المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية(رماد الماء ) لعبد العزيز بركة ساكن أنشودة جميلة للحياة عند أعتاب الموت



صلاح سر الختم علي
05-11-2013, 08:07 AM
تعتبر رواية( رماد الماء) المكتوبة خلال الفترة من (1997 الي 2000) من القمم السامقة للكاتب عبد العزيز بركة ساكن، فهى عبارة عن أنشودة طويلة وجميلة للحياة عند أعتاب الموت وهى تتضمن مرثية عظيمة للوحدة الوطنية الشكلية التى كانت قائمة في السودان عند أعتاب الإنفصال الذي سبق صدور الرواية حدوثه ولكنها كانت نبؤة مبكرة بحدوثه، وكانت الرواية توظيفاً للرعب الذي انغرس في واقع السودان لخدمة السلام المشتهى وكانت توظيفاً للأسطورة في خدمة الحقيقة العارية.الرواية مكتوبة بلغة متميزة ليس فيها استطرادات شاعرية أو إسهاب في التفاصيل وتبدو شحنة انفعالية ووجدانية تم إفراغها مرة واحدة بلا توقف عن الكتابة ولذلك تبدو الأحداث بالنسبة للقارئ شريطا سينمائياً متدفقاً بلا توقف علي شاشة مفترضة يبدو كل حرف فيها جزءا لايتجزأ من المشهد ولوحاته المتتابعة. وأظن الرواية تندرج تحت توصيف الدكتور صلاح فضل للأسلوب السينمائي في السرد بلا أدنى شك. يقول الدكتور صلاح فضل شارحاً ذلك(مفردات الفيلم وهي _اللقطات_ تزخر في تكوينها بعناصر تقنية وجمالية لاتتضمنها أية مفردات للفنون السابقة عليها، فهي اذن لغة شديدة التركيب إذا قورنت بغيرها من اللغات التى تسمي طبيعية أو فنية، السينما لغة ثالثةتفيد من كل من اللغة الطبيعيةوالشعر والتشكيل والموسيقي والطبيعة والفعل الانساني وغيرها، فهي نتيجة لذلك متعددة الابعاد.) راجع اساليب السرد في الرواية العربية للدكتور صلاح فضل/ الطبعة الاولي 1997 دار سعاد الصباح ص187.اذا يتميز الأسلوب السينمائي للسرد بالصفة البصريةالوصفية بهدف نقل القصة الي صور. فالرواية تتكون من مجموعة من المشاهد واللقطات والصور المتتابعة، حيث قسم المؤلف الرواية لعدة لوحات أو مشاهد تشكل وحدات قص مختلفة تكون في مجموعها الرواية، بلغت هذه الوحدات أربع عشر وحدة الفواصل بينها عناوين بحيث حملت كل وحدة عنواناً مختلفاً، فيما عدا الوحدة الأولى والأخيرة فقد حملتا ذات العنوان ونفس الشئ تكرر بالنسبة للوحدتين السادسة والسابعة لحاجة في نفس الكاتب . وميزة هذا التقسيم أنه يمكن الراوي والكاتب بالطبع من التنقل بسهولة ويسر بين الشخصيات والأمكنة مستخدماً تقنية المونتاج المستعارة من فن السينما ببراعة دون أن تلتبس الأمور علي القارئ المشاهد وتتداخل ودون أن يشعر بالانتقالات المفاجئة للسرد من بئية الي أخري ومن شخص الي آخر ومن حدث الي حدث مغاير. ويستسلم القارئ لهذه الانتقالات ويتهيأ بنهاية كل وحدة قص للولوج في مكان مختلف. واللافت للنظر حضور الوصف وغياب اللغة الشعرية حتى في أثناء عمليات التداعي يتم التداعي في شكل صور متدفقة من الذاكرة مباشرة. ويتحقق بذلك قول الدكتور صلاح فضل(ان الرواية عندما تعتمد الصيغة السينمائية تتخلص من جميع الشحوم البلاغية العالقة بالخطاب الأدبي لتغدو في رشاقة ممثلات هوليود وهي تقدم أشد الأحداث إثارة للشجن بكلمات قليلة ، ودالة، وبالغة التأثير والقوة) المرجع السابق ص197 .
ومن السمات المهمة للأسلوب السينمائي تقنية الراوي، ففي السرد البصري يكون الراوي هو الكاميرا المتحركة، ومع أن السينما عرفت وتعرف البطل المركزي المهيمن الذي يطغي بحضوره علي الآخرين ويستقطب اهتمام المشاهدين، إلا أنها لاتستطيع إخراج هولاء الآخرين من حيز دائرة الضوء المرئي، ومن ثم يصبح وجودهم موازيا لوجود البطل المركزى، في رواية رماد الماء يقدم هذا المنظور السينمائي فبينما يوجد بطل مهيمن هو سلطان تية هنالك ابطال آخرون لهم وجود وحضور فاعل في السرد والرواية ومواز لوجود البطل.
في المشهد الإفتتاحى للرواية تجسيد للسرد البصري وحركة الكاميرا كراوي بشكل بديع، المشهد احتل الوحدة الأولي التي سماها المؤلف (السلم جثة الحرب) وفي تقديري لم يكن بحاجة الي التسمية ، ففي الأسلوب السينمائي تتدفق اللقطات بلا فواصل وتسميات فكل لقطة تحمل فاصلها وأسمها وموضوعها بلا فواصل ولاتسميات، المشهد مشهد موجع وقاس تدور فيه الكاميرا بشكل محترف في كل أركان الغابة المحترقة وتلتقط صورا لكل شئ وهو يحترق والدخان يتصاعد منه، الأشجار هياكل محترقة وقذائف الراجمات وقنابل طائرات الانتينوف الروسيةالصنع تركت بصمتها في كل شئ، الأرض سوداء، آليات الموت تموت هي الأخرى فنري في استعراض الكاميرا جثثا لآليات عسكرية معطوبة وإطارات مبعثرة وخوذات عساكر متفحمة وبنادق مهشمة ثم يورد الرواي وصفاً حياً لحالة الكائنات التي ماعادت حية( قطط مشوية، قردة مشوية، صقور مشوية، أرانب مشوية، أسد، كلب، قط، ولد، ولد، ولد، نساء مشويات ينمن قرب جنائز الآلة، أشجار مشوية، أحذية عليها بقايا أرجل بترتها الألغام، عسكر اموات، مقابر جماعية، هاونات معطوبة، جندي محترق نصفه الأعلي ، نصفه الأسفل في الخندق، سحلية لا رأس لها، خوذ حديدية بداخلها رؤوس، حراب ودروع من جلد وحيد القرن، نمل شديد السواد منكمش علي نفسه) رماد الماء ص 6.
هكذا يرسم الكاتب بكاميرا دقيقة صورة مروعةللمكان وما جري فيه يهتز لها كل وجدان سليم ويرتعش ويصاب صاحبه بالغثيان،يصور الكاتب من خلال المشهدوتفاصيله الموجعة أثر الحرب علي الإنسان وكامل حياته وبيئته، فكل شئ يحترق ويعانى من الحرب ودمارها الذي لايستثني أحدا ولاشيئا، يستوي القاتل والمقتول في الحرب، فكلاهما ضحية لآلة الحرب البليدة التي لاتشبع ولاتتوقف عند حد في عشقها للموت والخراب وترقص علي إيقاع الدموع والدم. وتجوس الكاميرا ( الراوى) في المكان لتبرز لقطات أقرب(هيكلان عظميان يتحاضنان تحت شجرة ويتساقط الرماد منها عليهما، سلاما، سلاما، كلما عبثت بها ريح لم تمت ، هل تموت الريح؟) رماد الماء ص 7. وتنتقل الكاميرا لتصور من زاوية أخري لقطة جديدة (المبنى الوحيد بالوادى مشيد بالحجارة، المبنى متهدم، لكنه علامة تدل على أثر انسان، واضح أيضا انه ، اتخذ في وقت ما حامية مؤقتة للجيش، بقايا موتهم تدل عليهم، تشير الي حياتهم السابقة،خنادق، فوراغ القذائف، صفائح الأطعمة الجاهزة، بعضها فارغ، بعضها محترق بما فيه، هياكل عظمية، خوذات الحديد بها جماجم ناضجة، بقايا سترات عسكرية، جسد مشنوق علي شجرة مانجو وهى علي شئ من الخضرة، أوراقها مشوهة وبليدة تنمو علي أشكال مرعبة.)
رماد الماء ص 7.
ولمزيد من التأكيد علي الرعب وحقيقة ماجرى بالمكان من فظائع وجرائم مروعة ضد الإنسانية يتوقف الراوى الكاميرا عند الجثة المشنوقة توقفاً يحبس الأنفاس والدم في العروق( الجثة المشنوقة جسد جاف تماما لم تمسسه حتى الأطيار الجارحة أو الديدان، لشاب في مقتبل العمر، لم تنبت له لحية بعد، ولا شوارب، كان عاريا، علي عنقه تتدلى تميمة كبيرةبين نابين لنمر أبيض كالبرد، بسهولة يمكن التأكد من ان له عينا واحدة فقط، الأخري مفقؤوة) رماد الماءص 7 و8.
ويواصل عبد العزيز بركة ساكن المشهد المرعب الذي يذكرنا بافلام رعاة البقر الأمريكية حين تصور مكانا كان مسرحا لمعركة قاسية بين (الكاو بويز) والهنود الحمر ( كانت الريح تدور في المكان ، تصر صريرا مرعبا، تعبث برماد الأشياء ، تعمى أعين الموتى الفارغة، أعين الدبابات المحترقة، لا أثر للحياة في الأرض، لاإنسان، لاحيوان،لكنك اذا تطلعت الى السماءلرأيت من وقت لآخر أسراباً من النسور الصلعاء تدور في حلقات ، فاردة أجنحتها.) ص (8).
هذا المشهد الافتتاحي البديع للروايةهو بمثابة إخبار بصرى بالكلمات بكل ما جرى بالمكان وهو أحراش جنوب السودان ومدنه وقراه الصغيرة من ويلات وفظائع ابان الحرب الأهلية التى استمرت خمسون عاما ولم تتوقف إلا بالانفصال، الكاميرا تنوب عن السرد وتحل محله وتختزن ذاكرة الحرب وذاكرة المكان وذكر ماجرى في مشاهد تعلق بالذاكرة الى الأبد، يكاد المشهد الذي صوره قلم (ساكن) الكاميرا في تسع صفحات من الروايةيختصر كل تواريخ البكاء ويجسد تجسيداً حياً ماجرى بارض السودان منذ عهود سحيقة بشكل يشكل اجابة علي سؤال مقتضاه كيف بات البيت الواحد بيتين بين عشية وضحاها، يلخص المشهد سؤال الرواية الكبير الذي يطرحه العنوان ويطرحه هذا المشهد (كيف صار الماء رماداً؟ كيف أحترق الماء وهو غير قابل للاشتعال أصلا؟كيف به قد صار رماداً؟!) هذا السؤال المركزي للرواية هو في الوقت نفسه السؤال المركزي الذي واجه الوطن السودانى ولم يجد الإجابة حتى اللحظة.
حين تفرغ من قراءة هذا المدخل المروع للرواية تشعر بالرغبة في الهروب أبعد ما تستطيع مما ينتظرك علي بقية الصفحات في كهف الرعب الذي ولجته، تقول لنفسك ( لو كانت تنتظرنى كنوز الملك سليمان الثمينة داخل هذا الكهف المرعب المحروس بالجماجم والخفافيش والهياكل العظمية، لما رغبت في الحصول عليها أبداً، فما يدرينى اننى ساخرج من هذا الكهف الملعون المسكون بالموت والخراب والأفاعي حياً؟! ما يدريني اننى لن أدوس علي لغم قديم مختبئ أو علي قنبلة تنتظر ضحيتها بشوق وشبق؟! ما يدريني ان ثمة فخ منصوب في كل شبر منه لمن يريد هتك سره؟!)
لكن الفضول البشري المتأصل فينا منذ كان أبونا آدم وأمنا حواء بالجنة ، يتغلب علي المخاوف النائمة فينا،وتهزم شهوة البحث عن الإجابة للاسئلة الخوف الكامن فينا فنندفع الي قلب الكهف غير عابئين بالعواقب. وتلك هي رسالة أولى من رسائل الرواية تتحقق عند عتبة النص وهي تحرير الناس من الخوف من الحقيقة، فالحقيقةدوماً باهظة الثمن مثل الحرية، وعلي من يبحث عنها أن يدفع ذلك الثمن راضياً، وإلا فليهنأ بجهله وظلمته. وهكذا نلج الي المعرفة من باب التحرر من الخوف ومواجهة الحقائق العارية مثل تلك الجثة العارية المشنوقة في العراء. هكذا نلج المتخيل الروائي الجميل رماد الماء من باب كهف الرعب المسحور. ينفتح المشهد الأول علي السؤال ( لماذا جرى ماجرى؟) نحمل الأسئلة ونلج المشهد الثانى الذي ينفتح علي مفاجأة الانتقال من المشهد الأول الذي بطله هوالمكان الي المشهد الذي بطله الإنسان المنسلخ عن المكان والهوية، وننتقل من فضاءات الخارج الي كهوف النفس البشرية ونبوءاتها لنتعرف علي عوالم (سلطان تية)المستلب ابن المستلبة المحور ثقافياً المعاد الي الجذور هجيناً يحمل من كل بستان زهرةوالحامل لأسلحة الحضارة الفتاكة الذي يقتل حارس الغابة الذئب في يومه الأول فيها ليعلن موقعه كعدو خارجى وابن عاق للطبيعةعاد ليحقنها بجرثومة أمراض حقن بها واستوطنت فيه.
وحدة القص الثانية المسماة (مقتل الحارس) تقع احداثها في أربع عشر صفحة وتبرز فيها شخصية سلطان تية المهيمنة علي السرد والمشاركة فيه فكثيرمن الصور تروي من داخل اعماق هذه الشخصية وبلسانها الذي بات كاميرا تصوير للأعماق السحيقة للشخصية.سلطان تية لاينتمي للمكان جغرافيا فهو من جبال النوبة والأحداث ومسرحها بجنوب السودان، لكننا نكتشف ان أصول سلطان تنحدر من الجنوب ونعرف ذلك من خلال ذاكرة سلطان المحتشدة مثل كاميرا الكوداك التي يحملها بالصور التي تحمل في طياتها تفاصيل انسانية غنية فنعرف ان أمه تنتمى الي الجنوب لكنها هجرت منه وجري طمس ممنهج لهويتها الثقافية فاسمها الحقيقي الذى كان (انجودورنا)صار بعد تهجيرها القسرى (التومة) وتنكرت لأصولها القبلية الأصلية وهى قبيلة جنوبية تسمي الأنكا وربما الاشارة هنا الي الدينكا. فنجد التومة تتحدث عن أصولها بلسان الثقافة السائدة التي الحقت بها فهى تعتبر (الكا) أكلة لحوم بشر وتحذر ابنها من شرورهم وشرور نسائهم(إذا التصقت بها،بظفرها ثقبتك في عدة مواضع، قطعت شريانك في النهاية)(راجع الرواية ص 24و25)، فهي تجسد المستلب الذي يصف نفسه بلسان من مسخه وشوه هويته. ويتحدث الراوي من داخل ذاكرته عن ذلك التهجير ومبرراته ووسائله نري العجب فهجوم التماسيح المزعوم كان سبب التهجير(تسببت هذه التماسيح قبل عشرين عاما في إبادة قرية بأكملها،حينما زحفت في جماعات جائعة نحو القرية تحتطف الأطفال والنساء والشباب أيضا، كان هذا سببا ذكرته الحكومةالمركزية في تعليلها لنقل مائة قرية من الدغل الشمالي الي تخوم المدن الحضرية في الشرق.إلا ان الهدف الأساسي من الترحيل بالتأكيد لم تقله الحكومة، كان سبب الترحيل يتمحور حول مسخ الدغليين، تضييع هويتهم الثقافيةوالعرقية ودمجهم في ثقافة الأغلبية الحاكمة.) ص 12 ان الذريعة الرسمية للتهجير القسرى تبدو مضحكة وبائسة وغير منطقية، فلا التماسيح تنقلب أسودا جائعة وحيوانات برية خلافا لقوانين الطبيعةولا ذلك يصلح ذريعة للتهجير ان صح ، ببساطةعلي الحكومة حماية الاهالي وليس تهجيرهم.
ويمضي الراوي نحو الهدف(بمنطقة الدغل توجد بعض التجمعات البشرية التي قاومت التهجير الحكومى خلال الخمسين سنة الماضية) ص19 فهنا ينقلب الحديث ليصبح حديثا مباشرا عن مشكلة جنوب السودان.)
ثم يقع الراوي ومن بعده المؤلف في خطأ تاريخي فادح حين ينسب سياسة المناطق المقفولة للحكومة المركزية بقوله(اعلنت الحكومة المركزية في الشرق ما اسمته سياسة المنطقة المقفولة، من يدخلها بدون تصريح أو تفويض حكومى يعرض نفسه للجلد والسجن) ص 19
فالمعروف ان سياسة المناطق المقفولة سياسة فرضتها الادارة الاستعمارية البريطانية منعت بموجبها دخول الشماليين والثقافة الشمالية للجنوب وهو الامر االذي فاقم الهوة بين الشمال والجنوب، ولم تتبن أي حكومة وطنية سياسة مماثلة. لكن لاعلينا فليس الأمر حصة في التاريخ بل هى رواية وقد تكون الأمور مختلطة في وعي شخصية مشوشة الوعي مثل سلطان تية المتحدث بأكثر من لسان بسبب صراع الهويات المتعددة والثقافات بداخله والاستلاب الذي تعرض له.
تتدفق المشاهد من داخل ذاكرة سلطان تيةبلا توقف كما يتدفق نهر من مكان مجهول، نرى في تلك الذاكرة مشهد حادث الحركة الذي أودى بحياة والده الصوفى الملتزم المحب للحكايات والمرح والمتدين في الوقت نفسه، سحق رأس الرجل سحقا أمام ناظرى ابنه الذى نجا من الحادث ليختزن في ذاكرته الوجع ونهاية والده المروعة، ومن تلك الذاكرة نفسها تقفز صور رفاق طفولة سلطان تية والعابهم المأخوذة من بيئتهم المحلية وأساطيرها(يحملون مسحوق لحم الوطواط، مخلوطا برماد ذيل السحلية وهم يختبئون خلف نباتات العشر، عليضفة خور المقابر الكبير، حيث يقضى الناس حاجاتهم، كانوا ينتظرون نفيسة، الجميلة بنت الاستاذ القادمة حديثا من المدينة الكبيرة،سيضع الأطفال خليط الوطواط والسحلية علي بول نفيسة الجميلة حتى لاتستطيع النوم مالم يضاجعها أكثرهم حظا) ص21
تبدو الحكايةهنا مشبعة بالمكان وأساطيره الشعبية ومعتقداته التي بلغت من القوة حد مغازلة أحلام المراهقين.
ووسط معتقدات الطفولة هذه التى لاتخلو من معتقدات وثنيةنجد معتقدات دينية أخري تتسرب الي روح سلطان تية من والده الصوفي وتستقر في روحه فيستعيدها في شبابه في أرض الجنوب أرض أجداده المتهمة بوثنية معتقداتها (توضأ بماء المطر ثم شرع يصلى العصر، ثم أخرج مسبحته أخذ يردد أسماء الله الحسنى، اعتاد ان يتلو بعض الأوراد التى اخذها عن أبيه الذي يتبع طريقة صوفية لها طقسها الخاص والعميق.) ص20
ان الرجل كما نكتشف رويدا رويدا حامل لمجموعة من الثقافات والمعتقدات المتصارعة المتعايشة بداخل نفس واحدة وامكنة متعددة، وهو نفسه خاضع لمؤثرات من خارج المكان الجغرافي المسمي السودان كله مثل إذاعة البي بي سي ومنتجات العالم الأول التي يحملها معه كادوات لازمة في ترحاله وحله(بعد ان حوط نفسه آمنا من الشرور،أدار مؤشر الراديو الصغير الي bbc الإذاعة الوحيدةالتي يصدق أخبارها، ويثق في اخبارها ويراسلها أيضا. ومسدسه ماركة النجمة دائما معد لاطلاق النار لكنه لم يستخدمه بعد) وهو يحمل كاميرا كوداك وخرائط وسرير جوال .
ويبدو الحصار المفروض علي سلطان تية بالمكان الجغرافي الذى هو نفسه في المشهد الأول مقصودا ومتعمدا ومتماهيا مع موضوع الرواية، فسلطان منزوع الهوية أعيد الي بيئته الأصلية
عودة مؤقتة فبات قطرة في بحرها، بات محاصرا بكل مايتنمى الي المكان من أشجار وزواحف وحيوانات فكلها أصيلة ومحتفظة بأصلها ولها ديمومة في المكان وهو وحده المزيف المشوه المؤقت الوجود الحامل لثقافات دخيلة علي المكان ، لذلك كان صراعه مع حارس الغابة الذئب حتميا، اعتمد الذئب فيه علي أياديه الطبيعة وأسلحته الطبيعية فكان هجومه انتحارا لأنه كان هجوم أعزل علي مدجج بسلاح قاتل، فكانت خسارة الذئب طبيعية وحتمية، لكن هل مثل موت الذئب انتصارا لسلطان تية؟!
ان الذئب ممثل لثقافة المكان وجزء أصيل منه ، ربما هو متجذر في المكان أكثر من سلطان تية نفسه، ولهذا السبب فان موت ذئب واحد لايمثل تغييبا للمكان وثقافته التى تحضر بقوة في المشهد الثالث ممثلة في ثورة أهل المكان علي سلطان تية بسبب قتله الذئب.
تتخلل المشهد لقطات سريعة من حياة سلطان تية يظهر فيها صديقه الصادق الكدراوى المغرم بالسفر والتنقل الداخلي والنساء والذى وضع هدفا عجيبا نصب عينيه وهو أن يعاشر من كل قبيلة في بلاده امرأة فهو يرى في نفسه مشروعا قوميا بهذا الفهم ، نلاحظ هنا وجود نزوع انسانى عام نحو الوحدة والتلاقح الثقافي الطوعي بين المكونات القومية ،والدة سلطان الحاملة لهويتين واسمين هى قنطرة بين ثقافتين محليتين ومكانين ولكنها تعانى من محو قسرى تم لهويتها الأصلية واحلال قسرى لهوية بديلة محلها، والصادق الكدراوى يتلمس بطريقته الخاصة حقيقةواقع التعدد العرقى والثقافى في السودان ويحاول تجاوز الحدود المرسومة بين التكوينات المختلفة عبر (سلاح الجنس ) ولعله بذلك يكون صاحب مشروع خاص ربما يشكل امتدادا لمشروع مصطفي سعيد بطل رواية موسم الهجرة للطيب صالح الذي اراد الانتقام من أوروبا عبر استخدام ذات السلاح ضد نسائها. حتى سلطان تية نفسه هو الآخر مستلب الهوية ابتداء من اسمه المكون من مقطعين كل منهما يمثل ثقافة مغايرة ومكانا مغايرا بينما جذوره تنتمى لمكان ثالث وثقافة ثالثة، فالاسم (سلطان) ينتمى للثقافة العربية الإسلامية السائدة في السودان وسطه وشماله وشرقه وغربه، بينما ينتمى الاسم(تية) الي ثقافة زنجية أفريقية تنتمى جغرافيا لجزء من غرب السودان يعرف بمناطق جبال النوبة التي تعج بحضارة وثقافة عميقة الجذور ولها ملامحها الخاصة برغم تلاقحها وتمازجها مع ثقافات اخري يعج بها المكان بقدر اقل، وكما نعرف في الرواية يتضح ان جذور سلطان تنتمى لجنوب السودان وقبيلة الكا. وقد تعرض سلطان لعمليةتدجين وطمس للهوية، يرسم المؤلف صورة مضخمة لشخصية سلطان المستلب ثقافيا كما يلى:
1/ من جهة الأم يعانى سلطان من طمس هوية الأم وقبولها لذلك الطمس وتنكرها لأصلها لاحقا نتيجة للتدجين المستمر لها.
2/يبدو سلطان تية بالاشياء التي يستخدمها كاكسسوارات ملازمة له(كاميرا كوداك حديثة/ مسدس/ سريرجوال/ ناموسية/ راديو صغير مفتوح علي الاذاعة البريطانية/ خرائط للأمكنة) يبدو (خواجة أسود) في نزهة في أفريقيا أكثر منه أفريقياً يتجول في مسقط رأس أمه. وهذا وجه آخر للاستلاب ومحو الهويةالممنهج.
3/ لايكتفي المؤلف بالوصف الخارجي فيصف سلطان تية من الداخل وصفا أكثر دقة( سلطان تية بالذات لاتشك السلطة في عدم ولائه، ولو أنه من جذر دغلى بحت، إلا انه لايعترف بما يدعى _سريا_ بالقومية الدغلية، فهو ملكى اكثر من الملك. لذا حصل علي تصريح موقع من رأس السلطة مباشرة.)
فسلطان رمز لمن تنكروا لأصولهم لصالح مصالح ذاتية ضيقة وقبلوا أن يكونوا دمى تحركها السلطة من وراء حجاب. سلطان تية لم يعد الي الجذور في رحلة بحث عن الجذور ولا لخوض معركة لتحريرها وتطويرها، بل جاء لتحقيق هدف ذاتى بحت يصفه الراوي بوضوح(فهو شخص عملى، ولاهدف له الآن غيراستكمال الجزء العملى من رسالة الدكتوراة، التى سيقدمها بعد شهرين للمجلس العلمى، اذا قبلت سيتحقق حلم عمره، يصبح محاضرا في الحياة البرية) الهدف ذاتى بحت اذن، ومن سخرية الأقدار ان من يريد ان يكون محاضرا في الحياة البرية يقتل ذئباً في الغابة بمسدس إثناء بحثه عن مواد علمية تعينه علي الحصول علي الدكتوراة!! ان سلطان تية المزود باليات القتل الحديثة يبدو في أحسن صوره مخلب قط للقادمين من خارج المكان واداة لتدميره .يبدو المشهد الثانى من الرواية مشهدا يصور الوجه الآخر للرعب الذي يعانى منه المكان( جنوب السودان) ففضلا عن الحرب وآلياتها المدمرة التي عكسها المشهد الأول للرواية يعانى المكان مثل (سلطان تية) وأمه (التومة) والقومية الدغلية التى ترمز الي شعب جنوب السودان من الإضطهاد الثقافي والعرقى والدينى والاستعلاء العنصرى والعرقى الذى يرفض الاعتراف بثقافتهم ووجودها ويسعى الي طمسها وتدجينها وإحلال ثقافة الأغلبية بالقوة مكانها، كأن الكاتب اراد القول ان المشهد الأول هو الابن الشرعى للمشهد الثانى وان المكان الذي احترق الماء فيه قد ناء كاهله بحمله الثقيل من المرارات فتحول الماء بارودا ونفطا وغازا سريع الاشتعال يحول كل ما تطاله يده الي رماد بعد ان كان بستانا أخضرا.
في المشهد الثالث المعنون ب أهل الكهف يظهر أهل المكان من قبيلة (لا لا )في المشهد حفاة عراة مدججين بالتمائم حاملين أسلحة بدائية ومعهم فتاة منهم ترتدى جينزا وصدرها عار في رمز واضح لاختراق الثقافات الوافدة للمكان ومعهم شخص اوربى الملامح وزعيمهم كهل مدجج بالتمائم هو الآخريسمى الكواكيرو، يتضح انهم غاضبون لمقتل الذئب ويأخذوا في تنفيذ رقصة بدائية وسلخ الذئب علي ايقاعها، ثم تخاطب الفتاة سلطان تية بالانجليزية سائلة اياه من يكون وهنا تصوير آخر لعملية محو الهوية ، فالفتاة وسلطان تية ابناء المكان المنسلخان من هويتهما يختاران لغة اجنبية كوسيط للتحاور وفي ذلك تجسيد لقمة المأساة في مسالة طمس الهوية.يستمر الحوار فيدفع سلطان عن نفسه تهمة كونه صائد تماسيح بقوة، يأخذون منه سلاحه ويقررون انهم سيحبسوه حتى تحل روح الذئب فيه فيمسى ذئبا.الجزاء من جنس العمل فهو أخذ روح الذئب فلتسكنه تلك الروح الي الأبد وتقضي علي جوهره الانسانى. ونعرف ان اللا لا لهم سجن هو كهف يحبس سلطان فيه فاستعان علي الخوف الذى تملكه فيه بأرث والده الروحى بعد مصادرة أدوات أمانه المادية ممثلة في السلاح النارى والعصى ، فشرع في الصلاة وقراءة الأوردة التى حفظها عن ابيه، وفي محبسه ذاك تظهر خلفية ثقافته الإسلامية في استعادته لقصة أهل الكهف الواردة في القرآن، وكانت المفارقة انه كان سجينا في كهفه ويسمع أصوات الذئاب الطليقة في الخارج وهى تعوى، فيدرك انه لم يقتل شيئا وان فعله ضاع هباءا ولم يثمر الا سجنه هو وتقييد حريته. وفي ذلك رسالة كامنة ذات صلة بموضوع الرواية فالقتل والعنف لن يثمرا شيئا ولن يفلحا في محو هوية المكان وشاغليه وثقافتهم، تلك هى الرسالة الكامنة خلف مشهد مقتل الذئب وبقائه طليقا يعوي في المكان وصيرورة قاتله حبيسا في كهف يشابه الكهف الذي نام فيه أهل الكهف نومتهم الطويلة المعجزة، الفارق ان أهل الكهف كانوا دعاة نور وتنوير فكان الكهف نجاة لهم من العسف والجور، بينما كان سلطان تية وكل من يستخدم العنف لتحقيق الغايات دعاة ظلمة وظلم وتعسف وجور فكان الكهف عقابا لهم علي جورهم وحماية للناس من شرهم.
في المشاهد التالية من الرواية يورد المؤلف قصة قدوم عنصر خارجى للمكان ممثلا في اسرة اجنبية قادمة من اوربا لتعيش في تلك الأحراش (مسس ومستر جين) ويصور توجس أهل المكان منهم وتخوفهم من تجارة الرقيق والاستعمار والتنصير المرتبط بدخولهم المكان وفي نفس الوقت اشواقهم الي التطور والصناعات الحديثة والحياة الرغيدة المرتبطة بهم التى غازلها بروزهم بالمكان، انه تصوير جميل لعلاقة افريقيا بالغرب، مخاوف نائمة مشروعة ترجع الي تاريخ اسود للرجل الابيض مع القارة الفتية وتطلعات مشروعة تغذيها الصورة الجديدة التي يحاول المستعمرون القدامى تسويقها باعتبارهم رسلا للحضارة والانسانية. يصور المؤلف ذلك من داخل اعماق اهل المكان (قبيلة اللا لا وزعيمهم الكواكيرو):يصور دخول الأجنبيان الي المكان ورد فعل شاغليه(في البدء كانا ملكين هبطا في غفلةالي الارض، عيونهما الخضراء، عربتهما، كل شئ، لكن ما كان يثير القرية ويفتح شهية الكواكيرو شخصيا هو الأمل المتمثل فيما يمكن ان يحدثه هذان الشخصان من تطور، لابد انهما سينشئان بيتا للتعليم وسينشئان بيتا للعلاج وسيعلمان الدغليين طرقا جديدة للحضارة، هولاء البرص اصحاب العيون الخضراء يفعلون المستحيل، لكن يعلم أهل القرية أيضا أن الابيضين، يبدآن ببناء بيت لعبادة الرب المثلث ثم جند لحماية البيت أو يتاجران بالرقيق، في ذلك الحين سنحرقهما) ص 56
ويخصص المؤلف المشهد المسمي الغرباء لرصد ردود فعل شاغلي المكان فيصور ببراعة متابعتهم للغرباء في صمت والمداولات التى تدور بشأنهم والموقف منهم(لأسبوعين كاملين كانوا يراقبون سلوك الغرباء، أصحاب الحمار الكبير، عندما جاء البناءون وأخذوا في تشييد البيت الكبير، كان المحاربون أيضاً هناك خلف الأشجار يراقبون في صمت، ينقلون ملحوظاتهم في إشارات صغيرة الي بعضهم البعض، اجتمع مجلس المحاربين مرارا وتكرارا متباحثا في شأن الغرباء، هل نجبرهم علي مغادرة الأرض؟ هل نسمح لهم بالبقاء ؟ هل نقتلهم؟ هل نسجنهم بالكهف؟ بعد مداولات كثيرة قرر مجلس الكواكيرو امهال الأبرصين زمنا قبل الحكم عليهما.) ص 60
وفي المشهد المسمي الجذور نعرف ان الرجل مستر جين هو أول طفل أنابيب أنتج سرا في العالم وبالتالي فهو رجل لاجذور له في الحقيقةوبات الرجل عالما متفوقا في الكيمياء الذرية وزوجته ماريانا عالمة هي الأخري تعمل في مجال تطوير الأسلحة التقليدية وأصيبت بمرض غامض وأختفي الإثنان ليظهرا في أدغال الجنوب وتعلما رطانة القبائل المحلية وباتا يبشران ببدائية الحياة ويقدمان نفسهما كشئ مختلف عن تاريخ وحاضر الرجل الابيض ويدعى الرجل ان سبب حضوره الي المكان هو ان زوجته اصيبت بالتلوث الكيميائى المشع فاحتمى بهم. وحين طلبوا منه ان يفتح مدرسة لتعليم الأطفال رفض الرجل ( وأخذ يدرسهم فائدة عودة الانسان الي الحياة البدائية البسيطة: أمشوا عراة، كلوا ما يصادفكم من طعام، اشربوا رحيق الازهار، ناموا أينما هاجمكم النعاس، مالكم واللغة والكلام والطائرات والموت ومالكم والكارثة) ص 94 وهذا الكلام المخاتل يفضح حقيقة هذا العالم المزعوم فهو لايسكن في العراء بل ابتنى بيتا للإقامة فيه قبل استقراره وهو يستغل سيارة وهى من منجزات الحضارة ويرتدى ملابس عصرية ويطالب الدغليين برفض الحضارة، بل يضبطه الكواكيرو متلبسا ببذر بذرة التمرد علي الواقع في الاطفال: ذات يوم اندس الكواكيرو خلف سياج البسنتا،سمع جين يقول للأطفال (اتركوا أسركم واهربوا، عيشوا هنالك بعيدا في الدغل مع القرود والأطيار الجميلة حيث عسل النحل والكارواووالأناناس، هل تجلبون الحطب لأمهاتكم؟ هل تجلبون الماء من الابار البعيدة؟ هل تحفرون الأرض الصلبة لاستخراج حبر الزينة؟ هل يرسلكم الكواكيرو بعيدا لتلقي العلم بعيدا؟ لماذا لاتنطلقوا أحرارا كالغزلان كالنمور كالأطيار، لامسئوليات ، لاشقاء؟) ص 95
عندها صاح الكواكيرو( أيها الأبرص العريان، أنت عدو الدغل الأول، عدو المستقبل) ص 95
هكذا يبدأ الصراع بين الوافد والراسخ في أخذ شكل جديد، فالوافد يستهدف المستقبل، يغير جلده وأسلوبه ولغته ووسائل عمله، فان كان يحل مستعمراً بجيشه في السابق فانه يتسلل الآن تحت ذرائع إنسانية ويتعلم لغة الناس ويحاول ان يكسب ودهم وثقتهم ، وبدلا من تحميل السفن بالرقيق الذي يقتنصه من الجبال والغابات يبدأ رحلة قنص الأرواح بدلا من قنص الرقاب والأجساد، انه يفرغ سمومه في أرواح بناة المستقبل ويشدهم اليه بخيوط من حرير بدلا من السلاسل ويجعلهم عبيدا من نوع آخر، عبيدا تم الاستيلاء التام علي أرواحهم وعقولهم وتم مسخهم وتشفيرهم واخضاعهم لعمليات غسيل ذاكرة ومخ واسعة النطاق بحيث لم يبق منهم إلا الهيكل العظمى والجلد الذي يكسوه. لذلك تتسارع الأحداث في الفصول الأخيرة للرواية نحو النهاية الحتمية لهذا الدفع وهذه العمليات الواسعة التى جرت، فيعود الأولاد الذين راهنت القيادات المحلية التقليدية مثل الكواكيرو عليهم وانفقت علي تعليمهم في الخارج ليكونوا المخرج للمكان من الظلمة والقهر، عادوا وليتهم ماعادوا، فقد عادوا غرباء الروح ، غرباء المظهر، ليفتكوا بالمكان وشاغليه بدلا من تطويره، يصف المؤلف ذلك التطور الدرامى كما يلي:( حضر بابو الغريب، بابو ابن نادية ابنة الكواكيرو الكبرى، حضر ذات عصر ممطر يقود عربة جيب 99 ذات لون أحمر، أوقف العربة تحت شجرة جوغان ضخمة وأخذ يستعمل آلة التنبيه بصورة شاذةجعلت القرية كلها تهرع اليه.، عندها نزل الأرض، يرتدى بدلة اسموكن بيجية وربطة عنق بها الوان كثيرة، ووجهه ناعم وبه رقة أنثوية تعلن عن نفسها، له حقيبة صغيرة تحتوى على جواز سفر وبعض العملات الأجنبية وله جهاز اتصال ارسال واستقبال يعمل بواسطة الأقمار الصناعية) ص187 و188
ونكتشف ان الولد تلقى تدريبا عسكريا في كلية عسكرية اجنبية وانه برتبة جنرال وانه قادم للمكان ليشعل هو ورفاقه الذين توافدوا للمكان تباعا بعربات الجيب الأجنبية حرباً سموها حرب التحرير وليس في أولوياتهم البتة مسائل مثل التعليم والعلاج وغيرها مما يتمسك ويحلم بها أهلهم ، لذلك يصاب الكواكيرو بخيبة أمل كبيرة ولايستمع أحد اليه والي أفكاره المناهضة للحرب وتبدو سلطته الروحيةتنهار امام القادمون الجدد بسندهم ودعمهم الخارجي وآليات حربهم وأحلامهم بالثروة والسلطة والثراء ، وفي النهاية تشتعل الحرب بين أهل المكان ومحاربيه التقليديين بقيادة الكواكيرو وبين القادمين الجدد علي صهوة الدبابات وعربات الجيب، فيخسر الكواكيرو حربه وتنتصر إرادة القادمين الجدد الذين يحشدون المكان لحروب طويلة وتنتهى الرواية نهاية دائرية بعودة المشهد الأول الافتتاحي كمشهد ختامى ، كأن المؤلف يقول ان الدائرة الشريرة مستمرة وان إرادة الشر انتصرت وان الانفصال بات واقعاً، وقد كان ما رآه الكاتب أفقاً بعيداً قد بات حقيقة موجعة فرضت نفسها فبات الوطن الواحد وطنين. وهو سيناريو قابل للتكرار مرات ومرات في السودان.
الرواية حافلة بالأساطير والخرافات والمكونات المحلية التى تشكل بانوراما المكان وسطوته علي فضاء الرواية مثلما هى تعج بكل أنواع الأشجار والحيوانات والزواحف والطيور ذات الصلة بالمكان فالتماسيح حاضرة والحية حاضرة والذئاب والنمورحاضرة والقطط والكلاب والثعابين والسحالى والعناكب والقراد والقرود والأفيال والأسود وفرس البحر والجاموس الحمار الوحشي والمعزة البرية واشجار الجوغان والتك والمهوجنى والموز، هومهرجان فريد يمنح الرواية عمقاً وسحراً وملمحاً فريداً ويعزز سطوة المكان فيها. الرواية أثر أدبى وفنى فريد ومميز وهى تعكس وجها من وجوه الثقافة السودانية البارزة وهو تعدد وتداخل الهويات الثقافية وتداخلها الطوعى والقسرى وأثره علي مجمل الحياة في السودان وهى بذلك حفر عميق علي جدار الثقافة السودانىة وجذورها تحتاجه هذه الثقافة الآخذة في التشكل ويحتاجه كل من يريد معرفة ملامح المجتمع والثقافة السودانية من الداخل.
صلاح الدين سر الختم على
مروى
الخامس من نوفمبر 2013


المراجع :
رماد الماء/ رواية/ عبد العزيزبركة ساكن/الطبعةالثانية /افاق عربية/الهئية العامة لقصور الثقافة.
أساليب السرد افي الرواية العربية/ د.صلاح فضل/ دار سعاد الصباح الطبعة الأولي 1992