مشروع الجزيرة ... الفصة التي انتهت
إلى ابناء الارض , اهديهم عقداً من الفخر الجميل ووشاحاً من الطهر المطهم بالدم يغطى ما احتضنته صدورهم من رصاص الغدر روت دمائهم الزكية ثرى الارض فعانقت ارواحهم الثريا
لذكرى مزارعين " عنبرجودة "
اكاليلاً تتزين فوق الجباه الشم المبلولة بشرف الفضيلة, فتستمد منها عزاً وشموخاً وإباء
مزارعي الجزيرة " أو من تبقى منهم " ...
مدخل :
عشرون دسته
عن قصيدة من نظم المبدع الشاعر : صلاح احمد ابراهيم
لو انهم
حزمة جرجير يعد كي يباع
لخدم الإفرنج في المدينة الكبيرة
ما سلخت بشرتهم أشعة الظهيرة
وبان فيها الاصفرار والذبول
بل وضعوا بحذر في الظل في حصيرة
وبللت شفاهم رشاشة صغيرة
وقبلت خدودهم رطوبة الانداء
والبهجة النضيرة
لو انهم فراخ
يصنع من أوراكها الحساء
لنزلاء الفندق الكبير
لوضعوا في قفص لا يمنع الهواء
وقدم الحب لهم والماء
لو انهم ...
لكن رعاع
من الرزيقات
من الحسينات
من المساليت
نعم رعاع
من الحثالات فى القاع
من الذين انغرست في قلبهم براثن الإقطاع
وسملت عيونهم مراود الخداع
حتى إذا ناداهم حقهم المضاع
عند الذين حولوا لهاثهم ضياع
وبادلوا آمالهم عداء
وسددوا ديونهم شقاء
واستلموا مجهودهم قطنا وسلموه داء
حتى إذا ناداهم حقهم المضاع
النار والرشوة والدخان
والكاتب المأجور والوزير
جمعيهم وصاحب المشروع
بحلفهم يحارب الذراع
يحارب الأطفال والنساء
وينشر الموت على الأرجاء
ويفتح الرصاص في الصدور
ويخنق الهاتف في الأعماق
وفى المساء
بينما كان الحكام في القصف وفى السكر
وفى برود بين غانيات البيض ينعمون بالسمر
كان هناك
عشرون دستة من البشر
تموت بالإرهاق
تموت باختناق
حاطب ليل : عبد اللطيف البوني ...
الجزيرة تودِّع أبنائها
بسم الله الرحمن الرحيم في الأسبوع المُنصرم دفعت الدولة (مشكورة ومأجورة) مبلغ مائة وخمسة مليار جنيه (بالقديم) لحوالي إثنين ألف وخمسائة عامل في مشروع الجزيرة (مشكورين ومأجورين ).. وهؤلاء هُم آخر دفعة من العاملين في المشروع، فقبلهم سُوِّيت حقوق العاملين بالمحالج والسكة حديد والهندسة الزراعية، وبهذا يكون مشروع الجزيرة أصبح خالياً من أي موظف حكومي، فحتى الثلاثمائة موظف الذين سوف يُديرون المشروع في هذة الفترة الإنتقالية سوف يقومون بهذا العمل بعقود مؤقتة.. فالآن يمكننا أن نقول أنّ هذا المشروع (العجوز) قد بدأ مرحلة جديدة من مراحل عمره المديد إن شاء الله، ولا نودُ أن نقول أنه يقف على مفترق طرقٍ، ولكننا يمكن أن نشبِّه هذة الفترة بـ(عربية ود الدايش) التي يجب (دفرها) بالجنبات لأنه ليس معروفاً إن كانت سوف تتحرك للأمام أم الخلف؟. لابُد من كلمة وداعٍ لهؤلاء الرجال و(النساء) الذين ودَّعوا وظائفهم في مشروع الجزيرة، فالحق يُقال أنهم كانوا نموذجاً يُحتذى للخدمة المدنية في بلادنا، فكل العمالة في المشروع عُرفت بالإنضباط وحُسن الأداء، وقد ورِثوا ذلك من أسلافهم الإنجليز، كما ورِثوا منهم السرايات والمفردات الإنجليزية الفخمة، ونجح هؤلاء العاملين في قيادة المزارعين نحو تحقيق الأهداف المرجوَّة من المشروع أيام الحساب المشترك وأيام الحساب الفردي الذي أعقب المشترك في 1981.. ولكن بمجرد إعلان تطبيق قانون مشروع الجزيرة في 2005 أصبح هؤلاء العاملين في وضع لا يُحسدون عليه، وفقدوا (الوجيع ) وأصبحت مرتباتهم في (تلتلة).. أما مخصصاتهم فقد ذهبت في خبر كان. لقد أمضوا أربع سنوات وهم في هذه الفترة (البرزخية) ، لذلك يمكننا أن نهنِّئهم لأنهم أخذوا حقوقهم في الأسبوع الماضي، ودون شك أنهم سعداء لإنتهاء فترة المعاناة، ولكنهم حتماً حزينون لمفارقة هذة الأرضة الطبية التي دفن معظمهم فيها شبابه وأيامه النضرات.. ولاشك أن فقدان الوظيفة يحمل في طيَّاته الخوف من المستقبل مهما كانت مبالغ فوائد وحقوق مابعد الخدمة. وقديماً عندما كنَّا في المدارس الوسطى نودِّع أستاذتنا المنقولين ببيت الشعر الزائع الصيت الذي يقول: (دعْ الأيام تفعل ماتشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء).. أو البيت الذي يقول: (يامن نعزُّ علينا أن نفارقهم وجدانا كل شئٍ بعدكم عدمُ).. ولكن الذي يطمئن على هؤلاء المغادرين أن معظمهم مزارعين أبناء مزارعين، حتى القادمين من خارج الجزيرة إمتلكوا حواشات في المشروع، فبالتالي ستكون لهم صولات وجولات في أيام المشروع القادمة، فهم على الأقل سوف يخلِّصون اتحاد المزارعين من الذين (يحتلونه) الآن، الأمر المُتفق عليه أن هذا المشروع هو أمل السودان قاطبة وأهل الجزيرة بصفة خاصة، فأصوله تُقدَّر بمائة وخمسين مليار دولار، هذا يعني أن رأسماله أكبر رأسمالٍ لمشروعٍ زراعي ربَّما في كل العالم، وهذا المشروع (عضمه) قوي.. أقوى مما يتصوَّر الجميع.. ويكفي أن نشير هنا الى نقطة الماء التي (تتدردق) من سنار الى تخوم الخرطوم دون أن تحتاج الى أي رافعة وتخترق تربة طينية سوداء خصبة سهلية (ما فيها حتى قوز رملة) وهذا أمر لا مثيل له في العالم، ولكن رغم ذلك ظلَّ هذا المشروع كسيحاً ولفترةٍ طويلة لسببٍ واحدٍ وواضح، وهو أن مزارعه مظلوم.. مظلوم.. مظلوم.. فأي تغيير قادم إذا لم يبدأ بإنصاف المزارع وإعادته للحواشة فلن يُكتب له النجاح.. نعم لابد من تقنية حديثة ولابد من تمويل كافي ولابد من إدارة حديثة ولابد من تركيبة محصولية تراعي السوق، ولكن يجب أن نبدأ بأمر المزارع، فمصلحته ورفاهيته هي مصلحة البلاد ورفاهيتها ...