صفحة من دفتر الاحزان والاحلام(سيرة ذاتية)
نقوش بالدم في ذاكرة صغيرة
كنت صغيرا... صغيرا وممتلئا بآمال كبيرة... خرجت من بيت صغير في حي عمالي صغيرفي مدني ولكن احلامي كانت بحجم الكرة الارضية وبحجم تأثير القصيدة السحري في القارئ ...كانت ثمة شجرة قرض كبيرة تتوسط بيتنا الصغيرفي 114 ، كانت اجمل الامكنة في الدار ففيها مرجيحة اطفال الفقراء المصنوعة من حبل من التيل وفيها كانت كعاكيل الصمغ التي يشكل انتزاعها من الشجرة متعة لاتجاريها متعة.. كنت اركض مسرعا من المدرسة القريبة لكي اركض صوب شجرتي الاثيرة... ذات الشجرة كان الخروف يعلق فيها للسلخ بعد ذبحه وكنت انفر من ذلك المشهد واختلق الاعذار لكي اغيب مثلما كنت اهرب من لحظة الذبح ومرأي الدماء الراعفة... واتذكر تلك الحالة من الكآبة التي سيطرت علي بعد أول مشاهدة حية لخروفي الجميل ساعة ذبحه... كانت مفاجأة قاسية... كنت قد احببته وتفانيت في خدمته وسقياه وطربت لصوته الذي بدا لي فيما بعد كالاستغاثة... كنت اظنه سيدوم الي الابد معنا وان علاقتي مع وبره الجميل ستدوم طويلا...ولكن حين حانت تلك اللحظة وانفجر الدم كنافورة وجحظت العيون الجميلة وجدتني اركض بعيدا ابعد مدي استطاعت قدماي حملي اليه..لم انم وعافت نفسي اللحم تماما...واختلست النظر الي أبي مرارا متسائلا في سري من اين أتي أبي الشفوق بهذه القدرةالغريبة علي الايذاء ولماذا؟
حين هجعت الي مرقدي لم انم... كانت عيون الخروف الحزينة في جحوظها الاخير تملأ الفضاء وتخنقني كحبل تيل معلق في شجرتنا صباح العيد في ذات مكان المرجيحةوصوته اصبح عبارة عن صراخ طفل صغير هو أنا ونافورة الدم كانت تتدفق من رقبتي أنا ووجه أبي شاحبا مرتاعاوالسكين تقطر دما وهي تضحك.... صرخت بأعلي صوتي وافقت علي يد امي وهي تمسح علي جبهتي بحنان ومحبة وهي تتمتم بآيات القرآن وتستعيذ بالله بصوت خفيض من الشيطان... قلت لها بلاتفكير:لماذا يذبحونه؟!قالت بارتياع: بسم الله الرحمن الرحيم.. منو هو؟
قلت لها بصوت خفيض: الخروف!
ضحكت حتي بانت سنها الذهبية الوحيدة
وضمتني اليها وهي تمسح علي شعري وهي تقول
غدا تفهم.. نم ياصغيري... لكنني لم أنم أبدا.
صلاح الدين سر الختم علي
نوفمبر 2010
عصام... شرفة مطلة علي البحر (1) (2)
(1)
الجزء الاول:الخوف قاسم مشترك
كان صديقي وكان نافذتي الي عوالم كثيرة جديدة لم تتحها لي الحياة قبل معرفته.. كان عالمي محدودا فانفتح معه علي فضاء فسيح...انتقلت معه من قراءة ميكي والشياطين ال 13 والمغامرين الخمسة الي عوالم اخري...قصائد من نار وسير ثوار ومناشير سرية وقصص مثيرة عن ابطال اليسار وحكايات عن المختفين تحت الارض الغامضين تحاكي في الكثرة كرامات الاولياء الصالحين.. وفي الغموض غموض اللص الظريف ارسين لوبين الذي احتل صدارة صبانا....كان صديقي ينتمي الي اسرة متعلقة باحلام اليسار وكان البيت يضج بكتب الشعر والفلسفة والتاريخ وبالحوار والاغاني والاخبار وكان كالمزار..كنا صغارا في مدينة تتنفس شعرا وتتحرق شوقا الي منشور او مظاهرة.. وكنت خائفا وانا اقترب من حقل الالغام...ففي قاع ذاكرتي كانت صورة ذاك الرجل الاحمر الذي قاسمنا دارا ذات يوم في طفولة باكرة تلتمع، كان دنقلاويا يعمل بالسكة حديد معقل اليسار في ذاك الزمان.. طيبا وبشوشا ضاحكا يتحدث العربية بلكنة من يرفض شئيا هو مكره عليه اما امرأته فكانت تتحدث اغلب وقتها برطانة اهلها.. كان لون الجدار احمرا والستائر حمراء والنوافذ والشبابيك والترابيز جميعها مطلية بالاحمر..وكنت صغيرا جدا في اول سنة دراسة في حياتي حين طوق الجنود تلك الدار التي كنا نسكن نصفها في احداث يوليو 1971 للقبض علي حسن ساتي .كنت مرعوبا وانا انظر الي الجنود الذين تبين احذيتهم وبعض ملامح شراستهم وبنادقهم من خلال ذلك الجزء المتهدم من سور البيت والذي كان مغطي بصورة مؤقتة بالزنك القديم الذي يعلوه صدأ وبه فتحات هنا وهناك..جاءت القوة الكبيرة بالباب ورابطت مجموعة هنا عند فتحة السور خوفا من هروب حسن...كنت خائفا وانا انظر اليهم.. ركضت الي حيث الباب حتي لايفوتني شئ ...خرج الرجل الهادئ الطويل القامة بذات ملامح وجهه الباسمة كالذاهب الي ليلة عرس وسط مجموعة من الجند وكانت هناك مجموعة اخري لاتزال بالداخل تنقب عن شئ ما... انفتح الباب وكان الشارع مكتظا بالجيران والفضوليين الذين جلبهم منظر الجند... خلف ظهر الرجل والجنود كانت زوجته تصرخ بعربيةمكسرة في وجه المتفرجين: (تعايني مالكن؟ما راجل...مالا.. لاكتلت لاسرقت....)... كانت تقصد ان زوجها لم يرتكب جرما تخجل منه ولكن تأنيثها للمذكر كعادة النوبيين حديثي القدوم الي المدينة جعلت فهم المعني عسيرا علي من لم يعتاد علي ذلك، انطلقت العربة والرجل نقطة صغيرةوسط غابة من الجند لكنه وابتسامته كانا الاكبر والأكثر حضورا في ذاكرة تتوهج كلما بعدت الشقة بينها وبين تلك اللحظة.وبقيت المرأةتصرخ في المتفرجين بعربية مكسرة كمن يهش ذبابة ملحاحة. كنت اقترب من صديقي ووكره اليساري وذاكرتي تختزن تلك الصورة الغامضة المشوشة التي تحمل في ثناياها اكثر من اشارةوهاجس ولكن الفضول البشري والدفء الانساني الحميم الذي يبعثه صديقي في نفسي كانا اكبر من المخاوف الكامنة هناك في ذاكرة حائرة في تفسير مشهد وحيد مقتطع من مشاهد اخري لم أرها...
كنت مفتونا بكرة القدم والسينما الهندية والعربيةوالقراءةلما يعجب مراهق في الثانوية العامة آنذاك :الالغاز وقصص اجاثا كريستي وارسين لوبين المتخصصة في الجريمة الغامضة وميكي وسميروالمغامرين الخمسةوال13 وغيرهم وكتابات جرجي زيدان والمكتبة الخضراء واليس وبلد عجائبها وقصص الاقزام والعمالقة وقصص الانبياءوغيرها وبدايات خجولة مع الانجليزية وقصصها الملونة الانيقة في البرتش كانسل في مدني وكانت اول علاقتي مع القصةوالشعر جدتي وحكاياتها الآسرة المغناة بصوت عذب عن فاطمة السمحة والغول وحكايات البنات الفقيرات والاميرات والسلاطين... ولعل ذلك السرد الرابط بين الغني والفقر وصراع الحطاب والاميرة والبحث عن الكنوز المخبؤة وصراعات الخير والشركان تهئية لاحلام كثيرة فيما بعد وقعت في حبائلها وطاردت فراشها الحائر اينما حط ورحل...حتي انني ايام فتنتي الكبري بالاسقاط كدت اكتب عن جدتي المدركة لصراع الطبقات وحسنا فعلت بعدم الكتابة ففضاء جدتي الفسيح اكبر من كل الاختزالات والعناوين والاحكام المسبقة فهي عصفور طليق تقتله زنازن التصنيفات المسبقة وهرطقة المثقفين الباحثين لكل ظل عن شجرة ينتمي اليها ولو كان ظلالجناح نسر طائر اختطف جيفة وهرب ...وهانذا بعد ان دخلت راضيا اقفاصا عديدة اعود واحاول التحليق مثلها من جديد حرا طليقا مكتويا بنيران عديدة ومثقلا باحزان كثيرة وخيبات بعدد الظلال التي بحثت لها عن اشجار واتخذت منها دليلا فانكر الظل الشجر وشنق الشجر نفسه حين ادرك الي اي ظل يساق وينسب، فوقفت بين الظل المتلون والشجر الواجم حائرا والمرارة في فمي ودمي!!!
صلاح الدين سرالختم علي
نوفمبر2010