مشاهد من مأساة الجياع الباحثون عن الملاجيء
مشاهد من مأساة الجياع الباحثون عن الملاجيء
مشهد أول
الأرض قاحلة جرداء ممتدة أمامهم بلا نهاية وأرجلهم أدماها المسير الطويل ، وأجسادهم العارية تماماً إلا من ورقة التوت .. ذابلة عجفاء ضامرة من شدة الجوع ، وشفاههم يابسة متشققة وأقدامهم الحافية مسودة من هجير الرمضاء أنهكتها رتابة الحركات اللاإرادية في الرمال المنداحة أمامهم كالقدر المشئوم .
الأم تحمل في جنبها الأيمن هيكل طفل ارتمى رأسه على كتفها من شدة الإعياء والجوع وتمسك بيدها اليسرى طفلة في الثالثة من عمرها ذات جسد نحيل ووجه أشبه بالجماجم ، يهزها هبوب النسيم ذات اليمين وذات الشمال ، وطفل آخر في السابعة من عمره يجّر شقيقه الذي يقل عنه بعام واحد ، ويؤازران بعضهما البعض ليتغلبا على قسوة الرمل القاهر ، ويتبادلان رتابة الحركات المهزومة أمام رنين الأجراس الموجع في أحشائهما .
تهالكت الطفلة الصغيرة على الأرض وسحبتها أمها عدة خطوات إلى الأمام ، ولكنها لم تستطع مزيداً من سحبها ، فتوقفت عن الحركة ونظرت إليها فأفلتت من يدها وتهالكت على الرمال وجثت الأم على ركبتيها وصغيرها ما زال على كتفها الأيمن ، وتحسست بيدها وجهها الصغيـر الذي تلاشت منه كل معاني الحياة وسكنت نظراتها ، ووضعت الأم يدها على قلب الصغيرة ، فندت منها آهة مكتومة ورفعت وجهها إلى السماء وتمتمت بدعاء من أعماقها لم تستطع شفاهها أن تردده من شدة الظمأ ، وسالت دمعتان من مقلتيها ، وفي هذه الأثناء كان الصبيان اللذان شاهدا أختهما وهي تلفظ أنفاسها قد وقفا خلف ظهرها واستندا إليه متلاصقين برأسيهما لا يستطيعان حراكاً ، وحاولت الأم أن تتحدث إليهما ولكن أبت الكلمات أن تخرج وألجم لسانها عن الحديث ، وأحست بجسدها المكدود يتهاوى وحاولت التجَلّد والتأسي ولكنها انهارت منكفئة على وجهها والصغير الذي كان مرتمياً على كتفها سقط على الأرض جثة هامدة ، وانهار الصبيان من فوقها وتكوّم ثلاثتهم فوق ذرات الرمضاء المحرقة ، وارتفع أنينهم الذي لم يتعدى أفواههم إلى أسماعهم .
وارتفعت شمس الظهيرة إلى كبد السماء وأرسلت أشعتها الغاضبة تُلهب أجسادهم بسياط من حمم ، ولم يستطع الصبيان مقاومة الهجير ومكابدة الجوع فحاولا الحراك ولكن سقطا على بُعد أمتار من أمهما وسكنت حركتهما ، ورفعت الأم رأسها محاولة النظر لطفليها ولكن لم تستطع أن تُحرك جزء من جسدها المهلوك . داعب أذنيها صدى صوت كأنه أنين السواقي الراحلة في عمر الزمان وحاولت جهدها أن تستجمع ذلك الصوت وفتحت عينيها محاولة أن تعرف صدق إحساسها ولكن أغمي عليها والصوت يشتد في أذنيها وكأنه أضغاث أحلام .
ووقفت سيارة لاندروفر زرقاء اللون مكتوب عليها ( منظمة الأغذية العالمية ) بخط أنيق وترجل منها شخصان ، وألقيا نظرة إلى المرأة الملقاة وحاولا التحدث إليها ولكنها لم تستطع أن ترد عليهم بل رفعت سبابتها مشيرة إلى جثث صغارها ، فتحول انتباههم إلى تلك الأجساد الصغيرة ونظرا إليها واحداً بعد الآخر وقال أحدهم يخاطب زميله :
- لقد فارقوا الحياة جميعهم .. وأظن أن الأم لم يبقَ لها غير لحظات من عمرها .
- لقد وصلنا متأخرين ..
- وهل هذا ذنبنا ؟! كنا نبحث عن بنزين للسيارة ..
- على كل حال لنحاول إسعاف هذه المرأة عسى ولعل أن يكتب لها الله عمراً جديداً !! ..
وانحنيا في محاولة لأخذ الأم إلى السيارة ، ولكن كانت لحظتها قد فارقت الحياة قبل ثوانٍ فانتصبا ينظر كل منهما إلى الآخر في وجوم وبلادة ، وقال أحدهم :
- لا إلـه إلا الله .. إنا لله وإنا إليـه راجعون .. فلنتحرك بالسيارة عسى أن نلحق بالمعسكر فقد يحتاجون إلينا في إغاثة قرية أخرى .
- إذن لنأخذ الجثث …
وستتواصل المشاهد ...
عصام عبدالرحيم
عصام الدين أحمد عبدالرحيم تابر