عزيزي محجوب ..صباح الخير
بداية معذرة للتأخير في الرد بسبب وعكه بسيطه (ملاريا ) ..ما قلتوا حتنتهوا منها ..متين ؟1
عرض للطباعة
عزيزي محجوب ..صباح الخير
بداية معذرة للتأخير في الرد بسبب وعكه بسيطه (ملاريا ) ..ما قلتوا حتنتهوا منها ..متين ؟1
الحلقة السادسة عشرة
غادرنا موسكو أنا و(أنأ) فقد علمت أن أسرتها تسأل عني وتود رؤيتي من جديد ..ضمتني والدتها بحنو وحب وشمّتني تحت الأذن تماماً كما تفعل العمات والخالات في السودان .. وكأنما للحب والحنان هوية واحدة وشكل واحد في شتي بقاع العالم .. لماذا كل الكبار موسومين بهذا القدر من الحنان في وقت يتباعد فيه الصغار .. يركضون يمنة ويسرة لتحقيق الثراء السريع وقد يمر عام لا يزور فيه الواحد فيهم أمه وأبيه بينما العمر يمضي وتنقضي الآجال ليفاجأ الواحد منهم ونفاجأ بالمذياع ينعي وفاة فلان أو فلانة .. والد أو والدة كل من الدكتور فلان بكندا والمهندس (علان) بأمريكا .. يرحلون في صمت ودون ضوضاء وأبناؤهم بعيدون هنالك في مدن الصقيع فلا يوسدونهم الثري بأيديهم هم وليس بأيدي الأقارب والجيران .. والآن جاء دور والد أنستاسيا فيأخذني بالأحضان وهو يردد ( دوبريا قيتشر ..ياجولستا ) ..وتقافزت الصغيرة ( باتريشيا ) لتقتحمني في حميمية هائلة .. كل هذا الإعزاز والود تكنه لي هذه العائلة الأنيقة .. يا الله كم أنا محظوظ .. قبلات وأحضان وشميم ( الحبوبات ) .. أشعر وكأنني بين أفراد أسرتى .. رزان لا تحب قبلات العمات والخالات .. قالت لي ذلك وكنا قد عدنا لتّونا من المدرسة وكانت إحدى عماتها قد وصلت من البلد .. أخذتها إليها وقبلّتها فوق فمها وهي تصدر فرقعة وهمهمة مثل ( موه !!) أو شيء من هذا القبيل .. انفلتت منها وهرعت نحو الحمام .. غسلت فمها وجففته ومن ثمّ عادت إلينا ولدي باب منزلهم قلت لها وأنا أغادر .. لم فعلت هذا يا رزان ؟! .. لأنني ببساطه لا أحب أن يقبّلني أحد في فمي ..ولا حتى أنا حين نكبر ونتزوج ..؟..سأفكر في الأمر بعد الزواج بشرط أن تقلع عن أكل ( فول الحاجات والقونقليس بالشطة ) وتنظف فمك بالمعجون والفرشاة .. لن أدع أحداً سواك يقبّلني ما حييت وسأختزن كل قبلاتي لأجلك .
انتهت مراسم الاستقبال التي أعقبتها وجبة عشاء دسمة .. انتقلنا بعدها أنا وأنستاسيا إلي غرفة الجلوس .. تمددت علي أريكة أمامي وقالت لي بصوت هامس ( أدنو مني يا أويس ..) .. كانت ساحرة ومتألقة وكأنها قدمت لتوها من الجنة .. ستقص عليّ بقية أجدادك .. توقفنا في المرة السابقة عند جدك الخامس .. بل الرابع .. لا بل الخامس .. وكنت أود إغلاق هذا الملف الذي يحولني في كل مرة إلي شهرزاد .. جلست علي كرسي صغير وحدثتها عن جدي المقداد بن الراشد ..قلت لها ..أقسم الملك الأيهم بألاّ يزوج ابنته الوحيدة (قمر الزمان) إلا لمن يعيد له سيفه (قرص الشمس) المرصع بالذهب والأحجار الكريمة من قصر أمير جزيرة الهلاك في أعالي البحار .. وهي جزيرة تسكنها المردة والشياطين وشرذمة من القراصنة قطعت الطريق علي سفينة (الأيهم) التي سافرت إلي رأس الرجاء الصالح خصيصاً لإحضار ذاك السيف الذي أهداه له ملك قبائل (الزولو ) الجنوب أفريقية .. قبِل جدي المقداد بن الراشد الرهان حتى يفوز بقمر الزمان التي طبقت شهرتها الآفاق لجمالها ودلّها ودلالها .. وكان جدي حينها فارساً مغواراً تهابه جميع قبائل العرب .. جمع حوله عدداً من فرسان القبيلة وعكفوا علي صناعة قارب شراعي كبير .. أخذوا معم ما يكفيهم أكلٍ وشربٍ وسيوفٍ وخناجر .. وتمنطق جدي بخنجره الأزرق الذي يا طالما مزق أكباد الفرسان إرباً .. إرباً .. ومن ثم ّ أبحروا ذات صباحٍ سكنت فيه أمواج البحر إلي جزيرة الهلاك لاستعادة السيف المفقود .. وفي الليلة الرابعة علي رحيلهم هاج البحر وماج وأصبح المركب الشراعي مثل كرة تتقاذفها الأمواج .. كانوا قريبين جداً من وجهتم بيد أن المركب انقلب رأساً علي عقب وضاعف من حجم المأساة الظلام الكثيف والرياح العاتية .. وفجأة وجد جدي المقداد بن الراشد نفسه وهو يقاوم الموت بشراسته المعهودة رافضاً الاستسلام .. وفي تلك اللحظات الحرجة انشق الموج عن حوت عملاق ابتلع جدي في ثوانٍ .. فطن الجد المتعب إلي خطورة موقفه وأدرك أن الحوت سيهشمه ويهضمه فيما لو وصل إلي أمعائه ..تشبث بحلق الحوت قريباً من خياشيمه وصار يتنفس من خلالها والحوت الجائع يحاول عبثاً إنزاله إلي الأمعاء .. مضي يوم كامل وجدي قد تكور في موقعه يتنفس مع الحوت ويأكل الطحالب والأصداف التي يمررها الحوت عبر فمه الواسع .. وفي اليوم التالي لاحظ جدي عبر فوهة الخياشيم أنهما باتا قريباً جداً من اليابسة فانتزع خنجره الأزرق وشق بطن الحوت العملاق الذي أرسل دوياً هائلا وهو يضرب الماء بذيله ويتلوي من شدة الألم .. انفلت جدي من حلق الحوت ليغوص بين ثنايا الوحل والأعشاب الكثيفة القريبة من الشاطئ .. نظر حوله فلم يعثر للحوت علي أثر وبانت عند الأفق كثبان الرمل والأشجار الباسقة التي تؤكد نجاته ولو إلي حين ريثما يتبين أين هو من الجزر العديدة المنتثرة بين جنبات المحيط .. تنفس جدي المقداد بن الراشد الصعداء وحمد الله كثيراً علي سلامته ..أمضي سحابة ذاك اليوم وهو يعالج جراحه والآلام الرهيبة التي تعصف بجسمه .. وشيئاً فشيئاً شعر ببعض التحسن .. تحامل علي نفسه ونهض وهو يترنح كالسكارى .. وغادر الشاطئ ليجد نفسه وسط غابة من أشجار البلوط الكثيفة .. والحدائق الغناء التي تعج بالعصافير الملونة .. وكان ثمة نبع صاف داخل الجزيرة شرب منه حتى ارتوي وغسل جسده وملابسه مما علق بها من أدران واستلقي فوق الرمل ونام .. نام طويلاً لدرجة أنه لا يعرف كم مضي عليه من الوقت وهو نائم .. وعندما استيقظ حملت له النُسيمات الباردة أصوات دفوفٍ وغناءٍ ليست ببعيدة عن المكان الذي هو فيه .. تتبع أثر الغناء ليفاجأ بعدد من الصبايا وقد تحلقن حول فتاة رائعة الجمال نامت فوق أرجوحة من الدوالي والصبايا يمرجحنها ويغنين لها .. استجمع قواه وصفق بيديه طالباً الإذن بالدخول لهن .. قفزت الفتاة من أرجوحتها وهي فزعة وأرسلت الفتيات صرخات وأحدثن جلبة وضوضاء من شدة الخوف بيد أن الفتاة أمرتهن بالتوقف عن الصياح .. عمل جدي علي تهدئتهن وجثا علي ركبتيه وهو يقدم فروض الولاء والطاعة ..اطمأنت الفتاة بعض الشيء .. تقدم جدي نحوها وأعطاها منديلاً مطرزاً بخيوط الذهب والفضة كعربون صداقة وتعارف ..أمرت الفتاة رفيقاتها بالانصراف .. طلبت منه أن يجلس وكانت المشكلة في كيفية التعارف بينهما .. شرح لها بالإشارات كيف وصل إلي هنا ولماذا غادر موطنه في بلاد العرب .. كانت جميلة جمالاً يخلب الألباب ولم يحتمل جدي المقداد بن الراشد تلكم الأضواء التي سفحتها وجنتاها الساحرتان .. صفقت بيديها فعادت الفتيات الأخريات في ثوانٍ معدودة وأمرتهن بأخذه عبر طريق معزولة إلي القصر وعادت هي وبقية الخادمات عبر طريق آخر ليجد نفسه بإحدى غرف القصر .. أحضرت له الخادمة طعاماً وشراباً وملابس جديدة وكانت تلك الأميرة الصغيرة تزوره كل مساء بعد أن يخلد الجميع للنوم .. ليكتشف جدي أن تلك الفتاة ليست سوي ابنة أمير جزيرة الهلاك .. كانت مفاجأة عظيمة كادت أن تقضي عليه .. ووعدته بأن تحقق له مأربه ولكن بقليل من الصبر والتريث حتى لا ينكشف أمرهما فيقتله والدها ومن ثمّ يذيقها الويل والثبور وعظائم الأمور .. وفي ليلة صاخبة كان أمير جزيرة الهلاك يحتفل خلالها بزواجه من الزوجة الخامس والستون ..إنسلت الأميرة من الحفل ودخلت غرفة والدها وبحرص شديد أخذت السيف المطلوب وعادت به إليه وأمرته بالتوجه نحو الشاطئ ليجد مركباً صغيراً به عدد من الرجال بانتظاره ليأخذه ويعود به بأمر منها إلي بلده .. وكانت الريح مواتية والبحر ساكن فلم يحدث ما يعكر صفو تلك الرحلة .. كان الوداع مّر المذاق علي كليهما ولم يدر كيف يشكر جدي المقداد بن الراشد تلك الصغيرة التي لا يعرف حتى اسمها .. فوعدها بان يعود يوماً ما لرؤيتها وعقد حلف مع والدها .. وعاشت القبيلة أياماً وليالي في الرقص والغناء احتفاءً بزواج جدي من الأميرة قمر الزمان .. والآن يا ( أنّا ) ما رأيك في هذه الحكاية ..؟ !! .. أنستاسيا ما رأيك ..؟ دنوت منها أكثر لأكتشف بأنها قد راحت في سباتٍ عميق .
وادرك شهرزاد الصباح
وسكتت عن الكلام المباح
عزيزي محجوب ..صباح الخير
من شبكة حربي لشبكة أنستاسا ..المخرجه كيف ؟!
الحلقة السادسة عشرة
خطاب مستر أوليس ..مستر أوليس ..كريموف وهو يخطئ للمرة الألف في نطق اسمي ..نعم يا كريموف ..ماذا وراءك ؟ ..البشارة سيدي .. البشارة .. لقد وصلك مسجل من الخرطوم ..خطاب لي أنا؟! ..نعم .. نعم بكل تأكيد ..أين هو ؟ قلت له في لهفة عارمة ..ولكن ..أين ..؟ ..فهمتك يا كريموف خذ هذه ..خمسة دولارات ..؟ أنت كريم جداً سيدي ..وأنت أبو الكرم يا كريموف واسمك يشير إلي ذلك فقط أعطني المظروف ..أدخل يده في تضاريس( البالطو) الضخم وناولني إياه ..أخذت منه المظروف وتوجهت نحو غرفتي ..أسدلت الستائر وأغلقت الباب من ورائي وكأنني أختلي بحبيبة قلبي لأول مره ..فضضته بعناية فائقة وكأنني أخشي تساقط الحروف علي أرضية الغرفة ..وشريط كاسيت أيضاً .. يااه .. إذن أنا موعود بالسفر عبر عيون أهلي إلي سماوات وطني الحبيب .. قرأت الرسالة ووجدت بها أسطراً من والدي وأخري من شقيقي وشقيقاتي حتى الصغيرة ( روان) التي لا تزال بالروضة أعطوها حيزاً .. كانت كلمات مفعمة بالأشواق والأمنيات والوصايا .. الصلاة والمذاكرة ولم أجد سطراً واحداً من أمي التي تجيد القراءة والكتابة فانتابني إحساس عارم بالخوف ولكنني ما أن أدرت شريط التسجيل حتى جاءني صوتها واهناً متعباً وحنوناً .. احتضنت آلة التسجيل أضمها إلي بقوة وكأنني أضم إليّ جسد أمي الحبيبة .. وبكيت .. لا أدري كم مر علي من الوقت وأنا أبكي .. وعندما تعبت من البكاء أخذت قرصاً من ( فاليوم تن ) فنمت ..وفي المنام زارتني أمي ..جلست بقربي تؤنسني وتأخذ يدي في يدها وتقص علي الأحاجي تماماً مثلما كنت صغيراً ..حدثتني عن ( ود النمير .. وفاطمة السمحة والغول .. وود النقادي) .. وآخرين ..كان حلماً جميلاً تمنيت لو لم ينته ولكن هاهو كريموف مرة أخري يقرع الباب بقوة فيوقظني .. مستر أوليس .. مستر أوليس .. السيدة ذات الفراء الفاخر تطلبك علي الهاتف .. نهضت في تثاقل واضح وأنا أشعر بصداع شديد من أثر ( الفاليوم ) .. وذهبت نحو غرفة الإستقبال .. مرحبا إزابيلا .. كيف حالك يا أويس .. أسبوع كامل ولا أسمع حتي صوتك ؟! ..هل هذه هي أصول الصداقة عند قبائل أفريقيا .. لا والله يا إزابيلا ..أنت دائماً في بالي ولكن الامتحانات علي الأبواب .. هل تستطيع المرور عليّ بمنزلي ؟! .. الآن ؟ .. بالطبع فأنا أشتاقك جداً ..حسناً فأنا أشتاقك أيضاً وأشتاق عصير التوت الكولمبي ..كنت بحاجة لكتف صديقة أرتاح عندها بعد الرسالة التي وصلتني من أهلي .. أخذت حماماً دافئاً وغيرت ملابسي بسرعة وحملت معي ربابتي .. لقد أعددت لك اليوم مفاجأة يا إزابيلا وأي مفاجأة ..مفاجأة ستزلزل كيانك ..فقد عكفت أنا وصديقي الإسباني ( نعوم ) القادم من جنوب لبنان علي حفظ أغنية لاتينية كتبها شاعر كولمبي وقمت بتوقيعها علي ربابتي مع بعض التعديلات .. استقبلتني بحماسة بالغة وكأننا لم نلتق منذ قرون .. جلسنا وحدنا في غرفة الجلوس .. سألتها عن أحوالها فغمغمت بعبارات غير مفهومة فهمت منها بأنها محبطة وأنها تتهدم وتموت ببطء .. اختفت وعادت بقنينة كبيرة من التوت الكولمبي الذي أحبه .. صبت لي كأساً عملاقة كمسبح صغير .. شربت منها حتي ارتويت وشعرت بالخدر يتسلل إلي عروقي .. وانزاحت في لحظات كل آثار التعب وآلام الصداع ودبت الحركة والحيوية في أوصالي .. حيوية جعلتني وقتها مستعداً لمصارعة ثور هائج .. إِنتبهت إلي آلة الربابة ورجتني أن أغني لها شيئاً خاصاً جداً قلت لها سأفعل .. أمسكت بالربابة وبدأت الغناء بلغة اسبانية سليمه .. انعقد حاجباها دهشة واتسعت عيناها الرائعتان تكاد لا تصدق ما تسمع .. ضحكت وفركت أصابعها من شدة النشوة .. غادرت موقعها بالمقعد المقابل وجلست بقربي تعيد الكلمات من بعدي وبدأ وكأننا نشّكل ثنائياً غنائياً رائعاً ..( إن عثرت عليك مجدداً في وقت ما .. سأعود إلي نظرات عينيك الحبيبة .. سأفعل معك نفس الأشياء المجنونة ذاتها .. لو عثرت عليك مجدداً .. سأعود إلي نفس المكان الذي فقدنا فيه حبنا .. لو عرفت مكانك لبحثت عنك ولقلت لك .. لا معني لحياتي بدونك .. ولكنك بعيد جداً .. ولكي أحقق هذا الحلم أفعل أي شيء .. كل مرة أتعثر بهذا الصوت .. لم يبق شيء بيني وبينك .. إن كنت أبكي لأن قلبي يفتقدك .. لكنني تعلمت حين أتألم بأنه يجب عليّ أن أنسي .. سأكون متغلغلاً في جلدك .. مبحراً في مسامك . .وسيبقي لي مكان في قلبك .. ولتكن هذه هي التنهيدة الأخيرة .. عندما عثرت عليك ذاك الصباح بينما النسيم يقبّل بشرتك الرائقة شعرت بهذا الحب الأزرق بداخلي وأراك في النجمة التي طالما حلمت بها .. بكل دمعة أثناء الغفران .. كالسماء الزرقاء ربيع أزرق غمرني .. علمني كيف تكون الرقة الساحرة فكتبت قصيده ) .. كانت منفعلة وقلقة وهي تتابع الغناء معي .. وعندما وصلت إلي المقطع الأخير .. أجهشت بالبكاء وهرعت نحو غرفتها .. دفنت نفسها داخل الملاءة وهي تنشج وتتأوه .. قلت لنفسي .. هذه الانفجارات الوجدانية مطلوبة في بعض الأحيان .. راجعت الصالون الأنيق ولفت انتباهي صورة كبيرة ل(إزابيلآ) وهي في ثوب الزفاف ومعها عريسها .. شاب أسمر طويل القامة وقد التف حولهما عدد كبير من الجنود يرتدون الزي العسكري وتظهر في الصورة أشجار كثيفة قرب نبع جارٍ .. شعرت بالخدر والنعاس وبين اليقظة والأحلام رأيت وجهها قريباً جداً من وجهي .. فنمت .. نمت طويلاً وحين استيقظت من نومي وجدتها وهي تجلس قربي تتأملني في تبتل صوفي غريب .. أنت متعب يا أويس .. هيا أعيدك للنزل بعربتي .. نعم من فضلك .. وقبل أن أغادر ناولتني كأساً من عصير التوت .. الشراب الذي بات ينعشني ويسبح بي في سماوات من الراحة والسكون وكأنني (هدندوي) من غابات نهر القاش بكسلا أدمن البن الحبشي .. كان والدي قد عمل بمنطقة أروما القريبة من كسلا ولا يحتاج البجاوي هنالك لكثير عناء ليصنع قهوته .. تجده يحمل شيئاً من البن والسكر والفحم في جرابه ويتوه ممتطياً ناقته في وهاد الشرق وسفوحها بحثاً عن لا شيء في حياة هي أقرب للتصوف .. وعندما يشعر بأنه بحاجة لفنجان من القهوة .. يترجل من علي ظهر ناقته وتحت ظلال أقرب شجرة يقدح زناده ويوقد ناراً صغيرة يحتويها بين ثلاثة قطع من الطوب ليحميها من ( الهبباي ) العاتي لا سيما في الصيف .. ثم يضع إبريقاً فوق النار ويصنع قهوته بنفسه .. وتكون الصورة في أقصي حدود الروعة لو أن (تاجوج )بقربه تناوله الفنجان فلا يملك سوي أن يغني للحب والناس والجبال والأجداد ..( فنجان جبنه بشمالو تسوا الدنيا بحالو ..).
ها أنا أتكيء علي وسادة الشجن .. تتقاذفني الهواجس والكوابيس الرهيبة .. وشجيرة صحرائي ونجمتي الغائبة رزان تهدهد أوجاعي في المنام فأرتاح . .لماذا أنت بعيدة بهذه الدرجة .. أنظر في الخارطة وأقيس المسافة بين السودان وموسكو فأصاب بالرعب .. والله كم أنت بعيدة يا رزان .. إني أتذكر لحظة فراقنا وأنا أقف قريباً من نافذة المركبة في موقف العربات بالأبيض .. وكفك في كفي ..لكأنها معجونة من أجنح غيمة .. أنيقة وبضة ومشاغبة ..عبثت بأصابعي أكاد أجن من البهجة والسعادة .. وهتفت في سري .. اللهم لا تحرمني من هذا الوجه الطفولي الرائع بكل تفاصيله المدهشة وسمته المترف البهيج ..ذاك الحنون.
قرع بالباب والقادم ليس سوي أنجلينا جاءت لتأخذ متعلقات إبن عمتها الذي مات في مقديشو .. كم هي غريبة هذه الحياة ..ألماني يموت في مقديشو وطالب غاني يموت في موسكو .. دفعت لها بكل ما يملك شوماخر أو شرودر كما تعودنا علي مناداته .. ولكن أين هو .. ربما استكثروا عليه جنازة متواضعة فقذفوا بجسده للعقبان ووحوش الغابة .. وهل من أوراق أخري ؟! همست والدموع تبلل وجنتيها الناعمتين .. هذا كل ما لديه بخزانة الملابس وقد تكون ثمة أوراق أخري في الحقيبة الصغيرة .. ضمت ملابسه إلي صدرها تشمها وتبكي بكاءً مراً .. بكت الساعات الطوال وأنا أحاول تهدئتها دون جدوي .. لكأنها خزان للدموع يكفي كل المعذبين علي وجه هذه الأرض .. استأذنتني لحظة لتدخل الحمام .. سمعت صرير المزلاج من الداخل وبقيت هنالك أكثر من اللازم .. انتابني نوع من القلق .. طرقت باب الحمام طرقات خفيفة وأنا أنادي عليها .. أنجي ..أ نجي .. هل أنت بخير ؟! .. فجاءني صوتها واهناً ومتعباً وهي تردد بالألمانية ( Ich can nicht ..ich can nicht ) ومعناها لا أقدر .. لا أقدر .. دفعت الباب بكل ما أوتيت بقوة محطماً القفل من الداخل لأجدها وقد وضعت مسدساً قرب صدعها .. أخذت منها المسدس وأفرغته من الطلقات وسحبتها في رفق إلي الغرفة .. وحمدت الله كثيراً أنها لم تنتحر بكل ما يمكن أن يمثله حادث كهذا من ذيول وتداعيات بالنسبة لي .
وبت غير قادر علي فعل أي شيء .. دائماً متعب ومكدود واشعر بثقل في أجفاني حتي وأنا داخل قاعة المحاضرات .. حالك لا تعجبني يا أويس .. لماذا أنت شاحب هكذا ؟ هل تشعر بشيء ؟ هكذا كان حديث أنستاسيا معي في كل مرة تلتقيني فيها وهكذا كانت ملاحظات الرائعة شاهندة .. حتي روزماري الإيرلندية القادمة من بلفاست والتي تعودت أن ترشقني بنظرات حانية عندما يلتئم شمل الطلاب في غرفة الطعام وتحييني من علي البعد .. هي الأخري لاحظت ما يعتريني من أسقام .. وفي مرة مازحتني وركضنا معاً نتقاذف بكرات الثلج ونحن نلهو في ميدان كرة السلة .. فشعرت بميول رهيبة نحوها لدرجة أنستني نفسي والمحاضرات فاقترحت عليّ جولة في الضواحي علي ظهر الدراجات البخارية وكانت لدي فكرة ما في قيادتها .. تجولنا في الغابات والمزارع دونما زاد دونما اتجاه .. وتمنينا لو نتوه العمر كله .. ألم تكفك ( أنّا ) وإزابيلا لتضيف لقلبك المتعب أثقالاً جديدة من المواجد .؟ كأن للجمال ثأر قديم لديك .. ما أن تتاح لك معرفة هذه الجميلة أو تلك حتي تستسلم تماماً وترفع جميع راياتك البيضاء ولا تقاوم وزملاؤك في جامعة الصداقة يقاومون الأنظمة المستبدة في بلدانهم بالدم والبارود .. ولكنني لا أؤمن بالقتل وإراقة الدماء دفاعاً عن فكرة أو قضية ما .. لأن ذلك الطريق يوقع ضحايا أبرياء من المدنيين وعابري الطريق الذين لا ذنب لهم وأؤمن بمدرسة غاندي في مقاومة الظلم والاستبداد .. المسيرات السلمية والإعتصامات فإن لم تنجح فسلاح الإضراب العام يفعل الأعاجيب في السلطة أي سلطة مهما كانت قوتها وجبروتها .. خذ مثلاً شرودر الذي فقد حياته وهو يقاوم حكومة بلده المنتخبة ديمقراطياً .. ما لها ألمانيا ؟! تقدم تكنولووجي ورفاهية لا يوجد لها مثيل .. أتفهم دوافعه لو كان قد قدم من دول العالم الثالث حيث تشقي أجيال بحالها من أجل الحصول علي شربة ماء أو جرعة دواء وليس مقعداً لحضور حفل للأزياء .. واليوم كان من المفروض أن أذهب مع ( أنّا) لمراجعة طبيب إختصاصي صديق لعمتها السفيرة السابقة ولكن إزابيلا أخبرتني علي الهاتف بأن عمتها خواليتا وابنتها سيسيليا قد حضرتا من لينينقراد وتودان رؤيتي .. توجهت علي الفور نحو منزلها لتأتي أنستاسيا في الموعد المتفق علي فلا تجدني .. لقد غضبت غضباً شديداً ولعنتك بكل اللغات .. كريموف يصف لي الموقف لدي عودتي من منزل إزابيلا .. يا لروعة الصغيرة سيسيليا ..أمضيت معهم بعض الوقت وكان علي إزابلا تركنا لوحدنا والذهاب في مشوار هام بالنسبة لهما .. حملتا ذات الحقيبة السوداء التي كانت تجد كل الحفاوة والاهتمام لدي وصولنا لآخر مرة إلي لينينقراد وهاهي ترقد الآن مهملة قرب الباب المؤدي إلي غرفة نوم إزابيلا ولا أحد يعيرها أي اهتمام .. لماذا هذه الدورة العجيبة من الحب والاهتمام ومن ثمّ الصد والإهمال بعد حين حتى بين الجمادات ؟! .. أمضيت وقتاً رائعاً وغريباً مع الصبية سيسيليا .. كانت صاخبة وضاجة ومسلية ومتوثبة كنمرة صغيرة .. وماذا أيضاً ؟ كانت حلوة وأنيقة ورائعه .. وماذا أيضاً ؟ كانت ناضجة وشيقة وغضة وناعمه .. وماذا ايضاً ؟ كانت كقطعة حلوي كحزمة من المرمر .. مشرقة وبهية و..و.. كل هذه الصفات تجمعت في سيسيليا ؟!! ..أنت تبالغ يا صديقي .. لقد منحتني ساعات من الدفء والروعة تكفيني بقية عمري .. وامتعضت حين سمعت بوق سيارة إزابيلا يطلب من الحارس فتح البوابة الرئيسية .. لعلني أول شخص تعامل معها كسيدة محترمة وليس كطفلة .. لتسكب كل ما بدواخلها من رقة وحنان .. مرحبا أويس .. مرحبا إزابيلا مرحبا خواليتا .. هل كانت سيسيليا رائقة ومؤدبة معك ؟ خواليتا .. تسأل بشيء من المرح ..أسأليه ماما .. بل كنت صامتة ومتجمدة كبحيرة روسية في فصل الشتاء .. الحق يقال .. لديك بنت رائعة يا عمة خواليتا وينتظرها مستقبل باهر .. إنها ذكية ومهذبة ..عدنا للأوصاف يا ( كامل الأوصاف ) .. علي رسلك .. علي رسلك .. ضعها هنا .. ومرة أخري تستعيد الحقيبة السوداء أهميتها .. هل قالت لك سيسيليا بأننا سنغادر بعد نصف ساعة من الوقت ..؟ العمة خواليتا تفاجئني بهذا القرار الصعب ..ماممااء ..هل سنغادر فعلاً ؟ ..اتركيني لبعض الوقت في موسكو .. أرجوك ماما .. أتوسل إليك .. لماذا لا تقولين شيئاً يا إزابيلا ؟ .. لا مجال لتركك ورائي والدراسة ستبدأ بعد غد .. مرة قادمة حبيبتي .. أعدك بأن أعيدك إلي هنا لتمضين إجازة الفترة مع ( إييزا) .. إييزا ؟! .. هل هذا هو الاسم الذي ينادونك به وأسمع به لأول مرة ( إزابيلا ) أنا الذي كنت أعتقد بأنني من أقرب أصدقاؤك يا .. يا ..إييزا ؟! .. لا والله يا أويس ولكنني سأشعر بالخجل إن طلبت منك ذلك .. وحانت لحظة الفراق القاسية .. سيسيليا تغرق في البكاء وكأننا في موسم البكاء والندم .. لماذا الجميع يبكون في هذا البلد ؟! .. سأتذكرك كثيراً أويس .. يا إلهي ..لماذا أنت بهذه الروعة التي آلمتني ؟.. آه ما أصعب الفراق وما أتعسه .
نحتاج لفحص شامل للدم والأنسجة ولصورة مفصلية ب(الراديو آكتيفتي ) ..الطبيب الاختصاصي وهو يوجه حديثه نحو أنستاسيا بينما أنا راقد علي ظهري فوق أريكة الفحص أمامه وكانت قد اعترتني حمي شديدة وصداع نصفي وتعرق أفقدني كثيراً من السوائل مع شيء من التشنج وطلب مني أن أعوده بعد أسبوع لمعرفة النتيجة .. ولم أكد أغادر المشفي حتى أخذتني ( أنّا) بسيارتها إلي مطعم خلوي .. لماذا نتناول طعام الغداء في هذا المكان البعيد يا عزيزتي ..؟ هذا لأنني أعددت لك مفاجأة ما .. مفاجأة ؟! .. ما هي يا (أنّا) .. أرجوك قولي لي .. وكيف ستكون مفاجأة إذا ما أفصحت عنها .. لا تستعجل ستعرف بعد ساعة من الزمن .. دلفنا إلي داخل المطعم الفخم وكانت ثمةّ أريكة قد أعدت لشخصين تتوسطها باقة من الورد وبعض الشموع .. أخذ النادل معطفينا وأجلسنا بأدب جم .. وبعد دقائق ظهر شخص يحمل بيده آلة موسيقية أشبه بالكمنجة وبدأ العزف .. طعمنا وشربنا وفي خضم هذا الزخم الاحتفالي أخرجت (أنّا) علبة أنيقة وقالت لي بحزم وبصرامة .. أسمع يا أويس .. اسمعني جيداً .. أنا أخطبك زوجاً لي علي سنة الله ورسوله .. وتسطيع الرفض أو القبول .. علي سنة الله ورسوله ؟! .. وهل أنت مسلمة يا (أنّا) ..نعم والحمد لله ..بيد أني أخفي إسلامي عن الروس وكذلك انتمائي للشيشان .. وطني الأول .. أذهلتني المفاجأة وكادت أن تقضي عليّ لو لا تشبثي ب( حسبنا الله ونعم الوكيل ) .. هل تمنحينني بعض الوقت فأصلي وأستخير الله ؟! .. بالطبع تفضل .. هرعت نحو الحمام توضأت وصليت في ركن قصي من المطعم ركعتين وتلوت في سري دعاء الاستخارة وشريط من الذكريات ينداح أمامي .. صورة أمي وأبي وأهلي ورزان .. ياااه .. لكم تتوالي عليك المفاجآت يا أويس .. بالأمس القريب شهدت بمسجد موسكو الكبير إسلام ( نعوم ) من أجل شاهندة وسفرهما معاً إلي (مظفرأباد ) ليخطبها من والدها حسب شروطها وأن يتم الزواج وفق التراث الكشميري وقبل شهر سألت إزابيلا عن صورة الزفاف التي تزين مكتبتها فأخبرتك بأن الذي يظهر في الصورة هو زوجها الراحل ( سيزار ) .. ذلك الطالب الذي هرب معها بعد نهب الصرافة وقد تقدم في صفوف القوات المسلحة الثورية التي تقود المقاومة المسلحة في كولومبيا وبينما كان يعقد مؤتمراً صحفياً داخل الغابة بإحدى المناطق المحررة حدث انفجار قوي أودي بحياته وعدد من الصحفيين وتمكنت إحدى الفصائل من نقلها إلي كاراكاس ومنها إلي روسيا وسبق ذلك بالطبع تحويل جميع أرصدتها إلي هنا .. يا لهذا العالم الغريب .. عدت إلي أنستاسيا .. اسمعي يا ( أنّا ) .. أنا من أطلبك زوجة لي فهل تقبلين ..؟غادرت موقعها وعانقتني طويلاً وهي تبكي وتردد ( الحمد لله العظيم ..) .
تقبلت إزابيلا النبأ بما يشبه الصدمة .. وظلت تردد .. هذا مستحيل .. هذا حرام .. هذا غير عادل .. قلت لها محاولاً مؤاساتها هذه الأشياء مقدرة سلفاً والزواج مثل حادث المرور لا تعلم متي وكيف يقع ومن سيكون الطرف الثاني في الحادث والأفضل لنا يا إييزا أن نظل أصدقاء .. ألسنا أصدقاء يا إزابيلا ..؟ نعم .. نعم .. ولكنني أحبك ولم أكن بحاجة لأقولها لك صراحة .. أنا أحبك يا أويس .. يا إلهي ساعدني يا إلهي ساعدني .. لن أخذلك يا إييزا .. لن أخذلك وسأبقي ما حييت صديقاً مخلصاً لك وللعمة خواليتا وللصغيرة سيسيليا .. أعدك بذلك والآن هيا كفي عن هذا المزاج الغاضب .. تعلمين شيئاً يا إييزا .. لقد اكتشفت اليوم كم أنت جميلة حين تغضبين .. أرجوك امنحيني مزيداً من التململ والغضب .. كف عن هذا الهراء يا يا أويس .. لقد بعتني وخنتني وفضلت أنستاسيا عليّ .. هذه القروية الروسية الساذجة أخذتك مني وأنا بحاجة لك أكثر منها .. علي الأقل لديها أسرتها والجامعة والحزب .. أما أنا ..ماذا تبقي لي ؟ .. ماذا ؟ مات زوجي وانقطعت صلتي بوالدي ووطني .. كنت أعول عليك كثيراً وكنت واثقة بأننا سنتزوج .. لا تبكي يا إييزا ..فأنا هنا بجنبك وسأظل .. والآن هيا ابتسمي .. هيا .. هكذا أجمل .. أتمني لك السعادة معها ومن كل قلبي .. وآمل أن تقدر كم هي محظوظة حين حصلت علي جوهرة نادرة المثال اسمها أويس .. والآن أريد شيئاً من عصير التوت ..عصير التوت ؟! .. قالت في ارتباك .. لقد نفدت الكمية التي معي .. لا تشربه يا أويس .. أرجوك لا تشربه مرة أخري ولا تسألني لماذا وقبل أن أغادر دست في يدي علبة أنيقة وهي تهمس في وجهي هذه هديتي لأنستاسيا .. أهدته لي والدتي عندما نجحت في الدخول للجامعة وأنا بدوري أهديه لعروستك .. فتحت العلبة لأجد عقداً من الماس الحقيقي .. ( واو !!!) .. هذا عقد من الجواهر الحقيقية حبيبي .. من أين حصلت عليه ولماذا .. لا بد أنه غال جداً أويس . .( أناّ ) وهي تقلب العقد بين يديها .. هذا العقد هدية زفافك من إزابيلا .. عبس وجهها لبعض الوقت وأعادته لي بشيء من الغضب .. أرجوك خذيه .. لا تحرجيني مع إزابيلا .. لأجلك فقط سآخذه .. وكان واضحاً أنها مفتونة به .. وضعته حول عنقها الأنيق فبدا أكثر جمالاً وإشراقاً .. من المؤكد أنه يساوي ملايين الروبلات .
الحلقة السابعة عشرة
ومضت الأيام سراعاً ونحن نركض هنا وهناك لتجهيز لوازم العرس .. نريده زفافاً متواضعاً وفي نطاق أسرتي وبعض أصدقاؤك لا أكثر ..المهم أننا سنتزوج .. وذات صباح شديد البرودة تغطيه الثلوج الكثيفة .. جلست بغرفتي وأنا أرتجف من البرد أقلب في يدي مسدس أنجلينا الذي سحبته منها خوفاً من أن تؤذي نفسها به .. سمعت طرقاً شديداً بالباب .. افتح يا أويس .. أفتح بسرعة فالبرد قارص في الخارج .. بسم الله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم .. لكأنه صوت شرودر .. لقد مات وشبع موتاً .. شرودر ؟!!! .. شعرت بدوار خفيف وأن رجلاي لا تقدران علي حملي وتهاويت نحو أقرب مقعد .. أويس ما بك ؟! ما بك يا رجل ؟! .. ألم تمت يا شرودر ضمن من ماتوا في مقديشو ؟ أم أنك شبح عاد من وراء برزخ بعيد ؟! .. مقديشو .. لعلك تقصد عملية ( بادرماينهوف ) بطائرة اللوفتهانزا .. تلك قصة طويلة يا أويس وأنا متعب جداً .. لقد حالت الشرطة الكينية دون صعودي للطائرة في اللحظات الأخيرة .. سأخبرك فيما بعد .. سأخبرك .. كيف حال أنجلينا ؟ .. لم أرها قبل مدة وكانت علي وشك الانتحار بسببك .. إنها تحبك بقوة يا شرودر ويتحتم عليك عدم التفريط بها من أجل قضاياكم الواهية .. قضايانا واهية يا أويس ؟! .. بالله عليك كف عن إزعاجي بنظرياتك يا شرودر . .ماذا تعرفون عن الظلم الاجتماعي وكل احتياجاتكم متوفرة بالأسواق وحكومتكم تمنح رواتب شهرية حتى للعاطلين عن العمل .. ماذا تعرفون عن المعاناة وعن التفاوت الطبقي وأنتم تتمتعون بجميع الخدمات في بلدكم الماء والخضرة والعلاج والتعليم وحرية السفر لأي مكان والبنوك التي ما فتئت تقرض حتى غير الراغبين في الإقراض .. قروض لشراء شقق وقروض لشراء سيارة وإجازات في سواحل البحر البيض وجزر كناريا .. وتلفزة ودور سينما وانتخابات حرة ونزيهة .. في وقت نشقي فيه لمجرد الحصول علي لقمة العيش وفرصة للعمل وربما للهجرة .. كرة قدم متطورة وملابس زاهية الألوان وأجسام قوية وأناقة لا تصدق .. وبرغم كل هذا الثراء تأتي ياشرودر لتغيّر المجتمع بالقوة ..امنحونا عشر ما بأيديكم ونرضي بديكتاتور إلي الأبد .. هل انتهيت من دفاعك عن الرأسمالية يا أويس ؟! .. حسناً يؤسفني أن أقول لك بأنك إنسان بلا أفق ولا هوية وكل همك الكل والشرب كبقية الحيوانات .. طابت ليلتك .. أحلاماً سعيدة ومرحباً بك من جديدٍ في دنيا الأحياء يا شرودر.
راجعت الطبيب في الموعد الذي حدده لي ووجدت أمامه حزمة من الصور والتقارير المخبرية وقال لي أن ثمة تأثير مباشر علي الأعصاب جراء تناولك قدراً أكبر من اللازم من الكحول أو الحبوب المهدئة وربما نوع غير ضار من المخدرات .. هل تدخن الحشيش ؟ .. لا .. لا طبعاً .. أعوذ بالله .. حشيش ؟! .. تربيتي ومعتقداتي الدينية لا تسمحان لي بمثل هذا الانحراف .. لا باس إذن خذ هذه الروشتة وستجد بعض الأدوية التي ستساعدك كثيراً ولكن المهم أن تتذكر أي نوع من المشروبات أو الكحول يصيبك بالخدر .. عصير التوت الكولومبي .. إنه هو ولا ريب ..لا .. لا ..لن يكون في بال إزابيلا إدخالي إلي تلك الدائرة الجهنمية .. دائرة الإدمان علي المخدرات .
لا وقت لدينا يا أنجي .. ستذهبين معي الآن إلي غرفتي فثمة مفاجأة سارة بانتظارك .. أرجو أن تعفيني من زيارة النزل مرة أخري .. بت لا أطيقه منذ وفاة شرودر .. بل ستذهبين ولا داعي للتسليم بان شرودر قد مات .. هل رأيت جثمانه بنفسك ..؟ لا ولكن .. هنالك بصيص أمل ولو ضئيلاً باحتمال وجود شرودر عالي قيد الحياة .. قلت لها مقاطعاً .. وقريباً من باب الغرفة حاولت أن أقلل من حجم المفاجأة عليها .. كم تعطينني من المال إذا كان الشخص الذي بانتظارك في الداخل هو شرودر ؟ .. أعطيك كل ما أملك .. أعطيك نفسي لأصبح جارية لك ولأنستاسيا ..أعطيك .. كفي .. كفي والآن تفضلي بالدخول .. شرودااااار .. ومن ثمّ تهاوت نحو أرضية الغرفة .. بذلنا جهوداً مضنية لتستعيد وعيها .. جربنا الماء البارد والعطر .. وشيئاً فشيئاً بدأت تستعيد وعيها ..تساءلت في البداية بصوت واهن .. أين أنا ؟ ومن يكون هذا الشخص ؟!! ..إنه شديد الشبه بشرودر .. بل إنه شرودر .. حبيبي ..أخي .. لقد نجوت .. لقد نجوت .. وذاب كلاهما في أحضان الآخر .. أغلقت الباب خلفي فقد كان الموقف فوق طاقة احتمالي وحين عدت لهما وجدته ممسكاً بيدها وقد أراحت رأسها فوق كتفه وهي تردد كنت دائماً شديدة التشبث بفكرة وجودك علي قيد الحياة ولكنني أفقد الأمل في بعض الحيان فيجُن جنوني .
مبروك يا عريس
حلقة مليئة بالمفاجأت
زواج وادمان وعودة الى الحياة
وتقلبات فى بحور الحب والعشق
من زهرة الى وردة
وعقبال الشباب يا ريس ..مع كل الود ..لكن زولك المسجون داك وأعني ( حربي ) نطلعو من السجن ؟
الحلقة الثامنة عشرة
عادت شاهندة ونعوم بعد إنهاء مراسم الزواج ب( مظفر أباد )وفق العادات والتقاليد الكشميرية .. إنها جنة الله في الأرض يا أويس .. لم أكن أتصور أن كشمير بهذا الثراء في كل شيء .. الآن عرفت لماذا تخشي الهند وباكستان توحد شطري كشمير .. لأن أي قدر من الاستقرار السياسي أو الوحدة سيطيح بكل آمال وخطط الهند وباكستان في السياحة .. فاغتنمت فرصة وجودهما معاً فدعوتهما لحضور الحفل الصغير الذي سنقيمه بفندق ( أنتشو ) بموسكو .. ستكونين وزيرة العروس يا شاهندة وستكون أنت يا نعوم وزير العريس .. هل لديكم مثل هذا التقليد في بلدكم يا أويس ؟.. شاهندة تتساءل في دهشة واستغراب .. من كانت وزيرتك يا شاهندة ؟ .. إنها صديقتي ( ماليكا ) .. وأنت يا يا نعوم .. كنت رئيساً بلا وزراء .. هكذا أحسن .. قلت له .. تنهي وتأمر كما تشاء .. وها أنت تحصل علي حقيبة في حفل عرسي .. أفعل بفخر واعتزاز .. وأنا كذلك سألتقي ( أنستاسيا ) في أقرب فرصة لأخبرها بما يتحتم عليها عمله .. هي مؤامرة إذن .. إن كيدكن عظيم ..من يتآمر علي من ؟ .. الرجال أس التآمر في هذا العالم وبفضلكم تجد الأرض كل ما تحتاجه من دماء وأشلاء .. والمحرّ ض من خلف الكواليس هو في الغالب امرأة ..أليس كذلك يا نعوم ؟ .. ها ..ما رأيك ؟ ..نظر نحوها فأومات له بالرفض .. لا يا أويس أنت تبالغ ولا ريب .. هل بدأنا الاستسلام منذ الآن .. و(ضحكنا ضحك طفلين معاً ) وافترقنا علي أمل اللقاء .
هل صحيح يا أويس ما سمعته ؟ .. روزماري تستوقفني بقامتها الفارعة وتفاصيلها المموسقة وكانت تضع فوق عينيها الساحرتين نظارة سوداء .. أنيقة ومترفة ورائعه .. أستأذنكم لبعض الوقت وسأعود إليك لاحقاً .. نعوم وهو يهم بالمغادرة .. بل ابق معنا .. وماذا سمعت يا روز ؟ .. لقد قيل لي بأنك ستتزوج من تلك الروسية الشقراء التي أجرت معنا ( الإنترفيو ) لدي وصولنا إلي هنا الصيف الماضي .. نعم يا روز ماري سأتزوجها وهذه فرصة أدعوك وصديقك لحضور حفل العرس بفندق ( أنتشو) .. صديقي ؟ من هو صديقي ؟ .. ذلك الإيرلندي الذي كان بصحبتك .. ليس صديقي إنما هو مواطن إيرلندي لا أكثر .. كان لي مشروع صديق من إفريقيا اسمه ( أويس ) ولكن يا خساره .. سرقته مني شقراء من هذا البلد .. أنا مشروع صديق لك يا روزماري ؟ .. انزعي هذه النظارة من عينيك لأقرأ مثل هذا الكلام في لألاء عينيك يا روز .. هل تتغزل في عيوني أم ماذا .. أرجوك ضعيها جانباً فأنا أحب التحليق في سماوات عينيك .. لن أنزعها .. إداً سأنزعها أنا .. وبدأ وكأننا نتعارك .. التحمنا في حميمية هائلة وبذل كلانا مجهوداً كبيراً وفي النهاية ظفرت أنا بالنظارة .. كانت منفعلة وأنفاسها تكاد تتقطع وصدرها يعلو ويهبط .. لقد سامحتك هذه المرة يا أويس .. لقد أوصلتني إلي مرحلة من الهياج جد غريبة وفكرت في لحظة ما أن استخدام مهاراتي التي تعلمتها مع ( الآي .آر .أ .) .. من تاكندو وأساليب الدفاع عن النفس .. ولو فعلت لكنت الآن في غرفة الإنعاش .. (الاي .آر . أ ) ..؟!! .. لقد قالتها دون أن تقصد وتظاهرت بأنني لم أسمعها جيداً .. هل هو معهد رياضي ؟! .. من ؟ .. هذا الذي نطقته قبل قليل .. نعم .. نعم .. إنه معهد معروف في بلفاست .. دعوتها علي كوب من الكولا فقبلت .. ( جلست أمامي كحمامة بيضاء) .. وجهت سؤالي مباشرة نحو عينيها .. لماذا تودون الانفصال عن المملكة المتحدة .. عن انجلترا بكل ما لديها من ثقل اقتصادي وسياسي ؟! .. ماذا أقول لك يا أويس .. إحساس المرء بأن حملاً ثقيلاً يجسم فوق صدرك إحساس بغيض .. لقد كانت إيرلندا وما زالت وطن المجد والشعر والفنون .. تذخر بطاقات اقتصادية هائلة وقد حباها الله بخيرات وفيرة .. فما حاجتنا للإنجليز ؟ .. ولكن بلدكم منقسمة علي نفسها وأنتم لا تعانون مثل الأكراد المتوزعين علي عدد من الدول ولا كالفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال .. ولا حتى كالكشميريين الذين يتوقون للتوحد تحت مظلة واحدة .. فماذا ينقصكم يا روزماري .. ماذا ينقصكم ؟ .. بإمكانك التلويح بجواز سفرك البريطاني هذا فتفتح لك كل المطارات أبوابها وترحب بك .. هذا ليس مبرراً كافياً لأفقد هويتي الوطنية وأذوب في كيان الآخر .. إذن جربوا النضال عبر الوسائل السلمية بدلاً من تفجير القنابل في غرف استقبال الفنادق والقطارات فيسقط الأبرياء .. هذا ما فكرنا به بالضبط وقد أنشأنا حزباً سياسياً وليداً يحمل اسم ( الشين فين ) وإذا لم ننل استحقاقنا في حق تقرير المصير سنعود مرة أخري للكفاح المسلح وليكن ما يكن .. قلت ل(نعوم ) وكان صامتاً طوال الوقت .. وأنت يا نعوم .. كيف تقرأ الموضوع .. أنا .. أقرأ ماذا ..؟ وفهمت منه أنه لا يود التحدث أمام روزماري .. إلي اللقاء أويس .. إلي اللقاء مستر نعوم .. روز ماري وهي تتراجع خطوتين للوراء وتزيح خصلاتها عن عينيها وتحرك شعرها يمنةً ويسرةً وهي تغادر وقد منحتنا التفاتة رهيبة أفقدتني صوابي .. هل تعجبك هذه الأيرلندية المأفونة يا أويس ؟ . .نعوم وقد تصفح تعابير وجهي وهي تودعنا وتنصرف .. يمكنك أن تقول بأنني متيم بها .. ويمكنك أن تقول بأني إنسان ضيع بوصلة مشاعره في هذا البلد العجيب .. ومع وجود أنستاسيا بكل ألقها وروعتها وأحلامنا الخضراء في عشٍ هادئٍ يجمعنا معاً إلا أنني لا أملك القدرة الكافية للصمود في وجه الجميلات بجامعة الصداقة .. ولكن قل لي بربك يا نعوم هل أنت مع رأيها في أسلوب إدارة النضال في إيرلندا الشمالية .. بالطبع أنا معها وإلا كيف سنحرر نحن إقليم (الباسك) .. ؟ .. تحررونه بقتل وجرح المئات من الجنود والأطباء والمعلمين ورجال الإعلام ..؟ .. ليس أمامنا من خيار آخر .. هؤلاء القوميون المتعصبون في اسبانيا لن يدعوننا وشأننا ولا يجدي معهم الحوار ..هل سبق لك يا نعوم أن قتلت اسبانياً ولو عن طريق الخطأ ؟ .. أنا ؟ أقتل ؟ قال ذلك باضطراب واضح .. فلماذا ذهبت إلي جنوب لبنان إذن ؟ هل ذهبت إلي هنالك من أجل السياحة والتمتع بمناظر الطبيعة الخلابة ؟ .. لا .. لا ..الأمر ليس بهذه البساطة .. لقد ذهبت للتدرب علي استعمال السلاح وصنع المتفجرات .. ويجب أن أعترف لك يا أيها الصديق العزيز أويس .. بأنني قتلت جندياً اسبانياً واحداً فقط طوال انخراطي بمنظمة ( إيتا ) .. وكيف كان شعورك وأنت تقتل شخصاً لا تعرفه وليس بينكما خصومة شخصية ؟ .. إيييه يا أويس لماذا تضعني علي كرسي الاعتراف وكأنك قاض ..؟ لا بل كصديق .. قل ولا تخف من شيء .. كان ذلك في وقت عصيب مرت به ( إيتا ) كنا بحاجة إلي المال والسلاح وإلي إحداث فرقعة إعلامية تلفت الانتباه إلي قضيتنا العادلة .. قمنا في فجر ذاك اليوم بالهجوم علي نقطة تفتيش للجيش في مشارف ( سرقسطة ) .. كان عددهم حوالي العشرة وكنا نحن حوالي الثلاثين مقاتلاً مزودين بالبنادق الأوتوماتيكية والقنابل اليدوية .. اذكر أنني أصبت أحدهم إصابة مباشرة في القلب .. كان شاباً نحيلاً في مقتبل العمر .. تهاوي نحو الأرض علي وجهه .. انسحبت المجموعة بعد أن تكبدت ستة قتلي وفقدنا نحن اثنين من رفاقنا .. توجهت نحوه وهو يسبح في بركة من الدماء أخذت سلاحه ومحفظته وانسحبنا عائدين لمعسكرنا بعد أن تركنا خلفنا بياناً بتحمل المسئولية عن العملية .. وهنالك نقبت في محفظته وقد احتوت علي مبلغ ضئيل من المال وصورة فوتوغرافية له مع أسرته .. والده ووالدته وحفنة من الأطفال وهو يتوسطهم بزيه العسكري ولكن ما آلمني أكثر عثوري علي صورة أخري بحجم (البوستال) لفتاة رائعة الجمال وقد كتبت خلفها عبارة ( إلي سابا .. مع كل الحب .. عد لي سالماً كما وعدتني ) والتوقيع ..حبيبتك إلي الأبد ( كلارا ).
الحروب دمار
للمنتصر والمهزوم
وسلب لمكتسبات الشعوب
وخراب لميزانيتها
لكن ما قلب صاحبك لكوندا
أنني أسبح في فضاءات من المعرفة والبعد الحقيقي لحركة مجتمعات من نواحي متعددة سياسية نضالية إجتماعية .. أنت أستاذ دون شك تجيد فن الرواية بإتقان .. لا تقل عن عظماء في هذا المحفل الإبداعي ..
سنقرأ كل ما تكتب لأنك تستحق أن تُتابع أقلامك أينما نُشرت .
أحبتي محجوب وعصام ..مساء الصحة والعافية لكما وسعيد بمتبعتكم لهذ النص الروائي ..وكا قلت يا أستاذ محجوب الحرب دمار وقد فطن الأوربيون لأضرارها بعد أن فقدوا حوالي خمسون مليون ما بين قتيل وجريح وليتنا نتعلم من هذا الدرس ويا عزيزي عصام يكفيني أن أكون معكم وبكم في كتابة الرواية مع كل الود .
الحلقة الثامنة عشرة
عدت إلي النزل وأنا مثقل بقصة ذلك الجندي الإسباني الذي قتله نعوم وحمداً لله أن( شاهندة) لم تكن موجودة معنا لتسمع بأن زوجها قد جرب القتل من قبل ولا بد أن الشخص الذي قتل شقيقها في (سرنغار) يعاني هو الآخر .. أدخلت المفتاح في القفل ولكنه لا يفتح .. حاولت أكثر من مرة دون جدوي .. لا بد أن لصاً بالداخل .. هرعت إلي كريموف لأستنجد به وحين عدنا سمعنا همهمة بالداخل .. رجعنا خطوات إلي الوراء ومعاً حطمنا الباب لنفاجأ ب(شرودر وأنجلينا) وقد جلسا خائفين علي السرير وهما يتصببان عرقاً وثمة حبلان معقودان ومربوطان بسقف الغرفة .. وكان واضحاً بأنهما كانا علي وشك الانتحار .. نشط كريموف في إزالة الحبال وانخرطت أنجلينا في بكاء مر .. لماذا عدت يا أويس .. بربك لم عدت ؟ .. لقد كنا علي وشك اللحاق بأحبائنا لولا تدخلك الغبي .. ماذا لو تأخرت خمس دقائق فقط .. عملت علي تهدئتها وجلس شرودر صامتاً لا يحرك ساكناً .. ما الحكاية يا (شرودر) ولماذا تنتحران ؟ لم أكن أحسبكما جبانين بهذه الدرجة .. لقد انتحرت (أورليكا ماينهوف وبادر) داخل السجن ب ( شتوتقارد ) بعد فشل عملية مقديشو .. لقد ماتت (أورليكا الأنيقة المترفة والجميلة ) يا أويس .. ماتت .. هل تفهم ما يعنيه لنا موتها ؟ .. حتماً لن تفهم .. وكيف ستفهم .. لقد انتهينا يا أويس .. إنتهينا .. (أنجلينا) وهي تبكي بحرقة شديدة .. علي رسلكما يا أخوتي .. ما هذا التفكير الساذج والغبي .. سوف تدخلان النار يوم الحساب لو أنكما أقدمتما علي الانتحار .. اسمع يا (كريموف) .. انتظرني هنا ريثما اتصل بِ( أنّا ) وإياك أن تتفوه ولو بكلمة واحدة بما شاهدته الساعة ..هل فهمتني .. نعم سيدي لن أتفوه بكلمة واحدة .. ولم تتأخر علينا( أنستاسيا) كثيراً .. ما بكما ماذا حدث ؟ .. اسألي (شرودر وأنجلينا) .. كانا علي وشك الانتحار .. معقول هذا الذي يحدث أمامي ؟ وهذه الحبال .. هذا شيء مخيف .. أمرت (كريموف) بالانصراف وأمضينا الليل بطوله ونحن نعمل علي تهدئتهما وتبصيرهما بالجريمة المرّوعة التي كانا علي وشك ارتكابها بحق نفسيهما .. وشيئاً فشيئاً هدأت خواطرهما ودخلنا في نقاش جاد معهما ليسلما حيث أفصحت لهما (أنستاسيا) باعتناقها الإسلام .. وشرحنا لهما كيف أن حياتهما ستتغير وأنهما سيشعران براحة نفسية عميقة فيما لو اسلما .. وأخيراً وافق (شرودر) وطلبت ( أنجلينا) مزيداً من الوقت لتفكر بالأمر.
كان حفلاً لا يصدق.. تداعي له حشد كبير من الساسة ورجال الإعلام .. وزراء ورجال أعمال ومدير جامعة الصداقة وشخصيات متنفذة في الحزب نسمع بها فقط من خلال الراديو والتلفاز .. وأمام الفندق الفخم .. أخذتها والدتها بالأحضان وكذلك فعل والدها وصافحت الجميع فرداً .. فرداً وهم يغادرون وعندما جاء الدور علي والديها ليغادرا استوقفتهما لحظة لتقول ( اسمعي يا أمي الحنونة.. اسمع يا والدي الطيب ً.. أستطيع أن أضمن لكم سعادة هذا الفتي ما حييت .. أشهد الله وأشهدكما علي ذلك ..) .. نحن واثقون من ذلك يا ( أنّا ) وليباركك الرب .. والدتها وقد اختلطت في دواخلها مشاعر الفرح والحزن لتزويج ابنتها وفراقها في نفس الوقت .. لن يطول غيابي (ماما )وسأزوركما كلما سمحت الظروف بذلك .. إلي اللقاء .. إلي اللقاء .
وهكذا انتهي الحفل الذي حضره كل أصدقائي من طلبة الجامعة وقد ارتدي البعض أزياءهم القومية المميّزة وكان حاضراً أيضاً بعض موظفي السفارة السودانية بموسكو مع أسرهم وقد قرأت (أنستاسيا) وجوههم جيداً ولسان حالها يقول( يا إلهي!! هل تملك المرأة السودانية كل هذه الرقة والأنوثة والجمال وقد تخيلناها مغطاة بالغبار والأتربة في سعيها اليومي بين الغابة والمنزل تجمع الحطب وتقطف الثمار .. لا يا حبيبة أيامي .. هي أجمل مما تتصورين .. ولو كان قدري أن أرتاح في مراسيك لبعض الوقت وأمضي في حال سبيلي .. تأكدي بأنني سأجد حتما من يلملم أوجاعي وأحزاني لفقدك إن هو حصل ولا أدري لماذا أشعر في هذه اللحظات الحاسمة من حياتي بأنك أكبر من طموحاتي .. كل هذه الأناقة والجاذبية والروعة ملكي أنا وحدي .. أتمني ألاّ أكون في حلم .. وأن كل ما يحدث أمامي هو الحقيقة بعينها وأنك زوجتي علي سنة الله ورسوله .
لم استطع إخفاء أمر زواجي من أنستاسيا عن والدي وهو بدون شك سيتفهم دوافعي .. وهذا ما حدث بالضبط .. ولم أكن لأتوقع من أب تخرج من كلية الآداب جامعة الخرطوم وأمضي زمناً طويلاً يتلقي الدورات التدريبية بكل من لندن ولاهاي .. لم أتوقع سوي كلمات التشجيع والرضاء التي غمرني بها واتفقنا علي أن يظل الأمر سراً بيني وبينه فلا نطلع أمي التي تسوء صحتها باطراد وقد يزيد سماعها نبأ زواجي بأجنبية من تفاقم وضعها الصحي .. وهل هي مسلمة يا بني ؟! نعم يا أبي هي مسلمة ومن أصول شيشانية .. الحمد لله علي ذلك لقد أرحتني أراحك الله .. وكانت ( أنّا) بجانبي وأنا أهاتفه .. سلم عليها وتبادل معها عبارات التهاني والأماني بانجليزية باهرة .. الشيء الذي أسعدها أيما سعادة .. ولدي مغادرتنا الفندق بعد أسبوع واحد تصورت بأننا سنواصل تمضية شهر العسل في مكان آخر ..بيد أن أنسستاسيا أقنعتني بالعودة للجامعة وأن ثمّة مهام كثيرة بانتظارها في الحزب .. عدت وكان أول من التقاني من الزملاء الألماني شرودر .. قلت له حالك لا تعجبني يا شرودر .. لماذا أنت شاحب ومحبط هكذا ..؟ ..نعم أنا كذلك يا أويس .. فقد رحلت أنجلينا .. رحلت ؟!! .. إلي أين رحلت ؟ .. إلي فلسطين .. أنت تحيرني يا شرودر .. ما علاقة أنجلينا بفلسطين ؟ .. ومن ثم قص عليّ كيف أن أحد القادمين من الأراضي المحتلة ومن نابلس بالضفة الغربية بالتحديد قد سلمها رسالة من بسام يقول فيها بأنه أصيب بطلق ناري .. بينما كان يتظاهر بالقرب من طولكرم ومعه لفيف من الأجانب والإسرائيليين من أنصار حركة ( السلام الآن ) .. كانوا يطالبون بفك الحصار عن المدينة الفلسطينية المحاصرة في تظاهرة سلمية لا أكثر ولكن الجنود الإسرائيليون أمطروهم بوابل من الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع وعندما تشبثوا بمواقعهم رشقوهم بزخات من الذخيرة الحية فأصيب بسام إصابة بالغة يرقد بسببها بمستشفي نابلس .. وما أن قرأت أنجلينا الرسالة حتى توجهت بصورة دراماتيكية نحو مكاتب الخطوط الجوية الأردنية وطارت علي الرحلة المتوجهة إلي عمّان في مساء نفس اليوم .. لقد هجرتني بكل بساطة يا أويس بعد كل ما فعلته من أجلها .. ليس لي سواها وليس لها سواي بعد أن انقطعت صلاتنا بأسرتينا منذ سنوات ولا تنس أنها ابنة عمتي .. أنا تعيس جداً ومحبط يا أويس .. أنصحني يا صديقي كيف أتصرف حيال هذا الموقف الصعب .. الذنب ذنبك يا شرودر فأنت لم تقدر أنجلينا حق قدرها .. انشغلت عنها باهتماماتك السياسية الهدامة .. ولم تدرك كم تحبك ولعلك لم تقل في يوم من الأيام بأنك تحبها .. لقد كادت أن تنتحر بسببك عندما علمت بنبأ فشل عملية مقديشو لولا لطف الله .. أجل .. أجل .. أعلم كم أنا مقّصر تجاهها .. لقد كنت غبياً عندما تأكدت بأنها لي وليس لأحد سواي .. كم أنا ساذج وغبي .. لقد خسرتها لصالح هذا الفلسطيني الطائش بسام ..لا..لا تظلم بسام يا شرودر .. لقد استنجد بها وهو بين الحياة والموت .. ولا بد أنه قد صرح بحبه لها وهو يغادر .. كان عليك أن تكون إيجابياًً في مشاعرك نحوها .. ماذا كان عليّ أن أفعل أيها الحكيم الإفريقي ..؟ أنتم تروضون الأسود والنمور وجميع حيوانات الغابة فمن الطبيعي أن تكون لكم وسائلكم في ترويض المرأة .. لا ليس هذا بالضبط ما قصدته .. الأمر يا صديقي لا يحتاج إلي كثير عناء .. كان عليك إرسال بعض الإشارات في حضورها كأن تعلق علي قوامها المموسق وكتفها العاجي وطلتها الآسرة وابتسامتها المشرقة وضحكتها المختزلة مع شيء من الدهشة وأن تضع يديك فوق كتفها وأنتما تتجولان في الحدائق العامة وأن تبحر في عينيها الزرقاويين كسماء بلادي في صباحات ربيعيه .. أنت تتغزل في ابنة عمتي يا أويس .. لا بل أصفها لك لعلك تراها كما أراها وكما يراها كل الطلاب بجامعة الصداقة .. أنت محق يا أويس فأنا مقصّر تجاهها .. والآن دلني بربك ماذا أفعل ..؟ أفكر باللحاق بها ..لا ..لا .. أرجوك لا تفعل .. ستبدو رخيصاً وساذجاً ومغفلاً إن أنت ركضت خلفها .. إنها المرأة يا شرودر .. المرأة في كل زمان ومكان .. تنظر إليك من علي البعد وتتمناك ملاكا ومخلصّاً من الضياع والألم وما أن تظفر بك وتنتهي تلك الهالة من الغموض والقداسة حتى تقلب لك ظهر المِجن وتركلك جانباً.. أنت محق فعلاً ولكن هذا ما لا أراه في العلاقة بينك وبين أنستاسيا .. أنستاسيا ؟!!! ..( أنّا ) شيء آخر .. شيء مختلف جداً .
حب وعشق
وتضحيات وانتحار
نعم هي كذلك عزيزي محجوب ..شكراً لأنك هنا ومعذرة للغياب غير المقصود فقد كنت في زيارة قصيرة للأهل بالجزيرة بدون لابتوب وها قد عدنا والحمد لله ..هذا مع تحياتي للجميع .
الحلقة التاسعة عشرة
وأخيراً عادت أنجلينا من فلسطين .. كانت تبدو متعبة وحزينة مع شيء من اليقين والرضاء يلون قسماتها الجميلة .. تمنيت لو أمضي بقية عمري هنالك مع أسرة بسام .. الناس هنالك رائعون وطيبون ووالد ووالدة بسام مع أشقائه وشقيقاته يكونون أسرة مثالية .. ها .. أنجلينا ماذا فعلت في فلسطين ..؟ شرودر يسأل وهو غير قادر علي إخفاء مشاعره فرحاً بعودة أنجلينا ..؟ وكيف حال بسام ؟ هل تركته بخير وكنت أنا من يسأل هذه المرة .. أرجوكما اتركاني وشأني ..أنا متعبة جداً .. أستأذن أنا فلدي بعض المشاوير المهمة ..أراك لاحقاً .. عزيزتي ..أنجي ..إلي اللقاء ..والآن يا أنجلينا قولي لي ماذا يحدث هنالك في نابلس ؟ ..لقد مات بسام يا أويس .. مات بسام .. لحظة من الصمت المطبق جثمت كصخرة عملاقة فوق صدرينا .. عبرت سحابة سوداء فضاءات الغرفة وشعرت للحظات بأنني أتهدم وأتمزق إلي أجزاء متباعده .. تمالكت نفسي وقلت لها في رفق وأنا آخذ كفها في كفي .. هذه إرادة الله ولا راد لقضائه .. اطلبي له الرحمة .. وسالت الدموع غزيرة فوق وجنتيها الشاحبتين .. ولكن كم هذا مجحف وغير عادل .. غمغمت بين الآهات والتنهدات .. لعلك وصلت بعد فوات الأوان .. لا لم أصل بعد فوات الأوان وجدته وهو يصارع الألم والجراح بمعنويات عالية وكان في شبه إغفاءة حين دخلت عليه بغرفته في مستشفي نابلس .. وما كان منه إلا أن همهم باسمي لحظة وقوفي قرب سريره .. قبلتّه فوق جبينه وأنا أحاول التماسك .. أنا هنا يا حبيبي .. بسام هل تسمعني ؟ .. فما كان منه إلا أن أفاق .. وكانت تلك هي المرة الأولي التي يفيق فيها منذ دخوله المستشفي .. لقد وصلتك رسالتي إذن .. قالها بصعوبة شديدة .. أنا شاكر وممتن لحضورك يا أنجي .. أنا أحبك جداً .. أرجوك لا تقل شيئاً فالكلام يضر بصحتك .. أنا أيضاً أحبك وعليك أن تتشبث بالأمل في الشفاء وسنبقي بقية العمر معاً .. أقسم لك بأنني جادة فيما أقول يا بسام .. أضاء وجهه الوسيم للحظات وارتسمت ابتسامة عريضة فوق شفتيه وبدا وكأنه ينام نوماً عميقاً والابتسامة لا تفارق شفتيه .. بيد أنه استيقظ للحظات وقال لي في توسل وخضوع .. لي طلب أخير أرجو أن توافقي عليه يا حياتي .. وما هو يا بسام قله وأنا أستجيب له علي الفور .. أريدك أن تدخلي الإسلام .. أعني أن تعتنقي ديننا .. وكيف أعتنق الإسلام يا بسام ؟!! .. أخبرني ماذا يتحتم عليّ فعله ..؟ أن تقولي فقط وأنت مطمئنة ..أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. بل أفعل يا حياتي وعلي أحدهم أن يعيد عليّ هذه الجملة .. هنا تدخل والده ولقنني الشهادة .. بيد أنه عاد لغيبوبته وهو أكثر إشراقاً وجمالاً و لم يفق أبداً .. لقد مات وهو راضٍ عني تماماً وهذا ما يخفف عليّ فقده يا أويس .. بذل الأطباء جهوداً مضنية لاستعادته من تلك الإغفاءة العميقة بالرغم من ضآلة الإمكانيات المتوفرة للمستشفي بعد أن رفض الإسرائيليون طلباً تقدمت به عبر قنصليتنا لنقله إلي عمان .. أو حتى رام الله .. لقد أسلمت إذن يا أنجلينا ..مبارك لك الإسلام وهذا الخبر سيسعد شرودر كثيراً .. لعلك تذكرين موافقته علي اعتناق الإسلام ليلة محاولتكما الانتحار معاً وهذا ما تم فعلاً .. يا إلهي .. كم هي غريبة هذه الدنيا .. هل أفرح بهديتك أم أبكي لفقد بسام ..أحياناً تختلط مشاعر الحزن والأسي ولا ينفصلان .. نعم يا أويس .. أنت محق في هذا ..كنت أنوي البقاء قليلاً مع أسرته ولكن السلطات الإسرائيلية أبعدتني قسراً إلي الأردن وهنالك اعتصمت ثلاثة أيام بلياليها أمام سفارة إسرائيل وقد رفعت لافتة كتبت عليها ..( أطالب بمثول الجندي الذي قتل حبيبي بسام في طولكرم أمام العدالة ) .. وكان الجمهور الأردني كريما معي وتضامن معي العشرات من النساء والرجال وغمروني بالهدايا .
أسمع يا أويس نسيت أن أخبرك بأنني حامل ..هكذا وبدون مقدمات وبهذه البساطة يا ربيع أيامي .. أخذت عنها حزمة من اللفافات كانت تحملها وقد اقتربنا من شراء كل ما نحتاجه .. أخذت عنها حتى حقيبة يدها خوفاً عليها وعلي أبني .. وتجادلنا لدرجة الصراخ في وجه بعضنا .. أريده ولداً وأنا أريدها بنتاً يا أويس ..لا ..لا .. دعك من البنات الأولاد أفضل وأفيد .. هذا غير معقول يا حبيبي كيف تفكر بهذه الطريقة الغريبة هل نسيت بأنني أنثي .. غاليتي لم أنس .. ولكن الولد يحميك حين يكبر فيما لو حدث لي مكروه فأموت وأنا مطمئن .. تموت .. أعوذ بالله من هذه الفكرة المخيفة .. دعنا نتوسل إلي الله سبحانه وتعالي أن يرزقنا بالذرية الصالحة ولداً كان أو بنتاً لا فرق .. وهكذا تغير كل شيء في حياتنا منذ تلك اللحظة وبت أخاف علي أنستاسيا وعلي ابننا ( ألا زلت تصر علي خياراتك ؟ ..نعم بشرط أن لا تعلم هي بذلك ..) قلت لضميري وأنا أحمل عنها الأطباق إلي المائدة .. ألا تلاحظ بأنك تبالغ في حرصك عليّ أيها العزيز أويس ؟ .. ليس لي أغلي منك ومن .. ومن .. ومنك .. أعلم كم تتوق لرؤية صبي وليس صبية وأتمني أن يوفقني الله لأنجبه لك سالماً ..أتمني ذلك من كل قلبي علي أن أترك لك فرصة اختيار جنيننا القادم .. الخيرة لله وحده .. اتفقنا ؟ .. اتفقنا .
الحلقة العشرون
ومضت أيامنا هانئة لا يعكر صفوها شيء ومع الاستقرار النفسي الذي حظيت به مع أنستاسيا والأجواء المريحة التي نسجتها من حولي .. اجتهدت في التحصيل ولم أعد أفوت محاضرة واحدة وبالمقابل نجحت في الامتحان النهائي بتقدير جيد جداً .. وكانت ( أنّا) تحوم حولي كفراشة ملوّنة تسألني إن كنت احتاج إلي شيء .. تصنع لي الفطائر والشاي والقهوة .. وعندما يجن الليل تتحول أنستاسيا إلي وردة تنشر عبيرها الفواح .. أريجها المعطّر.. نداوتها المستحيلة ولمساتها الحانية .. وردة هي في الهزيع الأخير من الليل في رقتها ونعومتها وشذاها .. وردة للوفاء .. وردة للجمال .. ولكل ما هو نادر وغريب .. وأقول لها في رعب حقيقي .. أخاف تحولك المستمر هذا إلي وردة يا ( أنّا ) إذ أن عمر الورود قصير جداً يا حياتي فهو أنيق وموحٍ .. أليس كذلك ..؟! لهذا أريدك نخلة في الصباح ضاربة في باطن الأرض تهزئين بالريح والمطر .. أنت مخطئ يا حبيبي .. أفّضل أن أمنحك عبيري ورحيقي وأنا وردة حتى وإن قصرت أوقاتنا علي أن أتمدد فوقك أجيالاً من الثمار والظلال .. ألهذا غادرت محطة حياتي بهذه السرعة ؟! .. الوطن أولاً يا أويس .. وطني الشيشان يحتاجني وقد دقت ساعة المواجهة .. هكذا كانت فحوي الرسالة التي تركتها لي علي سريري في ذاك الصباح الماطر ورحلت بعيدا كالغيوم المسافرة .. ومضت تقول .. أعدك بأن أحافظ علي ابننا مهما كلفني ذلك من عناء وسيكون بمثابة أمانة عندي وأقسم بان أعيده لك في أقرب فرصة ممكنة إن حفظني الله من كل مكروه أما إذا استشهدت فحاول أن تتذكرني في الهزيع الأخير من الليل ونيلكم العظيم يوشح صباحاتكم بالندي والنسيم العليل .. أرجوك تصرف بحياتك كما تشاء تزوج وأنجب أطفالاً رائعين مثلك وحاول أن تشرح الأمر لوالدتي ووالدي وأن يبقي رحيلي سراً بيني وبينك لدواعٍ أمنية بحتة ..أخاف عليكم من ( الكي . جي .بي . ) وعقابهم المّر ..الشقة مؤجرة حتى بقية العام .. وفي خزانة الملابس مظروفان بهما بعض النقود .. واحد باسمك والآخر لعائلتي .. أحبك من كل قلبي وسأظل أحبك ما حييت.
الوطن أولاً .. وأنا يا حياة عمري .. أين هو موقعي من أولوياتك .. وقرعت الباب وأنا أترنح من ثقل اللحظات القادمة .. ماذا أقول لهما وماذا يمكن أن يقال .. فتحت الباب شقيقتها ( باتريشا ) وقد تهلل وجهها لرؤيتي ..هل أنت لوحدك ..وأين ( أنّا ) ؟!! ..مرحبا .. لعلها قرأت كل صنوف التعاسة التي أنتجتها البشرية منذ سيدنا آدم في قسمات وجهي ..أمي ..أمي ..إنه أويس ..مرحبا بني العزيز أويس .. جلست قبالة والدها وكان يقلب صفحات موسوعة (قينيس) للأرقام القياسية .. ألا يوجد تصنيف عالمي للضياع والحزن والفراغ ..أظنني سأحطم جميع الأرقام القياسية المسجلة للحزاني والضائعين .. ناولت والدتها المظروف فاعتدل والدها في جلسته .. أهذا المال من صغيرتي (أنستاسيا ؟ !!!) .. نعم إنه منها .. لم يعلق بشيء .. فقط تراجع في ال(صوفيا) العملاقة إلي الخلف ودفن وجهه من جديد في موسوعته وكأنه يود الاختباء خلفها حتى لا يفضح انفعالاته تلك .. أما أمها فقد إستاذنتني في صوت متهدج .. أشعر بصداع رهيب وأود أن أبقي لمفردي لبعض الوقت .. ومن ثمّ ركضت نحو غرفتها وأغلقت الباب خلفها.. هل كانا يتوقعان ذاك الرحيل المفاجئ ..أم ماذا ؟ ..ولكن أين هي ( أنّا ) ..الصغيرة ( باتريشيا ) وهي تحاصرني بالأسئلة وهي تزفني حتي البوابة الخارجية .. بالإذن عزيزتي .. قلت لها ذلك وأنا أجرجر أرجلي وأفسح المجال للنسمات العابرات لتصفعني بلا هوادة حتى وصولي إلي محطة الحافلات .. وقررت أن أتوجه مباشرة لدي وصولي إلي موسكو ل(إزابيلآ) لعلني أجد بعض العزاء في رفقتها .
لن نرتضيها خاتمة لشوقنا لسردك ..
الحلقة الحادية والعشرون للرائع المترف عصام وبقية الرائعين والرائعات بالمنتدي :
أويس ؟!! .. منذ متي وأنت هنا ؟! .. وكان برفقتها شاب روسي الملامح ..لا ..لا .. أشكرك( إزابيلا ).. تبدوان وكأنكما علي وشك الخروج .. نعم .. نعم .. نحن في طريقنا لحضور اجتماع هام جداً .. أليس كذلك يا (إيزو ؟) .. بالطبع (فكتور) .. أقدم لك أويس ..إنه يدرس الطب في( الأونفيرستيت دورشبي) .. هذا هو فكتور شريكي في إدارة أعمال الشركة التي قمت بتأسيسها مؤخراً .. سعدت بمعرفتك سيد فكتور .. لا رد وإنما حمم من الكراهية الممزوجة بشيء من الغرور والتعالي ..وكانت الحقيبة السوداء التي أذكرها جيداً تقبع تحت قدميه ..أراك لاحقاً .. (داسيفيدينا ) .. كنت بصدد أن أقول لك (إزابيلا) .. بأن (أنستاسيا) قد رحلت .. لقد .. لقد انفصلنا .. أحقاً ؟ قالتها بشيء من الدهشة والاستغراب .. هذا شيء مؤسف .. سنتحدث حول هذا الأمر في فرصة قادمة ..أجل (إزابيلا ).. سنفعل .. وأغلق فكتور الباب في وجهي بقسوة غير معهودة .. فتي مربوع القامة أقرب إلي حارسها الشخصي من أن يكون عشيقها .. ومن أدراك بذلك ..؟ إحساسي يقول لي ذلك .. ورجعت وحدي محزون الخطي وبلا رفيق .. سوي الأمطار الغزيرة تجلدني بغزارة .. ولم أجد وجهة اتجه إليها فقررت التوجه نحو غرفتي القديمة ألتمس بعض العزاء هنالك لعلي أصادف (نعوم وشاهندة) وربما (روزماري أو أنجلينا ) ..أو حتى (كريموف) .. حزنت (شاهندة ) كثيراً لأجلي ولكنها تفهمت دوافع ( أنستاسيا) وأكبرتها .. ووعدتني بأن يكون الأمر سراً بيننا نحن الإثنين فقط ورجوتها أن تقنع زوجها بالانتقال إلي منزلي ليعيشا معي .. فقد بت أخشي العودة إلي هناك حيث خيالات حبيبتي ( أنّا ) تدوزن ردهات المكان .. فوافقت علي الفور سيسر نعوم لذلك كثيراً .. فهو لا يطيق الفوضى والإزعاج الذي يتفجر كل مساء بالنزل ..لم يكن (كريموف) موجوداً وقتها بيد أنه ظهر فجأة وهو يحمل خطاباً أو شيئاً من هذا القبيل .. سيدي أويس .. سيدي أويس .. لقد كنت بصدد التوجه إلي منزلك .. أحضر ساعي البريد هذا التلغراف ويقول السيد نعوم بأنه ينطوي علي أنباء مزعجة لك .. لأنه يتعلق بالسيدة والدتكم في الوطن .. أرجوك أقرأه .. علي رسلك .. علي رسلك .. أخذت منه البرقية بيدين راجفتين وجلتين .. صفعتني أحرفها القاسية لدرجة كدت أسقط معها مغشياً عليّ .. بيد أن كريموف تلقفني قبل أن أسقط وأجلسني علي أقرب كرسي .. إذن ماتت والدتي الرائعة الحاجة رقية النعمان .. ماتت وأنا بعيد عن الأهل والوطن .. هرع كريموف لإحضار كوب من الماء فقد جف حلقي وخارت قواي وبت لا أقوي علي البكاء أو حتى مجرد الكلام .. لم أنم ليلتها .. فقد عشت شريط حياتي بكامله مع أمي مذ كنت تلميذا بالخلوة والمدرسة الابتدائية وتعلمت كم هو قاسٍ ومؤلمٍ فقدان الأم .. وتذكرت المرات العديدة التي ذهبت فيها وحدي أو مع آخرين لتقديم واجب العزاء للأصدقاء والزملاء في البلد في فقد أمهاتهم .. كان الواحد منهم يبدو متماسكاً ويندفع نحوك يرفع ( الفاتحة ) ويأمر الصبية بتقديم الماء والشاي ويجلس بقربك يسألك عن الأحوال الخاصة منها والعامة .. وحين يُجن الليل ويأوي إلي فراشه يكتشف كم هو باهظ ومكلف وفظيع فقدان الأم ويود لو يرفع عقيرته بالبكاء في قلب الظلمة ويقول للجميع أنا مكلوم وضائع وحزين وأريد أمي بأي ثمن .. أريد ابتساماتها ودعواتها وحضنها الدافئ الحنون .. ولكن هيهات يا صديقي هيهات .ثلاثة أشهر وأنا أتجرع الحيرة والألم ولولا أن تسلم شهادة التخرج يتطلب الصبر والانتظار لغادرت موسكو علي متن أول طائرة متوجهة للخرطوم .. لأن شهادات التخرج تسلم في توقيت معين يصادف ذكري أعياد الثورة البلشفية وفي إطار حفل قومي كبير يؤمه كبار رجالات الدولة .. بيد أن وجود شاهندة ونعوم إلي جانبي خفف علي وطأة الانتظار .. وصرت أكثر قرباً من ( إدوين ) الإيرلندي صاحب المواهب الفريدة .. كنت قد اعتقدت بأنه صديق ل( روزماري ) بما أنهما حضرا من بلفاست معاً .. لأكتشف أن الرابطة النضالية وحدها هي الرابط بينهما .. كان شخصاً غريب الأطوار .. يحرك يديه وأرجله فيما يشبه الرقص بمرونة فائقة فيقدم لنا لوحات من التشكيل الجسماني الخارق .. أيضاً يفهم ( إدوين ) في اليوغا والكنفوشية والبوذية وكل الأديان السماوية .. معه لا تمل الحديث .. وصارت صداقتنا تنمو بصورة مطردة .. علمني الرقص والسباحة وقيادة الموترسايكل وتدخين الحشيش .. وبتنا نغشي الأندية الليلية نتصيد الفتيات الجميلات .. الحياة الصاخبة بإيقاعها السريع هي العلاج الذي سيخرجني من تجهمي وأحزاني لا سيما بعد أن أدارت لي إيزابلا ظهرها وفضلت عليّ ذلك الشاب الروسي المدعو (فكتور).. هذا ما توصلت إليه بعد طول عناءٍ وتفكير .. إييه يا إزابيلا .. لقد خدعتني بمعسول الكلام وسحر اللمسات الحانية ثم تركتني للوحدة والمجهول ..وها أنا وهذا الإيرلندي (الحاوي ) .. ها نحن نعود آخر كل أمسية عند الفجر مخمورين تصفعنا صباحات موسكو الممطرة .
الا رحم الله الوالده
لكن قد عشت حياة بالطول والعرض
حتى فى لحظات الحزن
حياة يتوقع فيها الغدر
وهل من عوده هل ؟؟!!
عزيزي محجوب - صباح الخير -أحاول منذ يومين ألتواصل معكم وبعد كلمات الترحيب المعتادة أجد نفسي خارج التسجيل ولا أستطيع الدخول للمشاركة ، وبعد الاستعانة برفيق الصبا والشباب الأستاذ كمال فقير صالح - تمكنت من جهازه من الدخول - يبدو أن الخلل ربما كان من الجهاز الخاص بي - سأحاول مرة أخرى وإذا لم أنجح سأنقل مكتبتي إلى هنا مع كل الود
الحلقة الثانية والعشرونلم تكن شاهندة مرتاحة لهذا الانحراف المفاجئ في سلوكياتي فصارت تزعجني بسيل من النصائح كلما تقابلنا في غرفة الطعام .. وفي ذات مرة هددتني بترك المنزل إن لم أقطع صلتي بهذا الأيرلندي الماكر علي حد قولها .. إنه يستغلك يا أويس .. اشتريت له موترسايكل وتدفع عنه تكاليف أمسياتكم الماجنة تلك .. وكيف علمت بهذا يا شاهندة ؟ .. لا شيء يخفي بهذه المدينة يا دكتور .. نعوم وهو يشارك في إسداء النصح .. وخوفاً من فقدهما قررت السفر مع صديقي (إدوين ) إلي ( ليننقراد ) حيث الصغيرة الرائعة (سيسيليا) والعمة ( خواليتا ) .. رحب بالفكرة أيما ترحيب فالجامعة مغلقة بنهاية النصف الأول من العام الدراسي وليس بوسعه السفر إلي بلفاست فهو علي قائمة المطلوبين بواسطة الأسكتلند يارد غادرنا باكراً دون أن نوقظ ( نعوم وشاهندة )وركبنا علي الباص السياحي العملاق باتجاه تلكم المدينة الأسطورية العريقة .. كانت الرحلة رائعة وتعرفت في أثناء الرحلة علي بعض الأفراد القادمين من شرق آسيا وكم كانت دهشتي عظيمة عندما تقابلنا مجدداً بمنزل العمة ( خواليتا ) .. إييه يا خواليتا لكمّ أنت غامضة ومحيرة ولولا وجود الساحرة الصغيرة سيسيليا لأقمنا بأي فندق عوضاً عن هذه القلعة الغارقة في الصمت والأسرار.رحبت بنا مضيفتنا ترحيباً حاراً وتسلقتني )سيسيليا( وهي تهتف بفرح حقيقي .. مرحباً أيها الزنجي الوسيم .. لقد اشتقت إليك كثيراً .. هيا ادخلا .. تفضلا بالدخول .. مرحبا .. مرحبا .. هذا هو ( إدوين ) صديقي وزميلي بالجامعة .. إنه من إيرلندا من (بلفاست) ..أهلاً بكما .. ولم تشفع لنا حالتنا المزرية جراء الرحلة الطويلة في أخذ قسط من الراحة .. فقد طافت بنا السيدة خواليتا وابنتها سيسيليا أنحاء المدينة المختلفة ومعالمها التاريخية وفي أثناء تنقلنا من مكان لأخر كانت سيسيليا المتوثبة مثل كرة من المطاط تتأبط ذراعي وتدور بي في فرح طفوليًّ غامر ..حدث هذا في اليوم الأول والثاني وفي صباح اليوم الثالث وبينما نحن نتناول إفطارنا بحديقة المنزل لاحظت أن صديقي ( إدوين ) وسيسيليا يتبادلان النظرات الحانية ويذوبان في حالة من العشق غريبة .. آلمني ذلك كثيراً فقد كنت أنظر إلي (سيسيليا) كصخرة ناتئة في قلب المحيط وأنا أتشبث بها كغريق يائس .. ظللت ساهماً أثناء جولة لنا بإحدى مراكز التسوق وافتقدت في تلك اللحظات القاتمة (أنستاسيا ).. حبيبة عمري ومني خاطري وذكرياتي .. ازداد إيقاع التقارب بينهما حرارة وتسارعاً .. وأنا أتجرع كأس الذلّ والحرمان .. وبمجرد عودتنا للمنزل طلبت الأذن لأخذ قسط من الراحة وتعللت بأنني أشعر بصداع فظيع .. ولكنني في الواقع كنت أتفادي رؤيتهما معاً .. وبينما الجميع في باحة المنزل يتناولون وجبة العشاء ويشربون النبيذ الأحمر ويتسامرون نظرت عبر النافذة لأجد سيسيليا وقد تكومت كقطة صغيرة في حجر ( إدوين ) .. عدت مسرعاً إلي فراشي وقررت الرحيل في الصباح الباكر من هذا الجحيم القاسي .. ومع خيوط الفجر الأولي سطرت للسيدة (خواليتا) رسالة مقتضبة أقول لها فيها بأنني تذكرت موعداً هاماً مع إدارة الجامعة وعليّ أن ألحق به .. وحملت حقيبتي وأنا أجرجر خطواتي نحو البهو الخارجي ومن ثمّ باب الحديقة والشارع الطويل .. كنت وحيداً .. حزيناً ومطروداً من جنة أحلامي .. من الرائعة المترفة الصغيرة (سيسيليا) وعوالمها الباهرة والمبهرة .. ومن يومها لم أعد أقابل (إدوين ) بالرغم من رجاءاته المتكررة إذ كنت أختلق في كل مرة يطلبني فيها عذراً جديداً .. كانت (شاهندة) سعيدة بهذه القطيعة المفاجئة وكذلك زوجها الأسباني (نعوم) القادم من إقليم (الباسك) .. وبتنا نتحلق من جديد حول المائدة كأسرة واحدة وأحيانا نخرج للنزهة وقراءة الوجوه والأماكن وتمنيت لو أن (رزان) كانت إلي جانبي ولكن أين أنا وأين (رزان ؟).. آه منك يا شاهندة !! .. يا أخت روحي وبلسم جراحي .. تري أين أنت الآن وكيف الحال عنكم في كشمير الغالية .وفي ذات يوم وبينما كنا نقلّب صفحات الصحف الصادرة صباح ذاك اليوم .. فوجئنا بصورة كبيرة بحجم ( البوستال ) تتوسط الصفحة الأولي وقد ظهر فيها وجه سيدة وشاب روسي الملامح والتعليق يقول .. شرطة موسكو تُلقي القبض علي سيدة كولومبية ورفيقها وهما يقومان بتوزيع كميات كبيرة من الكوكايين .. وأخذت تلكم الحقيبة السوداء التي طالما أُحتفي بها هنا وفي (ليننقراد) موقعها بين أقدام الاثنين .. ويمضي الخبر ليقول أن الشرطة كانت تراقب منذ مدة ليست بالقصيرة تحركات سيدة الأعمال الكولمبية القادمة من كولومبيا عبر العاصمة الفنزولية (كاراكاس) .. وهنالك سهم يشير للحقيبة السوداء وتعليق يقول ..ا لحقيبة التي ضبطت الشرطة بداخلها المخدرات .. لم يخامرني أدني شك بأن الصورة ل(إزابيلا) وصديقها المتجهم ( فكتور ) .. انتابني خوف حقيقي وشعرت بان قدماي لا تقويان علي السير .. هل ستقبض الشرطة عليّ أنا أيضاً ؟! .. إن الخبر يقول بأن الشرطة كانت تراقب تحركات إزابيلا ولا بد أنها رصدت تواصلي معها .. يا إلهي .. لكم كانت (أنستاسيا) محقةً وهي تحذرني منها .. لا أرتاح لها يا أويس ولا تسألني لماذا .. إن شخصيتها غامضة ولا تبعث علي الثقة والارتياح.. الغالية (أنّا) وهي تحذرني مراراً وتكراراً .. وتذكرت عدد المرات التي صاحبتنا فيها تلك الحقيبة ما بين موسكو ولينينقراد وتبدل وضعيتها بين الاحتفاء الشديد والإهمال التام .. هل ستذهب لزيارتها في السجن يا أويس ؟ .. أزورها أنا ؟ .. هل جننت ؟ قلت وأنا أتكلم كالمجنون مع نفسي .. مخدرات وكوكايين .. ولماذا هذا السم الزعاف الذي يرسل آلاف الشباب لتلك الدائرة الجهنمية دائرة الإدمان يا إزابيلا ؟ وأنت يا فكتور المتجهم .. هنيئاً لك ظلمات السجن .
الحلقة الثالثة والعشرون
لم أتوقع أن تبحر سفن بعض الزملاء والزميلات بعيداً بهذه السرعة .. لقد توحدنا في ( الأونيفرسيتيت دورشبي ) كأسرة واحدة بالرغم من الاختلافات الإثنية والدينية .. جمعتنا الروابط الإنسانية العريضة وحبنا لأوطاننا وللحياة .. واليوم سنقوم بتوديع إثنين من أحب الزميلات إلي قلبي .. ( أنجلينا )التي قررت العودة مجدداً إلي فلسطين والانضمام للهلال الأحمر الفلسطيني كممرضة متطوعة و(روزماري) التي ستغادرنا إلي ( كيب تاون ) بصحبة أحد الأثرياء الجنوب إفريقيين من البيض المعروفين بانتمائهم للفقراء والمسحوقين من السود .. كان حفلاً صغيراً ومتواضعاً بيد أنه مثّل علامة فارقة في الإتحاد والتوحد بين شباب العالم .. قدمنا من خلاله الهدايا للمحتفي بهن وتبادلنا بعض الكلمات .. كانت هنالك شاهندة ونعوم وشوماخر وفاجأنا ( إدوين ) وهو يأتي متأخراً بعض الشيء .. يزف أمامه فتاة جميلة أدارت أعناق كل الحضور من النساء والرجال .. تفرست في ملامحها التي تلونت بأضواء الثريات الموزعة علي أركان حديقة الجامعة .. وعندما أخذا موقعهما ليس ببعيد عني .. أصابني إحساس عارم بالدهشة الممزوجة بالغضب والاستياء .. إذ أن تلك الفتاة الجميلة لم تكن سوي ( سيسيليا ليننقراد) .. شعرت بكل دواخلي ترتعش وبتُ غير قادرٍ علي التماسك .. حيتني من علي البعد وهي تهتف ( هاي أويس .. كيف حالك ؟ ) .. جاوبتها بتلويحة باردة وأنا أغمغم بكلام غير مفهوم .. لم تكلف نفسها تحيتي حيث أجلس ولم أكلف نفسي مشقة الانتقال إلي طاولتها .. وجاء دور (روزماري) لإلقاء كلمة وداع قصيرة ولكنها عوضاً عن ذلك ألقت خطبة عصماء مذكرةً الجميع بالمسئولية المشتركة لكل شباب العالم في مقاومة الظلم والاضطهاد والوقوف في وجه الطواغيت وتوظيف العلم والتكنولوجيا من أجل إحداث التغيير المنشود لشعوب العالم الثالث ومكافحة الفقر والجوع والمرض .. ودعتنا للتوحد جميعاً بالانخراط في منظمات المجتمع المدني وتبادل الرسائل والخبرات .. وجاء دور (أنجلينا) التي ارتدت حجاباً رقيقاً زادها تألقاً وجمالاً وطلبت منا أن نرسم لحياتنا جملة من الأهداف والطموحات النبيلة وأن نتمسك بمكارم الأخلاق والقيم النبيلة التي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا فلا ننخدع بأطروحات العولمة والإباحية والانحطاط الخلقي .. وأن ننخرط في حرب كونية لا هوادة فيها ضد الاستعمار والإمبريالية الجديدة وأن ندعو للسلم والصداقة بين الشعوب ونقف صفاً واحداً ضد تجار الحروب والفساد .. ومضي الحفل ثقيلاً علي قلبي .. فمن ناحية أجد صعوبة في تقبل فكرة رحيل هاتين الرائعتين ومن ناحية أخري يؤلمني رؤية ( سيسيليا ) مجدداً في أحضان شخص آخر .. لذلك قررت الانسحاب من الحفل مبكراً .. ولدي مغادرتي سمعت (صوتاً يشبه صوت كريموف ينادي باسمي ..( مستر أوليس ..مستر أوليس ) فتأكدت بأنه هو ولا ريب .. ومن غيره يخطئ في نطق اسمي علي الدوام .. مستر أوليس .. حمداً لله أني لقيتك .. مرحبا كريموف .. لقد حضر صباح اليوم للجامعة رجل قال أنه دبلوماسي بسفارة بلادكم السودان وبرفقتة سيدة أو آنسة لا أدري .. المهم أنها جميلة وأنيقة وخجولة .. و .. ماذا بك كريموف .. هل أحببتها من النظرة الأولي أم ماذا ؟.. قلت له مضاحكاً .. وترتدي الزي الهندي تماماً كالسيدة شاهندة .. لعله يقصد الثوب السوداني بيد أنها تضع غلالة سوداء فوق وجهها فلا يتبين منه سوي العينين .. وقد أخبراني بأن أبلغك بضرورة التوجه صباح الغد إلي مبني السفارة .. أشكرك يا كريموف .. خُذ .. هذا كثير سيدي أنت دائماً كريم معي .. وأنت أبو الكرم يا كريموف .. واختفي قبل أن أكمل .. ( واسمك يدل علي هذا ).كنت شارد الذهن أفكر في أمر ذاك السيد القادم من السفارة ورفيقته .. ربما كانت زوجته أو لربما هي موظفة بالسفارة وقد حضرا لدعوتي كأي سوداني مقيم بموسكو لحضور حفلٍ بمناسبة عيدٍ من أعياد الوطن ولقد شهد الجميع بقدراتي الفائقة علي استنطاق آلة الربابة ..هل هو عيد الاستقلال ..لا ..لا ..لسنا في يناير .. ثم أن الغالبية العظمي من المواطنين فقدت الاهتمام بذكري الاستقلال بعد مرور كل هذه السنوات من التخبط السياسي والكيد الأعمى بين الأحزاب .. وبعد أن ازدادت معاناة الناس .. هل هو عيد العمال .. الأول من مايو .. لا أظن ذلك فقد ضاعت صيحة الشيوعيين المعروفة ( يا عمال العالم اتحدوا ) بين صخب وضجيج الماكينات وبات رؤساء وأعضاء النقابات العمالية في واد ومتطلبات قواعدهم في وادٍ آخر بعد أن صار كل واحد منهم ظهيراً للسلطة علي حساب أولئك التعساء .. هل هي ذكري ثورة الواحد والعشرين من أكتوبر 64 .. أظنك تمزح يا صديقي .. ألم يقولوا لنا بأن ثورة أكتوبر نحرت بليل .. أكتوبر ؟! .. إنها موجودة فقط في ذاكرة الأرشيف .. مجرد أناشيد لم يعد يسمعها أحد ..أم لعلها ثورة الخامس والعشرين من مايو .. لماذا تكثر من ترديد كلمة ( ثورة ) ؟.. هل تشتري حفنة موز من سوق الفواكه والخضروات أم ماذا ؟.. أعطني تعريفاً واضحاً للمفردة ( ثورة ) .. ولماذا أنت غاضب هكذا ؟ .. أنا متوتر فقط .. يعتريني إحساس غريب أجهل كنهه ..نعم أنا قادم .. من يقرع الأجراس بهذه الشدة في هذا الوقت المتأخر من الليل .. أللهم أجعله خير .. أللهم أجعله .. نعم .. نعم .. أنا قادم .. من؟!!! .. سيسيليا ؟! ما الخطب ؟! .. لماذا أنت هكذا ؟.. هل يمكنني الدخول .. أرجوك .. بالطبع تفضلي .. ولكن من فعل بك هذا .. لماذا أنت بهذه الحالة المزرية ؟! .. ثياب ممزقة وكدمات وآثار عراك وملابسك ملطخة بالطين .. ماذا جري سيسيليا ماذا جري ؟ .. امنحني فرصة استعيد فيها توازني .. أنا .. أنا .. ماذا ؟ .. ما بك ؟ .. قولي .. تكلمي .. لقد تعرضت لمحاولة اغتصاب .. المجرم السافل .. من هو هذا المجرم السافل .. من هو وماذا فعل لك ؟ .. إنه ( إدوين ) .. نعم ( إدوين ) أخذني في نزهة بدراجته النارية وعرج بي علي إحدى الغابات وحاول اغتصابي وعندما قاومته ضربني بقسوة ومزق ثيابي .. فهربت منه وصرت أجري وأجري بين الشجيرات وهو يطاردني بال(موتر سايكل ) .. بيد أنه اصطدم بشجرة وربما يكون قد أصيب إصابات بليغة التفت وشاهدت دخان الحريق يتصاعد من المكان .. وصلت بصعوبة بالغة للطريق العام وهنالك التقطني سائق شاحنة مخمور .. كان لوحده وحاول العبث بي أكثر من مرة .. اغتنمت فرصة إبطاء الشاحنة بإحدى المنعطفات وفتحت باب الشاحنة وقفزت منها حتى قبل أن تتوقف تماماً فأصبت ببعض الكدمات بذراعي وأرجلي بيد أنني نهضت ثانيةً وعدوت بالاتجاه المعاكس بأقصى ما أستطيع حيث توقفت عربة صغيرة تقودها سيدة طيبة أقلتني حتى باب منزلكم .. يا إلهي كم كنت غبية .. هذا جنون لا يصدق .. أنا غبية فعلاً إذ وثقت بذاك المخادع .. سامحني يا أويس .. أنت إنسان مختلف جداً وما كان عليّ أن أفقدك بهذه السهولة ولأجل من ؟.. سخيف مخادع وجبان .. لا بأس يا صغيرتي .. المهم أن تكوني أنت بخير وأن تتعلمي شيئاً من هذه التجربة المريرة .. ولكن كيف وصلت إلي هنا .. أعني من أعطاك عنواني ؟ .. أعطتني إياه خالتي ( إزابيلا ) عندما زرتها في السجن .. بالمناسبة .. هي تسأل عنك بشدة وقد علمت أن شخصاً متنفذاً ومهماً أمر بإخراجها من السجن بالضمانة وشطب الإتهام في مواجهتها بعد أن اعترف فكتور بالجرم وشهد بأن خالتي إزابيلا لم تكن علي علم بمحتويات تلكم الحقيبة المشئومة .. والآن أويس .. أرجوك أنا جائعة وظمآنة وأشعر بالبرد يطحن عظامي .. ولن يكون بوسعي العودة للمنزل لتراني أمي وأنا بهذه الصورة .. هل تسمح لي بقضاء الليل معكم ؟.. بالطبع سيسيليا .. تركتها لبعض الوقت وعدت ومعي شراباً دافئاً وأيقظت شاهندة وزوجها وشرحت لهما الأمر وطلبت من شاهندة أن تهتم بها وأن تنام معها في غرفة نومها ونمنا أنا ونعوم في غرفتي .. ولكن هل نمت ؟! .. لا .. لا .. لم أنم وظللت مسهداً أقلب في ذهني مجريات هذا اليوم العجيب .. سفر (أنجلينا وروزماري ).. وذاك السيد القادم من سفارتنا ورفيقته وقصة سيسيليا المحزنة .. ووجدتني أتعاطف معها بالرغم من هجرها لي والارتماء في أحضان ذلك الإيرلندي ( إدوين ) .. لم أحقد عليها ولكنني رثيت لحالها وقررت أن اشتري لها ثياب جديدة قبل توصيلها لأسرتها .. فضلاً هل بإمكاني استخدام الهاتف ؟.. بالطبع تفضلي .. هالو .. ماما .. أنا سيسيليا .. أنا هنا أتسامر مع بعض الأصدقاء بمنزل السيد أويس .. لا .. لا تقلقي أنا بخير وسنسهر حتى الفجر لنحتفل ببزوغ شمس الغد .. مرحبا سيده خواليتا .. إنها بخير وسأوصلها لمنزلكم غداً بنفسي .. طاب مساؤك .
الحلقة الرابعة والعشرون
لم أضيع وقتاً .. الفضول يقتلني وأشعر باني ضائع ومشوش .. وفي مكتب الاستقبال بالسفارة قال لي الموظف .. السفير عماد غادر إلي منزله ويطلب منك اللحاق به علي هذا العنوان .. أخذته منه وواصلت السير بدراجتي النارية أبحث عن العنوان المنشود .. دلني أحد المارة علي الشارع وبات العثور علي رقم المنزل ميسوراً .. قرعت الباب فجاءت خادمة قوقازية لتفتح لي .. قلت لها .. قولي للسيد السفير عماد الدين .. أن الدكتور أويس من جامعة الصداقة يود رؤيتك .. اختفت تلكم الخادمة الصغيرة بملامحها المتواضعة ثم عادت لتأخذني عبر البهو الواسع لغرفة الجلوس .. لحظة من فضلك السيد عماد سيلحق بك بعد قليل .. إنه يهاتف شخصاً ما بوزارة خارجية بلادكم .. دقائق معدودة انقضت علي حساب أعصابي .. هل أحضر لك شيئاً من شراب ( الكركدي ) الساخن .. إنه لذيذ جداً .. أعلم ذلك يا آنستي وقد سبق لي زراعته وحصاده عندما كنا بكردفان .. نعم لو كان هذا لا يضايقك .. كلا البتة .. وفي هذه اللحظة أطلّ علينا السفير عماد .. أنا آسف لتركك هكذا وحدك .. في الحقيقة لديك رسائل ووصايا من والدك وشقيقاتك بالسودان أحضرتها ابنة أختي ..آها .. ها هي قادمة .. سلمي علي الدكتور أويس .. مرحبا .. مددت يدي لمصافحتها بيد أنها لوحت لي من علي البعد وفهمت من القفازات التي ترتديها بيديها والخمار الأسود المسدل علي وجها بأنها من النوع الذي لا يصافح الغرباء .. لكن شيئاً ما جذبني نحوها .. قرأت تفاصيل عينيها وأبحرت في خضمها لثوان .. يا إلهي .. هاتان العينان الرائقتان الناعستان مألوفة جداً بالنسبة لي .. ولكن أين طالعتهما .. هل سبق أن تجاورنا في مدينة ما من المدن التي عمل بها والدي الضابط الإداري .. هل هي من الأبيض؟ .. بورسودان .. كسلا .. بارا .. بور .. رفاعة ..؟ .. أين رأيت هاتين العينين النجلاوين .. ؟ أين يا أويس ؟ أين .. أين .. لحظة صمت مفتوحة علي كل الاحتمالات خيمت فوقنا .. لعلك لم تعد تتذكرني وربما النقاب الذي أضعه فوق وجهي قد ضيع ملامحي .. نعم آنستي .. لا أتبينك تماماً لكن صوتك يخبرني بأنك رزان عبدو .. هل أنت متأكد ؟! .. ولماذا رزان بالذات ؟.. إنها فتاة أحلامي وحبي الحقيقي مذ كنا أطفالاً وحتى يومنا هذا .. ربما أكون كذلك ولكن يمنعني التزامي الديني من كشف تقاطيع وجهي .. وعليك أن تتوقع أشخاصاً آخرين غير رزان .. لا أستطيع لو لم تكوني رزان ..أرجوك حاولي أن تكوني .. صوتك ولفتاتك تقول لي بأنك هي وقد أكون مخطئاً وفي هذه الحالة سأشعر بخذلان شديد .. أويس مرغني الفاضل .. أنا فعلاً رزان .. رزااااان .. أكاد لا أصدق ونهضت نحوها لآخذها بين ذراعي ولكنها استوقفتني وغادرت المكان وصدي نهنهاتها يزلزل كياني .. لم أكن أعلم بأن العلاقة بينك وبين الدكتورة رزان متجذرة بهذه القوة .. بل وأكثر .. يا إلهي ..لا ..لا ..لا ..لم أعد قادراً علي التفكير .. رزان هنا في موسكو .. هذا مستحيل .. هذا .. ولكن .. كيف سمح الأستاذ (عبدو) ل( رزان ) بالمجيء إلي هنا .. أعني إلي موسكو ؟! .. سمح لي يا (دوك) ..لأن خالي هنا.. (رزان) وقد عادت بعد أن جففت دموعها .. نعم .. نعم .. كيف فات عليّ ذلك ..لا بد أنني أصبحت غبياّ .. أشعر وكأنني أكبر غبي في العالم .. وبما أن خالك هنا فإنني أطلبك زوجة لي عليّ سنة الله ورسوله .. لا بد أن طلبي فاجأ الجميع .. فقد توقفت زوجة السفير في منتصف البهو وكانت تحمل بعض الحلوى وعصير (الكركدي) .. وساد المكان صمت رهيب .. أنا أعني ما أقول .. ولكن يا دكتور (أويس) ألا تري أنه من الأفضل أن تتم أمور كهذه في البلد .. أعني في (وادمدني) حيث يقيم والدها .. أنا آسف أعني .. ليس بوسعي التفريط في (رزان) بعد أن ساقها القدر إليّ وحتى بابي .. وأنتم يا سعادة السفير تملكون خطاً ساخنا ً.. ومن ثمّ أعطيته هاتف والدي بالشركة التي يعمل بها بالخرطوم بعد التقاعد وطلبت منه أن يوصلني به لأطلب منه التوجه إلي (وادمدني) ليطلب ( رزان ) من والدها .. ثم نغادر للسودان لنكمل مراسم الزواج هنالك ونعود لنواصل مشاريعنا في التخصص .. والله فكرة هائلة .. هنالك موضوع هام لم تتطرقا إليه .. زوجة السفير وهي تشارك في النقاش بعد أن أراحت الأواني التي كانت تحملها علي الطاولة . لماذا لا نسأل (رزان) صاحبة الشأن إن كانت مرتبطة بشخص ما قبل حضورها إلي موسكو ؟ وكانت قد ظلت طوال الوقت محدقةً نحو الأرض .. أصابني نوع غريب من الرعب وشعرت بان دواخلي تنهار فجأة .. شخص ما ؟ ماذا تعنين بشخص ما يا خالة ؟ .. قلت ربما .. وفي هذه اللحظة المشحونة بشتي الانفعالات والاحتمالات ..انسحبت (رزان) من البهو لتتركنا وحدنا نتخبط في بحر من الظنون .. أرجوك خالتي .. أتوسل إليك .. ألحقي بها واسأليها إن كان ثمة أمر كهذا موجود في حسبانها .. سألحق بها .. يا طالما عاشت (رزان) السنين الطوال في أحلامي وخيالاتي .. إنها كل ما أتمني في هذه الدنيا وقد أتت إلي هنا .. أقسم بأنني لن أغادر هذا المنزل إلا و(رزان) قد قبلتني خطيباً لها .. ومرت الدقائق والثواني بطيئة وكأنها أسابيع بحالها .. وأخيراً عادت زوجة السفير وأساريرها متهللة توشك أن ترسل زغرودة .. لم تجبني بلا أو نعم ولكنها أشاحت بوجهها حياءً وخجلاً .. وكما نقول ( السكات رضا ).. بإمكانكما الاعتماد عليّ في أمورٍ كهذه .. كم أنا سعيدة لسعادتك ُبني .. ولسعادتها هي أيضاً .. سوف تتزوجان وتعودان إلي روسيا ونشكل معاً أسرة واحدة قوامها الحب والتكافل .. أرجو ذلك .. أشكرك من كل قلبي .. لو كانت أمي علي قيد الحياة لشكرتك بنفسها .. والآن ماذا تنتظران ؟!.. هيا أذهبا للسفارة وأجريا المكالمات الهاتفية المطلوبة وعودا لنا بالبشارة .. و(رزان) .. قالت إنها تفضل بأن تترك لوحدها .. لا عليكما سأهتم بها لحين عودتكما.
عاشق المليون يود أن يستقر
بعد أن تشبع بحب كل من رآها
فهل ستكون محطة استقراره
ام سيبحث عن وردة آخرى
الغالي محجوب ..بت مدني رزان وبس ..وأنت مدعو لحضور عقد القران وقد تكون وكيل العريس( اويس )..جمعه مباركه لك ولمن ةحولك .
الحلقة الخامسة والعشرون
أسبوع .. أسبوعان والخرطوم العنيدة لا ترد .. وكنت أذهب تقريباً كل يوم بعد انقضاء ساعات العمل الرسمي لمنزل السيد السفير فتقابلني أسرته بترحاب شديد بينما تتحصن ( رزان ) بالصمت الرهيب وبغرفتها .. وأكثر ما تستطيع منحي إياه تلويحة من علي البعد دون أن تجلس لتشاركنا الأنس والطعام وقد أسدلت كالعادة خمارها فوق وجهها فلا أكاد أري سوي تلكم العينين الرائعتين وقد التمعت فيهما مشاعر دافئة .. فأعود مساء كل يوم أحتضن الفقد والأشواق وصورة ( رزان ) وأحياناً تأتيني صورة ( أنستاسيا ) من وراء الغيوم وقد حملت بين يديها طفلة صغيرة كثيرة البهاء .. تشبهني بسحنتها الخلاسية وتشبه ( أنّا) بتقاطيعها القوقازية المترفة .. ولم يطل انتظارنا .. وما كان له أن يأخذ كل ذاك الوقت .. وذهبت ذات مساء لأجد منزل السيد السفير وهو يعج بموظفي السفارة وأسرهم وقد تلقفني بابتسامة عريضة وهو يقول .. مرحبا أويس ..العريس .. لقد بحثنا عنك في كل مكان دون جدوى .. بربك أين كنت ؟ .. عموماً مبروك يا صديقي .. ربنا يتمم بخير .. وما كنت لأحتاج لكثير عناء لأكتشف من الحركة الدءوبة التي انتظمت الدار وأكواب الشربات وكل أنواع الحلوى التي غصت بها المائدة بأني موعود بأخبار سارة .. انتظرت حتى غادر المدعوون المنزل لأدلف إلي غرفة قادتني إليها زوجة السفير حيث ( رزان ) وقد كشفت وجهها لأول مرة أمامي منذ قدومها إلي (موسكو) .. لم أتمالك نفسي من شدة الدهشة ووقع المفاجأة فترنحت وكأن بي سكر أو شيء من الحمي .. انسلت تلكم السيدة الفاضلة وتركتنا لوحدنا .. دنوت منها في حالة من العشق الصوفي الجميل .. أفردت لي كفها فأخذتها وأنا شبه تائه وضائع تماماً بعد أن أفصحت (رزان) عن تفاصيلها المموسقة .. يا لنعومتها ورقتها .. لم كل هذه الروعة يا رزان ؟ .. هذا الضياء المسكوب علي وجنتيك الساحرتين أم ذاك البريق العجيب المنداح من عينيك الواسعتين .. أم .. تفضل .. لم تنظر إلي هكذا ؟ .. أويس .. هل أنت بخير .. نعم .. نعم بكل تأكيد .. لقد أزحت الخمار عن وجهي لأن من حقك أن تراني علي حقيقتي بعد كل هذه السنين .. خاصة ونحن لا زلنا علي البر كما يقولون .. وتستطيع أن تغير رأيك الآن إن شئت .. أتمزحين يا .. لا بل أنا جادة فيما أقول .. لقد تغيرت كثيراً يا رزان .. لم تكوني بكل هذا الجمال وأنت طفلة .. وأنت لم تكن بهذه الوسامة وأنت طفلاً .. أرجوك حبيبتي .. كوني جادة .. أنا أعني ما أقول يا رزان .. وأتمني أن أكون في مستوي هذا الألق الذي أراه أمامي .
وتبقي رزان حقيقة ماثلة للعيان بكل ما بها من كبرياء وعنفوان .. لم كل هذا الاعتداد بالنفس وتلكم النفرة وذاك الجموح .. رزان .. هنالك جوانب في حياتي تحتاج لبعض الإضاءة والتوضيح .. لا تحدثني عن الماضي .. أنت الآن لي وأنا لك .. وكلانا ملك لأطفالنا القادمين من وراء الغيب فلم نشغل بالنا بما كنت وليس بما تكون .. عزيزتي .. عزيزتي الأمر يتعلق .. اسمع أويس .. سأسمعك فقط عندما يتعلق الموضوع بي وبك .. أرجوك لا تجرّح أناقة هذه الدقائق الغالية بماضٍ قد ولي ولن يعود .. كما تشائين .. حبيبتي كما تشائين .. والآن أريد أن أعرفك علي صديقين هما بالنسبة لي بمثابة أخ وأخت وقد تزوجا قبل عام .. الفتاة من كشمير والفتي من اسبانيا من إقليم الباسك .. ها قد وصلنا .. انتظرنا كثيراً قبل أن تفتح لنا شاهندة باب شقتهما التي انتقلا إليها بعد انقضاء مدة الإيجار المدفوعة مقدماً بواسطة ( أنستاسيا ) .. مرحبا .. تفضلا بالدخول .. هل نعوم موجود ؟ .. نعم .. نعم إنه بالداخل .. تفضلا .. السلام عليكم سيد نعوم .. أهلاً بصديقي المختفي أويس .. إنه أخوك قبل أن يكون صديقك يا نعوم .. آه شاهندة .. أنت دائماً تصححين أخطائي الصغيرة عزيزتي .. والكبيرة أيضاً .. كانت نظراتهما المبهورة تقولان لي من تكون هذه الفتاة ( القنبلة ) .. عفواً يسعدني أن أقدم لكم خطيبتي الدكتورة ( رزان ) .. هل قلت ..؟! .. شهقة صغيرة .. (رزان ) .. شاهندة وقد أذهلتها المفاجأة .. نعم .. إنها هي .. لقد حدثني أويس عنك كثيراً بل وكثيراً جداً ومن ثمّ قامت من مكانها واحتضنتها في محبة حقيقية .. يا طالما قلت لأويس أرجوك ضعني في مرتبة (رزان ) وهو يقص لنا حكايات طفولتكما .. قلت له .. أريدك أخاً لي كشقيقي الأكبر في سرنغار .. قومني ونبهني إذا لاحظت بأني أحيد عن جادة الطريق وكأنني رزان .. هل قال لك كل هذا ؟! .. أيها الثرثار الماكر .. بم كنت تحدثهم عني .. قصصنا في أيام المدرسة الابتدائية وقصة الدراجة ويوم الاستقلال بالأبيض .. وأشياء من هذا القبيل .. ثم ماذا أيضاً ؟وتحديك لي يوم أن ركضت وتكومت تحت الجدار وعربة ( الكارو ) .. الحمد لله أنك هنا .. ولو أننا عاتبان بعض الشيء .. كان الواجب عليكما دعوتنا لحضور حفل الخطوبة بمنزل السفير .. أنا آسفة يا شهرزاد .. شاهندة من فضلك .. شاهندة .. أنا متأسفة جداً يا شاهندة .. لقد سارت الأمور بسرعة لا تصدق .. عموماً ها قد عوضك الله يا أويس خيراً من أنستاسيا .. إحم .. إحم .. نعوم وهو يحاول تغيير الموضوع قبل أن تسترسل شاهندة في الكلام .. وهل ستسافران لإتمام الزواج بالسودان كما فعلنا أنا وشاهندة .. لقد سافرنا لإتمام مراسم زفافنا في كشمير .. بالطبع سنفعل .. لن يكون للعرس طعم بعيداً عن الأهل والوطن وطقوسه الرائعة .. صمت من جانب رزان تقابله ثرثرة من جانب شاهندة .. ولدي عودتنا إلي منزل السفير .. أجلستني رزان علي كرسيٍ ساخن كاد أن يطيح بكل ما تحقق من أحلام .. لقد حاولت أكثر من مرة أن أشرح لك الأمر .. وكان هدفي أن أكون صادقاً معك منذ البداية ولكنك كنت دائماً ترفضين الحديث عن الماضي .. أجل .. أجل يا أويس .. لكل منا ماض و.. وجراحات وكنت أفضل أن تحدثني أنت عن أنستاسيا هذه .. حتى لا أبدو كالبلهاء أمام شاهندة .
من اولا شادين ليك القدة
وجاك الموت يا تارك الصلاة
كم شخص قبلي قال لك كم أنت رايع ياعزيزي محجوب ..ولا أقول كم واحده ..وبلاش مشاكل ..وجايينكم مع أويس لخطبة رزان ..إن شاء الله .
الحلقة السادسة والعشرون
تبقت بضعة أشهر قبل أن تبدأ رزان دراستها التخصصية في الأمراض النفسية ويتحتم عليّ الانتظار شهران علي الأقل قبل أن استلم شهادة التخرج لذلك قررنا العودة للسودان .. نسلم علي الأهل ونتزوج ومن ثمّ نعود إلي موسكو لمواصلة دراستنا .. وكانت قد قررت التخصص في طب الأطفال .. بكت رزان من الفرحة عندما لامست الطائرة أرضية مطار الخرطوم ولدي هبوطنا صليت ركعتين شكراً لله علي سلامة الوصول والعودة للوطن بعد طول غياب وكان الجميع بانتظارنا في شرفات الاستقبال وتوجهنا مباشرة نحو واد مدني في موكب كبير حيث أطلقت الفتيات العنان للغناء وقرع الدفوف ( دا اليوم الدايرنو ليك يا أويس مبروك عليك وأحياناً يا رزان مبروك عليك ) .. وكان المسافرون علي طريق واد مدني الخرطوم ينظرون إلينا عبر النوافذ بإعجاب شديد وأحيانا تصافح أسماعنا عبارة ( أبشروا بالخير ) مصحوبة بتلويحات حميمة .. وكانت أكثر من مفاجأة بانتظارنا في منزل أسرة رزان فقد تجمع عدد كبير من الأقارب والأصدقاء ونصب سرادق ضخم زينته مجموعات من الأطفال بملابسهن الزاهية وانطلقت الزغاريد علي أكثر من صعيد وحضر عدد لا باس به من أفراد أسرتنا من البلد .. باستثناء الغائبة الحاضرة أمي الحبيبة يرحمها الله .. ما هذا الذي يجري يا أبي ؟ تساءلت في حيرة .. سنعقد لكم اليوم يا ولدي وقد نسقت مع الأستاذ عبدو لتكون فرحتنا بعودتكما فرحتين .. ولكن .. نحتاج لبعض الوقت لتجهيز أنفسنا .. نعقد اليوم وتدخلان بعد أسبوع .. أين المشكلة ..؟ وما كان أمامنا سوي الرضوخ لإرادة الأهل .. وفي المساء وبرغم التعب والإرهاق من رحلة الطائرة الطويلة أقيم لنا حفل باذخ سيظل راسخاً في أذهاننا مدي الحياة.
قلت لرزان بعد عودتنا مجدداً إلي موسكو .. ضعي كامل زينتك ولا تنسي طبعاً العطر السوداني المنزلي الذي صنعته لك قريباتك وشقيقاتك .. آه يا عروستي المدللة كم يسكرني ذاك العبق المترف الذي ينداح منك حين تضعينه خلف أذنيك وفي ثنايا شعرك .. وليتك تأخذين حماماً بخارياً من أعواد الطلح والصندل .. هل جُننت يا أويس .. لا توجد حفرة دخان بمنزل خالي .. هل تظن أننا لا زلنا بواد مدني .. لو أشعلت ناراً هنا بالحي الدبلوماسي لا أعلم ما يمكن أن يحدث .. أظنهم سيطلبون المطافئ بعد أن تضج صفارات الإنذار معلنة نشوب حريق بمنزل السفير .. قلت بعض الأعواد ولم أقل غابة ( الفيل ) .. حسناً ولم كل هذا الاهتمام بهذه الزيارة بالذات وقد زرنا أكثر من عائلة ولم تشدّد علي كل هذه المظاهر .. ستعرفين عندما نصل .. وهكذا انتهينا من تجهيز أنفسنا وبتنا مستعدين للانطلاق .. ولكن إلي أين ؟ .. رزان وقد بدأ عليها بعض التبرم والانزعاج .. ثقي بي .. فأنا لن أسلمك للثوار في أفغانستان .. وأخيراً.. ها قد وصلنا .. نحن الآن يا عزيزتي أمام منزل أسرة أنستاسيا .. أنستاسيا؟!! تساءلت في رعب حقيقي .. ما بك يا حياتي .. إنهم أناس لطيفون جداً ويجب أن يعلموا بأنني تزوجت بك بعد رحيل ابنتهم .. آه رزااان ..اطرحي هذه التكشيرة جانباً وأعطنا أجمل ابتسامة في الوجود .. مرحباً .. والدتها وهي تفتح الباب .. أنظروا من لدينا اليوم .. أويس .. أويس يا عزيزي الغائب .. من الطارق والدها وقد شعر بقدومنا .. إنه أويس .. ومن تكون هذه السيدة الصغيرة ..؟! .. إنها رزان .. من السودان زوجتي الجديدة .. يا لها من مفاجأة .. تفضلا .. تفضلا .. فالبيت بيتكما ..وجاء والدها ليأخذني بالأحضان بيد أنه لم يحتمل صعوبة الموقف وقد رآني واقفاً أمامه ولكن بدون ابنته الغالية ( أنّا ) .. سلم علي رزان بكلمات غير مفهومة وغادر الصالة بسرعة وسمعنا صوت اصطفاق باب حجرته من خلفه .. إييه يا أويس .. زوجتك جميلة جداً .. وتستعمل عطراً غريبا لم أشم في حياتي عطراً بمثل روعته ونفاذه .. ما اسم هذا العطر بنيتي .. ترجمت سؤالها ل( رزان ) التي استعادت بعضاً من رباطة جأشها .. إنه عطر أنثوي من المواد المحلية عادة ما يتم تحضيره للعرسان الجدد .. لدي منه الكثير وسأحضر لك قارورة كاملة منه.. يسعدني أنه أعجبك .. ولم تكن باتريشيا حاضرة لحظة وصولنا فهي تتلقي دروساً في الموسيقي في معهد قريب من منزلهم ولكنها عادت قبل أن نغادر ومن غريب الصدف أنها تعلقت ب(رزان ) لدرجة الوله ..وهل من أخبار ؟! .. سألتها وأنا أتعطش لسماع أخبار ( أنّا ) .. أية أخبار؟ .. آه فهمت .. لعلك تقصد أخبارها .. لا .. لا .. لم نسمع عنها شيئاً منذ أن غادرت .. وكيف وجدت موسكو عزيزتي .. عزيزتي . .رزان .. رزان ..ق لت مذّكراً إياها .. يا ابنتي رزان .. إنها مدينة كبيرة ومزدحمة ولم نعتد في بلادنا علي مثل هذا الضجيج والزحام .. رزان وقد أفصحت عن شعورها حول العيش بموسكو .. لو أن الحياة في موسكو تزعجك .. لم لا تحضران للعيش معنا هنا .. فالبيت كبير وبه غرف عديدة وزوجي بالكاد يغادر غرفته بعد أن اشتدت عليه الروماتيزم .. أجادة أنت فيما تقولين خالتي ؟ .. قلت لها وقد راقني اقتراحها بصورة غريبة ..وصفقت بتريشيا في انفعال قريب وهي تفرك يديها وتعانق رزان ..أرجوكما وافقا ..وافقي رزان أنا أرجوك .. أنا بالطبع جادة وسأكون ممتنة لكما إن قبلتما هذا العرض .. في الواقع لن نطلب منكما أي شيء باستثناء تسديد فواتير الماء والكهرباء الخاصة بكما .. ها ماذا قلتما ؟ .. سأذهب لرؤية زوجي وأعود لكما ببعض ألحلوى والعصير ريثما تكونان قد اتخذتما قراركما .. ما رأيك رزان ؟ .. الرأي رأيك .. وأنت أدري بهما مني وسبق لك العيش هنا .. لقد أحببت هذه السيدة والمكان أنه أشبه بمنطقة السواقي الجنوبية بكسلا .. أليس كذلك ؟ .. إنه بالفعل مكان هادئ وعند هذه الناحية من الوادي توجد مروج ودغل كثيف..وكانت باتريشيا تتنقل بنظراتها بيني وبين رزان ونحن نقلّب الموضوع وفهمت من إيماءاتنا بأننا قد وافقنا فصرخت بأعلي صوتها ( ياهووو ..رائع ..رائع ) .
تبقت بضعة أشهر قبل أن تبدأ رزان دراستها التخصصية في الأمراض النفسية ويتحتم عليّ الانتظار شهران علي الأقل قبل أن استلم شهادة التخرج لذلك قررنا العودة للسودان .. نسلم علي الأهل ونتزوج ومن ثمّ نعود إلي موسكو لمواصلة دراستنا .. وكانت قد قررت التخصص في طب الأطفال .. بكت رزان من الفرحة عندما لامست الطائرة أرضية مطار الخرطوم ولدي هبوطنا صليت ركعتين شكراً لله علي سلامة الوصول والعودة للوطن بعد طول غياب وكان الجميع بانتظارنا في شرفات الاستقبال وتوجهنا مباشرة نحو واد مدني في موكب كبير حيث أطلقت الفتيات العنان للغناء وقرع الدفوف ( دا اليوم الدايرنو ليك يا أويس مبروك عليك وأحياناً يا رزان مبروك عليك ) .. وكان المسافرون علي طريق واد مدني الخرطوم ينظرون إلينا عبر النوافذ بإعجاب شديد وأحيانا تصافح أسماعنا عبارة ( أبشروا بالخير ) مصحوبة بتلويحات حميمة .. وكانت أكثر من مفاجأة بانتظارنا في منزل أسرة رزان فقد تجمع عدد كبير من الأقارب والأصدقاء ونصب سرادق ضخم زينته مجموعات من الأطفال بملابسهن الزاهية وانطلقت الزغاريد علي أكثر من صعيد وحضر عدد لا باس به من أفراد أسرتنا من البلد .. باستثناء الغائبة الحاضرة أمي الحبيبة يرحمها الله .. ما هذا الذي يجري يا أبي ؟ تساءلت في حيرة .. سنعقد لكم اليوم يا ولدي وقد نسقت مع الأستاذ عبدو لتكون فرحتنا بعودتكما فرحتين .. ولكن .. نحتاج لبعض الوقت لتجهيز أنفسنا .. نعقد اليوم وتدخلان بعد أسبوع .. أين المشكلة ..؟ وما كان أمامنا سوي الرضوخ لإرادة الأهل .. وفي المساء وبرغم التعب والإرهاق من رحلة الطائرة الطويلة أقيم لنا حفل باذخ سيظل راسخاً في أذهاننا مدي الحياة.
قلت لرزان بعد عودتنا مجدداً إلي موسكو .. ضعي كامل زينتك ولا تنسي طبعاً العطر السوداني المنزلي الذي صنعته لك قريباتك وشقيقاتك .. آه يا عروستي المدللة كم يسكرني ذاك العبق المترف الذي ينداح منك حين تضعينه خلف أذنيك وفي ثنايا شعرك .. وليتك تأخذين حماماً بخارياً من أعواد الطلح والصندل .. هل جُننت يا أويس .. لا توجد حفرة دخان بمنزل خالي .. هل تظن أننا لا زلنا بواد مدني .. لو أشعلت ناراً هنا بالحي الدبلوماسي لا أعلم ما يمكن أن يحدث .. أظنهم سيطلبون المطافئ بعد أن تضج صفارات الإنذار معلنة نشوب حريق بمنزل السفير .. قلت بعض الأعواد ولم أقل غابة ( الفيل ) .. حسناً ولم كل هذا الاهتمام بهذه الزيارة بالذات وقد زرنا أكثر من عائلة ولم تشدّد علي كل هذه المظاهر .. ستعرفين عندما نصل .. وهكذا انتهينا من تجهيز أنفسنا وبتنا مستعدين للانطلاق .. ولكن إلي أين ؟ .. رزان وقد بدأ عليها بعض التبرم والانزعاج .. ثقي بي .. فأنا لن أسلمك للثوار في أفغانستان .. وأخيراً.. ها قد وصلنا .. نحن الآن يا عزيزتي أمام منزل أسرة أنستاسيا .. أنستاسيا؟!! تساءلت في رعب حقيقي .. ما بك يا حياتي .. إنهم أناس لطيفون جداً ويجب أن يعلموا بأنني تزوجت بك بعد رحيل ابنتهم .. آه رزااان ..اطرحي هذه التكشيرة جانباً وأعطنا أجمل ابتسامة في الوجود .. مرحباً .. والدتها وهي تفتح الباب .. أنظروا من لدينا اليوم .. أويس .. أويس يا عزيزي الغائب .. من الطارق والدها وقد شعر بقدومنا .. إنه أويس .. ومن تكون هذه السيدة الصغيرة ..؟! .. إنها رزان .. من السودان زوجتي الجديدة .. يا لها من مفاجأة .. تفضلا .. تفضلا .. فالبيت بيتكما ..وجاء والدها ليأخذني بالأحضان بيد أنه لم يحتمل صعوبة الموقف وقد رآني واقفاً أمامه ولكن بدون ابنته الغالية ( أنّا ) .. سلم علي رزان بكلمات غير مفهومة وغادر الصالة بسرعة وسمعنا صوت اصطفاق باب حجرته من خلفه .. إييه يا أويس .. زوجتك جميلة جداً .. وتستعمل عطراً غريبا لم أشم في حياتي عطراً بمثل روعته ونفاذه .. ما اسم هذا العطر بنيتي .. ترجمت سؤالها ل( رزان ) التي استعادت بعضاً من رباطة جأشها .. إنه عطر أنثوي من المواد المحلية عادة ما يتم تحضيره للعرسان الجدد .. لدي منه الكثير وسأحضر لك قارورة كاملة منه.. يسعدني أنه أعجبك .. ولم تكن باتريشيا حاضرة لحظة وصولنا فهي تتلقي دروساً في الموسيقي في معهد قريب من منزلهم ولكنها عادت قبل أن نغادر ومن غريب الصدف أنها تعلقت ب(رزان ) لدرجة الوله ..وهل من أخبار ؟! .. سألتها وأنا أتعطش لسماع أخبار ( أنّا ) .. أية أخبار؟ .. آه فهمت .. لعلك تقصد أخبارها .. لا .. لا .. لم نسمع عنها شيئاً منذ أن غادرت .. وكيف وجدت موسكو عزيزتي .. عزيزتي . .رزان .. رزان ..ق لت مذّكراً إياها .. يا ابنتي رزان .. إنها مدينة كبيرة ومزدحمة ولم نعتد في بلادنا علي مثل هذا الضجيج والزحام .. رزان وقد أفصحت عن شعورها حول العيش بموسكو .. لو أن الحياة في موسكو تزعجك .. لم لا تحضران للعيش معنا هنا .. فالبيت كبير وبه غرف عديدة وزوجي بالكاد يغادر غرفته بعد أن اشتدت عليه الروماتيزم .. أجادة أنت فيما تقولين خالتي ؟ .. قلت لها وقد راقني اقتراحها بصورة غريبة ..وصفقت بتريشيا في انفعال قريب وهي تفرك يديها وتعانق رزان ..أرجوكما وافقا ..وافقي رزان أنا أرجوك .. أنا بالطبع جادة وسأكون ممتنة لكما إن قبلتما هذا العرض .. في الواقع لن نطلب منكما أي شيء باستثناء تسديد فواتير الماء والكهرباء الخاصة بكما .. ها ماذا قلتما ؟ .. سأذهب لرؤية زوجي وأعود لكما ببعض ألحلوى والعصير ريثما تكونان قد اتخذتما قراركما .. ما رأيك رزان ؟ .. الرأي رأيك .. وأنت أدري بهما مني وسبق لك العيش هنا .. لقد أحببت هذه السيدة والمكان أنه أشبه بمنطقة السواقي الجنوبية بكسلا .. أليس كذلك ؟ .. إنه بالفعل مكان هادئ وعند هذه الناحية من الوادي توجد مروج ودغل كثيف..وكانت باتريشيا تتنقل بنظراتها بيني وبين رزان ونحن نقلّب الموضوع وفهمت من إيماءاتنا بأننا قد وافقنا فصرخت بأعلي صوتها ( ياهووو ..رائع ..رائع ) .
عزيزي ياسر ..أسعد الله أوقاتكم بكل الخير
يوجد نص مكررفي الحلقة الأخيره من بداية الجمله (تبقت بضعة أشهر وحتي ( ياهوو رايع رائع )وقد حاولت حذفه دون جدوي أرجو التعديل من قبلكم مع كل الود
رزان طششت بيك
وخلتك تكتب وتعيد
فهل يا ترى باتريشيا
تحاول أن تعيد ما مضى
نستنى قادم الايام
عزيزي محجوب .. صباح الخير ..كم هو محظوظ أويس وهو يفوز برزان ..أتمني لكل شاب أن يفوز بحبيبته ..ويتجوز .. ساعتها سيندم علي كل سنه قضاها وهو عازب ..دمت بعافيه .
الحلقة السابعة والعشرون
عدنا إلي موسكو وعرضنا الأمر علي خال رزان وزوجته .. في البداية استغرب الأمر جداً .. ولكن زوجته ولسبب لا أعلمه شجعته علي الموافقة .. الروس أناس طيبون وودودون وأنا متأكدة من أن العيش سيطيب لكما هنالك .. الزوجة المتحمسة أكثر مني ومن رزان .. لعلها كانت تخشى أن نقيم معهم .. لا .. لا .. رزان تصححني وقد بتنا لوحدنا .. زوجة خالي امرأة لطيفة للغاية وأنا أعرف طريقة تفكيرها هي ليست بخيلة ولن تكون .. ماذا ؟!! .. شاهندة وقد فاجأتها الفكرة .. فكرة العيش بالريف خارج موسكو .. ولكن دكتور أويس .. نحن نريدكما بالقرب منا .. نستأجر شقة واسعة نوعاً ما ونقيم فيها كلنا نتشاطر الأوقات الحلوة والتسوق والرحلات وال(كامبنق) في الحدائق العامة وتقول لي بكل بساطة ستتركان موسكو لتعيشا وسط الأدغال .. مهلاً .. مهلاً عزيزتي .. زوجها نعوم وهو يحاول تهدئتها .. ولماذا أنت منزعجة لهذا الحد شاهندة ..؟ .. أويس أخي ولم أصدق بأن الله قد بعث له رزان .. لكم أحبك يا رزان ولا أريدك أن تبتعدي عنا .. لا بأس شاهندة .. سنكون معكم طوال اليوم بالجامعة .. نتغدي معاً ونتسوق معاً ونعود في المساء إلي عائلة زوجة أويس السابقة .. قالت ذلك وهي ترمقني بنظرة ذات مغزىً .. وهكذا أقنعت الجميع باستثناء كريموف .. بالله عليك دكتور أوليس .. عفواً .. أويس .. لا تقل لي بأنك تفضل العيش مع الدببة في الغابة علي موسكو المفعمة بالحيوية والثراء في كل شيء .. كل شيء .. النساء الجميلات والصبايا المتأنقات.. و .. اسمع كريموف يا صديقي الغالي ..سأترك لك جميلات موسكو لأنني ببساطة لا أرغب فيهن .. فلدي زوجتي الطيبة رزان.
وهكذا وجدنا أنفسنا في معية أسرة ( أنستاسيا ) .. كان المنزل يضج بالفوضى فعكفنا أنا ورزان وباتريشيا في عطلة نهاية الأسبوع علي تنظيفه وترتيبه .. ومن ثمّ انتقلنا إلي الحديقة المهملة وقمنا بتشذيبها وتهيئتها بأفضل صورة ممكنة .. وأزلنا الدوالي المتدلية من سقف المنزل وكل الأشياء المهملة منذ سنين وحملناها علي مركبة استأجرناها خصيصاً لنقل كل المنقولات غير المرغوب فيها والقمامة وقذفنا بها بعيداً جداً في مستودع النفايات خارج البلدة .. وعملت رزان بجهد خارق لترتيب الغرف الداخلية والأسّرة والمفروشات .. وأحضرت معها من موسكو بعض الورود والرياحين بثتها في زوايا المنزل وقمت أنا ونعوم بدهان الجدران الداخلية والخارجية وأصلحنا الأعطال الكهربائية فتحسن مستوي الإضاءة في الداخل والخارج .. وتحولنا بعد ذلك إلي والد ووالدة ( أنّا ) وقمنا بقياس ضغط الدم لهما وأجرينا لهما كل الفحوصات المطلوبة وقمت بإلغاء العديد من الأدوية التي كانا يستعملانها لعقود طويلة فتحسنت حالتهما الصحية وبدأت العافية تعود لكل شيء بالمنزل .. وعملنا علي إخراجهما من عزلتهما التي فرضاها علي نفسيهما منذ رحيل ( أنستاسيا ) .. لا سيما وأن المواصلات العامة بين البلدة وموسكو متوفرة ومريحة .. فأخذناهما لحضور الحفلات الموسيقية والمهرجانات الراقصة .. وعندما عادت العمة ( فرنشيسكا ) من رحلة لها خارج روسيا أخذتها إلي( براغ ) .. لم تصدق ما تري أمامها من تحول في كل شيء وظلت تردد هذا غير معقول .. هذا لا يصدق .. تركناهما لوحدهما وتناهت إلينا صدي قهقهاتهم وانفعالاتهم حتى ونحن داخل غرفتنا ..إيييه فرانشيسكا عزيزتي .. إنهما ملاكان طاهران بعثهما لنا الرب لإسعادنا وتعويضنا فقدنا .. ل( أنّا) .. آصحيح .. هل من أخبار جديدة .. لقد طالت هذه البعثة الدراسية كثيراً ولا أعتقد أن ( كولمبو ) معزولة عن أوروبا بهذا الشكل .. وكانت ابنتهما قد حذرتهما من البوح لأي أحد كان عن وجهتها .. لا .. لا .. بالطبع تهاتفنا من حين لآخر بيد أن العمل يأخذ كل وقتها .. عملنا بجهد لتكملة كورسات التخصص .. أنا بالجراحة ورزان في الطب النفسي .. وتعودنا علي العيش مع أسرة ( أناّ ) .. وبتنا نتقاسم معهم أفراحهم وأحزانهم وتصر كل فروع العائلة المنتشرة في أنحاء روسيا علي دعوتنا و استضافتنا وكنا لا نتردد في إجابة دعواتهم حتى علي صعيد المناسبات الصغيرة كعيد ميلاد هذه الآنسة أو ذاك الشاب .. كانوا يجدوننا مميزين ويشيرون لنا بفخر واعتزاز وهم يقدموننا بوظيفتنا كأطباء لأصدقائهم وحرص رئيس الحزب بالبلدة علي دعوتنا في المناسبات الوطنية وإجلاسنا ضمن قائمة كبار رجالات الدولة والحزب .. وكانت رزان سعيدة بهذا الاحتفاء فغفرت لي زواجي من (أنستاسيا ) بالرغم من التعهدات التي قطعناها علي أنفسنا ونحن صبية صغار .. بيد أن العمل يتطلب منا أحياناً التواجد المستمر بموسكو لعدة أيام وربما أسبوع وكان ذلك يضايق عائلة ( أنّا ) والجيران فيخضعوننا لاستجواب رهيب .. هل سئمتم العيش معنا ؟ .. تسأل والدتها وهي تبكي .. لا يا خالتي .. أقسم لك بأننا مضطرون للعيش بموسكو وفق الجدول الموضوع لنا من قبل مرؤوسينا .. رزان وهي تقوم من مكانها وتأخذها بالأحضان .. آه بنيتي .. لو تعلمين كم نحبكما لما غادرتما هذه الدار لحظة واحدة .. نحن نمضي اليوم كله نترقب جرس الباب يرن لنفتح لكم ولا يهدأ لنا بال حتي نراكم بيننا ..لا سيما الصغيرة ياتريشيا إنها مغرمة بكم جداً .. وجاء وقت تطلب بقاء رزان بالمنزل في إجازة لوضع مولودنا الأول .. فكرنا في إرسال تذاكر سفر لوالدتها لتكون إلي جانبها وهي تضع .. بيد أن والدة ( أنّا) عارضت هذه الفكرة بشدة واعتبرتها انتقاص لأمومتها بالنسبة لرزان .. أنا لا زلت قوية يا بنيتي وباستطاعتي القيام بكل ما يلزم .. وسأعتني بك كما لو كنت ابنتي من لحمي ودمي .. وكذلك ستفعل ابنتي وأخيراً وبعد ساعات من المخاض العسير جاءت (مسك الجنة) ولكن ما هذا الاسم القديم إنه علي اسم والدتي أم أظنك قد نسيت ؟ ..هل لديك مانع ..لا ..لا طبعاً .. حسناً سأختار أنا أسماء الصبيان وأنت أسماء البنات ..اتفقنا ؟ حسناً .. موافقة .. ( مسك الجنة ) .. طفلة ولا أجمل من ملاك .. أخذت كل ملامحها تقريباً من رزان باستثناء جزء صغير جداً .. أنظر أويس .. والد رزان وهو يحمل الطفلة بين ذراعيه .. هل لاحظتم شيئاً ؟ .. هل ترون ما أري ؟ .. إن (الجنة) تشبه أباها في اليدين .. أنظروا للأصابع تكاد تكون مطابقة تماماً.. بل هي كذلك فعلاً وطارت أخبار مولودنا الأول إلي السودان .. بكت والدتها علي الهاتف عندما علمت بأننا قد أسميناها تيمناً بها .. وزارتنا بالطبع شاهندة وزوجها نعوم .. وزارتنا أيضاً زوجة السفير خال رزان التي لم تبد الحرص نفسه الذي أبدته عائلة ( أنستاسيا ) علي العيش معهم خلال فترة الوضوع الأولي .
وزاد الترابط
بوجود مولود
يملأ حياة الجميع بهجة وسرور
الأخ الغالي محجوب ..أتمني أن تكون والجميع بألف خير ..المصران العصبي عامل فينا عمايل والدكتور يقول ليك ما تتوتر ..كيف ؟!!!!!
الحلقة الثامنة والعشرون
كنت منهمكاً في العمل مع المستر اسكاندوف إختصاصي الجراحة الأشهر بموسكو وذلك بعيادته الخاصة التي هي في الواقع مستوصف ضخم به مجمع عمليات وعنابر للمرضي حتى تسهل عملية متابعتهم بعد خروجهم من غرفة العمليات عندما اقتحمت عربة الإسعاف بوابة المكان وهُرع الممرضون لنقل سيدة سمراء بين الحياة والموت لشروعها في الانتحار بعد أن قطعت شرايين رسغها بسكين حادة ويبدو أنها نزفت الكثير من الدماء ..وأخذناها علي عجل لغرفة العملية وعكفنا علي إيقاف النزف وتعويضها بدم جديد .. واستغرقت العملية بضع ساعات ونحن ننتقل من تدهور في هذا الجانب إلى ذاك الجانب وبدأت وظائف أعضاء جسمها تتعطل الواحدة بعد الأخرى ولكن لا .. يا إلهي .. ساعدنا يا رب .. ساعدنا يا رب .. إنها إزابيلا .. آهٍ إزابيلا لم فعلت ذلك بنفسك .. وفيما كنا نبذل جهداً خارقاً لإنقاذ حياتها كانت هنالك جلبة وضوضاء قاسية خارج الغرفة وتبينت صوت (سيسيليا ) .. وهي تصرخ في شبه هستيريا .. لم نتمكن من فعل شيءٍ فقد رحلت المسكينة بالطريقة التي اختارتها لنفسها وأرادها لها الله .. خرجنا من غرفة العمليات لنواجه الموقف الصعب .. ولمحت رزان من بين الحضور وكانت قد أنهت نوبتها في مستشفيً آخر .. وحضرت لأصطحبها لمنزلنا أو بالأحرى منزل أسرة أنسناسيا .. وبينما المستر اسكاندوف يزّف إلي أسرتها الخبر السيئ .. لمحتني سيسيليا وتعرفت علي .. هرولت نحوي وعانقتني وهي تبكي بحرقة وهي تردد .. عمتي دكتور أويس .. عمتي الغالية إييزو .. بربك ماذا فعلتم بها .. كان الموقف صعباً عليّ لا سيما ورزان حاضرة .. هدأت من روعها .. وتملصت من بين ذراعيها الصغيرتين وهي لا تزال تنشج وصدي نهنهاتها وصراخها يعتصر القلوبوأخذتها حيث تقف رزان وقدمتها لها .. زوجتي الدكتورة رزان وهي من الوطن .. من السودان .. سيسيليا إبن أخت المتوفاة .. وهي أسرة صديقة تعرفت عليها لدي قدومي في بادئ الأمر إلي موسكو .. مرحبا.. سيسيليا . .تعازينا القلبية علي فقد خالتك .. تحلي بالشجاعة والإيمان .. شكراً .. قالتها بين دموعها المنهمرة بغزارة .. ولأول مرة اكتشف رقة وشفافية سيسيليا وكنت أراها كصبية مدللة لا أكثر .. عدنا للمنزل .. ورزان تحاصرني بالأسئلة الصعبة ولم تدع لي دقيقة واحدة للراحة ..استعادت كل التفاصيل الممّلة لتلك اللحظات التي عانقتني فيها سيسيليا .. وخاصمتني علي ذلك التصرف أسبوعاً كاملاً قبل أن تصالحني.
مطرُُ.. مطرُُ.. وصواعق .. والريح يمزق شرانق السكون وحبات الثلج توزعت علي أعطاف الظلام الكثيف .. أويس .. أويس .. استيقظ أرجوك .. أنا خائفة جداً مضت علي ّ.. ثلاثة أعوام لم أشهد شيئاً كهذ ا.. و( مسكه ) خائفة جداً .. هدأت من روعها وروع مسك الجنة تكومنا جميعاً في نقطة واحدة وبذلك منحنا الدفء والطمأنينة لبعضنا .. وفجأة سمعناً قرعاً متواتراً بالباب إذ أن الكهرباء مقطوعة وجرس الباب لا يعمل .. هرعت نحو البهو الخارجي ..وتفاجئنا ب(أنستاسيا) تقف في عتبة المنزل وبرفقتها طفلة صغيرة .. أنستاسياااااااا .. عمتي .. عمي .. رزان .. هيا انهضوا جميعاً لقد عادت ( أناّ ).. استيقظ الجميع بحالة من الفوضى والارتباك وتدحرج والدها علي السلم وهو يهبط في الظلام الدامس من الطابق العلوي .. تلقفته أنستاسيا وهي تضمه إليها وهي تردد .. أبي.. أبي.. هل أنت بخير ..؟ .. الشموع .. الشموع .. أين هي الشموع بحق الإله والدتها وهي تتلمس ابنتها وتضمها إليها وهي تبكي .. وأطلت رزان وهي تحمل شمعة كبيرة أضاءت المكان .. وغرق الجميع في حمي الأحضان والقبلات بيد أن ثمة شخصان وقفا غير بعيد يراقبان ما يحدث .. رزان والطفلة القادمة مع (أنّا) .. مرحباً من تكون السيدة .. إنها زوجتي الدكتورة رزان من السودان وتلك هي ابنتنا (مسك الحنة ) .. صحيح..؟!!! .. مرحباً بك تشرفت برؤيتك وسعدت بمقابلتك .. ( أناّ ) .. وهي تشكل الجمل باضطراب بالغ .. مرحباً عزيزتي أنستاسيا .. مرحباً بك في دارك .. بل هي دارك أيضاً .. ولكن نسيت أن أقدم لكم ابنتي ( مارثا ) .. وابنتك أيضاً أويس .. أم لعلك نسيت .. مرحبا .. خالي .. لا بل أنا أبوك ..أنا بابا حبيبتي .. أخذتها بين ذراعيّ أضمها وأشمها وأقبّلها في وجهها وعينيها وكتفيها .. مامي .. أنا متعبة جدا وجائعة وأود أن أنام .. نعم .. نعم .. حبيبتي ولكن ليس قبل أن تسلمي علي جدو وجدتك .. تعالي إليّ يا عزيزتي ..مريم .. مارثا .. اسمها مارثا يا أمي .. لقد بات سمعي ضعيفاً .. والآن هذا هو جدك .. مارثا .. مارثا .. أيتها النبتة الطيبة تعالي وضميني إليك .. شخص واحد تخلف عن معايشة تلكم الدقائق الغالية إنها الصغيرة باتريشيا
كنت منهمكاً في العمل مع المستر اسكاندوف إختصاصي الجراحة الأشهر بموسكو وذلك بعيادته الخاصة التي هي في الواقع مستوصف ضخم به مجمع عمليات وعنابر للمرضي حتى تسهل عملية متابعتهم بعد خروجهم من غرفة العمليات عندما اقتحمت عربة الإسعاف بوابة المكان وهُرع الممرضون لنقل سيدة سمراء بين الحياة والموت لشروعها في الانتحار بعد أن قطعت شرايين رسغها بسكين حادة ويبدو أنها نزفت الكثير من الدماء ..وأخذناها علي عجل لغرفة العملية وعكفنا علي إيقاف النزف وتعويضها بدم جديد .. واستغرقت العملية بضع ساعات ونحن ننتقل من تدهور في هذا الجانب إلى ذاك الجانب وبدأت وظائف أعضاء جسمها تتعطل الواحدة بعد الأخرى ولكن لا .. يا إلهي .. ساعدنا يا رب .. ساعدنا يا رب .. إنها إزابيلا .. آهٍ إزابيلا لم فعلت ذلك بنفسك .. وفيما كنا نبذل جهداً خارقاً لإنقاذ حياتها كانت هنالك جلبة وضوضاء قاسية خارج الغرفة وتبينت صوت (سيسيليا ) .. وهي تصرخ في شبه هستيريا .. لم نتمكن من فعل شيءٍ فقد رحلت المسكينة بالطريقة التي اختارتها لنفسها وأرادها لها الله .. خرجنا من غرفة العمليات لنواجه الموقف الصعب .. ولمحت رزان من بين الحضور وكانت قد أنهت نوبتها في مستشفيً آخر .. وحضرت لأصطحبها لمنزلنا أو بالأحرى منزل أسرة أنسناسيا .. وبينما المستر اسكاندوف يزّف إلي أسرتها الخبر السيئ .. لمحتني سيسيليا وتعرفت علي .. هرولت نحوي وعانقتني وهي تبكي بحرقة وهي تردد .. عمتي دكتور أويس .. عمتي الغالية إييزو .. بربك ماذا فعلتم بها .. كان الموقف صعباً عليّ لا سيما ورزان حاضرة .. هدأت من روعها .. وتملصت من بين ذراعيها الصغيرتين وهي لا تزال تنشج وصدي نهنهاتها وصراخها يعتصر القلوبوأخذتها حيث تقف رزان وقدمتها لها .. زوجتي الدكتورة رزان وهي من الوطن .. من السودان .. سيسيليا إبن أخت المتوفاة .. وهي أسرة صديقة تعرفت عليها لدي قدومي في بادئ الأمر إلي موسكو .. مرحبا.. سيسيليا . .تعازينا القلبية علي فقد خالتك .. تحلي بالشجاعة والإيمان .. شكراً .. قالتها بين دموعها المنهمرة بغزارة .. ولأول مرة اكتشف رقة وشفافية سيسيليا وكنت أراها كصبية مدللة لا أكثر .. عدنا للمنزل .. ورزان تحاصرني بالأسئلة الصعبة ولم تدع لي دقيقة واحدة للراحة ..استعادت كل التفاصيل الممّلة لتلك اللحظات التي عانقتني فيها سيسيليا .. وخاصمتني علي ذلك التصرف أسبوعاً كاملاً قبل أن تصالحني.
مطرُُ.. مطرُُ.. وصواعق .. والريح يمزق شرانق السكون وحبات الثلج توزعت علي أعطاف الظلام الكثيف .. أويس .. أويس .. استيقظ أرجوك .. أنا خائفة جداً مضت علي ّ.. ثلاثة أعوام لم أشهد شيئاً كهذ ا.. و( مسكه ) خائفة جداً .. هدأت من روعها وروع مسك الجنة تكومنا جميعاً في نقطة واحدة وبذلك منحنا الدفء والطمأنينة لبعضنا .. وفجأة سمعناً قرعاً متواتراً بالباب إذ أن الكهرباء مقطوعة وجرس الباب لا يعمل .. هرعت نحو البهو الخارجي ..وتفاجئنا ب(أنستاسيا) تقف في عتبة المنزل وبرفقتها طفلة صغيرة .. أنستاسياااااااا .. عمتي .. عمي .. رزان .. هيا انهضوا جميعاً لقد عادت ( أناّ ).. استيقظ الجميع بحالة من الفوضى والارتباك وتدحرج والدها علي السلم وهو يهبط في الظلام الدامس من الطابق العلوي .. تلقفته أنستاسيا وهي تضمه إليها وهي تردد .. أبي.. أبي.. هل أنت بخير ..؟ .. الشموع .. الشموع .. أين هي الشموع بحق الإله والدتها وهي تتلمس ابنتها وتضمها إليها وهي تبكي .. وأطلت رزان وهي تحمل شمعة كبيرة أضاءت المكان .. وغرق الجميع في حمي الأحضان والقبلات بيد أن ثمة شخصان وقفا غير بعيد يراقبان ما يحدث .. رزان والطفلة القادمة مع (أنّا) .. مرحباً من تكون السيدة .. إنها زوجتي الدكتورة رزان من السودان وتلك هي ابنتنا (مسك الحنة ) .. صحيح..؟!!! .. مرحباً بك تشرفت برؤيتك وسعدت بمقابلتك .. ( أناّ ) .. وهي تشكل الجمل باضطراب بالغ .. مرحباً عزيزتي أنستاسيا .. مرحباً بك في دارك .. بل هي دارك أيضاً .. ولكن نسيت أن أقدم لكم ابنتي ( مارثا ) .. وابنتك أيضاً أويس .. أم لعلك نسيت .. مرحبا .. خالي .. لا بل أنا أبوك ..أنا بابا حبيبتي .. أخذتها بين ذراعيّ أضمها وأشمها وأقبّلها في وجهها وعينيها وكتفيها .. مامي .. أنا متعبة جدا وجائعة وأود أن أنام .. نعم .. نعم .. حبيبتي ولكن ليس قبل أن تسلمي علي جدو وجدتك .. تعالي إليّ يا عزيزتي ..مريم .. مارثا .. اسمها مارثا يا أمي .. لقد بات سمعي ضعيفاً .. والآن هذا هو جدك .. مارثا .. مارثا .. أيتها النبتة الطيبة تعالي وضميني إليك .. شخص واحد تخلف عن معايشة تلكم الدقائق الغالية إنها الصغيرة باتريشيا كنت منهمكاً في العمل مع المستر اسكاندوف إختصاصي الجراحة الأشهر بموسكو وذلك بعيادته الخاصة التي هي في الواقع مستوصف ضخم به مجمع عمليات وعنابر للمرضي حتى تسهل عملية متابعتهم بعد خروجهم من غرفة العمليات عندما اقتحمت عربة الإسعاف بوابة المكان وهُرع الممرضون لنقل سيدة سمراء بين الحياة والموت لشروعها في الانتحار بعد أن قطعت شرايين رسغها بسكين حادة ويبدو أنها نزفت الكثير من الدماء ..وأخذناها علي عجل لغرفة العملية وعكفنا علي إيقاف النزف وتعويضها بدم جديد .. واستغرقت العملية بضع ساعات ونحن ننتقل من تدهور في هذا الجانب إلى ذاك الجانب وبدأت وظائف أعضاء جسمها تتعطل الواحدة بعد الأخرى ولكن لا .. يا إلهي .. ساعدنا يا رب .. ساعدنا يا رب .. إنها إزابيلا .. آهٍ إزابيلا لم فعلت ذلك بنفسك .. وفيما كنا نبذل جهداً خارقاً لإنقاذ حياتها كانت هنالك جلبة وضوضاء قاسية خارج الغرفة وتبينت صوت (سيسيليا ) .. وهي تصرخ في شبه هستيريا .. لم نتمكن من فعل شيءٍ فقد رحلت المسكينة بالطريقة التي اختارتها لنفسها وأرادها لها الله .. خرجنا من غرفة العمليات لنواجه الموقف الصعب .. ولمحت رزان من بين الحضور وكانت قد أنهت نوبتها في مستشفيً آخر .. وحضرت لأصطحبها لمنزلنا أو بالأحرى منزل أسرة أنسناسيا .. وبينما المستر اسكاندوف يزّف إلي أسرتها الخبر السيئ .. لمحتني سيسيليا وتعرفت علي .. هرولت نحوي وعانقتني وهي تبكي بحرقة وهي تردد .. عمتي دكتور أويس .. عمتي الغالية إييزو .. بربك ماذا فعلتم بها .. كان الموقف صعباً عليّ لا سيما ورزان حاضرة .. هدأت من روعها .. وتملصت من بين ذراعيها الصغيرتين وهي لا تزال تنشج وصدي نهنهاتها وصراخها يعتصر القلوبوأخذتها حيث تقف رزان وقدمتها لها .. زوجتي الدكتورة رزان وهي من الوطن .. من السودان .. سيسيليا إبن أخت المتوفاة .. وهي أسرة صديقة تعرفت عليها لدي قدومي في بادئ الأمر إلي موسكو .. مرحبا.. سيسيليا . .تعازينا القلبية علي فقد خالتك .. تحلي بالشجاعة والإيمان .. شكراً .. قالتها بين دموعها المنهمرة بغزارة .. ولأول مرة اكتشف رقة وشفافية سيسيليا وكنت أراها كصبية مدللة لا أكثر .. عدنا للمنزل .. ورزان تحاصرني بالأسئلة الصعبة ولم تدع لي دقيقة واحدة للراحة ..استعادت كل التفاصيل الممّلة لتلك اللحظات التي عانقتني فيها سيسيليا .. وخاصمتني علي ذلك التصرف أسبوعاً كاملاً قبل أن تصالحني.
مطرُُ.. مطرُُ.. وصواعق .. والريح يمزق شرانق السكون وحبات الثلج توزعت علي أعطاف الظلام الكثيف .. أويس .. أويس .. استيقظ أرجوك .. أنا خائفة جداً مضت علي ّ.. ثلاثة أعوام لم أشهد شيئاً كهذ ا.. و( مسكه ) خائفة جداً .. هدأت من روعها وروع مسك الجنة تكومنا جميعاً في نقطة واحدة وبذلك منحنا الدفء والطمأنينة لبعضنا .. وفجأة سمعناً قرعاً متواتراً بالباب إذ أن الكهرباء مقطوعة وجرس الباب لا يعمل .. هرعت نحو البهو الخارجي ..وتفاجئنا ب(أنستاسيا) تقف في عتبة المنزل وبرفقتها طفلة صغيرة .. أنستاسياااااااا .. عمتي .. عمي .. رزان .. هيا انهضوا جميعاً لقد عادت ( أناّ ).. استيقظ الجميع بحالة من الفوضى والارتباك وتدحرج والدها علي السلم وهو يهبط في الظلام الدامس من الطابق العلوي .. تلقفته أنستاسيا وهي تضمه إليها وهي تردد .. أبي.. أبي.. هل أنت بخير ..؟ .. الشموع .. الشموع .. أين هي الشموع بحق الإله والدتها وهي تتلمس ابنتها وتضمها إليها وهي تبكي .. وأطلت رزان وهي تحمل شمعة كبيرة أضاءت المكان .. وغرق الجميع في حمي الأحضان والقبلات بيد أن ثمة شخصان وقفا غير بعيد يراقبان ما يحدث .. رزان والطفلة القادمة مع (أنّا) .. مرحباً من تكون السيدة .. إنها زوجتي الدكتورة رزان من السودان وتلك هي ابنتنا (مسك الحنة ) .. صحيح..؟!!! .. مرحباً بك تشرفت برؤيتك وسعدت بمقابلتك .. ( أناّ ) .. وهي تشكل الجمل باضطراب بالغ .. مرحباً عزيزتي أنستاسيا .. مرحباً بك في دارك .. بل هي دارك أيضاً .. ولكن نسيت أن أقدم لكم ابنتي ( مارثا ) .. وابنتك أيضاً أويس .. أم لعلك نسيت .. مرحبا .. خالي .. لا بل أنا أبوك ..أنا بابا حبيبتي .. أخذتها بين ذراعيّ أضمها وأشمها وأقبّلها في وجهها وعينيها وكتفيها .. مامي .. أنا متعبة جدا وجائعة وأود أن أنام .. نعم .. نعم .. حبيبتي ولكن ليس قبل أن تسلمي علي جدو وجدتك .. تعالي إليّ يا عزيزتي ..مريم .. مارثا .. اسمها مارثا يا أمي .. لقد بات سمعي ضعيفاً .. والآن هذا هو جدك .. مارثا .. مارثا .. أيتها النبتة الطيبة تعالي وضميني إليك .. شخص واحد تخلف عن معايشة تلكم الدقائق الغالية إنها الصغيرة باتريشيا
امانة ما وقع راجل
صاح كلامك يا ريس ..موقف أجارك الله من أمثاله ..لكن ..ما عزيت أويس في ( إزابيلا ) ..إنتحرت ..أعوذ بالله من غضب الله .
ما وقع ولا أي شئ يا ريس .. هي اختارت الطريق في لحظة كانت هي الأوحد .. وهو إختار ما يمليه عليه القلب المليان من الطفولة .. شوف أستاذ عبدالغني أنا من أنصار أن يتحمل الإنسان مسئولية سلوكه .. ما تقوم تبوظ علينا بإنتهاج الشخصية السودانية البحتة لأم مسكه .. نحن في إنظار ولهفة لهذه الروائع أينما تحط الرواية شخوصها .