almaknemer
21-04-2005, 12:08 AM
خلق الله من الماء كل شئ حى ، أما فى دارفور فان الماء هو كل شئ. كانت الدواب المنهكة قد سارعت خطاها .. ووجوه الصبية ازدانت اشراقاً فيما استرسلت اثنين من الصبايا فى غناء شعبى متفائل يحدّث عن قرب المورد , انهم الآن على موعد مع الماء . ها هى مضخة مياه منطقة المحارك على مرمى بصر من الصبية الاثنى عشر.. تقافزوا من ظهور الدواب فى فرح تلقائى .. الشجيرات أصبحت أكثر إخضراراً ما يدل على قرب المورد.. تزامن ذلك مع غيمات عابرة أضفت إلى ملاحة الصبايا نضرة لم تفلح وعثاء الترحال فى محوها ..هن دارفور التى عجزت قسوة البيئة عن الغاء بهائها الخلاب طبيعة ساحرة وانسان متفائل بغدٍ أفضل .. وظل استرسال الصبيّة وهى تحكى قصتها بهيجاً.. وخيالها حاضراً وهى تتحدث .. الصور عامرة بالدهشة بين أسرة تنتظر الرى ، وصبية تتنامى فيها أحلام الغد الملونة.. وبين ماء دان قاب قوسين ينتظر الصبايا وتنتظره الدواب والهوام والشجيرات البرية.. كان قوام القافلة البرية اثنى عشر صبياً بينهم أربع صبايا.. طريدتهم هى الماء بينما كانوا يجهلون أنهم طريدة وحوش آدمية تتربص بمثل براءتهم دون رحمة ..
وفجأة غام الصوت فى جب عميق من الحزن، وكأنما انقطع الإرسال فجأةً ..لحظات من الصمت شاخ خلالها وجه الصبيّة، وشاخ صوتها، وانبتر سياق الحلم الندى أمام الكابوس ..كابوسُ تغالبه ليندثر فى غيابات النسيان فيغلبها: ( ليس مألوفاً أزيز السيارات فى تلك المنطقة .. قد تأتى عابرةُ من بعيد.. إنها الآن تقترب منا فجأة وكأنها كانت تختبئ خلف الشجيرات تبحث عن طريدة ..لقد كنا الطريدة).. مجموعةُ من الملثمين ترجلت من السيارة وكانت تبدو كالأشباح.. لم تملك الصغيرة التى ربما أكملت عامها الرابع عشر، وربما حوله، شأنها شأن الأخريات أن تتذكر عدد الملثمين .. إتجهت أبصار الصغار تلقاءً سيارة اللاندكروزر .. الملثمون يثبون منها فى فرح الذى ظفر بالغنيمة ..(رفع أحدهم كلاشه فى وجوهنا .. أعرف الكلاش جيداً وهو معروف فى مناطقنا لكننى لم اعتاد أن يُرفع فى وجهى) .. كانت «د.م.س» أكبر سناً من الصبايا وكان اترابها عزّل إلا من عصى يهشون بها على الدواب..
هجم النمر .. هجم النمر
لحظات قاتلة وألفى الصبية أنفسهم معصوبى الأعين .. تكدس بعضهم بمؤخرة السيارة وجزء آخر بمقصورتها الوسطى ..تحركت السيارة وأشعل أحدهم سجاراً سعل على اثره اكثر من صبى .. لقد كانت الوجوه مقتربة بما يكفى .
ومضت السيارة فى طريق شاجرٍ بالوحل والرهق والوحشة، وكانت تتوقف على مسافات مختلفة حتى ينال المسلحون قسطاً من الراحة ويتناولون الطعام: ((حذرونا منذ البداية أن من يصدر صوتاً سوف يكون جزاؤه .. الموت كانوا ينزلون من السيارة ولا يسمحوا لنا بذلك، وعندما تململ أحد الصبية عرفت أنهم أوثقوه ثم وجه له أحدهم عدة لكمات).. وتسترسل الصبيّة «د.م.س» قائلة أن الخاطفين كانوا يسمحوا لهم بقليل من الماء، ولا يغادر أحدهم السيارة إلا لقضاء الحاجة تحت مراقبة أحد الرجال: ((صفعنى أحدهم صفعة تأثرت بها أذنى لعدة ايام، وحاول أحدهم ضرب صبى بجسم صلب فأخطأته الضربة وأصابتنى فى ظهري حتى كتمت انفاسى)).
مر الليل على الصبية كقبر فى بئر غائرة العمق.. لا فرق عندهم بين الليل والنهار .. لا فرق بين النوم والاغفاء .. بين الصحو والاغماء.. احساس بأن العالم توقف داخل خيالاتهم الغضة..
أين مضوا.. ؟
وفى جانب آخر من المسرح كان ثمة حزن ضرير يمسك بتلابيب قرية كانت هادئة حتى الأمس القريب.. دموع الأمهات، وزمجرة الآباء المكتومة، وغضب الرجال الرشيد هى كلما تبقى..إقتفوا الأثر.. سألوا الراكبين والراجلين على حد سواء.. سألوا الشجيرات ودواب أبنائهم المسرجة وقد هامت على وجوهها فى حرية لم تختارها..سألوا الماء المتدفق من مضخة المحارك، وسألوا الشجيرات عن صغيرات وصغار كانوا أكثر نداوة من الأصباح. سألوا فلم يجدوا غير آثار إطارات السيارة الملعونة، وثمة أعشاب برية ما تزال مثقلةُُ بأحذية قاسية.. عاد الفزع ملتاعاً يراوح بين الحسرة والغضب..كفكفوا دموع الأمهات غير أن جرح الدواخل يظل عصىِّ على الضمادات..
إستيقظ الصبية على صخب غير عادى، وطالبهم صوت أجش بالترجل من السيارة داخل معسكر طولوم للاجئين : ((من يتحدث عن أى شئ سوف أقطع لسانه )) صوت مثقل بالحقد ليس فى ثناياه رحمةً . واخيراً تفرقت بهم السبل ..
الليل الارمد على الباب
ألفت «د.م.س» نفسها وحيدة داخل كوخ لا تتجاوز مساحته الأمتار التسعة .. كان ظهرها ما يزال يؤلمها إثر ضربة بآلة صلبة، وثمة كدمة أسفل عينها اليسرى، وفى اذنها طنين لا تدرى إن كان من جرّاء الصفعة أم من رهق الرحيل المر.. ربما كانت الاوفر جمالاً والاكثر نضجاً بين رصيفاتها.. قد تكون تلك نعمة فى مسارات الحياة وشعابها الأخرى بالنسبة لأمثالها، لكنها نغمة فى معسكر طولوم الواقع بمنطقة إربا شرقى تشاد ..
(كانوا قد أزالوا العصابات من أعيننا يوم وصولنا المعسكر، لكننى ظللت محبوسةً داخل ذلك الكوخ لمدة يومين ..كان أحدهم يدفع إلىّ بالطعام والمياه، ولم أكن أستشعر حاجةً للطعام ..لكننى كنت أتناول بعضه تحت وطأة الجوع .. وعلى أمل أن أعيش عسى أن أنضم لأسرتى ذات يوم ..هل تعتقد أنهم سيعيدوننى إليها؟) ..
كانت الكلمات تخرج من فم الصبيّة على نحو آلى دون أن يختلج لها جفن وكأنما استنفدت كل طاقات الحزن والغضب فى ذاتها ، فيما عدا تساؤلها الأخير حول الأسرة والعودة ، فقد حمّلته من الضراعة والتوسل ما ينفطر له الصخر ..
بعد عدة أيامٍ دخل كوخها ليلاً «أ.أ.ج» وحدثها بأنه المسئول عنها وأن عليها أن تطيع ما يأمر به وانه سوف يعود اليها ليلاً بعد ان يقضى بعض الأعمال .. حدثتها دواخلها بأنها على أعتاب الساعة الأكثر سواداً فى تاريخها .. تذكرت أسرتها.. كانت قد سمعت بما يحدث فى مثل تلك الاحوال .. (المختطفون ليسوا بشراً لكنهم وحوشُُ فى زي بشر) .. كم ترددت مثل تلك القصص أمامها بين أترابها وكم سرت رعدة الخوف فى أوصالهن رغم إدراكهن أنها محض أساطير، أو ربما قصص الكبار التى تهدف لإخافة الصغار حتى يأخذوا حذرهم.. لكن نظرات الرجل وهو يتحدث عن عودة وشيكة لم تكن أسطورة.. حدثها قلبها أنها على موعد مع الوحش .. القلب تحدث لكن الزند الضعيف أعجز من أن يحمى الكرامة المهدورة .. فكرت فى أسرتها .. فكرت فى الهرب..تمنت الموت قبل أن يلطخ شرفها وشرف أسرتها ذلك الوحش ..وفجأةً دخل «أ.أ.ج» ( لقد فقدت إحساسى بالحركة، ثم فقدت الوعى لا أعلم هل نمت أم فقدت الوعى ..وعندما أدركنى الوعى علمت ان كل شئ قد انتهى.. كان الافضل أن يقتلنى) كانت الصبيّة تتحدث بصوت قادم من صدرها وكأنما المتحدث شخص آخر إحساس قاتل بالحسرة يلف المكان والفم الجاف يتلمظ بعسر ما يبلل فظاظة التفاصيل.. كانت طفلتها التى قاربت سنها العامين تشاغل شعر الأم فى وداعةً لا علاقة لها بسواد الماضى أو انسداد المستقبل: (( كانت تلك هى النتيجة ..هذه الضحية ..هذه الطفلة)) أومأت إلى طفلة تبدو ملامحها انقى من حليب الأم .. أنها تجهل ما حدث..
ثمة دمعة تحدرت على وجه طفلة العامين ففركت وجهها بعصبية ثم انصرفت الى مداعبة الوجه المغضن حزناً فى وداعة .. أمومة لم تختارها الأم وطفولة ما تخيرتها الطفلة ..
تكررت عمليات الاغتصاب ..فقدت الاشياء معانيها تجاة أحلام الغد الغضة.. ماتت أحلام الزواج بأفراحه وزينته، وأهازيج الأتراب، وقبلة الأم، وابتسامات الأب الشامخة برسالة أكملها ..
وعادت الحياة تابوتاً مستطيلاً لا مكان فيه للحياة: (بعد أن فقدت كل شئ طالبته بالزواج لكنه رفض..طلبت منه أن ننتقل من المعسكر الى إربا لاننى حبلى فظل يرفض حتى وضعت طفلتى)) تحركت أصابعها فى بطء نحو كوب الماء ، وكأن عقلها الباطن أضحى يحاذر الإقتراب من كل مورد ، حتى وإن كان الكوب.
لم يكن مصير الأخريات أفضل من مصير «د.م.س»: ( ذات مرة التقيت بإحدى النساء داخل المعسكر، ووصفت لى اثنين من صديقاتى، وعلمت أنهن لسن أفضل حالاً منى)).
تواصل الفتاة قصتها مع المعاناة وتقول أنها التقت أحد السودانيين داخل المعسكر ربما كان يعمل بإحدى المنظمات وربما أنه زائر كان فى وجهه ما يحدثها أنه المخرج .. بعد عدة لقاءات عرف قصتها ووعدها بالإتصال بمنظمة عالمية طوعية. وبعد انتظار طويل زارها ذات يوم رجل قدم نفسه كمندوب للمنظمة، ووعدها بأنهم سوف يعملون على حمايتها لحين إعادتها إلى أهلها مع طفلتها .وبعد عدة أيام نجحت المنظمة فى نقلها وطفلتها الى مدينة ابشى.. كان ذلك خلال أكتوبر من العام المنصرم ثم رتبت المنظمة إسكانها مع إحدى العاملات بالمنظمة من نساء المنطقة ..
الصبيَة لا تزال تتعامل ببراءة الاطفال رغم طفولتها المسلوبة. قالت إن بعض موظفى المنظمة حذروها من الإتصال بالقنصلية السودانية .. قالت أنها لم تكن تعرف شيئاً إسمه القنصلية ..وذات يوم تعرفت بأحد السودانيين: ( ربما أنه يعمل معلما .. لا أدرى بالضبط لكنه كان ودوداً معى .. أخبرته بأن موظفى المنظمة قالوا أنهم سوف يعيدوننى إلى أهلى ..لكنهم حذرونى من الإتصال بشئ اسمه «القنصلية» تواصل الفتاة حكايتها (طمأننى الاستاذ وقال أن القنصلية هى دار كل السودانيين وأنها موجودة لحل مشاكلهم ).
الحيرة والإنتظار وكل ويلات الظلم الأرمد لم يطفئ بقايا نظرات بريئة تتوهج أحياناً فى أعين الصبيّة..تنظر الى طفلتها فتغرورق عيناها بالدموع .. هل تفرح بأنها أم ؟ ..هل تذكرها الطفلة بالليالى الحالكة التى كانت تتواصل دون فجر ؟ ..هل تعود إلى أسرتها أخيراً؟ هل تساهم السلطات السودانية فى تلك العودة عبر قنصليتها التى هى آخر من يعلم ؟.. وهل تتوقع الفتاة التى سرقوا حياتها وحيائها وبراءتها ان تشاهد « أ.أ.ج» يمثل امام العدالة ليلقى جزاءه؟ ..وأين الأخريات ؟..وكم وحش آدمى سرق براءة طفلة ثم لاذ بمعسكرات اللاجئين، او معسكرات المتمردين؟.. أو أن المنظمات المشبوهة وضعته تحت عباءة عالميتها ووفرت له الحماية؟ أو نصب نفسه قيادة سياسية متمردة ، وطفق يشنف أسماع الوسائط الاعلامية بمقولات حقوق الانسان ؟
ت
وفجأة غام الصوت فى جب عميق من الحزن، وكأنما انقطع الإرسال فجأةً ..لحظات من الصمت شاخ خلالها وجه الصبيّة، وشاخ صوتها، وانبتر سياق الحلم الندى أمام الكابوس ..كابوسُ تغالبه ليندثر فى غيابات النسيان فيغلبها: ( ليس مألوفاً أزيز السيارات فى تلك المنطقة .. قد تأتى عابرةُ من بعيد.. إنها الآن تقترب منا فجأة وكأنها كانت تختبئ خلف الشجيرات تبحث عن طريدة ..لقد كنا الطريدة).. مجموعةُ من الملثمين ترجلت من السيارة وكانت تبدو كالأشباح.. لم تملك الصغيرة التى ربما أكملت عامها الرابع عشر، وربما حوله، شأنها شأن الأخريات أن تتذكر عدد الملثمين .. إتجهت أبصار الصغار تلقاءً سيارة اللاندكروزر .. الملثمون يثبون منها فى فرح الذى ظفر بالغنيمة ..(رفع أحدهم كلاشه فى وجوهنا .. أعرف الكلاش جيداً وهو معروف فى مناطقنا لكننى لم اعتاد أن يُرفع فى وجهى) .. كانت «د.م.س» أكبر سناً من الصبايا وكان اترابها عزّل إلا من عصى يهشون بها على الدواب..
هجم النمر .. هجم النمر
لحظات قاتلة وألفى الصبية أنفسهم معصوبى الأعين .. تكدس بعضهم بمؤخرة السيارة وجزء آخر بمقصورتها الوسطى ..تحركت السيارة وأشعل أحدهم سجاراً سعل على اثره اكثر من صبى .. لقد كانت الوجوه مقتربة بما يكفى .
ومضت السيارة فى طريق شاجرٍ بالوحل والرهق والوحشة، وكانت تتوقف على مسافات مختلفة حتى ينال المسلحون قسطاً من الراحة ويتناولون الطعام: ((حذرونا منذ البداية أن من يصدر صوتاً سوف يكون جزاؤه .. الموت كانوا ينزلون من السيارة ولا يسمحوا لنا بذلك، وعندما تململ أحد الصبية عرفت أنهم أوثقوه ثم وجه له أحدهم عدة لكمات).. وتسترسل الصبيّة «د.م.س» قائلة أن الخاطفين كانوا يسمحوا لهم بقليل من الماء، ولا يغادر أحدهم السيارة إلا لقضاء الحاجة تحت مراقبة أحد الرجال: ((صفعنى أحدهم صفعة تأثرت بها أذنى لعدة ايام، وحاول أحدهم ضرب صبى بجسم صلب فأخطأته الضربة وأصابتنى فى ظهري حتى كتمت انفاسى)).
مر الليل على الصبية كقبر فى بئر غائرة العمق.. لا فرق عندهم بين الليل والنهار .. لا فرق بين النوم والاغفاء .. بين الصحو والاغماء.. احساس بأن العالم توقف داخل خيالاتهم الغضة..
أين مضوا.. ؟
وفى جانب آخر من المسرح كان ثمة حزن ضرير يمسك بتلابيب قرية كانت هادئة حتى الأمس القريب.. دموع الأمهات، وزمجرة الآباء المكتومة، وغضب الرجال الرشيد هى كلما تبقى..إقتفوا الأثر.. سألوا الراكبين والراجلين على حد سواء.. سألوا الشجيرات ودواب أبنائهم المسرجة وقد هامت على وجوهها فى حرية لم تختارها..سألوا الماء المتدفق من مضخة المحارك، وسألوا الشجيرات عن صغيرات وصغار كانوا أكثر نداوة من الأصباح. سألوا فلم يجدوا غير آثار إطارات السيارة الملعونة، وثمة أعشاب برية ما تزال مثقلةُُ بأحذية قاسية.. عاد الفزع ملتاعاً يراوح بين الحسرة والغضب..كفكفوا دموع الأمهات غير أن جرح الدواخل يظل عصىِّ على الضمادات..
إستيقظ الصبية على صخب غير عادى، وطالبهم صوت أجش بالترجل من السيارة داخل معسكر طولوم للاجئين : ((من يتحدث عن أى شئ سوف أقطع لسانه )) صوت مثقل بالحقد ليس فى ثناياه رحمةً . واخيراً تفرقت بهم السبل ..
الليل الارمد على الباب
ألفت «د.م.س» نفسها وحيدة داخل كوخ لا تتجاوز مساحته الأمتار التسعة .. كان ظهرها ما يزال يؤلمها إثر ضربة بآلة صلبة، وثمة كدمة أسفل عينها اليسرى، وفى اذنها طنين لا تدرى إن كان من جرّاء الصفعة أم من رهق الرحيل المر.. ربما كانت الاوفر جمالاً والاكثر نضجاً بين رصيفاتها.. قد تكون تلك نعمة فى مسارات الحياة وشعابها الأخرى بالنسبة لأمثالها، لكنها نغمة فى معسكر طولوم الواقع بمنطقة إربا شرقى تشاد ..
(كانوا قد أزالوا العصابات من أعيننا يوم وصولنا المعسكر، لكننى ظللت محبوسةً داخل ذلك الكوخ لمدة يومين ..كان أحدهم يدفع إلىّ بالطعام والمياه، ولم أكن أستشعر حاجةً للطعام ..لكننى كنت أتناول بعضه تحت وطأة الجوع .. وعلى أمل أن أعيش عسى أن أنضم لأسرتى ذات يوم ..هل تعتقد أنهم سيعيدوننى إليها؟) ..
كانت الكلمات تخرج من فم الصبيّة على نحو آلى دون أن يختلج لها جفن وكأنما استنفدت كل طاقات الحزن والغضب فى ذاتها ، فيما عدا تساؤلها الأخير حول الأسرة والعودة ، فقد حمّلته من الضراعة والتوسل ما ينفطر له الصخر ..
بعد عدة أيامٍ دخل كوخها ليلاً «أ.أ.ج» وحدثها بأنه المسئول عنها وأن عليها أن تطيع ما يأمر به وانه سوف يعود اليها ليلاً بعد ان يقضى بعض الأعمال .. حدثتها دواخلها بأنها على أعتاب الساعة الأكثر سواداً فى تاريخها .. تذكرت أسرتها.. كانت قد سمعت بما يحدث فى مثل تلك الاحوال .. (المختطفون ليسوا بشراً لكنهم وحوشُُ فى زي بشر) .. كم ترددت مثل تلك القصص أمامها بين أترابها وكم سرت رعدة الخوف فى أوصالهن رغم إدراكهن أنها محض أساطير، أو ربما قصص الكبار التى تهدف لإخافة الصغار حتى يأخذوا حذرهم.. لكن نظرات الرجل وهو يتحدث عن عودة وشيكة لم تكن أسطورة.. حدثها قلبها أنها على موعد مع الوحش .. القلب تحدث لكن الزند الضعيف أعجز من أن يحمى الكرامة المهدورة .. فكرت فى أسرتها .. فكرت فى الهرب..تمنت الموت قبل أن يلطخ شرفها وشرف أسرتها ذلك الوحش ..وفجأةً دخل «أ.أ.ج» ( لقد فقدت إحساسى بالحركة، ثم فقدت الوعى لا أعلم هل نمت أم فقدت الوعى ..وعندما أدركنى الوعى علمت ان كل شئ قد انتهى.. كان الافضل أن يقتلنى) كانت الصبيّة تتحدث بصوت قادم من صدرها وكأنما المتحدث شخص آخر إحساس قاتل بالحسرة يلف المكان والفم الجاف يتلمظ بعسر ما يبلل فظاظة التفاصيل.. كانت طفلتها التى قاربت سنها العامين تشاغل شعر الأم فى وداعةً لا علاقة لها بسواد الماضى أو انسداد المستقبل: (( كانت تلك هى النتيجة ..هذه الضحية ..هذه الطفلة)) أومأت إلى طفلة تبدو ملامحها انقى من حليب الأم .. أنها تجهل ما حدث..
ثمة دمعة تحدرت على وجه طفلة العامين ففركت وجهها بعصبية ثم انصرفت الى مداعبة الوجه المغضن حزناً فى وداعة .. أمومة لم تختارها الأم وطفولة ما تخيرتها الطفلة ..
تكررت عمليات الاغتصاب ..فقدت الاشياء معانيها تجاة أحلام الغد الغضة.. ماتت أحلام الزواج بأفراحه وزينته، وأهازيج الأتراب، وقبلة الأم، وابتسامات الأب الشامخة برسالة أكملها ..
وعادت الحياة تابوتاً مستطيلاً لا مكان فيه للحياة: (بعد أن فقدت كل شئ طالبته بالزواج لكنه رفض..طلبت منه أن ننتقل من المعسكر الى إربا لاننى حبلى فظل يرفض حتى وضعت طفلتى)) تحركت أصابعها فى بطء نحو كوب الماء ، وكأن عقلها الباطن أضحى يحاذر الإقتراب من كل مورد ، حتى وإن كان الكوب.
لم يكن مصير الأخريات أفضل من مصير «د.م.س»: ( ذات مرة التقيت بإحدى النساء داخل المعسكر، ووصفت لى اثنين من صديقاتى، وعلمت أنهن لسن أفضل حالاً منى)).
تواصل الفتاة قصتها مع المعاناة وتقول أنها التقت أحد السودانيين داخل المعسكر ربما كان يعمل بإحدى المنظمات وربما أنه زائر كان فى وجهه ما يحدثها أنه المخرج .. بعد عدة لقاءات عرف قصتها ووعدها بالإتصال بمنظمة عالمية طوعية. وبعد انتظار طويل زارها ذات يوم رجل قدم نفسه كمندوب للمنظمة، ووعدها بأنهم سوف يعملون على حمايتها لحين إعادتها إلى أهلها مع طفلتها .وبعد عدة أيام نجحت المنظمة فى نقلها وطفلتها الى مدينة ابشى.. كان ذلك خلال أكتوبر من العام المنصرم ثم رتبت المنظمة إسكانها مع إحدى العاملات بالمنظمة من نساء المنطقة ..
الصبيَة لا تزال تتعامل ببراءة الاطفال رغم طفولتها المسلوبة. قالت إن بعض موظفى المنظمة حذروها من الإتصال بالقنصلية السودانية .. قالت أنها لم تكن تعرف شيئاً إسمه القنصلية ..وذات يوم تعرفت بأحد السودانيين: ( ربما أنه يعمل معلما .. لا أدرى بالضبط لكنه كان ودوداً معى .. أخبرته بأن موظفى المنظمة قالوا أنهم سوف يعيدوننى إلى أهلى ..لكنهم حذرونى من الإتصال بشئ اسمه «القنصلية» تواصل الفتاة حكايتها (طمأننى الاستاذ وقال أن القنصلية هى دار كل السودانيين وأنها موجودة لحل مشاكلهم ).
الحيرة والإنتظار وكل ويلات الظلم الأرمد لم يطفئ بقايا نظرات بريئة تتوهج أحياناً فى أعين الصبيّة..تنظر الى طفلتها فتغرورق عيناها بالدموع .. هل تفرح بأنها أم ؟ ..هل تذكرها الطفلة بالليالى الحالكة التى كانت تتواصل دون فجر ؟ ..هل تعود إلى أسرتها أخيراً؟ هل تساهم السلطات السودانية فى تلك العودة عبر قنصليتها التى هى آخر من يعلم ؟.. وهل تتوقع الفتاة التى سرقوا حياتها وحيائها وبراءتها ان تشاهد « أ.أ.ج» يمثل امام العدالة ليلقى جزاءه؟ ..وأين الأخريات ؟..وكم وحش آدمى سرق براءة طفلة ثم لاذ بمعسكرات اللاجئين، او معسكرات المتمردين؟.. أو أن المنظمات المشبوهة وضعته تحت عباءة عالميتها ووفرت له الحماية؟ أو نصب نفسه قيادة سياسية متمردة ، وطفق يشنف أسماع الوسائط الاعلامية بمقولات حقوق الانسان ؟
ت