تمساح
11-04-2005, 02:31 AM
الحما ر والذاكرة الثقافيّة..العولمة الجديدة, على ثقافةٍ واحدةٍ تقرأ بنظّارةٍ أمريكية
--------------------------------------------------------------------------------
( 1 )
صرخ شاعرٌ قديم :
لقد ذهب الحما ر بأمّ عمرٍ
.... فلا رجعت ، ولا رجــع الحما ر !
ومن يومها ، أعني من الأمس البعيد ، والحما ر الذي لم يرجع ، لا يزال في ذاكرتنا الثقافيّة ، حيث الحضور المكثّف لمفردته ، منذ أن عرف العربيّ معنى أن تكون غبيّاً ، أو أن تتغابى فتصبح سيّد قومك الأذكياء ، ومن خلال محاولة متواضعة تجوّلت فيها بصحبة "الحما ر" بين أروقة الذاكرة العربيّة ، واتّخذت من استقرائي لمفردة الحما ر الدلاليّة ، والنفسيّة ، والصوتيّة ، مركباً أمتطيه ويمتطيه معي حما ري سعيد "الحظّ" ، الذي لم يكن هذه المرّة مركوباً ، فكلانا ، أنا وال**** ، ركبنا مطيّة التّأمّل في هذه "المفردة" المشحونة بطاقةٍ من الدلالات ذات التأثير النفسيّ ، على المرسل والمتلقّي معاً ، حيث وجدت ، بعد الفراغ من تكرار مفردة " حما ر " ، عندما ملأت بها فمي : أنّها ذات جرسٍ مختلف وغريب ، ربما في طريقة نطقها سرٌّ من أسرار هذه "السيرورة " في اللسان العربيّ : لاحظوا معي صوتيم المفردة ( حــ ) ، حينما يأتي من أقصى الحلق ، أي من الأعماق ! ، ومن ثمّ الصوتيم ( مــ ) ، حيث تنطبق الشفتان استعداداً لإلقاء القنبلة الموقوتة ، لتأتي بعد ذلك ساعة تدوّي فيها مؤخّرة هذه المفردة بحرفين / صوتيمين : ار ، مع ملاحظة الشظايا التي تبعثرهـا أطراف الرّاء لطبيعة هذا الحرف الصوتيّة بحسب ما قرّره علم الأصوات اللغويّ
أعود –الآن – إلى **** أمّ عمرو ، حيث جاء توظيفه في سياق البيت بالتساوي على شطريه ، مع الحرص على أن تكون المفردة في خاتمته لتبقى عالقةً باللسان ، كما هي عالقة بالذاكرة ، ولعلّ أهمّ مايلاحظ في توظيف هذه المفردة في الشعر ، أنّها كثيرة الورود في ذيل النصّ ، بمعنى أنّها تكون مشحونةً بطاقتها الدلاليّة والنفسيّة حينما ترد في مؤخّرة الكلام ، وهذه من إحدى مصائب الحما ر في ثقافتنا العربيّة !
( 2 )
.. شاعرٌ آخر يستدعي هذه المفردة ، ويوظّفها التوظيف السابق ، حيث تقبع في مكانها اللائق بها ، وهي برهانٌ آخر على صحّة ماذهبتُ إليه من حساسيّة المفردة عند العربيّ ، حينما يصرّ على أن تكون في ذيل البيت المتهكّم ، رغم اللباس الذي لم يشفع لل**** بإخفاء ملامحه الحقيقيّة :
ولو لبس الحما ر ثيـاب خزٍّ /// لقال النّاس يـا لك من حمـار !
تأمّلوا معي الشعور باللذّة والارتياح أثناء تفريغ "الفم" من هذه المفردة ، وهو ما جعل الشاعرين ، الاوّل والثاني ، يستأثران بهذه "المفردة" ويكرّرانها في بيتٍ واحدٍ مرّتين !
( 3 )
لندع الشعر جانباً – الآن – ثم نعود إليه حينما نفرغ من هذه الرحلة الشائقة ، ولنقرأ معاً موقف : الأخوة الأشقّاء حينما حجبهم "الجدّ" عن الميراث ، وورث معه الأخوة لأمّ مع الزوج في المسألة "الحما ريّة" ، حيث قالوا لعمر رضي الله عنه : هَـب أنّ أبانـا حمــا ر !
هنا : تساؤلٌ يرد : إذا كان هؤلاء الفتية يريدون إقناع الفاروق بالوجود الذي يشبه العدم ، ولم يكونوا يقصدون "البلادة" ، ولا " عدم الفهم " كما هو معلوم فَلِم لم يرد إلى أذهانهم شيٌ آخر غير "ال****" ؟ هل ضاق الفضاء كلّه ، وانزوت الأرض كلّها ، حتّى لم يبق فيها سوى هذه المفردة ؟
إذن ، هذه الأسئلة تقودنا إلى أنّ مفردة "الحما ر" لا ترد – فحسب- كإسقاط على حالة الغباء ، كما هو شائعٌ بين النّاس ، أعني بذلك أنّ الطاقة الشعوريّة التي تحملها هذه "المفردة" أكبر من أن تكون لوصف حالةٍ واحدةٍ فحسب، والحما ر – كما هو معلومٌ – فيه صفةٌ ملازمة ، بل تكاد تكون ألصق به من صفة الغباء التي يقال أنّها تهمة في حقّ الحما ر ! ، والصفة اللازمة للحما ر هي صفة الجلد ! ( وما بوش عنّا ببعيد ! )
( 4 )
..ولأنّ القرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين ، يخاطب به الله عباده وفق النفسيّة العربيّة ، فقد جاء وصف اليهود الذين يعلمون ولا يعملون ، تبكيتاً لهم وتحقيرا ، بصورةٍ تنفر منها النفس العربيّة الأصيلة ( كمثل الحمـــار يحمل أسفارا ) ، والمتأمّل في الآية يجد أنّ صفة الغباء غير موجودة في هذا السياق ، فالغبيّ لا يعلم ولا يتعلّم ، والعقل اليهوديّ ذكيٌّ غير زكيّ ، وإنما المقصود هنا الإشارة إلى عدم انتفاعهم بما يحملون كالحمير تماماً ! تقريعاً لهم وتبكيتا ، وهذا ممّا يؤكّد على أنّ استدعاء مفردة " حمــار " تجيء أحياناً لدلالاتٍ أخرى غير الغباء وعدم الفهم ، وقد جاءت هنا – والله أعلم – لتدلّ على بلاغة القرآن ومخاطبته للنفس البشريّة وفق نوازعها الشعوريّة ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ، إذ إنّ الجمل – أيضاً – قد يحمل أسفاراً ، وهو يشارك ال**** في عدم الانتفاع بما يحمل، بيد أنّه يخالفه في منزلته عند العربيّ ، فهو – أي الجمل – من نفائس أموال العرب ، والخلاصة : أنّ في مفردة الحمــار كمٌّاً هائلاً من الإيحاءات الرادعة الموجعة !
( 5 )
.. يتّضح ممّا سبق مدى ما تتمتّع به هذه المفردة من ( حصانة ) ضدّ الضياع في الذاكرة العربيّة ، لهذا نجد كتب التراث والطرائف زاخرة بالمواقف والقصص التي يكون فيها ( الحمــار) بطلاً من أبطالها ، فجحا الضاحك المضحك لا يفارقه حمــاره ، حيث صار من أهله وخاصّته :
- جاءه رجلٌ ذات يوم وطلب منه أن يعيره الحمــار
- فقال له : غير موجودٍ الآن
- فنهق الحمــار وقال الرجل : وهذا ؟ !
- فأجابه جحا : أتكذّبني وتصدّق ال**** ؟!
وحينما سئل بشّار بن برد عن مفردة غريبة وردت في أحد أبياته التي كتبها على لسان حمــار ، أجاب : هذه من غريب الحمــار !
فقد حظي الحمــار بشيءٍ غير يسير من الاهتمام ، وصار في طليعة الحيوانات التي وردت في الأدب العربيّ ، قديمه وحديثه ، فالشاعر والكاتب إبراهيم المازني أحد شعراء العصر الحديث : تحدّث في كتابه ( صندوق الدنيا ) عن فروسيّته على ظهر حمــار ، والشيخ الأديب علي الطنطاوي استلهم في كتاباته الرائعة سخريته اللاذعة من مادّة "الحمــار" ، ففي إحدى جولاته في حديقة الحيوان : رأى الحمر الأهليّة وتساءل – بعد أن صارت الحمــير مادّةً للسياحة – عمّا إذا كانت الحــمير تغضب حينما تُنادى : يا بشـر ! ، أولسنا نغضب مثلها حينما يقال لنا : يا حــمير !
أظنّ أنّ الزمن الذي ستتحقّق فيه هذه المعادلة أوشك يا شيخي ووالدي الأديب !
( 6 )
..وفي شعر العصر الحديث – عصر النهضة كما يزعمون!- يفرد أمير الشعراء أحمد شوقي ، في شوقيّاته ، باباً شعريّاً ومملكةً عامرة بالحيوانات الأليفة والمتوحّشة ، غير أنّه – ربما من باب المصادفة – قرّر ملك الغابة أن يستوزر من يخلفه من بعد وزيره الراحل ، بعد اجتماعٍ حيوانيّ يشبه كثيراً الاجتماعات التي يعقدها البشر في قاعاتهم ! فكان القرار :
قال : الحــمار وزيري
....... قضى بهذا اختياري !
فاستضحكت ثمّ قالت
.......ماذا رأى في الحمـــار ؟!
وبعد أن قال الأسد قولته الشهيرة ( الحمــار وزيري ) حدث ما لم يكن في حسبانه ولم يضرب له قطّ موعد :
حتّى إذا الشهر ولّى
...... كليلةٍ أو نهـارِ
لم يشعر الليث إلاّ
....... وملكه في دمار
الكــلب عند اليمين
...... والقرد عند اليسار
والقطّ بين يديــــه
....... يلهو بعظمة فـار !
فكان من الطبيعيّ أن يصرخ غاضباً بعد هذه الفوضى ، ويؤّنّب نفسه التي أمرته بوزارة الحمــار وزيّنتها له :
قال : من في جدودي
........ مثلي عديم الوقار
أين اقتداري وبطشي
....... وهيبتي واعتباري!
بيد أنّ القرد الحكيم ، ومن عجبٍ أن تؤخذ الحكمة هذه المرّة من أفواه القردة والـ ..... أشار إليه بدهاء إلى موضع الداء ! :
فجاءه القرد سرّاً
....... وقال بعد اعتذاري
يا عالي الجاه فينا
....... كن عالي الأنظـار
رأي الرعية فيكـم
....... من رأيكم في الحمــار !
( 7 )
..فإذا تحدّثنا عن الشعر العربيّ المعاصر ، وفي شعر التفعيلة خاصّة ، يظهر لنا الشاعر الثائر /أحمد مطر ، إذ إنّه أحد أخطر شعراء التفعيلة في زماننا المعاصر ، ليس لأنّه ثوريّ الاتّجاه ، بل لأنّه يتعامل مع إيقاع الشعر التفعيليّ بطريقة : سقوط المطر ، القنابل ، الرؤوس ، فغالباً ما تكون قصيدته ذات إيقاعٍ يبدأ من الأعلى ، ثمّ ينحدر حتّى يبلغ ذروته في نهايته عند الانفجار العاطفيّ ، وهذاعنصر المفاجأة ، وهو من أهمّ خصائص الإيقاع التفعيليّ : أن يكون ساقطاً ، مفاجئاً ، مدوّياً في نهايته ، ولأنّ مفردة "الحــمار" تصلح كثيراً لهذه الخاصيّة ، فقد حظيت باهتمام الشاعر أحمد مطر ، وسقطت على "سجّانه" بطريقةٍ إيقاعيّة ، وتهكّميّة على حدٍّ سواء :
وقفت في زنزانتي
أقلّب الأفكار
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارس بالجوار ؟
*****
فقال لي الجدار :
إنّ الذي ترثي له قد جاء باختياره
وجئت بالإجبار
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدّثني عن أسدٍ
سجّانـه حمـــار !
( 8 )
..وحينما ندع موروثنا الفصيح في الأدب العربيّ ، ونتّجه إلى ثقافتنا الشعبيّة وموروثنا المحكيّ يستقبلنا على بوّابة الذاكرة أشهر حــمار في الشعر العامّي ، رغم اختلافاتنا حوله ، أعني به حــمار الشاعر الخالي من الكولسترول : عبد المجيد الزهراني :
قالت : امسك يا حــمار !
وقلت : هاتي
كانت احلى حمــار
أسمعها فـ حياتي !
والحقّ أنّنا نخطيء كثيراً حينما نظنّ أنّ عبدالمجيد الزهراني فشل في توظيف هذه المفردة فشلاً محضاً ، إذ من وجهة نظري ، وبعد أن تأمّلت في النصّ أكثر، اكتشفت أنّ فشل عبدالمجيد كان في احتواء المتلقّي فحسب ، حيث لم يُراعِ الحالة النفسيّة والحساسيّة الشديدة تجاه هذه المفردة من قبل النفس العربيّة ، والتي قرّرناها في مطلع المقالة ، وهذا – في رأيي سبب الضجّة حول هذا الحــمار ، أمّا من حيث توظيف المفردة في بناء النصّ الداخلي ، فلا أبالغ لو قلت : إنّه نجاح بمرتبة الإسراف في البساطة والصدق في نقل نفسيّة الشاعر كما هي ، إذا علمنا أن عبدالمجيد يأتي بكلّ أدوات الشارع لا يستثني منها شيئاً ، وهو ما انتقدته عليه مسبقاً ، ولا زلت إلى الآن ! ،
ترى ما سرّ نجاح اتّساق المفردة في نصّ عبدالمجيد ؟!
عندما نتأمّل تكرار مفردة "حــــــمار" في نصّ مختزل ، وقصير جدّاً ، ندرك أنّ الشعور بصوتيّة المفردة وقدرتها على تفريغ الشحنة النفسيّة المصاحبة لها – كما تقرّر سابقا – أمرٌ غير غائبٍ في هذا النصّ ، وحينما نقرأ بناء هذا التركيب ( كانت أحـ لـى حـ ـ ـ ـ مار ) بطريقةٍ تشريحيّة/عروضيّة : أح ، لـح ! مـار ، تظهر لنا صوتيمات توافق ما ذكر عن الدلالة النفسيّة العاطفيّة لمفردة الحــمار ، حيث الشعور بلذّة مشحونةٍ بالطاقة ، إذا ما سلّمنا بأنّ المنتقم، أو الموجوع يشعر باستراحة مؤقّتة بعد الفراغ من إلقاء هذه المفردة / حــمار/ وذلك حينما يملأ بها صدره وفمه ثمّ يلفظها ، ولهذا جاء في الحديث ( ليس الشديد بالصرعة ، إنّما الشديد من يمسك نفسه عند الغضب ) ، والغاضب تنازعه نفسه لتفريغ طاقته ! ، وكذلك الموجوع .
تأمّلوا مرّةً أخرى : أح لـح ، أح لـح ، أح لـح ، إنّها أصوات تحدث غالباً حيينما ننتعش ! ، تذكّروا – أيضاً – أنّني أتحدّث عن الشاعر داخل النصّ ، كي لا تذهبوا بعيدا عمّا أريد قولـه ، ولهذا فأنا أجزم أنّ الشاعر كتب هذا النصّ واستمتع بمفردة الحــمار أكثر ، ليس لأنّه يريد أن يوظّف رؤيته النقديّة ، بل لأنّ شعوره النفسيّ أملى عليه هذه المفردة فأخذ يردّدها بعقله الباطن قبل لسانه : أحلى حمــار ، أح ، لح :
قالت اسمع يا حــمار
وقلت هاتي
كانت احلى حــــمار
أسمعها فحياتي !
حقّاً ..لقد كان الشاعر صادقاً في تصويره للمفردة من داخل النصّ : كانت احلى حمــار أسمعها فحياتي !
بعد هذا الحــمار توافدت الحمر الأهليّة في النصوص الشعبيّة ، فكان من الطبيعيّ أن يكون لكلّ شاعرٍ **** في زمنٍ كثرت فيه الحمير ، فهذا الشاعر محمّد النفيعي يوظّف اللهجة المحكيّة التي غالباً ما يصم بها أصحاب النفوذ ضعفاءهم : اسكت يا حمــار ، وقد جاءت في هذا السياق معتدلةً تصف الواقع الواقع ، بعد أن صارت لغة الحوار فيما بين القويّ والضعيف : اسكت يا حــمار !
صايمٍ وافطر بثــومـه
...... هي كذا بكلّ اختصـار
وان بغى يشكي همومه
...... قالوا : اسكت يا حــمار !
بيد أنّ للشاعر فهد عافت معادلةٌ أخرى ، لاتبعد عن معادلة الأديب الفذّ الشيخ علي الطنطاوي التي ذكرتها في معرض هذه الرحلة ، يقول فهد عافت :
ما دام دنيا وترفعها قرون السيّد الثور
........ وش يزعل العاقل ان نادى عليه حمــار : يا حمــار !
وإذن ، فالملاحظ ، على بيت عافت تكرار المفردة في مساحةٍ ضيّقة ، مع الحرص على تذييل البيت بها ، وكذلك فعل النفيعي ، تأكيداً على أنّ هذه المفردة لاتصلح في صدر الكلام إمعاناً في التنكيل بها وبرهاناً على سيكولوجيّة النفس العربيّة المسكونة بالأنفة !
( 9 )
..وحتّى لا أتّهم بخبث "العنوان" أعلاه فإنني مضطرٌّ إلى أن أسوق تجربتي الشعبيّة المتواضعة مع "حمــاري" المفلح ، حيث صادفني أثناء معاناة "مفلح" ، ذلك الرجل البسيط ، الذي يبحث عن لقمة عيشه ، وحينما كنتُ أعالج أمره في أحد مواقفه ، تدلّت عليّ "حمــاران" من ذاكرتي ، تحديداً عند هذا المقطع من النصّ :
والاّ تبــي زوجٍ ثيــابه شفيفـه
....... خدّه شبر وعيونه دعاج وكبار
هنا ، عند هذه المفردة اقتحمت أسوار الذاكرة حــماران ، ربما استدعتهما مصادفةً جملة ( خدّه شبر ) والقافيـة التي- أحياناً - تفتن الشاعر في عقله ودينــه !!! ، ولحسن حظّي سلمت من إسقاطها عليّ فنجوت من شرّها ، وشرعت بكلّ بساطة وارتياح في تفريغ صدري من هذه الطاقة الشعوريّة المفعمة بالأحاسيس المنتقمة من الواقع :
تبغاه لو حتّى عيونه كفيفـــه
........ لو انّه حمـارٍ وابو جدّه حــمـار !
وعندما تنفّست الصعداء قلتُ ، بيني وبين نفسي ، بلهجةٍ شعبيّة ( الله يلوم الّلي يلوم عبدالمجيد ! )
( 10 )
ماذا عن الحــمار الأخير ؟!
وصلنا إلى آخر الحمــير ، وهو – للحقّ – حمــارٌ فيلسوف ؛ عاصر الحمير المتنكّرة في جلود وأردية أهل السفسطة والتمنطق ، أولئك الذين حكم لهم الواقع بامتطائه و"أخوته" من أبناء جدّهم حــمار الحكيم توما ، ولأنّ الابن يرث جدّه ، فقد ورث الحــمارُ الحــمارَ ، وورث صاحبُ الحــمار المتأخّر صاحبَ ال**** المتقدم ! ، ولاتزال بنو الحمير تطالب بني البشر ممّن هم من سلالة توما بحلّ معادلة الركوب المعقّدة ، التي ورثوها من جدّهم السابق :
قال حــمار الحكيم توما
.... لو أنصف الدهر كنتُ أركب!
لأنّني جاهـلٌ بســيطٌ
.... وصـاحبي جاهــلٌ مـركّب !!
ورغم اختلافي مع بعض نصّ الوثيقة ، في تهمتها للدهر ! على عادة شعرائنا وأدبائنا من بني البشر ، إلاّ أنني أرى أنّ حقّ الركوب مشروعٌ للحميــر هذه الأيّام ، فالحــمار أحقُّ بالركوب من صاحبه الذي لايدري ولايدري أنّه لا يدري ، وهو – أي ال**** – ( ما ألذّ مفردة ال**** في زماننا ! ) أحقُّ بالركوب من صاحبه الذي يطلّ على النّاس من ( زاوية ) العولمة الجديدة ليعولم العالم كلّه ويجمعه على ثقافةٍ واحدةٍ تقرأ السطور بنظّارةٍ أمريكيّةٍ عوراء !
وهو – أي الحــمار- أحقّ من صاحبه الذي يلبس جلداً غير جلده وينسى أنّه :
مادام يصحب كلَّ شيءٍ صوته
...... هيهات يخفي ( العير ) جـلدُ ( جبان ) !!
..هل لاحظتم ؟!
هذه المرّة : الأنَفَـــةُ للحــمار ! إذ لا يليق به هذا الموضع في السياق !
أجل ، إنّه زمن الحميــر : يا بشــــرررر!!
أين الصارخ في البدء : لقد ذهب ال**** ؟! هل ذهب هو الآخر ؟
إذاً سجّلوا بلغة العصر: لقد ذهبوا وقــد رجــع الحمــــــارُ !
صــرخةٌ أخيرة :
أخي الغريب إذا أردت أن تعالج غربتك بصرخة :
اجمع كلّ الحمــير الواردة أعلاه ، بل كلّ حمــير الدنيا ، في مفردة حــمارٍ واحد ، ثمّ تخيّل أنّ رأسك بحجم الكرة الأرضيّة وأنّك فتحت "فمك" فباعدتَ بين شفتيك كما بين المشرق والمغرب ، وبعد أن تتأكّد من كلّ الحمــير : اذهب إلى الصحراء ، وارسم صورة كلّ من يخون دينه وأمّته ووطنه واصرخ في الفضاء الطلق : يا حماااااااااااااااااااااااار
--------------------------------------------------------------------------------
( 1 )
صرخ شاعرٌ قديم :
لقد ذهب الحما ر بأمّ عمرٍ
.... فلا رجعت ، ولا رجــع الحما ر !
ومن يومها ، أعني من الأمس البعيد ، والحما ر الذي لم يرجع ، لا يزال في ذاكرتنا الثقافيّة ، حيث الحضور المكثّف لمفردته ، منذ أن عرف العربيّ معنى أن تكون غبيّاً ، أو أن تتغابى فتصبح سيّد قومك الأذكياء ، ومن خلال محاولة متواضعة تجوّلت فيها بصحبة "الحما ر" بين أروقة الذاكرة العربيّة ، واتّخذت من استقرائي لمفردة الحما ر الدلاليّة ، والنفسيّة ، والصوتيّة ، مركباً أمتطيه ويمتطيه معي حما ري سعيد "الحظّ" ، الذي لم يكن هذه المرّة مركوباً ، فكلانا ، أنا وال**** ، ركبنا مطيّة التّأمّل في هذه "المفردة" المشحونة بطاقةٍ من الدلالات ذات التأثير النفسيّ ، على المرسل والمتلقّي معاً ، حيث وجدت ، بعد الفراغ من تكرار مفردة " حما ر " ، عندما ملأت بها فمي : أنّها ذات جرسٍ مختلف وغريب ، ربما في طريقة نطقها سرٌّ من أسرار هذه "السيرورة " في اللسان العربيّ : لاحظوا معي صوتيم المفردة ( حــ ) ، حينما يأتي من أقصى الحلق ، أي من الأعماق ! ، ومن ثمّ الصوتيم ( مــ ) ، حيث تنطبق الشفتان استعداداً لإلقاء القنبلة الموقوتة ، لتأتي بعد ذلك ساعة تدوّي فيها مؤخّرة هذه المفردة بحرفين / صوتيمين : ار ، مع ملاحظة الشظايا التي تبعثرهـا أطراف الرّاء لطبيعة هذا الحرف الصوتيّة بحسب ما قرّره علم الأصوات اللغويّ
أعود –الآن – إلى **** أمّ عمرو ، حيث جاء توظيفه في سياق البيت بالتساوي على شطريه ، مع الحرص على أن تكون المفردة في خاتمته لتبقى عالقةً باللسان ، كما هي عالقة بالذاكرة ، ولعلّ أهمّ مايلاحظ في توظيف هذه المفردة في الشعر ، أنّها كثيرة الورود في ذيل النصّ ، بمعنى أنّها تكون مشحونةً بطاقتها الدلاليّة والنفسيّة حينما ترد في مؤخّرة الكلام ، وهذه من إحدى مصائب الحما ر في ثقافتنا العربيّة !
( 2 )
.. شاعرٌ آخر يستدعي هذه المفردة ، ويوظّفها التوظيف السابق ، حيث تقبع في مكانها اللائق بها ، وهي برهانٌ آخر على صحّة ماذهبتُ إليه من حساسيّة المفردة عند العربيّ ، حينما يصرّ على أن تكون في ذيل البيت المتهكّم ، رغم اللباس الذي لم يشفع لل**** بإخفاء ملامحه الحقيقيّة :
ولو لبس الحما ر ثيـاب خزٍّ /// لقال النّاس يـا لك من حمـار !
تأمّلوا معي الشعور باللذّة والارتياح أثناء تفريغ "الفم" من هذه المفردة ، وهو ما جعل الشاعرين ، الاوّل والثاني ، يستأثران بهذه "المفردة" ويكرّرانها في بيتٍ واحدٍ مرّتين !
( 3 )
لندع الشعر جانباً – الآن – ثم نعود إليه حينما نفرغ من هذه الرحلة الشائقة ، ولنقرأ معاً موقف : الأخوة الأشقّاء حينما حجبهم "الجدّ" عن الميراث ، وورث معه الأخوة لأمّ مع الزوج في المسألة "الحما ريّة" ، حيث قالوا لعمر رضي الله عنه : هَـب أنّ أبانـا حمــا ر !
هنا : تساؤلٌ يرد : إذا كان هؤلاء الفتية يريدون إقناع الفاروق بالوجود الذي يشبه العدم ، ولم يكونوا يقصدون "البلادة" ، ولا " عدم الفهم " كما هو معلوم فَلِم لم يرد إلى أذهانهم شيٌ آخر غير "ال****" ؟ هل ضاق الفضاء كلّه ، وانزوت الأرض كلّها ، حتّى لم يبق فيها سوى هذه المفردة ؟
إذن ، هذه الأسئلة تقودنا إلى أنّ مفردة "الحما ر" لا ترد – فحسب- كإسقاط على حالة الغباء ، كما هو شائعٌ بين النّاس ، أعني بذلك أنّ الطاقة الشعوريّة التي تحملها هذه "المفردة" أكبر من أن تكون لوصف حالةٍ واحدةٍ فحسب، والحما ر – كما هو معلومٌ – فيه صفةٌ ملازمة ، بل تكاد تكون ألصق به من صفة الغباء التي يقال أنّها تهمة في حقّ الحما ر ! ، والصفة اللازمة للحما ر هي صفة الجلد ! ( وما بوش عنّا ببعيد ! )
( 4 )
..ولأنّ القرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين ، يخاطب به الله عباده وفق النفسيّة العربيّة ، فقد جاء وصف اليهود الذين يعلمون ولا يعملون ، تبكيتاً لهم وتحقيرا ، بصورةٍ تنفر منها النفس العربيّة الأصيلة ( كمثل الحمـــار يحمل أسفارا ) ، والمتأمّل في الآية يجد أنّ صفة الغباء غير موجودة في هذا السياق ، فالغبيّ لا يعلم ولا يتعلّم ، والعقل اليهوديّ ذكيٌّ غير زكيّ ، وإنما المقصود هنا الإشارة إلى عدم انتفاعهم بما يحملون كالحمير تماماً ! تقريعاً لهم وتبكيتا ، وهذا ممّا يؤكّد على أنّ استدعاء مفردة " حمــار " تجيء أحياناً لدلالاتٍ أخرى غير الغباء وعدم الفهم ، وقد جاءت هنا – والله أعلم – لتدلّ على بلاغة القرآن ومخاطبته للنفس البشريّة وفق نوازعها الشعوريّة ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ، إذ إنّ الجمل – أيضاً – قد يحمل أسفاراً ، وهو يشارك ال**** في عدم الانتفاع بما يحمل، بيد أنّه يخالفه في منزلته عند العربيّ ، فهو – أي الجمل – من نفائس أموال العرب ، والخلاصة : أنّ في مفردة الحمــار كمٌّاً هائلاً من الإيحاءات الرادعة الموجعة !
( 5 )
.. يتّضح ممّا سبق مدى ما تتمتّع به هذه المفردة من ( حصانة ) ضدّ الضياع في الذاكرة العربيّة ، لهذا نجد كتب التراث والطرائف زاخرة بالمواقف والقصص التي يكون فيها ( الحمــار) بطلاً من أبطالها ، فجحا الضاحك المضحك لا يفارقه حمــاره ، حيث صار من أهله وخاصّته :
- جاءه رجلٌ ذات يوم وطلب منه أن يعيره الحمــار
- فقال له : غير موجودٍ الآن
- فنهق الحمــار وقال الرجل : وهذا ؟ !
- فأجابه جحا : أتكذّبني وتصدّق ال**** ؟!
وحينما سئل بشّار بن برد عن مفردة غريبة وردت في أحد أبياته التي كتبها على لسان حمــار ، أجاب : هذه من غريب الحمــار !
فقد حظي الحمــار بشيءٍ غير يسير من الاهتمام ، وصار في طليعة الحيوانات التي وردت في الأدب العربيّ ، قديمه وحديثه ، فالشاعر والكاتب إبراهيم المازني أحد شعراء العصر الحديث : تحدّث في كتابه ( صندوق الدنيا ) عن فروسيّته على ظهر حمــار ، والشيخ الأديب علي الطنطاوي استلهم في كتاباته الرائعة سخريته اللاذعة من مادّة "الحمــار" ، ففي إحدى جولاته في حديقة الحيوان : رأى الحمر الأهليّة وتساءل – بعد أن صارت الحمــير مادّةً للسياحة – عمّا إذا كانت الحــمير تغضب حينما تُنادى : يا بشـر ! ، أولسنا نغضب مثلها حينما يقال لنا : يا حــمير !
أظنّ أنّ الزمن الذي ستتحقّق فيه هذه المعادلة أوشك يا شيخي ووالدي الأديب !
( 6 )
..وفي شعر العصر الحديث – عصر النهضة كما يزعمون!- يفرد أمير الشعراء أحمد شوقي ، في شوقيّاته ، باباً شعريّاً ومملكةً عامرة بالحيوانات الأليفة والمتوحّشة ، غير أنّه – ربما من باب المصادفة – قرّر ملك الغابة أن يستوزر من يخلفه من بعد وزيره الراحل ، بعد اجتماعٍ حيوانيّ يشبه كثيراً الاجتماعات التي يعقدها البشر في قاعاتهم ! فكان القرار :
قال : الحــمار وزيري
....... قضى بهذا اختياري !
فاستضحكت ثمّ قالت
.......ماذا رأى في الحمـــار ؟!
وبعد أن قال الأسد قولته الشهيرة ( الحمــار وزيري ) حدث ما لم يكن في حسبانه ولم يضرب له قطّ موعد :
حتّى إذا الشهر ولّى
...... كليلةٍ أو نهـارِ
لم يشعر الليث إلاّ
....... وملكه في دمار
الكــلب عند اليمين
...... والقرد عند اليسار
والقطّ بين يديــــه
....... يلهو بعظمة فـار !
فكان من الطبيعيّ أن يصرخ غاضباً بعد هذه الفوضى ، ويؤّنّب نفسه التي أمرته بوزارة الحمــار وزيّنتها له :
قال : من في جدودي
........ مثلي عديم الوقار
أين اقتداري وبطشي
....... وهيبتي واعتباري!
بيد أنّ القرد الحكيم ، ومن عجبٍ أن تؤخذ الحكمة هذه المرّة من أفواه القردة والـ ..... أشار إليه بدهاء إلى موضع الداء ! :
فجاءه القرد سرّاً
....... وقال بعد اعتذاري
يا عالي الجاه فينا
....... كن عالي الأنظـار
رأي الرعية فيكـم
....... من رأيكم في الحمــار !
( 7 )
..فإذا تحدّثنا عن الشعر العربيّ المعاصر ، وفي شعر التفعيلة خاصّة ، يظهر لنا الشاعر الثائر /أحمد مطر ، إذ إنّه أحد أخطر شعراء التفعيلة في زماننا المعاصر ، ليس لأنّه ثوريّ الاتّجاه ، بل لأنّه يتعامل مع إيقاع الشعر التفعيليّ بطريقة : سقوط المطر ، القنابل ، الرؤوس ، فغالباً ما تكون قصيدته ذات إيقاعٍ يبدأ من الأعلى ، ثمّ ينحدر حتّى يبلغ ذروته في نهايته عند الانفجار العاطفيّ ، وهذاعنصر المفاجأة ، وهو من أهمّ خصائص الإيقاع التفعيليّ : أن يكون ساقطاً ، مفاجئاً ، مدوّياً في نهايته ، ولأنّ مفردة "الحــمار" تصلح كثيراً لهذه الخاصيّة ، فقد حظيت باهتمام الشاعر أحمد مطر ، وسقطت على "سجّانه" بطريقةٍ إيقاعيّة ، وتهكّميّة على حدٍّ سواء :
وقفت في زنزانتي
أقلّب الأفكار
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارس بالجوار ؟
*****
فقال لي الجدار :
إنّ الذي ترثي له قد جاء باختياره
وجئت بالإجبار
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدّثني عن أسدٍ
سجّانـه حمـــار !
( 8 )
..وحينما ندع موروثنا الفصيح في الأدب العربيّ ، ونتّجه إلى ثقافتنا الشعبيّة وموروثنا المحكيّ يستقبلنا على بوّابة الذاكرة أشهر حــمار في الشعر العامّي ، رغم اختلافاتنا حوله ، أعني به حــمار الشاعر الخالي من الكولسترول : عبد المجيد الزهراني :
قالت : امسك يا حــمار !
وقلت : هاتي
كانت احلى حمــار
أسمعها فـ حياتي !
والحقّ أنّنا نخطيء كثيراً حينما نظنّ أنّ عبدالمجيد الزهراني فشل في توظيف هذه المفردة فشلاً محضاً ، إذ من وجهة نظري ، وبعد أن تأمّلت في النصّ أكثر، اكتشفت أنّ فشل عبدالمجيد كان في احتواء المتلقّي فحسب ، حيث لم يُراعِ الحالة النفسيّة والحساسيّة الشديدة تجاه هذه المفردة من قبل النفس العربيّة ، والتي قرّرناها في مطلع المقالة ، وهذا – في رأيي سبب الضجّة حول هذا الحــمار ، أمّا من حيث توظيف المفردة في بناء النصّ الداخلي ، فلا أبالغ لو قلت : إنّه نجاح بمرتبة الإسراف في البساطة والصدق في نقل نفسيّة الشاعر كما هي ، إذا علمنا أن عبدالمجيد يأتي بكلّ أدوات الشارع لا يستثني منها شيئاً ، وهو ما انتقدته عليه مسبقاً ، ولا زلت إلى الآن ! ،
ترى ما سرّ نجاح اتّساق المفردة في نصّ عبدالمجيد ؟!
عندما نتأمّل تكرار مفردة "حــــــمار" في نصّ مختزل ، وقصير جدّاً ، ندرك أنّ الشعور بصوتيّة المفردة وقدرتها على تفريغ الشحنة النفسيّة المصاحبة لها – كما تقرّر سابقا – أمرٌ غير غائبٍ في هذا النصّ ، وحينما نقرأ بناء هذا التركيب ( كانت أحـ لـى حـ ـ ـ ـ مار ) بطريقةٍ تشريحيّة/عروضيّة : أح ، لـح ! مـار ، تظهر لنا صوتيمات توافق ما ذكر عن الدلالة النفسيّة العاطفيّة لمفردة الحــمار ، حيث الشعور بلذّة مشحونةٍ بالطاقة ، إذا ما سلّمنا بأنّ المنتقم، أو الموجوع يشعر باستراحة مؤقّتة بعد الفراغ من إلقاء هذه المفردة / حــمار/ وذلك حينما يملأ بها صدره وفمه ثمّ يلفظها ، ولهذا جاء في الحديث ( ليس الشديد بالصرعة ، إنّما الشديد من يمسك نفسه عند الغضب ) ، والغاضب تنازعه نفسه لتفريغ طاقته ! ، وكذلك الموجوع .
تأمّلوا مرّةً أخرى : أح لـح ، أح لـح ، أح لـح ، إنّها أصوات تحدث غالباً حيينما ننتعش ! ، تذكّروا – أيضاً – أنّني أتحدّث عن الشاعر داخل النصّ ، كي لا تذهبوا بعيدا عمّا أريد قولـه ، ولهذا فأنا أجزم أنّ الشاعر كتب هذا النصّ واستمتع بمفردة الحــمار أكثر ، ليس لأنّه يريد أن يوظّف رؤيته النقديّة ، بل لأنّ شعوره النفسيّ أملى عليه هذه المفردة فأخذ يردّدها بعقله الباطن قبل لسانه : أحلى حمــار ، أح ، لح :
قالت اسمع يا حــمار
وقلت هاتي
كانت احلى حــــمار
أسمعها فحياتي !
حقّاً ..لقد كان الشاعر صادقاً في تصويره للمفردة من داخل النصّ : كانت احلى حمــار أسمعها فحياتي !
بعد هذا الحــمار توافدت الحمر الأهليّة في النصوص الشعبيّة ، فكان من الطبيعيّ أن يكون لكلّ شاعرٍ **** في زمنٍ كثرت فيه الحمير ، فهذا الشاعر محمّد النفيعي يوظّف اللهجة المحكيّة التي غالباً ما يصم بها أصحاب النفوذ ضعفاءهم : اسكت يا حمــار ، وقد جاءت في هذا السياق معتدلةً تصف الواقع الواقع ، بعد أن صارت لغة الحوار فيما بين القويّ والضعيف : اسكت يا حــمار !
صايمٍ وافطر بثــومـه
...... هي كذا بكلّ اختصـار
وان بغى يشكي همومه
...... قالوا : اسكت يا حــمار !
بيد أنّ للشاعر فهد عافت معادلةٌ أخرى ، لاتبعد عن معادلة الأديب الفذّ الشيخ علي الطنطاوي التي ذكرتها في معرض هذه الرحلة ، يقول فهد عافت :
ما دام دنيا وترفعها قرون السيّد الثور
........ وش يزعل العاقل ان نادى عليه حمــار : يا حمــار !
وإذن ، فالملاحظ ، على بيت عافت تكرار المفردة في مساحةٍ ضيّقة ، مع الحرص على تذييل البيت بها ، وكذلك فعل النفيعي ، تأكيداً على أنّ هذه المفردة لاتصلح في صدر الكلام إمعاناً في التنكيل بها وبرهاناً على سيكولوجيّة النفس العربيّة المسكونة بالأنفة !
( 9 )
..وحتّى لا أتّهم بخبث "العنوان" أعلاه فإنني مضطرٌّ إلى أن أسوق تجربتي الشعبيّة المتواضعة مع "حمــاري" المفلح ، حيث صادفني أثناء معاناة "مفلح" ، ذلك الرجل البسيط ، الذي يبحث عن لقمة عيشه ، وحينما كنتُ أعالج أمره في أحد مواقفه ، تدلّت عليّ "حمــاران" من ذاكرتي ، تحديداً عند هذا المقطع من النصّ :
والاّ تبــي زوجٍ ثيــابه شفيفـه
....... خدّه شبر وعيونه دعاج وكبار
هنا ، عند هذه المفردة اقتحمت أسوار الذاكرة حــماران ، ربما استدعتهما مصادفةً جملة ( خدّه شبر ) والقافيـة التي- أحياناً - تفتن الشاعر في عقله ودينــه !!! ، ولحسن حظّي سلمت من إسقاطها عليّ فنجوت من شرّها ، وشرعت بكلّ بساطة وارتياح في تفريغ صدري من هذه الطاقة الشعوريّة المفعمة بالأحاسيس المنتقمة من الواقع :
تبغاه لو حتّى عيونه كفيفـــه
........ لو انّه حمـارٍ وابو جدّه حــمـار !
وعندما تنفّست الصعداء قلتُ ، بيني وبين نفسي ، بلهجةٍ شعبيّة ( الله يلوم الّلي يلوم عبدالمجيد ! )
( 10 )
ماذا عن الحــمار الأخير ؟!
وصلنا إلى آخر الحمــير ، وهو – للحقّ – حمــارٌ فيلسوف ؛ عاصر الحمير المتنكّرة في جلود وأردية أهل السفسطة والتمنطق ، أولئك الذين حكم لهم الواقع بامتطائه و"أخوته" من أبناء جدّهم حــمار الحكيم توما ، ولأنّ الابن يرث جدّه ، فقد ورث الحــمارُ الحــمارَ ، وورث صاحبُ الحــمار المتأخّر صاحبَ ال**** المتقدم ! ، ولاتزال بنو الحمير تطالب بني البشر ممّن هم من سلالة توما بحلّ معادلة الركوب المعقّدة ، التي ورثوها من جدّهم السابق :
قال حــمار الحكيم توما
.... لو أنصف الدهر كنتُ أركب!
لأنّني جاهـلٌ بســيطٌ
.... وصـاحبي جاهــلٌ مـركّب !!
ورغم اختلافي مع بعض نصّ الوثيقة ، في تهمتها للدهر ! على عادة شعرائنا وأدبائنا من بني البشر ، إلاّ أنني أرى أنّ حقّ الركوب مشروعٌ للحميــر هذه الأيّام ، فالحــمار أحقُّ بالركوب من صاحبه الذي لايدري ولايدري أنّه لا يدري ، وهو – أي ال**** – ( ما ألذّ مفردة ال**** في زماننا ! ) أحقُّ بالركوب من صاحبه الذي يطلّ على النّاس من ( زاوية ) العولمة الجديدة ليعولم العالم كلّه ويجمعه على ثقافةٍ واحدةٍ تقرأ السطور بنظّارةٍ أمريكيّةٍ عوراء !
وهو – أي الحــمار- أحقّ من صاحبه الذي يلبس جلداً غير جلده وينسى أنّه :
مادام يصحب كلَّ شيءٍ صوته
...... هيهات يخفي ( العير ) جـلدُ ( جبان ) !!
..هل لاحظتم ؟!
هذه المرّة : الأنَفَـــةُ للحــمار ! إذ لا يليق به هذا الموضع في السياق !
أجل ، إنّه زمن الحميــر : يا بشــــرررر!!
أين الصارخ في البدء : لقد ذهب ال**** ؟! هل ذهب هو الآخر ؟
إذاً سجّلوا بلغة العصر: لقد ذهبوا وقــد رجــع الحمــــــارُ !
صــرخةٌ أخيرة :
أخي الغريب إذا أردت أن تعالج غربتك بصرخة :
اجمع كلّ الحمــير الواردة أعلاه ، بل كلّ حمــير الدنيا ، في مفردة حــمارٍ واحد ، ثمّ تخيّل أنّ رأسك بحجم الكرة الأرضيّة وأنّك فتحت "فمك" فباعدتَ بين شفتيك كما بين المشرق والمغرب ، وبعد أن تتأكّد من كلّ الحمــير : اذهب إلى الصحراء ، وارسم صورة كلّ من يخون دينه وأمّته ووطنه واصرخ في الفضاء الطلق : يا حماااااااااااااااااااااااار