http://www.newsudan.net/vb/images/smilies/36_3_6[1].gif ولدت في قرية صغيرة في بلاد النوبة اسمها سركمنتو شمال السكوت ، وجنوب حلفا وتبعد عنها حوالي 135 كيلو مترا ، ومن اسرة عادية جدا .. دخلت الخلوة ، وانتظمت في المدارس حتى تخرجت في الجامعة وعملت دراسات عليا ودائما ما اقول لرفقائى ان الشعب السوداني معطاء ويقبل العطاء من حيث جاء ، لا يقول هذا من فلان او ذاك من فلان ، وانا لا انتمي الى قبيلة كبيرة ، ولا الى بيت كبير في السودان ، ولم يقف معي خال او عم او اي انسان حتي اشق طريقي في الحياة ، بل اعتمدت على نفسي ، وتقبل الشعب السوداني جهدي وعملي ، اذ الفرصة مفتوحة لاى سوداني حتي يجتهد والحديث الذي يردده بعض المتعلمين ويروجون له بأن هناك اناسا مسيطرون على الابداع والعطاء، هذا كلام غير صحيح . وانا رجل نوبي ، واعرف اللغة النوبية معرفة جيدة ، وكذلك ، اللغة العربية ، والانجليزية ، وكلها تداخلت في تكويني ، وتعلمت كل مراحلي الدراسية في السودان .
{ كيف جاءت البدايات في الخلوة ؟
< في مستهل البدايات درست في خلوة الشيخ عبد الرحمن بدري، وهي من الخلاوي الجيدة ، وهذه الخلوة اثرت علىّ تأثيرا كبيرا جدا .. لك ان تعلم انني مازلت الى اليوم اكتب بخط الخلاوي كل كلمة بحروفها ، وكل حرف بحقه ، وعندما اقرأ اعيش بصدق مع الحرف العربي هذا الحرف العربي له سر عظيم ، بمنعرجاته ، ودوائره ، وزواياه . انت لو عندك الاحساس بالحرف العربي وتعمقت فيه يعطيك اشياء كثيرة جدا ، وعلى ذلك فإن العرب كانوا معجبين بالخط العربي حتي وهم في الجاهلية، وذكروا الخط العربي في شعرهم .. فالخلوة اعطتني هذه الميزة ، كما اعطتني الثبات .. نحن قعدنا وكتبنا في الارض وفي (التختة) .. لم تكن عندنا الكراسات الموجودة الآن ، ولا قلم الرصاص .. تعلمنا الخط في الارض ، والخريطة في الارض ، رسمنا الخريطة والنهر ، بصب (الموية) في مجري النهر من الجنوب الى الشمال .. تعلمنا كل ذلك حتى رسخ في اعماقنا ، وحفظت ثلث القرآن جيدا .. لكن بكل اسف لما دخلنا المدارس «الميري»، الحكاية راحت .
{ وكيف جاء الانتقال إلى المدارس الاولية ؟
< في سنة 1940م، دخلت الاولية ، وعلى طول كانت سنة ثانية قالوا هذا التلميذ مستواه جيد فلا يبدأ بالسنة الاولى .. وحزت على الترتيب الاول حتى نهاية المدرسة .. انظر لمستوى الخلوة وقوتها ، والمدرسة كانت مدرسة عبري الاولية ، وهي مدرسة مهمة جدا ، فتحت بالاكتتاب الشعبي سنة 1910م ـ اكتتاب وليس حكومية ـ وبعد ذلك فرضوا ضريبة خاصة بالنخيل حتى يمولوا الداخلية ، هذه المدرسة تخرج منها عمر محمد عثمان (مدير الجامعة) ومنها الفكي حاج النصري (البروفيسور) ونجم الدين محمد شريف (عالم الآثار) ومحمد عثمان الوردي (الفنان الموسيقار)، هذه المدرسة الضعيفة والبسيطة، خرجت افذاذ الرجال في المجتمع السوداني ، وانا سجلت لها زيارة العام الماضي .
{ الزملاء في المدارس الاولية ؟
< قابلني اناس كثيرون، منهم نجم الدين محمد شريف «كان مديرا للاثار عليه الرحمة» كذلك محمد عثمان وردي «الفنان» كان في اولى وانا كنت في رابعة رئيس الداخلية ، فكان «شيطان جدا» وعاصى لا يسمع الكلام، وكان متفردا ومعتزا بنفسه الى آخر حد، وهذه الميزة معه من الصغر الى الآن ، شكله ابيض ونحيف وهو رجل صديقي ، واحب فنه ، واعتقد انه قدم الفن السوداني ، وارتفع بمستوى النوبيين والاغنية السودانية ... اضافة لهذا الاخ محمد فرح صالح ، وعبد الحليم سعيد «ذهب في ما بعد الى القوات المسلحة وكان رئيس الموظفين بالقصر الجمهوري ، وهو مشهور .. وعُثمان محمد عثمان ولم احضر اخاه عمر محمد عثمان ، وفتحي حسن المصري ، وعباس حسن المصري ، كذلك زاملت حسن عبد الرحمن ابن العمدة ، وجلال عبد الرحيم «المهندس» كل الناس الذين زاملوني ظهروا في المجتمع السوداني ، واثبتوا كفاءتهم ما شاء الله .
{ د . ابوسليم لننتقل الى مرحلة اخرى واعتقد انها مرحلة المدرسة الوسطى ؟
< ذهبت بعد ذلك الى مدرسة حلفا الوسطى ، وهي من اوائل المدارس التي بنيت في السودان ولديها داخلية من طابقين، وفيها مكتبة ضخمة جدا ، وحجرات متعددة ، ومنتظمة لاخر حد وكل النظار الذين مروا عليها كانوا من امجد المعلمين واقدرهم مثل محمد احمد عبد القادر، وابراهيم الخليل «الناظر» ووكيله محمد توفيق «السياسي الشهير» ، وكان يدرس العربي بالاضافة الى الاساتذة عبد الرحيم الامين ، وحسن عمر الازهري «الشاعر» ، وابو القاسم محمد ابراهيم ، والاستاذ طلسم الذي درسنا العلوم ، وواحد اسمه ناجي درسنا الانجليزي، وفي التاريخ درسنا على صالح الامين . كانوا مدرسين ممتازين ، شوف انا من سنة 40 ــ 42 ـ 1943م اتذكرهم كأنهم امامي الآن ، وعلى وجه الخصوص الاساتذة عبد الرحيم الأمين ، وابو القاسم محمد ابراهيم ، وحسن الازهري لاهتمامهم بنا عندما اتينا من القرى ولا نعرف العربي ، شجعونا ، وحببوا الينا اللغة العربية ، وجعلونا نقرأ كتبها .. وانا قلت ان هؤلاء الاساتذة اخرجونا من العجمة وادخلونا العربية ، ونحن مدينون لهم بالفضل .
{ على عهدك بالمدرسة الاولية في عبري، كنت تحرز الترتيب الاول حتي نهاية المرحلة .. هل ياتري حافظت على نفس المستوى في الوسطى ؟
< الدروس كانت غنية ، وبرنامجها اقوى ، كنا في سنة رابعة وسطى نكتب الخطاب بالانجليزي ، ونقرأ الكتب بنهم خاصة الكتب العربية .. في السنة الثالثة والرابعة اكملت حفظ الجزء الاول من الشوقيات لاحمد شوقي ، حتي هذا الوقت اذكر هذا الكلام .. في الوسطى قرأت للاستاذ عباس محمود العقاد ، وهو احسن كاتب عربي بالنسبة لي ، واعتقد انني تأثرت به جدا . وفي حلفا كانت الجرائد والكتب المصرية منتشرة بشكل كبير ، نسبة لوجود مصريين هناك ، واذكر انني اطلعت على سلسلة «اقرأ» وقرأت العدد الاول من اخبار اليوم ، وجريدة المسلمين بدأنا في قرأتها ، والصحف السودانية ، والكتب ، ومجلة المختار .. والمكتبة حقيقة كانت رائعة جدا ، ومليئة بصنوف المعرفة ، وكان الاستاذ حسن الازهري الذي تحدثت عنه سلفا متمكنا من الشعر ، وعندما يتآنس معنا نعتقد اننا يمكن ان نقول الشعر ، وله روايات ، ومهتم جدا بالتمثيل ، واخرج لنا روايات مجنون ليلي ، والعباسة ، وروايات اخرى يمثلها الطلبة ، تجد رواجا كبيرا لدى سكان المدينة ـ مدينة حلفا ـ الذين يشكلون حضورا مميزا . ومن الطلبة الذين كانوا معي في الفصل محمد ابراهيم نقد «رئيس الحزب الشيوعي» والعلاقة بيننا ممتدة الى الآن ، رغم انني ليس لدي دعوى بمذهبه ، وليس له دعوى بمذهبي ، لكنها صداقة زمالة متينة وقوية ، وكان ممثلا بارعا ، وله صوت جميل جدا يستخدمه في الاناشيد ، وغناء الدوبيت ، وقد مثل دور مجنون ليلي في رواية مجنون ليلي ، ونال اعجاب جمهور حلفا وتصفيقهم حين وقف ليقول : اهلا بك ومرحبا بك يا شباب ، فطالبوه بأن يعيد ثاني ، وثالث . عموما المدرسة كانت حيوية لآخر درجة ، وكنا كطلاب نصدر مجلة اسمها «البداية» وهي قديمة جدا ، واستمرت لفترة طويلة حتي اغلقت المدرسة بعد السد العالي ، وجريدة اسمها المقتطف .
{ مدرسة وادي سيدنا كانت المرحلة الجديدة والمحطة الثانية بعد وادي حلفا ، ودراستك الوسطى فيها ، كيف كانت ملامح التجربة ؟
< وادي سيدنا جئتها في عام 1947م ، كانت مدرسة منضبطة وتسير على النظام الانجليزي ، الحصص منتظمة و التعليم زمان جله بالانجليزية، كل شئ ماعدا العربي ، والدين والتاريخ لكنهم يدرسوننا التاريخ بالانجليزي في السنة الثانية، لذلك الطلاب عندما يتخرجون يجدون انهم امتلكوا حصيلة كبيرة جدا من اللغة الانجليزية وحصيلة اكبر من المعارف، وكان معظم المدرسين من الانجليز بجانب بعض الاساتذة السودانيين المبرزين مثل الشيخ حسن احمد تباشة مدرس الدين الاسلامي والعربي، حيث كان متمكنا من اللغة العربية اضافة لكونه شاعرا مجيدا، كذلك من الاساتذة الهادي ابوبكر ، وهو تخرج من دار العلوم بمصر وكان متشبعا بالادب الحديث، ويحدثنا دائما عن الادب والادباء ومن خلاله قرأنا ادبيات «السحرتي» .. كذلك كان هناك ميرغني النصري وشقيقه النصري الذي درسنا العلوم ، واحمد حسن فضل السيد ومحمد ابكر في مادة التاريخ التي برز في تدريسها ، واحمد فضل المولي استاذ الدين المعروف بطريقته في الحديث .
{ اسهام هذه المرحلة باحداثها، ومعطياتها في تشكيل وعيكم الفكري؟!
= مدرسة وادي سيدنا وحنتوب والاحفاد، هذه الثلاثية كانت ترفد الناس بالعلم والمعارف، وخلق الشخصية وهناك جانبآخر كان مهما جدا في المدرسة وهو الرياضة (القفز) والجري، ومسابقات السباحة، والكرة كلها كانت مهرجانات كبيرة. واظهرت ابطالا مميزين مثل عبده جابر عليه الرحمه، بجانب ابوالدهب (بتاع الانقلاب المشهور) ،ومحمد خير عبدالقادر عبدالقادر الذي كان يقفز بالزانة وكنت امازحه عندما رقى جعفر محمد علي بخيت بعض العاملين في الوظائف استثنائيا، وسميت القفز بالعمود فقلت له انه اخذها منه.. وظل عامر محمد حسن المهندس، وعبده جابر يلعبان في الهلال وهما في وادي سيدنا، وكذلك في الجامعة كانا يلعبان في التيم الاول والكرة في وادي سيدنا كانت مهمة جدا. ولا تفوتني مباراة منها والآن انا لا اسمع ولا اشاهد اية مباراة.
{ تشكيل الوعي السياسي في وادي سيدنا؟!
الشيوعيون هم الذين فعلوا ذلك ومعهم الاتحاديون وكانوا ظاهرين جدا، واذكر ثلاثة فقط كانوا حزب امه احدهم يوسف محمد يوسف (عليه رحمة الله)، والثاني كمال الدين عباس.. ومن الطلاب الشيوعيين البارزين انور عثمان الذي اصبح فيما بعد طبيبا.. وطه محمد طه، وفاروق محمد ابراهيم، وابوّ.. شباب في غاية الوهج والنشاط ولم اكن ادري كيف كان هذا المذهب يستقطب عقول هؤلاء الطلاب، وقبلهم كان وني، ومحمد عبدالحليم محجوب، ومجموعة ذهبت الى الجامعة وكونوا فيها اتحاد الطلاب.. خلال هذه الفترة ظهرت حركة الاخوان المسلمين وهم اساسا بدأوا كحركة ضد الشيوعيين بحجة ان الشيوعيين يدعون الى الالحاد ودي كانت حقيقة..حيث كانوا ينفون وجود الاله واشياء اخرى.. وطبعا كانوا شبابا او الفكرة لم تتطور ولم تنتشر.. وتنقصهم خبرة العمل.. والغريب في الامر ان الشيوعيين والاخوان اخذوا احسن الطلبه، وابرز الكوادر بكل اسف، واقول ذلك لانهم كانوا مبرزين (وشطار) وكان يمكن ان يفيدوا البلد، ولكنهم ذهبوا في هذه الحركات وفي الآخر تركوها.
{ المرحلة الجامعية؟!
انتقلنا من وادي سيدنا الى الجامعة وهي المرحلة النهائية في التعليم في السودان، وكانت تسمى كلية الخرطوم الجامعية التي جئتها عام 1950و وتخرج طلابها بالدبلومات وليس البكالوريوس (الليسانس) وهناك كليات كانت مدة الدراسة فيها خمس سنوات كالطب.. او حسب التخصص.. وكانت المرحلة الجامعية اكثر حضارة، ويتجمع الطلاب من كل انحاء السودان، هو مدخل تعليمي هام يجعلك تتمتع بمدارك واسعة، ونظرة ثاقبة.. كانت الجامعة الوحيدة التي اجتمع فيها كل ذلك الخليط، تسكن في داخلية، وتعيش حياة جامعية، وتعاشر الطلاب بمختلف قبائلهم، واجناسهم، ولهجاتهم اتحاد الطلبة يدير انشطة واسعه، واهتمام الاساتذة بالطلاب، كل استاذ له مجموعة (Group) يتعامل معهم.. التعليم كان يتطور في كل مرحلة من مراحله وليس كما يحدث الان (مافي تعليم)، واعتقد ان نظام محي الدين صابر دمّر التعليم نهائيا، وعندما انظر للمستويات من خلال ابنائي في المنزل اكتشف ان المعلومات التي كانت لدينا في الوسطى لا يتمتعون بمعرفتها وهم خريجون من الجامعات.. هذا التدمير ليس له معنى الا ان كل فرد يأتي ليقول انه غير نظام التعليم، وفعل كذا وكذا.. لماذا يغفل الشعب السوداني مثل هذه الاشياء دون مراجعة فالتعليم في السودان كان من أقوى الانظمة التعليمية في الشرق، ولكن للاسف دمرّ هذا النظام دون سبب، وامتد لنمط المدرسين، وعدم وجود الكراسات، والاستعدادات للعام، والمقررات، وافتتحت في كل قرية مدرسة.. هل تعلم ا ن بعض المدارس لا يوجد بها طلاب، وعد دالمدرسين اكثر من الطلاب
