المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شجـــــــــــــــــــرة ا لحــــــــــــــــــراز



سمل الحلفاوى
01-11-2005, 08:47 PM
.... سارا و ميرى صديقتان التقتا في ناحية أم بارونا التي ترقد بدل على أعطاف
الأزرق المختال الثائر عند مدينة الجمال و الفن و الثقافة ود مدني . و كانتا تذهبان في أمسية الأحد ليسمعان أنين الطبول ورنينها وضجيج الترانيم العالية . كل شباب الحي يبتهجون بهذه الأمسيات و غيرها . و ما إن تنقضي هذه الأمسية إلا و إن يتهيأ الناس للأمسية التي تليها و هي أمسية الاثنين لترتفع أصوات الطبول المدوية مع رنات الأقراص النحاسية فتكسي الضفاف بروح الصوفية الرائعة مع ترانيم المسيح . و عندها يزداد لون البدر لجينية وبياضا . كعادتيهما يذهبان و هن لم يزلن في الثامنة عشرة من ربيعيهما . فلا يخلو الساحل من مرتادي الهيام و الحب .كانت أشجار الحراز تنتشر في غابات السنط . فهو مثل ذلك الخليط ألذ ي جمع سارة بميرى . اختارتا شحرة الحراز من بين جميع الأشجار المتناثرة هنا و هناك . علقتا احلاميهما بتلك الثمرات العقيقية النونية الشكل . فيكتبان احلاما شبابية مع سماع تلك النغمات مع تدلي الثمرات . فينساب النسيم علوي الحس ناعم الأطراف بارد الجريان. ذلك هو نسيم الشتاء الشمالي و هو في أوله فترى شجرة الحراز وهى في هذيانها التناسلي كراهبة تبدلت بها الأحاسيس و الأحوال فتسمع لها وشوش كأنه صوت الحلي فما أشبه تلك الثمرات بلون الحلي العقيقية .فتتساقط تلك الثمرات محدثة بعض البسمات لسارا و ميري وهن يخططن بأصابع حريرية على متن الرمل الاخشن , وبعدها تحدث زعزعة مع المداعبة و تنطط الغزلان . ولكن برهة يسكن الضجيج المكان ويحل الهدوء إلا إن هناك صوت كصوت الخلاخل , يجعل سارا سارحة البال وهي تحرك أصابعها لتلمس آخر ثمرة سقطت من رحم أمها للتو . و لكن ميري تتبعها بصمت يشبه صمتها و لكنها تتلفت كالمرتاعة الخائفة . فتهمس بلهجتها العربية المخلوطة باللهجات الأفريقية مما يجعل لسانها له عذوبة و حلاوة .
ماذا جرى يا سارا ؟! . فتسند سارا نصف قامتها و رأسها علي جزع الحرازة الضخم فتمسكها بكلنا يديها و هما وراء ظهرها . وشيءً فشيءً تنزاح شفتيها عن أسنانها البيضاء التي تشبه الدر تصقع من رآها وتجعل من داوم عليهما هائم متيم .
ثم تتحرك شفتيها السمراوين كأسنان الأقلام المرتعدة التي لا يسطاع ألامساك بها
من فرط تررد و صيغة الأفكار . فتنظر " ميري" مندهشة اندهاشة من ينظر إلي
صورة حلوة يتوقعها إن تكتمل . و لكنها تتمتم فتقول ما لا يكتب و ما لا يسمع إلا
شخبطة و همس . ثم تجمع كلتا فخذيها إلي جسدها الممشوق المعتدل الذي لا ينم عن فتاة في الثامنة عشرة . فتجلس القرفصاء ثم تنكفيء بخدها على ركبتيها . و باصرتاها ممدودتان في الأفق الفسيح , فمرة تستقر على أمواج النيل الهادئة و مرة
على تحركات السماكين و قواربهم . و مرة أخرى تناديها "مسرى " و هي كدرويش هام في قاع إيقاع الطبول فلا صياح يوقظه و لا سياط تؤلمه بل يزداد جنونا أو هذيان . فتغير " سارا " جلستها ثم تبطح فخذها الأيمن على الرمل و الآخر من فوقه وتتكيء علي يدها اليمنى . وبعد طول انتظار تنفرج شفتيها عن كلمات محسوبات : " تذكرت سنوات صباي القريبة تحت هذه الشجرة " . و تعاود
" ميرى" و تلح بالسؤال : " وماهي سنواتك تلك ؟!" فتجب "سارا " بعد إمعان
في الذاكرة , سنوات المدرسة في دروس الجغرافيا و هي أناشيد جميلة عن صديقنا
" الصديق " و صديقنا " منقو " , و الذاكرة ملىء و ما تزال توافيني بهذه الصور
البديعة . و لكن " ميرى" لم تدرس هذه الأناشيد في الكنيسة أو مدارس الكمبوني .
فتواصل " سارا " لكن كان أستاذنا " علي" يدرسنا هذه الدروس و كان يجيد دور
كل صديق فقد كان خفيف الظل لطيف سريع البديهة و فوق ذلك كله كان فنانا يرسم بأصابعه وأسنان أقلامه . كل لوحة جميلة فقد أهداني مرة ورقة وجدتها على
طاولته مرسوم عليها شجرة عتيقة ضخمة ذات ثمار في شكل أقواس و لها بذور
بداخلها لكن لم يلونها و كان تحتها أصدقاء يتسامرون و القمر يطل عليهم متسللاً
من بين الأغصان . و كانت أغصانها رمادية اللون و لكنها غير مخضرة لقلة وريقاتها و كان الذين تحتها يلبسون معاطف ويلفون رؤوسهم . فقال: " لي يا
سارا أراك منتبهة لهذه الورقة _ و كان يصحح لي دروسي_ التي رسمتها"
فقلت له بأدب جم و أنا حانية رأسي : " يا أستاذي لي ملاحظات عن هذه الورقة
التي بها هذه اللوحة الجميلة , كيف يلبس من بتحت الشجرة معاطفهم و هذا يعني
إن الفصل شتاء و لكن في الشتاء الأشجار لا تورق بل تفقد أوراقها ؟." فابتسم
أستاذي وقال لي :" انك تلميذة ذكية و لك ملاحظات ذكية , لذا أنا سأعطيك هذه
اللوحة تذكارا مني و أتمنى لك مستقبلا زاهرا ." و منذ ذلك الوقت تريني اهتم
بشجرة الحراز و أهيم بها . فتتبسم "ميرى" بسمة جميلة ساحرة تسحر الذين يهيمون
ببسمة بيضاء ترتسم على وجه كاكاوي جميل السمرة . فتنطق بكلمات تعني العشق
و الوله من "سارا" بأستاذها . لكن "سارا" جيدة التحاور و ملكتها فيه قوية . فتجيبها
بكل ثقة . إنني أهيم فيما رسمه أستاذي من معنى يختبيء خلف هذه اللوحة . و لا انكرانني كنت معجبة به لأشياء في شخصه و شخصيته المتفردة كمدرس في محتوى فكره . و في ذات ليلة من تلك الليالي التي كنا نقضيها هنا تحت هذه الشجرة جاء أستاذي فجلس تحتها و اخذ يراقب الأفق و النيل من حولها و ما تدفق من ترانيم و أناشيد فاخذ يكتب بأصابعه على الرمل تلك الأناشيد التي كان يدرسها لنا في المدرسة.
وقبل إن يغادر كان ينظراليها من علٍ و هو واقف . ثم بعد ذلك قطعتُ عليه وحدته
و أطلقتُ عليه السلام . فرد السلام بكل أدب و احترام ولكن لشدة ذكاؤه لم يندهش
كثيرا و قال لي :" الست أنت سارا ؟" فابتسمت ثم حسرت رأسي و أنا على بعد منه
" نعم أنا سارا , أتيت عندما وجدتك هنا و أتيت لأعرف من كثرة فضولي ما الذي
أتى بك إلى هنا مثل فضولي من سنوات عندما أخذت انظر إلى لوحة شجرة الحراز
و سألتك عنها " فضحك ضحكة هادئة منخفضة تدل على الارتياح , نعم أنها هي
شجرة الحراز التي رسمتها و هذه هي القصيدة التي أخذتموها في ذلك اليوم و أشار
إلى الرمل قرب قدميه . بعدها أطرقت طويلا . ثم تكلم هو و قال : " انك تحبين هذا
المكان , أليس كذلك ؟" فقلت له :" نعم أحبه و ساحبه بعدما تعرفت إلي حقيقة اللوحة و هي ما تزال عندي انظر إليها كل يوم و لم استطع إن أتخيلها حقيقة حتى رأيتها و لكنني سأحتفظ بهذه اللوحة في دولابي الخاص بي و إن ضاعت من دولابي
فسأحتفظ بها في ذاكرتي . و سألني بنهم شديد : أتكتبين ؟ و هل النثر أم الشعر ؟
و لكنني رددت علية : اكتب قصاصات و خواطر لا ترقى لمستوى شاعر مثلك .
و كنت اعرف عنه انه يكتب الشعر و ألوانا أخرى من الأدب. ثم بعدها سمح لي
بالانصراف كما كنا في سني المدرسة و لم ينصرف إلا عندما انصرفت لصويحباتي
و عندها و من علي البعد رايته ينصرف و كنت مسرورة من هذه الوقفة مع أستاذي.
لم يكن يعدني باللقاء ثانية . و لكنني أحببت هذا المكان و أعتدت الإتيان إليه كل أمسية. ومرة أخرى تقابلنا في نفس المكان و قد أتيته في المرة الثانية و أنا مليئة بالخجل . و لكنه حس بذلك و جعل بذكائه اللقاء بيني و بين صويحباتي مليء بالفرح
و لكنه هذه المرة طلب مني إن نتقابل هنا في نفس الزمان فأصبح اللقاء بيننا بلا مهابة
خاصة من جهتي و علقت عليه آمال عراض . فهاج في نفسي شجن إلي روحه وشخصه لأنه كان يمزح معي كصديق و حبيب . و لكن لم تكتمل الفرحة ولم تمتد
طويلا حتى إذا جاء الموعد المضروب في المكان المحبوب و تقابلنا بمفردنا و كأنما
تبدو هذه المرة أخيرة . فرأيته يحمل حقيبة أنيقة و عندها جلسنا سويا و هو ما يزال
يكتب على الرمل تلك الأناشيد الجميلة و أنا يملأني الفرح و السرور. و بعد ما إن استفضنا في الحديث الطويل قال لي في نهاية اللقاء إنني مسافر هذه الليلة . فعلت
وجهي دهشة طويلة . و أصبحت و بسرعة كأنني لسيعة متوجسة من سفر الحبيب .
كأنني المتوجع الذي فقد اعز مايملك من مال و نفر. ثم بعدها انكت شفتاي بصعوبة
فقلت :" و إلي اين ؟ " قال لي و الابتسامة تعلو وجهه :" إلي ارض صديقنا " منقو"
حتى أرى أشجار الأبنوس و المهوقني و ستبقى شجرة الحراز في ذاكرتي و سأرسم
لها لوحات علي امتداد المواسم كلها . فقاطعته : " الم تعود مرة أخرى ؟ و لماذا
تذهب ؟ فقال : " أنت تعلمين إن الحرب قد شرّدت و قتّلت وهدمت بيوت وأنا سوف أذهب كمعلم اختاروني لأقوم بهذه المهمة في إصلاح ما تدمر من عقول قدر
الامكان . و من اجل صديقنا منقو . " و رغم إن هذه الغاية التي يسافر من اجلها
نبيلة إلا إنني سوف افقده . كأنني فقدت احد أفراد أسرتي العزيزة . لقد سافر أستاذي
العزيز " علي" و لربما قد ترك فراغا كبيرا في ذهني و حياتي . و دارت بيننا
الاتصالات عبر البريد المكتوب . فكنا نتبادل الرسائل المشوقة المزدحمة بالعبارات
الجميلة المنمقة . و لكن في فترة ما قد انقطع الوصل بيننا فخفت مما كنت أتوقعه فالحرب تدور رحاها مستعرة تقضي على كل شيء و هو في خضم المعركة . و لم يعد يوافيني بالأخبار عن تلك البقاع أو عنه . و مضى الوقت ليس كما مضى من قبل و السكون يخيم على حياتي . و في ذات يوم كان غريب الملمح كثير الغموض ملأت السحب الآفاق و تلبدت بها السماء . كان يوما رغم جمال منظره و حسه إلا إن إحساسي به لم يكن عادي . فخرجت منذ إن انقطعت عن الخروج لزمن إلى شجرة الحرز لحزني من بعد سفر أستاذي "علي" و كان الفصل خريفا و كعادتها وجدتها
تترآى لي كضلوع المريض الذي انهكه الجوع في قلب الصحراء و اللون الرمادي يدل على رماد الحريق و الحزن لوّن عيني و قلبي فاستعرت لونها الرمادي ليكحل عيني فانظر بهما إلى الكون . و جلجلة الطبول أصبحت بعيدة من نفسي كأنها في الأحلام . أرى الناس حولها و لكني لا أركز بسمعي و أنا استعير من الذاكرة بعض صوت أستاذي " علي" . فعدت إلى منزلي منهوكة متعبة . فحالما جلست في غرفتي
حتى جاءتني الوالدة و بيدها رسالة . فوقع نظري عليها بلهفة و تعرفت على الخط من خارج الرسالة . فعرفت انه أستاذي . و بسرعة مدهشه فتحت الظرف و قرأت :
" عزيزتي : سارا
لك تحياتي الخالدة و لك سلامي . لقد تبدلت الأحوال مما كنت أظن هنا يشتد أوار الحرب و الناس يتصايحون من اجل السلام و الطعام . و الأمطار تهطل طوال العام و شجرة الحرز التي بذرها الشماليون منذ وقت بعيد ما تزال هي تحارب
الأمطار و رغم حبي لها لا أستطيع إن اجلس تحتها المطر منهمر لأنها لا تقيني من البلل . لأنها لا ورق عليها و لا ثمر فهي خاوية كأحشاء من شردتهم الحرب الجائرة.
فكم كان حلمي إن نجلس تحت أشجار المهوقني أو الفواكه المنتشرة هنا و هناك .
و الأمطار تهطل , و لكن هيهات . لقد قابلت " منقو" لكنه عاتبني لأنني أتيت
متأخرا بعد ما إن مات أطفالي و زوجتي . و الآن هو كشجرة الحراز لا ينتظر
الهطول و أصبح خاوي الجوانب و الضلوع . روحه فقيرة كأغصانها . و طلب مني
إن ادرس التلاميذ شجرة الحراز بدلا عن " منقو" . و منذ ذلك اليوم يا سارا و أنا
هائم على وجهي . لذا تركت التدريس و عملت بالتجارة لن التلاميذ لم يعودوا إلى
فصول الدراسة . و في ذات يوم خرجت من المدينة لكي اشهد الطبيعة . فانفجر شيءٌ
احمر له لهب و السنة و على الدخان إلى السماء و لم ادري إلا إن وجدت نفسي في المستشفى وبعد سبعة أيام صحوت من غيبوبتي فوجدت رجلاي مبتورتان فعلمت أنها لعنة الحرب و حمدت الله على ما قدر و ها أنا ذا عاجزا كشجرة الحراز ليس
" منقو" لوحده . و لا انوي الرجوع إلى الشمال مرة أخرى ."
أستاذك : علي مع شكري . تمت.