المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتبت نائلة خليل



سمل الحلفاوى
01-11-2005, 08:07 PM
قد يكون هذا العنوان محاكاة منسوخة عن عزلة "ماركيز"، ولكن رام الله هي مسرح فصول هذه العزلة المأساوية وليست أمريكا اللاتينية ــ موطن ماركيز.
الكاتب اللاتيني إخبار عنوان روايته المشهورة "مائة عام من العزلة"، ولكن حليمة الفلسطينية أرغمت على عزلتها التي مضى عليها ستة وعشرون عاما كانت كفيلة بنزع كل ما هو مشرق وإنساني من عيون من يختلس النظر لسني عمرها الممزوجة بالوحدة والألم.
"حليمة الكفيفة" كما ندعوها في بيت المسنات تمييزا لها عن باقي نزيلات الجمعية، المرأة التي تفتقد حواسها الثلاث السمع والنطق والنظر، وتمشي في ممرات الطابق الثاني ــ حيث غرفتها في الجمعية ـــ معتصمة بالجدران دليلا ورفيقا لبلوغ الحمام والمطبخ وصالة الجلوس.
حليمة التي تغرق في عالمها الخاص منذ سنوات طويلة، تأتي الى المطبخ وفي يدها غطاء رأسها، تتلمس الطاولة والموقد قبل أن تستدل على"المجلى"، تسكب في يدها القليل من سائل الجلي بعناية، قبل أن تذهب الى حمامها الخاص وتغسل غطاء رأسها وتثبته على شباك غرفتها ليجف.
تثير دهشة جميع العاملات في الجمعية وهن يشاهدنها تخيط ملابسها، بعد أن تسحب "سلكا معدنيا من منخل الشباك" لتخيط به ملابسها على مهل وبهدوء وبإتقان فظيع.
المرأة التي تنتحب بمرارة وهي تمشي في الممرات ليلا، ربما تكون مصابة بقلق أو وجع، لكن لا أحد يستطيع اختراق عزلتها الإنسانية التي تفتقد لحواس التعبير ليعرف شكواها التي تحرمها لليال كاملة من النوم، لتقضي ليلها بين الأرق والصراخ، فكثيرا ما تستيقظ المسنات على شجار وهمي تديره حليمة من على سريرها ضد مجهولون يضربونها وتصرخ لتدافع عن نفسها قبل أن تستسلم لنوبات من البكاء والصراخ غير المفهوم.
هذه السيدة التي دخلت عقدها السادس ولدت في عالم من الصمت منذ الولادة، فاقدة لحاستي السمع والنطق، تكفّل زوجها في إدخالها لعالم الظلام بعد أن ضربها على عينيها وحرمها أولادها، لتستقر في جمعية المسنات منذ26 عاما، بعد أن أصابتها حالة نفسية سيئة.
ملف الشؤون الاجتماعية بأوراقه الصفراء التي إهترأت بتقادم الزمن، يوّثق أن حليمة حضرت من قرية "عين عريك" إلى بيت المسنات في الثاني من تشرين الثاني عام 1978، بعد أن أصابها اضطراب نفسي مفاجئ.
نتيجة حرمانها من طفليها وهروب زوجها بهم إلى الأردن.
الملف يذكر أن حليمة "تتمتع بصحة جيدة، وتستطيع أن تعتني بنفسها، وتذكر مرشدة الشؤون الاجتماعية كما سمعت من أهالي القرية أن سبب الاضطراب النفسي الذي تمر به حليمة مرده إلى فقدانها نظرها وحرمانها من طفليها".
تقول عايشه مطر وهي مشرفة جمعية المسنات منذ 28 عاما: "عندما حضرت حليمة برفقة موظفة الشؤون الاجتماعية منذ(26 عاما)، كانت امرأة قوية البينة وجميلة، كانت تشير لنا على بطنها أنها أنجبت طفلين، الكبير بعمر تمكنه من المشي، والصغير بعمر الرضاعة".
وتضيف: "حاولت أن تفهم الجميع أن زوجها كان يضربها لدرجة أفقدها نظرها قبل أن يهرب بالطفلين مع زوجته بعيدا".
وتمضي: "السنوات الأولى لها في الجمعية كانت صعبة للغاية، عندما تذكر طفليها كانت تصرخ وتضرب بطنها بشدة، وتمزق ملابسها، كانت قوية جدا لدرجة أننا كنا نقترب منها بحذر لتهدأ".
وطوال تلك السنوات والقائمين على الجمعية يجزمون أن حليمة لا يوجد لديها أي أقارب بعد وفاة والديها، وكذلك تؤكد العاملات أن حليمة "مقطوعة من شجرة".
لكن الملف الذي منحه الغبار لونا بعيدا عن لونه الأصلي، يذكر بين أوراقه القليلة شيئا ما عن أخ من والدها، وعن زوجة أب وطيف لعائلة، لكن بما أن كل هذه السنوات لم يأت للجمعية من يسأل عنها من قريب أو بعيد، ترسخت الفكرة أن حليمة لا تملك عائلة، وأنها فعلا "مقطوعة من شجرة".
وتذكر خوله جلاجل مديرة جمعية الاتحاد النسائي أن "هناك زائرا واحدا جاء إلى زيارة حليمة طوال فترة تواجدها في الجمعية، كانت هذه الزيارة منذ أربع سنوات، وتحديدا قبل اندلاع الانتفاضة بشهور قليلة، عندما جاء إبن أختها عفيفة المقيمة في الأردن، ليسأل عن خالته ــ حليمة ـــ بناء على طلب والدته".
وتتابع: "كان مشهدا مأساويا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حضر الشاب وبدأ يلمس يديها ويعرّف على نفسه بأصابعه ويديه، عرفته حليمة وأخذت تبكي، سألته عن طفلتها التي كانت ترضع على حضنها عندما أخذها زوجها منها قسرا، أجابها بلغة الإشارة، أنها ماتت وهي صغيرة، حينها علا صراخها ونحيبها وأخذت تضرب على وجهها، وبعد جهد في مواساتها سألته عن إبنها "عيسى"، أجاب أنه أصبح رجلا وتزوج، ولأول مرة تزغرد حليمة بصوت مبحوح وتضحك، إنها ضحكتها الوحيدة منذ دخلت بيت المسنين، وعندما سألته عن الرجل الضخم صاحب الشوارب الكثة ــ زوجها ــ ، أجابها أنها قتل في حادث سيارة في الأردن منذ سنوات، تبتسم حليمة وتهدأ".
وتعلق جلاجل بأسى: "كانت الزيارة الأولى والأخيرة، ووعد الشاب الذي أخذ صور حليمة ليريها لوالدته، أنه سيعود في أقرب وقت ممكن، كان هذا منذ أربع سنوات ولم يأت أو يتصل هاتفيا ليطمئن عليها منذ ذلك الحين".
ومنذ ثلاث سنوات وحليمة تعاني ألام فظيعة بسبب ألم في المرارة، تتألم وتنتحب بصمت وبغضب أحيانا، فالمسكنات والأدوية لم تعد قادرة على مهادنة الألم، جسدها مريض، ونفسيتها في إنحدار متواصل، تبكي وتشكو، لكن من يستطيع أن يترجم هذا الغضب؟.
هذه المرأة ليست بحاجة إلى أدوية بمقدار حاجتها إلى الحنان والحب، وان تشعر أن على هذه الأرض من يأتي ليتفقد عزلتها ويواسيها على فجيعة الفقدان التي أطاحت بكل ما تملك في الحياة.
أذهب إلى قرية عين عريك، لا أملك سوى إسم عائلتها، أريد أن أيحث عن طيف يدلني على قريب أو جار لأصل إلى عنوان أختها في الأردن.
في السيارة، اتعمد الجلوس قرب إمرأة مسنة، ربما تسعفني بذاكرتها... أدير معها برفق حديث عابر، قبل أن أسألها عن حليمة... تتذكر المرأة وتقول: "هذه قصة قديمة من أكثر من 25 عاما"، وتمتنع عن الحديث.
أحاول مرة ثانية، فأنا أريد أن أعرف لمصلحتها، وتسأل المرأة بإندهاش: "هل ما زالت على قيد الحياة؟"، أجيبها نعم.
وتذكر بعد أن رفضت ذكر اسمها: "بعد أن تجاوزت حليمة 25 عاما من العمر، جاء رجل ليتزوجها، كان من منطقة أريحا وقد تجاوز الستين من عمره، يومها بكيت بمرارة، فهي جميلة ومسكينة وهذا الرجل من عمر والدها وهو متزوج ولم يرزق بأولاد".
وتوضح: "كانت تأتي لزيارة عائلتها ومعها طفلها عيسى، لم يكن يتجاوز الثلاث سنوات، حينها، وبعد فترة علمنا أنها فقدت نظرها وأرجعها زوجها الى عائلتها في عين عريك، وأخذ طفليها بعد أن ضربها على رأسها وهرب الى الاردن... لقد تزوجها ليحصل على الأولاد".
تدلني المرأة على بيت أخ حليمة إن كنت أريد المزيد من المعلومات، تغادر السيارة بعد أن تطلب من السائق أن يوصلني الى بيت ذلك الأخ.
أدخل الى البيت ومقابل مقعدي أرى صورة رجل عجوز على الحائط، أحدث نفسي "إنه والد حليمة" ، إذن أنا في المكان الصحيح، الشبه كبير ودم القرابة يفضح ويشي بالحقائق فقط.
كان الأخ لا يزال في عمله، ولم يكن في المنزل سوى زوجة والد حليمة، إضافة إلى زوجة الأخ، وإحدى الجارات.
أسأل زوجة الاب التي تناهز السبعين عن حليمة وتقول: "لقد تزوجت وانجبت طفلا، وفقدت بصرها فأعادها زوجها الى بيت العائلة مجددا".
ولا تجيب عن سبب فقدان حليمة لبصرها سوى أن "والدها أخذها للطبيب في القدس الذي ابلغه أن الشبكية في كلتا العينين قد دمرت، ولا توجد عملية قادرة على إعاة النظر إليها من جديد".
أسأل: هل تعرضت لحادث ما، حتى تفقد بصرها؟ وتجيب العجوز: "لا أعرف"!
تتدخل جارة العائلة وديعة التي جمعها معها المكان منذ أكثر من "50 عاما" في الحوار وتقول: "الأخوات الثلاثة حليمة وعفيفة وآمنة كن على درجة من الجمال، لكن حليمة وعفيفة كانتا لا تستطيعان الكلام والسمع منذ الولادة، ومع ذلك كانتا على درجة عالية من الذكاء. أما حليمة فكانت تنسج الصوف ببراعة لعائلتها وجيرانها، وتساعد في اعمال منزلها وتساعد الجارات أيضا بحيوية ومهارة".
وتتابع: "بعد أن فقدت نظرها وحرمت من طفلها، أصابتها صدمة، وأصبحت انسانة غاضبة وتضرب من يقترب منها، وتخرج من البيت لتمشي بين الأشجار ليلا وهي تبكي، بعد ذلك بفترة قصيرة أخذها أخي الى جمعية كي تقوم برعايتها حيث كان والداها كبيران في السن ولا يستطيعان العناية بها".
أختم حديثي في منزل الأسرة بسؤال: "لماذا لا تزورون حليمة؟"... لا أجد أي إجابة من قبل زوجة الأب وزوجة الأخ، سوى قول: "سنزورها يوما ما".
هذه هي قصة حليمة التي تعرضت لعنف جسدي أفقدها نظرها، ولعنف إنساني أكبر حرمها أمومتها.
نعم هناك إمرأة اسمها حليمة تأثث عزلتها بالصمت، وأحيانا بالغضب الذي أصبح حاستها المفقودة، تجاه الظلم الذي لحق بها.
نعم هناك إمرأة اسمها حليمة حنونة ودافئة، تستيقظ ليلا لتغطي المسنات، وتملأ أباريقهن بالماء.
نعم هناك إمرأة اسمها حليمة تعيش في جمعية للمسنات في رام الله عاصمة مؤتمرات "الجندر" وجمعيات حماية المرأة والخط الساخن، تعيش عزلتها ولا تعرف عن يوم واحد للمرأة والأم التي لم ينجح غبار السنين القاسية الطويلة في محو ذكرى طفليها... تتحسس جسدها لتتفقد ولديها لكنها دائما تجده ناقصاً... فتجهش بالبكاء.
العنوان يحاكي العنوان لكن عزلة ماركيز في رائعته المشهورة لا تضاهي عزلة روح لا تزال تانبض بشغف حب وحنان غائبين عن حجرة في الدور الثاني من بيت المسنات في رام الله تحتضن سيدة اسمها حليمة منذ 26 عاما