80
كنت أقرأ مخطوطة سالم الرشيد بانفاس لاهثة وصدري يعلو وينخفض ، شعرت بان الغرفة الصغيرة قد ضاقت بي، تصببت عرقا رغم اننا في قلب أمريكا في أواخر الشتاء، كان عالما مرعبا وجميلا وغامضا ذلك العالم الذي صورته الكلمات، كنت أقرأ فتختلط الجمل والكلمات التي أمام عيني بتلك التي سمعتها من سالم وسيجارته تحترق مثله كما قال مرة وهو يستعيد حياته ببطء ( سيجارتي تحترق ياحسن وانا احترق والوطن يحترق ، ولاشئ بقادر علي اضاءة ظلام العالم...) كان صدره مفتوحا، وعيونه تتلامع مثل عيني قطة في الظلام، كانت الشعيرات البيض التي تسللت وسط السواد في شعره تبدو مثل أنوار عربة بعيدة لمعت خلف تلال قرية في طريق الفاشر كلمندو في الايام الخوالي،في تلك الليلة شرب سالم كثيراً، وتحدث كثيرا، كان لدهشتي يزداد توهجا ووضوحا في قدرته علي التعبير عن ذاته كلما شرب أكثر، كان كل شئ يبدو غريبا وفي غير موضعه،ان نلتقي انا وسالم مطلقا ونتحاور كصديقين قديمين حتي الصباح بلا كلل ، وان يكون لقانا في مدينة لم يحلم واحدا منا بان يراها مطلقا، مدينة ناطحات السحاب والحدائق والشواطئ الكثيرة والمعمار المذهل،كانت نقلة أشعرتني شخصيا بالتفاهة والضآلة وعبثية حربنا المسماة حرب التحرير، كانت الحياة تتدفق هنا كنهر مندفع من المنبع نحو المصب فتيا وقويا وساحرا، وكان الموت هناك يغطي كل شئ مثل ظل عملاق حجب الشمس والهواء وحكم علي ماتحته بالظلمة والفناء،كانت نيويورك بفتنتها الطاغية وسحرها إمرأة عزيز أخري تنتصب بين يوسف آخر وما يؤمن به، تقضي علي كل سدود مقاومته ولاعاصم ليوسف الآخر من أمر الله،قلت لنفسي وانا اجول في المدينة مبهورا متقطع الانفاس( يا آلهي ماذا فعلنا نحن ببلادنا وماذا فعل هولاء.... ببلادهم!!! يا ويلاه......) قلت لسالم خاطرتي طازجة مثل رغيف من تلك الأرغفة الساخنة التي كنا نحظي بها حين نذهب مع مصطفي في الأيام الخوالي الي والده في ذلك الفرن الصغير في حي كوارث جائعين ومتعبين وفقراء وأيادينا لم تخض بعد مع الخائضين كما هو حالنا الآن،كنت مترددا وانا ابوح لسالم ببعض كوابيسي الكثيرة، كنت اتصور انه سيجدها فرصة ليحاضرني كما كان يفعل ايام الجامعة عن العنف المتأصل في الإسلاميين وعن ثورات قادمات ، لكنه لم يعد ذلك الرجل الذي كان يمزج خطابه السياسي باشعار تلهب الأكف تصفيقا وتسحر ألباب السامعين، خرج صوته مشروخا متعبا وحزينا فاكتشفت ان كل منا يبكي علي ليلاه، قال بصوت خفيض كأنه يهمس لنفسه(.تعرف ياحسن: عندما يكون الاعتراف بالخطأ متأخرا يمسي تبريرا قبيحا عديم المعني ، بل هو تماد في الخطأ. عرفت جنديا أنفق عمره كله وهو يحشو مدفعا بالذخيرة، فجأة اكتشف أنه يحشو المدفع الخطأ،بل أنه لم يملك مدفعا علي الإطلاق، كان يحارب بحماسة في الجانب الآخر دون أن يدري، حين انتهت الحرب، قيل له شكرا أيها الخائن ثم تلقي رصاصة رحمة في ظهره......) لاذ سالم بالصمت، وتملكني رعب مفاجئ، قلت لنفسي ( هل تراه ينعي نفسه مبكرا؟ هل تراه يتحدث عن نفسه؟!) ثم تملكني رعب أكبر حين خطرت لي فكرة أفظع: ( هل يقصدني سالم بما قال؟! هل يلمح لاشتراكي انا ومصطفي وخيري في حرب الجنوب ضد جماعته يوما ما؟! هل يشتمني بدم بارد؟! أم أنه يشير الي حربنا المشتركة الراهنة؟! هل أخطأت حين صارحته بشعوري بالذنب بشكل ما لمشاركتي؟! هل تراه يعرف أسرار اشتراكي فيها مكرها ومن باب الانظباط التنظيمي وتنفيذ مشيئة الأمير؟! هل يلمح الي معرفته بكل أسراري حتي التي أخفيتها عميقاً؟! أم انه يريد استغلال لحظات سخطي ويقوم باستقطابي؟!) كنت أقاسم سالم الغرفة ولكن عقلي تدور بداخله الآف الصور المرسومة عنه كرجل خطير ومشبوه وعميل لمخابرات عديدة ومعاد لكل ماهو إسلامي، كنت أشك حتي في صلاته التي اخفاها عني وعرفتها صدفة،(لم لاتكون صدفة مفتعلة؟)(ولم لاتكون حقيقة؟! لماذا تريد ان تجعل الرجل يتطابق مع التصورات المرسومة عنه وتجرده من كل ما يتعارض معها؟! من يدري ربما تكون التصورات هي المزيفة والمختلقة؟) كان كل شئ يتعلق بسالم يبدو حقيقيا ومزيفا في آن واحد بالنسبة لي، كان مستحيلا أن استطيع غسل ماعلق بخيالي ونفسي من تصورات بغطسة واحدة في البحر أو عدة غطسات ،وكانت المسافة المكانية القريبة بيني وبينه مشغولة بمسافات كبيرة وصحاري لاحدود لها من الشك والتصورات والظنون، هذا رجل من الصعب ان تثق به وبما يظهره لك، قلت لنفسي ذلك حتي اضع حدا لتلك الدوامة التي لاتنتهي من التصديق والتكذيب التي عصفت بطمأنينتي.
كان سالم غارقا في صمته، فجأة قال لي بصوت حالم( كان اسم نيويورك امستردام الجديدة حين أنشأها المستوطنون الهولنديون كمركز تجاري في العام 1624م،في العام 1664 خضعت المدينة للسيطرة الانكليزية، بعد قيام تشارلز الثاني ملك انجلترا بمنح الأرض لأخيه دوق يورك سميت المدينة نيو يورك. في كل مكان في العالم نجد أثر هذه الإمبراطورية اللعينة يطاردنا ونجد بصمتها ظاهرة. بصمة شريرة دائما.حتي نحن بما صرنا اليه جزء من بصمتها في العالم..) كان يترنح عند النافذة وهو يصيح بأعلي صوته( ايتها الساحرة الشريرة سونيا اللعنة عليك وعلي مكنستك...)لم أفهم شيئا من حديثه الا بعد زمن طويل من ذلك اليوم حين استعدت خطابه كلمة كلمة، فصرخت في الغرفة الخالية مثل أرخميدس:
( وجدتها...وجدتها.....عرفتها...عرفتها).