنزعاج الشديد .. أهلآ وسهلآ .. ولم يكد يجلس حتي دخلت بطة بصورة عفوية وهي تدندن بأغنية .. وما أن أضحت داخل الغرفة حتي تسمرت في مكانها لا تقدم رجلآ أو تؤخرها .. نهضنا أنا وسلمي 0( العروس .. دي العروس ) همست في أذنها منوهآ .. أهلآ بعروستنا الحلوه .. بطه .. إسمها بطه .. بطه .. سلمت علينا وجلست في ركن بعيد وقد أشاحت بوجهها عنا .. أعدت حديثي علي مسمع منها ومن زوج قريبتها .. قال لنا بعد تردد وحيره .. الحقيقه .. الحقيقه ما في نصيب .. (النخيل) أشرحي ليهم الحصل وغادرنا وهو يقول ( صلاة العشاء ..عن إذنكم أحصل الصلاه ) .. هنا انفلتت بطه نحو غرفة جانبية وهي تجهش بالبكاء .. ( يا جماعه العرس قسمه ونصيب .. وأخوك حربي نعم الولد .. بس بطه عقدنا ليها الجمعه الفاتت ) .. أظلمت الدنيا أمام ناظري ولم أنتظرها لتكمل بقية حديثها فنهضت مغادرآ المنزل وأنا أكاد أنفجر من الغيظ .. لملمت بقايا كرامتي المجروحة وأيقنت بأن هذه الأمور هي فعلآ مقسومة سلفآ ولا نملك أن نفعل إزاءها شيئآ سوي التسليم بالواقع المرّ . نسيت بطة في زحمة الحياة أوهكذا خيّل لي .. في باديء الأمر كنت أتذكرها حوالي عشر مرات في اليوم وبدأ هذا العدد يتناقص إلي أن جاء يوم لم أعد أذكرها فيه ولو لمرة واحده .. وفي ذات صباح ماطر صفع وجهي عنوان بارز بإحدي الصحف يتحدث عن فتاة شرعت في الإنتحار بتناول كمية من صبغة الشعر وقد تمكن الأطباء من إنقاذ حياتها بما يشبه المعجزة .. وتقول تفاصيل الخبر أن المواطنة ب . ن . ز . البالغة من العمر 24 عامآ قد فعلت كذا وكذا وقد أفادت مصادر الصحيفة أن سبب الحادث يعود إلي تزويج المذكورة من شخص لا ترغب فيه .. حاولت أن أقنع نفسي بوجود تشابه في الحروف الأولي وأن بطة إنسانة عاقلة ولا يمكن أن تقدم علي فعل شيء كهذا و..إقتنعت ..ولم أعد أفكر بالموضوع .
عبدالغني خلف الله
30-10-2013, 09:26 PM
الحلقة الثالثة عشرة روما إسم رائع لمدينة أروع ..ولجوليا أكثر من سبب لزيارة فرع المنظمة هنالك ولوحدها دون أن تصطحب ابنتها التي راقت لها الإقامة بالخرطوم بشمسهاالمشاكسة ومدي الإهتمام والدفء الذي تحظي به من الجميع .. فجوليا تريد إجراء مراجعة عامة لأعمال فرع المنظمة التي باتت تشغل فيها منصب المفتش العام .. وقد أفادت بعض التقارير التي تلقتها رئاسة المنظمة بنيويورك أن ما يصل من فرعها بروما من مساعدات لمنطقة (البلقان) لا يتطابق والبيانات المضمنة في التقارير الدورية .. ولسبب آخر يشدها بشكل غامض نحو ذلك البلد وتحاول جاهدة إستبعاده من ذاكرتها وهو يتعلق بحقيقة وجود ( وجدي ) خطيبها السابق .. الرجل الذي أهانها وتسبب في حملها سفاحاً دون مراعاة لسمعتها وسمعة أسرتها .. لقد كان قاسيآ معها ولم تجّد دموعها وتوسلاتها معه عندما قرر السفر إلي (روما) ليدعها تواجه المجهول هي وطفلها المرتقب وكم حاول إقناعها بإسقاطه بيد أنها تشبثت به وليكن ما يكن .. وقد كانت تجربة ألقت بظلالها الكثيفة علي مجري حياتها علي مدي السنوات الأخيرة وتلك الأحلام المزعجة والكوابيس التي توقظها من نومها مذعورة يتصبب منها العرق .. ظلال قاتمه لتجربة لا تنسي ولو لا نضج وثقافة وسعة صدر زوجها المخلص المستر رتشارد لكانت في موقف لا تحسد عليه .. وهي إن تنسي لن تنس تهكم وإذلال شقيقته ماريا عندما توسلت إليها أن تقنع شقيقها بالعدول عن السفر وإتمام مراسم الزواج .. فماذا وجدت منها غير الإزدراء والسفه .. آه من وجدي وشقيقته .. كانا عكس والدهما وأمهما الرائعين .. لقد غضبت والدته منه غضبآ شديدآ عندما نكص بوعده في الزواج منها .. لدرجة أنها قالت له صراحة ( أنا ما عافيه منك لو سافرت بدون ما تتجوز جوليا ) .. لكنه غدر بها .. طعنها من الخلف وسافر مشمولآ بغضب أمه وشعورها المرير تجاهه .. أيام .. أيام تفعل بنا ما تشاء وهاهي تأخذ دورتها وقد حانت لحظة رد الحقوق إلي أصحابها .. لا .. لن تنتقم منه .. فأخلاقها والقيم التي تؤمن بها تمنعانها من ذلك .. وستكلف شركة متخصصة بمراجعة الحسابات بفرع روما وبعد ذلك تبني إجراءاتها اللاحقة بطريقة نزيهة ومحايدة ومهنية .. لن تنتقم منه ولو أنه يستحق ذلك .. ستكون أكبر من ذلك بكثير سيما وأن القدر قد عوّضها المستر رتشارد بوقاره وتفهمه وصبره عليها وعوّضها بابنتها الرائعة ( لوسيانا) وقريبآ جدآ ستعثر إن شاء الله علي ابنها المفقود منذ سبعة عشر عامآ . قضت يومها الأول بالفندق لا تغادره وأجرت بعض الإتصالات بزوجها بنيويورك وأسرتها بالخرطوم توصيهم بمراعاة ومراقبة ابنتها وبالأشياء التي تحبها وتعودت عليها وتلك التي تنفر منها .. وكذلك بصديقتها ( هند ) لتكون علي إتصال دائم بالملجأ قبيل العيد ولحين عودتها من روما .. كما أجرت إتصالآ مع الشركة الإيطالية العالمية لأعمال المراجعة وتقويم الأداء الحسابي واتفقت معهم علي إرسال فريق من المراجعين القانونيين لفرع المنظمة .. أوقفها موظف الإستقبال لمعرفة سبب زيارتها قبل أن يسمح لها بالدخول وعندما قرأ بطاقتها الشخصية وقف محييآ لها ومن ثمّ قام بتوجيهها نحو مكتب المدير وهو يردد ( مرحبآ جناب المفتش العام .. مرحبآ مسز رتشارد ) .. وكأنه يود تنبيه الموظفين والموظفات علي موقع وأهمية الضيفة التي يزفها أمامه .. ولم يكن المدير مرتاحآ لوجودها بهذه الصورة المفاجئة .. إذ كان يجب إخطاره حتي يقوم بواجبه نحوها من استقبال في المطار وحجز بالفنادق والحاق عربة وسائق يكون تحت تصرفها كما تقضي الأصول المرعية بذلك .. ولعلّه يرتاب من هذه الزيارة غير المعلنة وما تنطوي عليها من مفاجآت .. أطلعته علي الغرض من زيارتها وأعلمته بحضور فريق من المراجعين المتخصصين بين لحظة وأخري وطلبت منه تقريرآ شفهيآ عن سير العمل وكانت تدون كل كبيرة وصغيرة ..ومن ثمّ قاما بجولة علي أقسام الفرع المختلفة . كان ( وجدي ) منكبّآ علي مراجعة بعض الأوراق عندما رفع رأسه ليجد المدير وبرفقته سيدة لم يتبين ملامحها للوهلة الأولي .. صباح الخير السيد المدير .. صباح الخير آنستي .. وهنا انعقد لسانه من الدهشة ( جول ..جول ..جوليا ؟!!!) .. دعني أقدم لك المسز رتشارد المفتش العام للمنظمة وقد قدمت من نيويورك لإجراء مراجعة روتينية لحساباتنا .. عليك بتجهيز كل الأوراق المطلوبة و .. عند هذا الحد دخلت عليه سكرتيرته لتهمس في أذنه بأن هنالك شخصين يقولان أنهما من الشركة الإيطالية العالمية للمراجعة وتقويم الأداء الحسابي ينتظرانه بالمكتب .. من ؟! .. الشركة العالميه .. هنا قاطعته جوليا بلطف .. عفوآ السيد المدير .. أنا من أمرت بإرسالهم لأنني أريد تقريرآ شاملآ ومفصلآ عن حسابات الفرع كطلب المستر رتشارد مدير عام المنظمه .. ومن ثمّ غادرا .. ( وجدي ) وقد ألجمته المفاجأة .. بدا لها وكأنه شيخ في السبعين من عمره .. مرهق وكئيب وقد علت أرنبة أنفه نظارتان سميكتان توحيان بضعف نظر شديد .. وتلك الهالة السوداء التي أخذت موقعها تحت أجفانه ويداه المرتجفتان وقد عجزتا عن الإمساك بلفافة تبغ كان يدخنها .. ولاحظ أنها حتي لم تسلم عليه ناهيك عن مصافحته وسؤاله عن أحواله .. جلس وهو يشعر بأنه يتهدم كحائط قديم تآكل بفعل الزمن والرياح والمطر .. حاول أن يستجمع قواه دون جدوي .. ولم تمض دقائق معدودة حتي دخل عليه فريق المراجعة وبدأ في مواجهة أصعب لحظات حياته .
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir