زيدان.. كسر قوانين الجاذبية

لا يتحدث زين الدين زيدان كثيرا عن والدته الجزائرية، أو على الأقل لا يتحدث عنها كما يتحدث أحيانا عن أبيه وأشقائه وأسرته. فزيدان «النجم» خجول جدا، ويكاد يكون الخجل الصفة الاكثر استرعاء للنظر في شخصيته، ومن الحكايات المعروفة عنه، انه وخلال حضوره إحدى بطولات التنس العالمية، أقام في غرفة مجاورة لغرفة نجم التنس العالمي اندريه أغاسي، الذي يعد مثله الأعلى في اللعبة، غير أن الخجل حال بينه وبين التعرف على اغاسي، فقد استحى من التوجه اليه للتعرف عليه. هذا الشاب الخجول تتعلق فرنسا به، اكثر مما تتعلق بأى شيء آخر، فهو ليس فقط املها للفوز بكأس العالم، بل أملها في اعادة اللحمة الاجتماعية بين الاعراق والديانات واللغات التي تشكل هوية الدولة الفرنسية، خاصة بعد سنة عصيبة وضع فيها نموذج الاندماج الفرنسي في اختبار حرب الشوارع والضواحي بين الشباب والشرطة. وربما يعود خجل زيدان الى نشأته، فهو ابن لعائلة من المهاجرين الجزائرين الذين وفدوا الى فرنسا كمئات الآلاف من مواطنيهم من أجل البحث عن لقمة العيش، واستقرت عائلته في مارسليا المدينة الساحلية، التي تعاني مثل بعض المدن الفرنسية من داء العنصرية والتمايز على اساس العرق، مما دفع زيدان للانطواء. ولد زيدان في 23 يونيو (حزيران) عام 1972 في الأحياء الشمالية الفقيرة من مرسيليا. وهي ككل المدن الساحلية التي تدير وجهها الى الخارج عرفت الهجرات المتعاقبة طيلة تاريخها من الفينيقيين الى الإغريق والرومان وغيرهم كثر. وكانت باستمرار بوابة فرنسا الى المتوسط ومدخل الشعوب المتوسطية الوافدة الى فرنسا. وعندما انتهت حرب الجزائر وحزم الفرنسيون امتعتهم وغادروا البلد الذي استعمروه طيلة 132 سنة، رست مراكبهم في مرسيليا التي ازداد عدد سكانها العديد من الآلاف. ولكن مرسيليا مدينة صعبة. بعض قاطنيها من السكان القدماء، وكثير من الجدد لم يهضموا الاستقلال الجزائري فاستقوى لديهم الشعور العنصري الذي غذته سنوات الاستعمار ضد العرب والأجانب بشكل عام. وفي بيئة تعاني من الفقر والتمايز نشأ زين الدين زيدان ولاعبت قدماه الكرة مثل كل الأولاد في الشارع. انتمى باكرا الى فريق أهلي محلي، وسريعا ما برزت مؤهلاته الرياضية والفنية فاختير لمتابعة دورة في مركز التأهيل الرياضي في مدينة «كان». لكن ولما كان مركز التدريب في «كان» غير مزود بعنبر للنوم، فقد استضافته احدى العائلات الفرنسية عندها لمدة عشرة أشهر، ابتعد فيها عن اسرته، حيث كان الزوج جون كلود ألينو، يصطحبه يوميا الى النادي في الوقت الذي تقوم فيه زوجته نيكول بإعداد وجبة العشاء له.
وفي السادسة عشرة من عمره، بدأ حياته المهنية كلاعب محترف في فريق مدينة «كان»، وفيها سجل أول أهدافه في مباراة لنوادي الفئة الأولى فكافأه رئيس النادي بأن منحه سيارة من طراز «رينو» حمراء اللون. لكن طموح زيزو كما يسميه محبوه كان كبيرا فانتقل عام 1994 الى نادي «بوردو» لكرة القدم الذي كان وقتها في أوجه، لا بل اهم ناد لهذه العبة في فرنسا، وخلال تلك السنوات صنع زيدان سمعته من الالتزام الكبير الذي كان يبديه في الملعب، فهو شخص منظم مرتب جدا، ويعطى اهتماما كبيرا للتفاصيل والالتزام، سواء من خلال اللعب او من خلال العلاقات مع الزملاء وادارة الفريق. وبسبب هذا تكرست صورته كنموذج ممتاز للاندماج الاجتماعى. رؤوف وهو بائع تونسي من مدينة سوسة يتجاوز الستين من العمر، ومتجره كائن في الدائرة الرابعة عشرة من باريس قريبا من بارك مونسوري، يقول انه مولع بزيدان، وصوره تملأ المحل، ويتابع رؤوف لـ«الشرق الأوسط»: «نحن العرب الذين نعيش في فرنسا نحتاج، في هذا الزمن السيئ لسمعتنا لمن يعطي عنا صورة أخرى، ولمن يملك السلطة الاخلاقية والمعنوية للدفاع عنا. هذا ما يقوم به زيدان. فرنسا مدينة لزيدان ولأمثاله، ولذا فإن ما يقوله له وقع وأهمية خاصة. وأنا في متجري أرى أناسا من كل الفئات وألمس كم نحتاج لأشخاص مثله نجحوا في حياتهم المهنية وحققوا الإندماج المثالي في المجتمع الفرنسي دون أن ينسى أصله وثقافته وأهله وعائلته. زيدان، أنا أحبه». ولا يجد زيدان صعوبة في الجمع بين هذه الخلفيات والهويات المتعددة، فهو فرنسي جزائري الاصل، كما انه مسلم منفتح معتدل. وهو في معرض حديثه لصحيفة «جورنال دي ديمانش»، قال «إنني مسلم، ولكني لا أمارس العبادة، كما أنني فخور بوالدي، الذي مارس العبادة طيلة حياته».

وتمثل علاقة زيدان بعائلته أحد المفاتيح الرئيسية لشخصيته. فزيدان الذي كان يسمى في بيته «يزيد» نسبة الى اسمه الأول هو الابن الأصغر لعائلة ولد جميع أبنائها في فرنسا، وهم خمسة اخوة. والده اسماعيل ترك قريته «أغموت» التي تقع في منطقة القبائل الصغري قريبا من مدينة «بجاية» وهو في سن السابعة عشرة وانتقل الى فرنسا، حيث عمل حارسا ليليا في أحد المخازن الكبرى في مرسيليا. اما والدته فجزائرية ايضا. ومع ان زيدان لا يتكلم كثيرا عن افراد عائلته، الا انه يندر أن يتحدث عن والدته علنا على وجه الخصوص. وليس هذا هو الشكل الوحيد لاحتفاظ زيدان بالعادات التي تعلمها صغيرا، فهو ما زال يتحدث لغة القبائل مع افراد اسرته، بالرغم من انه عمليا لم يعد الى قرية والده، وفق ما يقوله احد أعمامه الذي بقي في الجزائر، سوى مرتين مع عائلته، الأولى عند حفل ختانه، والثانية عندما كان في الرابعة عشرة من العمر. وعلاقة زيدان بأسرته قوية وتشبه مثيلاتها في العالم العربى، فمن المعروف انه يغتنم كل لحظة متوافرة له عندما يكون في مرسيليا لزيارة عائلته، ويروي زملاءه أنه غالبا ما ينزوي بعيدا عن الضجيج بعد المباريات المهمة ليتحدث بالهاتف الى أفراد عائلته، وخصوصا الى أخيه نور الدين. ويبدو امتنان زيدان من عائلته حاضرا في كل تصريحاته العلنية، ففي المؤتمر الصحافي الذي عقده في مدريد لإعلان انهاء عقده بنادي ريال مدريد قال زيدان، إن التكريم الذي لقيه «يعود الفضل فيه للتربية التي تلقاها من أهله وفي منزله، إذ أن لاعب الكرة يتوقف عن اللعب، ولكن الإنسان بما هو والتربية التي نالها هى الباقية». وأضاف «أريد أن يتذكرني الناس كشخص يوحي الاحترام».

وبرغم الشهرة، الا ان زيدان لا يحب الانغماس في اضوائها. ففي مقابلة لصحيفة «لو فيغارو» اجريت معه حديثا، قال زيدان ردا على سؤال عن حياته «في حياتي ثمة أمران اساسيان هما كرة القدم وعائلتي». ويروي زيدان، على موقعه على شبكة الإنترنت، كيف يمضي يوما عاديا في العاصمة الإسبانية: ينهض باكرا من الفراش ليتناول الفطور مع عائلته المكونة من فيرونيك، زوجته الفرنسية من أصول اسبانية وأولاده الأربعة، انزو، لوكا، تيو والياس. وبعد الفطور، يأخذ الاولاد الى المدرسة ثم يذهب الى ملعب ريال مدريد للتدرب مع فريقه. ويقول زيدان إنه يحرص دوما على أن يعود بأولاده الى البيت، وأن يعتني بدروس ابنه البكر، وكذلك تناول العشاء معهم باكرا «بعكس عادة الإسبانيين». وبعد ولادة ابنه البكر، قال زيدان إن حياته «تبدلت جذريا» وأن «إنسانا جديدا ولد فيه».

ويختصر المعلق الرياضي في إذاعة فرنسا الدولية جيرار دريفوس شخصية زيدان كالتالي «زيدان عملاق الكرة، إنه أكبر فنان عرفته فرنسا. إنه المبدع الأكبر. ابن لمهاجرين من القبائل، أحاطه حب عائلته له وكبر في ظل احترام فضائل العمل والجهد التي علمها اهله إياها. تصرفه كان باستمرار تمجيدا لقيم العمل والاحترام والعائلة. لم يتصرف أبدا كنجم من النجوم. لأنه مثال البساطة والاستقامة وهي القيم التي تلقاها من والده ووالدته. لم يطلب أبدا البروز. ابتعد عن الفضائح وتحاشى أغلفة المجلات الاجتماعية. زيدان نجم رغما عنه. لم يبحث أبدا عن الشهرة ولذا فالجميع يحبونه مهما كانت البيئة التي ينتمون اليها». وبعد احترافه في فريق بوردو، وصل زيدان مع الفريق الى البطولة النهائية لكأس بطولة فرنسا، كما اختير للمرة الأولى للعب في فريق فرنسا الوطني. وبعد ذلك، انتقل الى نادي يوفنتوس الايطالى في مدينة تورينو، ثم ربح بطولة العالم مع فريقه الفرنسي عام 1998، وبعد ذلك بعامين فاز ببطولة أوروبا، كما فاز بالكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم 1998 وبعدها اختياره أفضل لاعب في العالم عدة مرات. وفي عام 2001، بدأت مغامرته الإسبانية حيث التحق بنادي ريال مدريد. وبعد أن أعلن صيف عام 2004 وهو في قمة مجده رغبته في ترك الفريق الوطني الفرنسي، عاد عن قراره بعد عام بعد أن رأى الصعوبات التي يواجهها هذا الفريق ليضمن مشاركته في بطولة كأس العالم التي ستجرى في ألمانيا في الاسبوع الاول من يونيو (حزيران)، فعين كابتنا للفريق. وبفضل مشاركته، ضمنت فرنسا بطاقة المشاركة. لكن زيدان عاد مجددا للواجهة عندما كشف عن رغبته في انهاء عقده مع «ريال مدريد» وعن عزمه التوقف نهائيا عن اللعب بعد انتهاء مباريات كأس العام هذا الصيف. وفي آخر مباراة له على أرض ملعب «برنابو» التابع لنادي ريال مدريد، حمل اللاعبون شارات على سواعدهم تحمل اسمه تقديرا لهذا اللاعب الذي «كسر قوانين الجاذبية»، كما كتبت احدى الصحف الإسبانية.

وبسبب النموذج الذي يقدمه زيدان، قال عنه أريك كوليه من صحيفة «لوموند» الفرنسية: «زيدان ليس فقط رئيس فريق فرنسا الوطني. إنه زعيم لفرنسا المختلطة، فرنسا التي تحب التنوع. زيدان يبقى في أي حال، رئيس فريق السود والبيض والعرب، المثال الناجح للنموذج المتعدد الثقافات، الحامل مشاريع التفوق والإبداع. وهذا النموذج يستحق المديح والتقريظ ولكن ليس فقط في المجال الرياضي». وكانت هذه الملاحظة في محلها تماما، ففرنسا ربما أكثر من أي بلد اوروبي آخر، تعاني من مشاكل اجتماعية ناجمة عن عدم الاندماج الاجتماعي الكامل بين مختلف اعراقها، وبالتالي يعد زيدان رمزا لما تفتقده فرنسا، وتريد تعويضه. وفي هذا الصدد يقول قادر م. وهو شاب في السابعة والعشرين من العمر، يدرس الميكانيك في معهد متخصص في مدينة أيفري الواقعة جنوب باريس، والتي شهدت أحداث عنف وشغب إبان «انتفاضة الضواحي» في الخريف الماضي لـ«الشرق الاوسط» إنه بالطبع «فخور» بالنجاح الذي حصده زيدان. فهو مهاجر ومن أصل مغاربي «مثله». وككل الشباب من جيله، يتذكر قادر وبكثير من الأسى «الأيام السعيدة» التي عاشها هو ورفاقه صيف عام 1998 عندما انتزع الفريق الفرنسي كأس العالم «كنا فخورين بأنفسنا. زيدان واحد منا والفريق الفائز كان مكونا من لاعبين من كل المشارب بينهم العربي والأسود والأبيض، نزلنا الى الشوارع نرقص ونغني، طفنا بالسيارات مطلقين أبواقها. كنا فخورين بأننا فرنسيون وبأننا ايضا من أصول عربية ومغاربية وأفريقية». لكن بالرغم من الصورة الايجابية الاجمالية عن زيدان، الا انه احيانا ما يفقد اعصابه ولا يكون مثالا يحتذى. ويحدث هذا احيانا خلال مباريات كرة القدم المتوترة او العصيبة، ومن المرات التي لا ينساها زيدان، عندما منح بطاقة طرد حمراء من الملعب بعد قيامه بضرب لاعب من فريق منافس. وكثيرا ما ينشط زيدان في المجال الخيرى، فبعد أسابيع على الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق بشرق الجزائر في 21 مايو (ايار) 2003 وخلف نحو 2200 قتيل، ابدى تأثرا كبيراً بتلك الكارثة، وقال حينها «انني اشعر بحزن شديد، والجزائر لم يكن ينقصها هذا الامر. من الضروري مساعدة هؤلاء لان المرء يجب ان يكون متضامنا في هذه الظروف». وتابع «لقد ولدت في فرنسا لكن جذوري هناك في الجزائر، وهو البلد الاصلي لعائلتي». وأقام زيدان مباراة خيرية في مسقط رأسه مرسيليا عاد مدخولها لمصلحة المتضررين من الزلزال في الجزائر، أطلق عليها اسم Coup de Coeurوبالرغم من نشاطه الخيرى لا يحبذ زيدان الانشغال بالسياسة، وهو نادرا ما يدلو بدلوه في قضية سياسية، سواء مغاربية او عربية او فرنسية او دولية. لكن في مرة واحدة فقط كسر زيدان صمته السياسي، وذلك بمناسبة الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2002 حيث نجح مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن في الوصول الى الجولة الثانية من الانتخابات، بعد أن تقدم على مرشح اليسار ليونيل جوسبان. وكان هذا التطور بمثابة الزلزال الذي أصاب فرنسا فتداعى الكثير من المفكرين وأهل الرأي والرياضيين والفنانين الى توجيه نداءات الى الناخبين لقطع طريق القصر الرئاسي على لوبن. وبهذه المناسبة قال زيدان «إن الجبهة الوطنية لا تتلاءم مع قيم الجمهورية الفرنسية». ودعا الشبان الى «التصويت الصحيح». وعندما قام جان مارى لوبان باستثناء زيدان من حملته المعادية للأجانب قائلا انه، زيدان، «ابن فرنسا ـ الجزائر»، رد زيدان عليه وبشكل واضح ودون مجاملات قائلا: «انا لا ألعب للوبان»، في اشارة الى انه يلعب لفرنسا بوصفه مواطنا فرنسيا، ولا يلعب بوصفه مهاجرا جيدا او طيبا. وبسبب هذا وغيره يرى كثيرون بينهم مامادو، ابن الخامسة عشرة، زيدان كمثل اعلى. ويقول مامادو لـ«الشرق الاوسط» انه «يحب» زيدان الى درجة أنه، مثل «زيزو» يلبس قميصا رياضيا يحمل الرقم 10. ويتابع مامادو وهو ابن لعائلة سنغالية وهو يشد الكرة الى صدره «أريد أن أكون مثل زيدان. اريد أن أكسب الكثير من المال وأن أصبح شهيرا. سأشاهد مبارياته على التلفزيون وسأحاول أن ألعب مثله وسأتدرب كثيرا». لكن رشيد وهو طالب مغربي يدرس العلوم الإنسانية في جامعة السوربون، باريس الثالثة، القريبة من مسجد باريس، يتوقف مطولا عند زيدان «الإنسان» الذي «يسحره» بتواضعه وخفره وابتعاده عن التصرفات الممجوجة التي تطبع غالبا الذين يبتسم لهم الحظ ويصادفهم النجاح. يقول رشيد «شخصيا، أعتبر أن زيدان لاعب ماهر وموهوب لكن اللاعبين المهرة كثيرون. غير أن زيدان يختلف عنهم.

لأنه متواضع وبسيط رغم كل المجد الذي يكلله. يتحدث عن أهله وعائلته التي يقول عنها إنه يحبها بكثير من الخفر والتواضع ولا يدعي ما لا يعرف، بينما نرى اللاعبين الآخرين مشغولين بصورهم وفضائحهم وثرواتهم، ولذا أعتقد أن زيدان طائر يغرد خارج سربه».

عندما قرر زيدان المشاركة في مباريات المنتخب الفرنسى لكرة القدم في كأس العالم، كتبت صحيفة «فرانس ديمانش» انه «استمع لصوت الله»، واتصل به الرئيس الفرنسي جاك شيراك، معبرا عن اعجابه «وعن إعجاب كل الفرنسيين بكل ما قام به زيدان وللقيم التي يجسدها على الصعيد الشخصي»، وشكره لكل ما يقدمه لفرنسا. اما صحيفة «لو باريزيان» فكتبت عنوان مختصر جدا وهو «عودة المنقذ».