المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بعد داك الحصل كدا وكدا وكدا



esmat
26-12-2005, 03:48 AM
الجزء الثالث من الرائعة (عرس الزين)
كل هذا لم يمنع سيف الدين أن يضع يده على أموال أبيه ، كل ما استطاع عمله أعماله وأخواله أنهم خلصوا نصيب أمه وأخواته ، وبقي لب الثروة في يده . هنا أيضا تبدأ حياة العذاب لموسى صديق الزين - موسى الأعرج - كما يسميه أهل البلد . طرده سيف الدين بحجة أنه لم يعد رقيقا . وأنه ليس مسؤولا عنه . وعاش سيف الدين بعد هذا حياة مستهترة . زاد في استهتارها توفر المال في يده . كان في سفر متواصل ، ومرة في الشرق ومرة في الغرب ، يقضي شهرا في الخرطوم وشهرا في القاهرة وشهرا في أسمرا ، ولا يجيء البلد إلا لبيع أرضا أو يتخلص من ثمر ، كان نوعا من الناس لم يعرفه أهل البلد في حياتهم ، يجافونه كما يجافي المريض بالجذام . حتى أقرب الناس إليه . أعمامه وأخواله لم يكونوا يأمنونه في بيوتهم ، فسدوا الباب في وجهه مخافة أن يفسد أبناءهم أو يفسق ببناتهم ، وفي إحدى زياراته المتقطعة للبلد وجد عرس أخته - فإن أهله كانوا يتجنبون حضوره لأفراحهم ولم يكن هو بطبعه يحضر مأتما . وكاد ذلك العرس ينقلب بسببه إلى مأساة . أولاً حادثة الزين . جاء الزين كعادته في مرحه وهذره ولم يكن أحد يأبه له . لكن سيف الدين لم يعجبه ذلك فضربه بفاس على رأسه وكادت المسألة تنتهي بالسجن . لولا تدخل العقلاء من أهل البلد الذين قالوا أن سيف الدين لا يستحق الوقت الذي ينفقونه عليه في المحاكم. ثانيا : كاد العريس يغير رأيه في آخر لحظة لأنه تشاجرمع سيف الدين أخي العروس ومرة أخرى تجمع العقلاء من أهل البلد ، بما فيهم أبو العريس ، وقالوا إن سيف الدين ليس منهم ، وأن حضوره العرس شر لا يستطيعون رده . ثالثاً : في الأسبوع الأخير في حفل الزواج انهمر على الدار عشرات من الناس الغرباء الذين لم يرهم أحد من قبل . نساء ماجنات ورجال زائغو النظرات وصعاليك ، وسفهاء جاؤوا من حيث لا يدري أحد . كلهم أصدقاء سيف الدين دعاهم لحفل زواج أخته . وهنا لم يجد أهل البلد بداً من القيام بعمل . قبل أن يستقر هؤلاء الضيوف في جلساتهم إذا بصف من رجال البلد يتقدمهم أحمد إسماعيل . ثم محجوب ، ثم عبد الحفيظ فالطاهر الرواسي ، فحمد ود الريس ، وأعمام سيف الدين وأخواله ، نحو من ثلاثين رجلا في أيديهم عصي غليظة وفؤوس ، أغلقوا الأبواب عليهم وأشبعوهم ضربا . وأكثر من ضربوا منهم سيف الدين . ثم ألقوا بهم في الطريق . وبينما البلد بأسرها تضج من ذلك البلاء الذي اسمه سيف الدين ، إذا به فجأة بعد ( حادث الحنين ) يتغير كأنه ولد من جديد .
لم يصدق الناس عيونهم بادئ الأمر ، ولكن سيف الدين أخذ كل يوم يأتي بجديد . سمعوا أولا أنه ذهب من صباحه إلى أمه وقبل رأسها وبكى طويلا بين يديها . وما كادوا يستجمعون أنفاسهم حتى سمعوا أنه جمع أعمامه وأخواله وأنه تاب واستغفر أمامهم . وأنه تأكيدا لتوبته أخرج ما تبقى من ثروة أبيه من ذمته ، وجعل عمه الأكبر وصيا عليها حتى يصير هو صالحا تماما لمباشرة مسؤوليته . كاد أهل البلد يعودون آذانهم على ذلك ، حتى رأوا لعجبهم سيف الدين يدخل المسجد لصلاة الجمعة ، كان حليق اللحية ، مهذب الشارب ، ونظيف الثياب ، ويقول الذين حضروا الصلاة أنه لما سمع خطبة الإمام ، وكان موضوعها البر بالوالدين ، أجهش طويلا بالبكاء حتى أغمي عليه ، وتجمهر حوله الناس يطيبون خاطره ، ولما خرج من المسجد ، ذهب من فوره إلى موسى الأعرج وقال له أنه أخطأ في حقه وطلب صفحة وقال له أنه سيبره كما بره أبوه . وعاشت البلد شهرا أو قرابة شهر وهي تلهث كل يوم من عمل جديد قام به سيف الدين عزوفه عن الخمر ، ابتعاده عن أصدقاء السوء ، مواظبته على الصلاة انصرافه إلى إصلاح ما فسد من تجارة أبيه بره بأ‏مه . خطوبته لبنت عمه . وأخيرا عزمه على تأدية فريضة الحج ذلك العام ، وكان عبد الحفيظ ، وكان من أكثر الناس إيمانا بمعجزة الحنين ، كما تجلت في سيف الدين ، كلما سمع نبأ جديدا يسرع به إلى محجوب . وكان معروفا بجفائه لأهل الدين والنساك منهم بوجه خالص ( معجزة يا زول ، ما في اثنين ثلاثة ) ، ويصمت محجوب وهو يحس في جوفه بذلك القلق الغامض الذي يساوره إزاء هذه الحالات ( سيف الدين عزم على الحج تصدق بالله يا زول ؟ تآمن وألا ما تآمن ؟ معجزة يا زول دون أدنى شك ) كان محجوب يقول لعبد الحفيظ لما بدأت القصة أن سيف الدين شبع من السفاهة ، أو على قوله ( وصل السفاهة حدها ) ، وكان لا بد أن يتغير في يوم من الأيام ، لكنه وهو يسمع كل يوم شيئا جديدا مذهلا لم يعد قادرا حتى على الجدال ، فلاذ بالصمتكانت معجزة سيف الدين بداية لأشياء غريبة تواردت على البلد في ذلك العام . ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد ، حتى محجوب ، وهم يرون المعجزة تلو المعجزة أن مرد ذلك كله أن الحنين قال لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة : ( ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ) كان الوقت قبيل صلاة العشاء بقليل ، وهو وقت يستجاب فيه الدعاء ، خاصة من أولياء الله الصالحين أمثال الحنين كانت البلد هادئة ساكنة ، إلا من ريح خفيفة منعشة تلعب بجريد النخيل , إنهم جميعا . الرجال الثمانية الذين شهدوا الحادث وبقية الناس في بيوتهم وحقولهم ، يذكرون تلك الليلة بوضوح كأنها كانت ليلة البارحة وكان الظلام المخملي الكثيف يريض على أركان البلد ، عدا أضواء مصابيح خافته تسربت من نوافذ البيوت ، والضوء الساطع من المصباح الكبير في متجر سعيد . كان الوقت وقت تحول الفصول ، من الصيف إلى الخريف . يذكر سعيد صاحب الدكان أن الليلة لم تكن قائظة كسابقتها وأنه لم يكن رطب الوجه من العرق وهو يزن سكرا لسيف الدين ، وأنه لما ( وقعت الوقعة ) كما يسميها ، وترك ميزانه وخرج من دكانه ليحول بين الزين وسيف الدين ، يذكر أن نسيما باردا هب على وجهه ! ويذكر الناس الذين لم يسعدهم الحظ بحضور الحادث لأنهم كانوا يتهيأون لصلاة العشاء في المسجد ، أن الإمام تلا في تلك الليلة ، حين صلى بهم جزءا من سورة مريم ، وحاج إبراهيم ، عم الزين ووالد نعمة ، وهو رجل مشهود له بالصدق ، يذكر تماما أن الإمام قرأ الآية وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ويصف حمد ود الريس ، وهو مشهور في البلد بسعة الخيال والجنوح إلى المبالغة ، بأن نجما له ذنب سطح تلك الليلة في الأفق الغربي فوق المقابر ، لكن أحدا غيره لا يذكر نجما له ذنب سطح في تلك الليلة ، على أي حال ، لا شك في أن الحنين ، ذلك الرجل الصالح ، قال على مسمع من ثمانية رجال ، في تلك الليلة المباركة بين الصيف والخريف ، قبيل صلاة العشاء بقليل : ( ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ) وكأنما قوي خارقة في السماء قالت بصوت واحدا : ( آمين
بعد ذلك توالت الخوارق معجزة تلو معجزة . بشكل يأخذ باللب . لم تر البلد في حياتها عاما رخيا مباركا مثل ( عام الحنين ) عام أخذوا يسمونه صحيح أن أسعار القطن ارتفعت ارتفاعا منقطع النظير في ذلك العام وإن الحكومة لأول مرة في التاريخ سمحت لهم بزراعته بعد أن كان ذلك وقفا على مناطق معينة في القطر ( محجوب وحده ، وباعتراف منه ربح أكثر من ألف جنيه من قطنه ) ، وصحيح أيضا أن الحكومة لغير ما سبب أو لسبب خفي لا يعلمونه ، بنت معسكرا كبيرا للجيش في الصحراء على بعد ميلين من بلدهم ، والجنود يأكلون ويشربون ، فانتعشت البلد من توريد الخضروات واللحوم والفواكه واللبن للجيش حتى أسعار التمر ارتفعت ارتفاعا ليس له نظير في ذلك العام ، وصحيح أيضا أن الحكومة هذا المخلوق الذي يشبهونه في نوادرهم بالحمار الحرون ، قررت لغير ما سبب ظاهر أيضا أن تبني في بلدتهم - دون سائر بلدان الجزء الشمالي من القطر وهم قوم لا حول لهم ولا طول ، ولا نفوذ ولا صوت يتحدث باسمهم في محافل الحكام - قررت الحكومة أن تبني في بلدهم ، دفعة واحدة مستشفى كبيرا يتسع لخمسمائة مريض ، ومدرسة ثانوية ومدرسة للزراعة ومرة أخرى عادت الفائدة على البلد ، في الأيدي العاملة ومواد البناء وتوريد الغذاء ناهيك بأن مرضاهم سيضمنون العلاج وإن إبناءهم سينالون حقهم من التعليم ، وإذا كانت كل هذه الأدلة لا تكفي ، فكيف تفسر بأن الحكومة هذا ( الحمار الحرون ) في اعتقادهم ، قررت أيضا في العام ذاته ولم يمض على وفاة الحنين أكثر من شهرين أن تنظم أراضيهم كلها في مشروع زراعي كبير تشرف
عليه الحكومة نفسها بما لها من قوة وسلطان ؟ وجدوا بلدهم فجأة تعج بالمساحين والمهندسين والمفتشين والحكومة إذا عزمت على أمر فإنها قادرة على تنفيذه فما هو إلا يوم في أثر يوم وشهر يعقبه شهر ، حتى قام على ضفة النيل في بلدهم بناء شامخ من الطوب الأحمر مثل المعبد يلقي ظلاله على النيل ، وبعد ذلك بقليل ، بين لغط العاملين وقرقعة الحديد إذا بعجلات ذلك المارد تدور ، وإذا بمصاصاته تشفط من ماء النيل ، كما يشفط الرجل الشاي ، في لمح البصر ، كميات لا تقوي عليها عشرات من سواقيهم في عشرات الأيام ، وإذا بالأرض على اتساعها من ضفة النيل إلى طرف الصحراء يغمرها الماء بعضها أراض لم تر الماء منذ أقدم السنين. وإذا بها تموج بالحياة ، كيف تفسر هذا ؟ عبد الحفيظ يعلم السر ، فهو يقول لمحجوب ، وهو يجمع بين عينيه الحقل الواسع الذي هو حقله والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء ( معجزة يا زول . ما في أدني شك ) .
جلس الطريفي خلسة في مقعده بعد أن حدث الناظر بخبر عرس الزين ، جلس خلسة على طرف مؤخرته كأنه يتهيأ للهروب في أية لحظة ، فقد كان في سمته وطبعه شيء من سمت الضبع وطبعه . ونظر حوله بعينيه الماكرتين ، وهمس في أذن جاره من اليمين : ( نجينا الليلة من الجغرافيا ، أشارطك الناظر ما يتم الحصة ) . وكما تنبأ الطريفي أعلن الناظر في صوت فاتر غير مكترث أنه خارج لأمر عاجل : ( راجعوا الدرس بتاع منطقة زراعة القمح في كندا ) ، وخرج في خطوات متوترة ، وراقبه الطريفي ، وهو يحاول ألا يهرول حتى وصل باب فناء المدرسة ، وضحك الطريفي بخبث حين رأى الناظر يمسك بذيل عباءته في يده ، ويهرول مكبا على وجهه في الرمل .
ووصل الناظر إلى دكان شيخ علي في السوق ، لاهث النفس ، جاف الحلق ، إذ أن المدرسة لم تكن قريبة كل القرب من السوق وبينها وبينه رمل تغوص فيه القدم ، والناظر قد جاوز الخمسين ، كان دكان شيخ علي في السوق مقره المفضل . سر لما رأي عبد الصمد أيضا فقد كانت بينه وبينه صداقة مريرة ، لا يطيب له المجلس أو لعب الطاولة بدونه . وكان بينه وبين المتجر مقدار عشرة أمتار لكنه لم يطق صبرا . فبدأ يتحدث وهو مقبل عليهما : ( شيخ علي ، حاج عبد الصمد ، السنة دي سنة العجايب دا كلام أيه دا ؟ ) وأوصلته الجملة عندهم ، فأجلسوه على مقعده المفضل ، مقعد وطيء من خشب وجبال عليه مسند وله متكآت على جانبيه :
وكانت القهوة ما تزال ساخنة ، تفوح منها رائحة القرفة والحبهان والجنزبيل ، أمسك بالفنجان وقربه إلى فمه ، لكنه لم يلبث أن رده وقال : ( الخبر دا صحيح ؟ ) .
وضحك عبد الصمد وقال للناظر : ( كدى أشرب القهوة قبل تبرد . الكلام صحيح ) .
ونواصل
عشانكم انتو يا التيمان اساهر الليل
وأغرق في بحار الشوق واكتب ليكم
شكراً على المرور أخي

التيمان
28-12-2005, 02:31 PM
ونواصل
عشانكم انتو يا التيمان اساهر الليل
وأغرق في بحار الشوق واكتب ليكم
شكراً على المرور أخي


تسلم حبيبنا