فة 222 جناح 2 الحي الجامعي السويسي
الحلقة الثانية والخمسين
غرفة 222 جناح 2 الحي الجامعي السويسي 2
نواصل..
كان يعجبني أن أكتب على ظهر خطاباتي المرسلة عنواني أعلاه، فهو يتكون من رقم 2 المكرر 5 مرات، وكما أسلفت فهي تطل على جناح البنات على اليسار، وعلى بقية الأجنحة على اليمين، وهي في الدور الثاني، وفي الصورة المرفقة في المداخلة السابقة تبدو ثلاثة أجنحة للأولاد، الجناح الذي وراء محمد جمال دهب مباشرة هو الجناح الذي كنت أسكنه سابقاً في الغرفة الجماعية.. وربما الجناح الذي يظهر طرفه في أقصى يسار الصورة هو الجناح الذي تحته يوجد الفوييه، وتعني الكافتيريا، حيث يباع الشاي المغربي والقهوة الفرنسية وبعض الحلويات، كما توجد بعض الألعاب البسيطة، وطبعاً أسعار هذه الأشياء مدعومة ولا تساوي التي بالسوق، فهي أسعار خاصة بالطلاب..
كنت أحياناً في غير موسم الشتاء وفي غير وقت الأمطار أجلس قليلاً في الشرفة وكنت من مكاني هذا أرى البنات في غرفهن، فهن عادة يتركن شبابيك غرفهن مفتوحة خاصة في الصيف والربيع، والشئ الذي لفت نظري واستغربت له هو أنهن كن ينشرن ملابسهن الداخلية في الشرفات وفي الشبابيك، فنحن في السودان لا نرى ملابس داخلية للبنات حتى في بيوتنا، ونحتار أين ينشرنها بعد غسلها، اما هنا في المغرب فتجد حتى في الشقق منشورة خارج الشبابيك في حبال مشدودة تحت الشباك..
تعرفت على إحدى الطالبات ساكنات جناح البنات، تعرفت عليها في البراكة التي نشتري منها احتياجاتنا البسيطة وتقع خارج الحي بعد عبور الشارع الرئيسي، وتصادف انها تسكن في الشرفة التي تواجه شرفتي مباشرة، فكانت إذا خرجت الى الشرفة حيتني، ولكن الذي رسخ بذهني هو أنها كانت تنحنى على جدار الشرفة وتضع ساعديها على حافة الجدار وتطل على فناء الحي الجامعي، ولكنها كانت تتعمد حسبما بدا لي أن يكون جسدها منحنٍ في زاوية قائمة مما يجعل بنطلون الكوردروي مشدوداً جداً، وتبالغ في هذا الوضع فتحاول أن تصغر الزاوية القائمة لتصبح أقل من 90 درجة مما يجعل تلك الزاوية (مقعرة الى أعلى)، وتلتفت ناحيتي لترى تأثير هذا الوضع على شخصي المسكين..
لا أدري قبل هذه او بعدها تعرفت على أخرى يطل شباك غرفتها خلف الجناح، وكانت تسكن مع أختها، وقد لاحظت ان اختها شجعتني على التعرف عليها، وكنت حينما أمر بتلك الجهة اراها فأرفع لها يدي بالتحية فترد، وأحياناً تأتي الى الشباك وتتحدث معي، وأحياناً يأتي حارس الجناح ليتأكد من أنني بعيد بما فيه الكفاية عن الشباك بحيث لا يمكنني القفز عبر الشباك الى الغرفة، وقد علمت سبب حضوره الدائم كلما أحس ان طالباً واقفاً خلف الجناح، والسبب أن بعض الطلاب إذا تأكدوا من خلو المنطقة من الناس- مع ملاحظة ان خلف هذا الجناح لا يوجد اي مبنى آخر، بل تمتد مساحة خلاء كبيرة- فإذا تأكدوا من أن أحداً لا يراهم قفز الى داخل الغرفة عبر الشباك الذي لا يرتفع كثيراً عن الأرض، طبعاً بالاتفاق مع ساكنة الغرفة.. وأحياناً عندما يكون الحي شبه خاوي في نهايات العام الدراسي او قبيل عطلات الربيع والأعياد والمناسبات الأخرى كان بعضهم يجلس في تلك الجهة بجوار الشبابيك التي تفتح على هذا الخلاء ومعهم بعض ساكنات الجناح، وهذا ينطبق على السودانيين من الجنسين..
تلك التي تعرفت عليها وشجعتني اختها على ذلك استمر الحال على هذا المنوال وكانت جميلة جداً، ولكن في مرة ركبت الحافلة وتصادف وجودها أمامي في المقعد المقابل، فتحدثت معها ويبدو انه حدثت بيننا ملامة لا أذكرها، وعملت زعلانة، والحمد لله على ذلك، لأنني صدمت برائحة فمها.. بالمناسبة هذا عيب في المغاربة، فهم لا يهتمون ابداً بنظافة الفم ولا بالسواك، حتى علية القوم منهم، وهم ليسوا بدعاً من بقية كثير من الشعوب العربية..
وبمناسبة جناح البنات إياه والسودانيين والسودانيات، كانت إحداهن لها طريقة غريبة في لفت نظري، فما إن تدخل قاعة المحاضرات حتى تنادي عليّ أعلى صوتها (الجرسي): يا غلام الله ما شفت محمد السماني، وأكون أنا في مقدمة القاعة الكبيرة وهي يادوبك داخلة، فأجيبها بكل صدق أنني لم أره أو إنه هنا، أو.. وتكرر ذلك في مرات أخرى، ثم تغير الموجة: يا غلام الله ما شفت النور؟ فأجيبها كذلك، ولكن بدون إضافات وبدون أن استجيب لما وراء هذا السؤال الذي حتماً ليس المقصود به معرفة اين محمد السماني او أين النور.. ودون أن تزيد هي على ذلك ودون أن أقدم أنا على أي خطوة إيجابية، وذلك لأنني لا أجازف بهكذا علاقة مع سودانية وأنا مرتبط في السودان.. المهم في يوم من الأيام ذهبت الى خلف هذا الجناح لآخذ مذكرة منها، وكانت الوسيلة لمناداة ساكنة تلك الغرف هو إلقاء حجر صغير (حصاة) على شباكها، فحذفت الحصاة على شباكها وكانت غرفتها في الطابق الثالث، ففتحت الشباك ووقفت ونور الغرفة خلفها، وكانت في قميص نوم.. لا .. بل في قنلة داخلية شفافة وقصيرة، وحسبت أنها سترجع لتضع شيئاً حول جسدها ولكنها لم تفعل.. وظلت واقفة تخاطبني وأنا أراها من أسفل الى أعلى وقطع الملابس الأخرى غير القنلة هي الأوضح..
قلت لها أنزلي.. قالت لي يا مولانا أدعو لينا عشان أنجح في الامتحان!
قلت لها انتصرتي عليّ أخيراً.. لذا سأسميك انتصار!
اكتفت بانتصارها هذا، وعدت الى غرفتي وانا اشتعل، لقد هزمتني وأقررت لها بالهزيمة..
لم تنزل لي، ولكن رأيتها ذات يوم هادئ تجلس مع أحدهم- سوداني- خلف الجناح، وتحت شباكها، وكانا ملتصقان!
أرفق لكم صورة ليس لها علاقة بما كتبت أعلاه، فقط هي في الحي الجامعي السويسي الثاني، وتبدو خلفنا مئذنة جامع الحي الجامعي السويسي الأول- لم يكن مفتوحاً رغم أنه بنى مع الحي نفسه- وقد وجدت مكتوباً خلف الصورة:
(ذكرى حلوة في الحي الجامعي السويسي الثاني بالرباط
أنا ثم مجدي (مصري) ثم عائشة عمر الخبير ثم سامية احمد ابراهيم (وصحة الاسم سامية ابراهيم احمد) ثم آمال ثم فتحي (مصري)
والذكريات في كل ليلة بتوحي للأحباب أشياء جميلة..
الرباط- المغرب
عمر حسن غلام الله)
وأدرك شهرزاد الصباح.. فسكتت عن الكلام المباح..
.. والحديث ذو صلة..
طرائف المواصلات والركوب بالمجان
الحلقة الرابعة والخمسين
طرائف المواصلات والركوب بالمجان
نواصل..
المواصلات معروفة، ولكن الركوب بالمجان هذه قد تكون غريبة بعض الشئ، وقد درسناها في القانون المدني على ما أذكر، وهي (يا عم وصلنا معاك) أو (الركوب الملح) أو (الأوتوستوب) أو أن تقف في الشارع وتمد ابهامك الى أعلى فإذا ما مرّت بك سيارة او غيرها اتجهت بابهامك الى اتجاه الطريق الذي انت ذاهب فيه.. الركوب بالمجان معروف في العالم كله، ويكثر أمام الجامعات والمدارس خاصة، وفي السودان أسموه (فضل الظهر)، ولكن قال لي خالي بروف الصادق حسن الصادق الذي درس في أمريكا أن المجرمين هناك استغلوا هذا النوع من المواصلات لتنفيذ جرائمهم، فما إن يقف له أحدهم ليوصله حتى يهدده بالسلاح ليأخذ ما عنده، وقال لي أن أخطرهم من يقف بجوار الجامعات.. يعني اولاد الحرام ما خلو شئ لأولاد الحلال.. أي بسبب هؤلاء فقد يتردد اصحاب السيارات كثيراً قبل أن يقفوا لأحدهم ليوصلوه معهم..
نبدأ بطرفة زميلنا أحمد المصري الذي يسميه زملاءنا المصريون أحمد السوداني.. فقد وقف له طالب افريقي بسيارته ليوصله معه الى الحي الجامعي- طبعاً خط المواصلات الجامعي هو رقم 11، اي حافلة النقل الحضري رقم 11 هي التي تمر من الحي الجامعي مولاي اسماعيل لتقف في عدة نقاط تجمع للطلاب منها التي قرب السوق، ثم تمر امام كلية الآداب، فكلية الحقوق الى ان تصل الى الحي الجامعي السويسي الأول والثاني ثم تختم بالمعهد الزراعي- المهم هذا الإفريقي وقف لأحمد وركب معه احمد فتكلم هذا الافريقي معه باللغة الفرنسية ظاناً منه ككل الذين في المغرب- بمن فيهم المغاربة- ان كل اسمر يتكلم الفرنسية، وبما أن احمد لا يعرف الفرنسية فقد قال له you speak Engilsh فما كان من الإفريقي إلا أن قال له yes فسقط في يد أحمد لأنه لا يعرف الإنجليزية أيضاً.. حكى لي ذلك أحمد بنفسه بلهجته المصرية المحببة..
في مرة كنت أقف في محطة الاتوبيس التي امام الحي الجامعي السويسي، وبجانبي صلاح (ابو سن كاحله) وسماه هذا الإسم المغاربة، إذ كانت له سن أمامية لونها بني غامق، والمغاربة يسمون الأسود أكحل، بالتالي أطلقوا عليه هذا الإسم باعتبار ان سنه مسودة.. المهم وقفت لنا سيارة دون أن نشير اليها بإبهامنا، ولم نفعل ذلك لأن التي تقودها إمرأة وتقعد بجانبها إمرأة أخرى.. فترددنا انا وصلاح على اعتبار انها ربما كانت تريد ان تسألنا عن جهة او مكان، ولكنها قالت لنا: ألا تريدون أن نوصلكم؟ فقلنا لها نريد ان توصلونا، فقالت اركبوا، فركبنا في المقعد الخلفي، وسارت بنا السيارة الى ان وصلنا الى كلية الحقوق بأكدال، فأوقفت السيارة ونزلنا انا وصلاح.. وبعد أن شكرناهما انطلقتا بسيارتهما، فقال لي صلاح: لقد تخيلت أنهما سيأخذاننا الى بيتهما و.. و..، فضحكت لدرجة أن سالت دموعي.. والسبب أن خيالي أيضاً ذهب في نفس الإتجاه..
في مرة وانا أقف في محطة الاتوبيس التي قرب كلية الحقوق بأكدال، وكان الوقت متأخراً حيث أنني كنت في المكتبة، وكما أسلفت فإن المواصلات العامة في المغرب تقف عند الثامنة مساء، فإذا فاتك آخر بص فلن تستطيع الوصول إلا بالتاكسي او بأرجلك او بطريقة الركوب بالمجان.. المهم وانا واقف وفاقد الأمل جاء موتر من أمامي فأشرت إليه بإبهامي، وعندما حاذاني رأيت الراكب يلبس بنطلوناً وفنيلة أكمام طويلة وخوذة، فلما وقف على بعد خطوات مني مشيت نحوه، وما إن اقتربت حتى ظهرت لي ضفيرة هابطة من تحت الخوذة، فابطأت خطاي حتى توقفت قبل الموتر ولم اشأ أن أركب، فالتفتت نحوي وقالت لي: غادي الحي الجامعي؟ وترجمتها ماشي الحي الجامعي؟ فقلت نعم، قالت هيا اركب، فركبت خلفها في الموتر، وكان المقعد واحداً- بعض المواتر تجد مقعد أساسي ثم مقعد آخر منفصل أدنى منه، يعني زي العجلة- لكن هذا مقعده واحد وطويل يسع لشخصين.. ركبت وتركت مسافة بيني وبينها حتى كدت أسقط الى الخلف.. وكانت ضفيرتها ترقد على المقعد بيني وبينها ، وتحركت، وبعد مسيرة دقائق تغير صوت الموتر، فتوقفت وانحنت الى الأمام وفتحت خزان الوقود، يبدو أن الوقود قد نفد، ثم استقامت في جلستها بعد تلك الانحناءة، فضاقت المسافة التي بيني وبينها في المقعد، والتصقت بي.. ثم ساقت الموتر الى أقرب محطة وقود ولم تكن تبعد عن مكاننا هذا غير عدة أمتار، فصبت الوقود، فأردت المشاركة ودفع ثمن الوقود، فقالت لي: هو طاكسي؟ فاستحيت وارجعت فلوسي ودفعت هي..
ثم تحركنا باتجاه الحي الجامعي.. وكنت أمسك ضفيرتها- التي تنسدل أمامي حتى يرتاح طرفها في المقعد- بيدي وأحس بنعومة الشعر، ولا أدري هل كانت تعرف أنني أداعب ضفيرتها أم لا؟ ولكن منذ تلك اللحظة التي التصقت بي بدأت أرتجف، ويبدو أنها أحست بتلك الرجفة فسألتني لماذا ارتجف، فأجبتها بنصف الحقيقة وقلت لها: ارتجف من البرد.. والواقع أن البرد زاد رجفاني ولم يكن هو السبب.. فزادت الطين بلة حينما قالت لي: تسمك بي! يا للهول، ووضعت يداي حول خاصرتها.. كان ذلك شديداً علينا نحن القادمون من قلب افريقيا من صحرائها الكبرى التي حرقتني بالحرارات الشموس فجعلتني منها كعود الأبنوس..
وصلنا الى الحي الجامعي السويسي الثاني وعلمت انها تسكن فيه كما أسكن، وكانت فوزية تشبه الأوربيين، فقد كان شعرها ذهبياً ويغطي النمش خدودها ولونها أشقر.. صارت بيننا معرفة كلما التقينا سلمنا على بعض، وفي مرة سألتها أين موترها فقالت لي أخذه صاحبه، ومن صاحبه؟ قالت صاحبي.. وفي مرة عقب انتهاء السنة الدراسية وظهور نتيجة الامتحانات وجدتها أمام جناح 2 الذي أسكن فيه حيث مكاتب إدارة الحي الجامعي، وسألتها عن النتيجة فقالت لي: والوو.. قلت لها يعني إيه والوو، قالت لي يعني ولا شئ.. أي رسبت.. قالتها ببساطة أضحكتني كثيراً.. قالت لي لماذا تضحك؟ قلت لها لأنك قلتيها بلا اكتراث..
ذكرني عدم اكتراثها هذا بأخرى زميلة لنا، رسبت أيضاً وعقب النتيجة مباشرة كانت تأكل ساندوتش او شئ من هذا القبيل بلا مبالاة، فقال لي محمد السماني شوف دي تاكل وفلانة- إحدى زميلاتنا السودانيات- قالت البآكل ليها شنو وانا راسبة، لقد انتابتها حالة هستيرية فظلت تصرخ وتبكي، وفشلت زميلتاها في تهدئتها مما اضطر حارس الجناح من تجاوز القانون والسماح لحبيبها- عليه رحمة الله- من الدخول إليهن في غرفتهن للمساعدة في تهدئتها.. ربما نحن الأجانب نحس بالألم إذا رسبنا، ولكن أهل البلد لا يأبهون، ربما لأنهم في بلدهم ولا يفرق معهم رسوبهم او حتى تأخرهم سنة أو سنتين.. مع ان الرسوب في الامتحان التحريري لدورة يونيو يمكن تعويضه بالجلوس لامتحان دورة اكتوبر، والرسوب في الشفوي أيضاً يمكن تجاوزه في امتحان الشفوي لدورة اكتوبر..
قبل أن أكمل طرائف المواصلات أرفق لكم صورة تضمني (على يمينك)، ثم أبو زيد محمد صالح (من الفاشر)، ثم النور محمد أحمد (من ديم القراي لكنه يعيش في الفاشر)، ثم عبد الله خالد (من الدندر)، والصورة في الحي الجامعي مولاي اسماعيل، ولم أجد تاريخاً مسجلاً خلفها، لكن يبدو أنها في العام 1976م ولا أدري إن كانت أبان فترة سكني بمولاي اسماعيل ام كنت في زيارة للحي بعد رحيلي للسويسي الثاني.. والمسجل الذي أمام عبد الله خالد هو المسجل الذي اشتريته من زميلنا محجوب البيلي، وكنت استمع عبره لعثمان حسين في أغنيته الجميلة (لا وحبك) من شباك الغرفة الجماعية التي حدثتكم عنها سابقاً..
والصورة وجدتها في مدني في اجازتي الأخيرة في يوليو/ أغسطس 2010م لذلك لم أدرجها في مداخلاتي حول الحي الجامعي مولاي اسماعيل..
وأدرك شهرزاد الصباح.. فسكتت عن الكلام المباح..
.. والحديث ذو صلة..
طرائف المواصلات والركوب بالمجان (2)
الحلقة الخامسة والخمسين
طرائف المواصلات والركوب بالمجان (2)
نواصل..
في مرة وانا واقف في محطة كلية الحقوق بأكدال منتظراً الحافلة مرّ بي سوداني راكباً موتر، وكنت الوحيد الواقف في تلك المحطة، وكان الوحيد الذي يمر في الشارع في تلك اللحظة، ووقعت عيناه على شخصي، وأنا أنظر إليه متوقعاً أن يقف لي كما وقفت لي فوزية من قبل، ولكنه لم يفعل، بل لم يسلم او حتى يشير برأسه ليحييني، بل نظر أمامه في الشارع حتى لا ينظر إليّ.. وواصل وتركني في حيرة من أمري، كان موقفاً غريباً وقاسياً على نفسي..طيلة هذه السنين الطويلة لم أفهم لماذا رغم علاقتي الطيبة به ورغم أنه من منطقة قريبة من منطقتنا في الشمالية، وكان يسكن معنا في نفس الغرفة الجماعية التي سكنا بها في الحي الجامعي مولاي اسماعيل أول وصولنا الى الرباط.. وكان من القلائل الذين يملكون موتر.. ومن القلائل الذين ملكوا سيارات- بعد مغادرتنا للمغرب- ولعله يقرأ كلامي هذا فيفسر لي ما حدث منذ ثلث القرن، سيما وأنه أصبح مشهوراً..
في مرة كنت اقف في محطة بصات كلية الآداب، وكان الوقت ليلاً، فمرت بي سيارة ما لبثت ان توقفت وأشار لي سائقها بأن يوصلني في طريقه، فلاحظت أنه خواجه، فحاولت إفاهمه بالفرنسية بأنني ذاهب الى الحي الجامعي السويسي، فلم يفهم مني وبدأ انه لا يكترث الى وجهتي، بل يريد أن يوصلني بصرف النظر عن اتجاه سيره هو ووجهتي أنا- المهم ركبت معه ولاحظت أن في المقعد الخلفي يوجد كـلـب (أكرمكم الله) لم أرّ أكبر منه حجماً، لا الكـلب البوليسي ولا الوولف.. عرفت ان صاحب السيارة اسباني، وفهمت ان الهدف من توصيلي ليس هو عمل خير، بل يريد مني شيئاً آخر.. تلاقيهو قال في نفسو الافريقي ده يجي منو.. المهم أوصلني الى قرب الحي الجامعي السويس بعد أن عبثت يده بأشياء تخصني كانت تحت كتبي التي أضعها على حجري.. ورغم أنه من إياهم إلا أن يده كانت غليظة وخشنة لا توحي بأنه من تلك الفئة من الرجال التي تفضل أن تكون نساء..
ننتقل الى المواصلات، فنبدأ بالتاكسي، ويسمونه المغاربة طاكسي، فتجد لوحة في أعلى السيارة مكتوب عليها (طاكسي صغير) وهو عادة من السيارات الصغيرة ماركة الفيات الإيطالية، وتسع فقط ثلاث ركاب، واحد في الأمام واثنان في المقعد الخلفي، والتاكسي غير الصغير هو من نوع المرسيدس، وهذا ينقل الركاب بين المطار والبلد، او بين المدن، وغالباً يشتغل بالطرحة، ويسع ضعف ركاب التاكسي الصغير تقريباً.. والطاكسي الصغير تتغير تسعيرة العداد بعد الساعة الثامنة والنصف مساء، حيث تزيد خمسين بالمائة.. وأذكر في أيامنا تلك أضرب أصحاب التاكسيات الصغيرة، والسبب أنهم يريدون أن تحسب المرأة الحامل التي تركب معهم شخصان وليس شخص واحد، لأن شركات التأمين ستحملهم الشخص الزائد في حالة حدوث حادث وكان عدد الركاب أكثر من الذي يرخص به في رخصة التاكسي.. وبالضرورة المرأة الحامل تحسب شخصين لدى دفع التعويض..
يوجد مواقف خاصة بالتاكسيات الصغيرة، وتجد ساعة الزحمة الناس تقف على الرصيف في صف يحفظ كل واحد منه دوره، فإذا جاء تاكسي فاضي يركب الذي وصل أولاً، ثم الذي يليه وهكذا.. ولن يسمحوا لك اذا تجاوزت هذا النظام- وكنا أول أيام لا نفهم ذلك فنجري لنركب مجرد وقوف التاكسي فتأتي إمرأة وترطن معنا بالفرنسي أن هذا ليس دوركم، بل دوري أنا لذا سأركب قبلكم.. وطبعاً التاكسي الصغير رخيص جداً بالمقارنة بالمواصلات العامة وبالدول الأخرى بما فيها السودان، فكان أفضل لنا ان نركب تاكسي اذا كنا ثلاثة فغالباً لا يكون نصيب الواحد منا أكثر من درهم، ولو اردنا الذهاب الى مكان يحتاج الى مواصلتين (بصين) فمعناها ان الفرد منا سيدفع ما يقارب الدرهم في الخطين، مع وجود الزحمة والعفص والدفس، طبعاً التاكسي بالعداد..
أحياناً الزحمة فيها مشاكل، ولكن قبل التطرق الى الزحمة أشير الى أننا لاحظنا كتابات غريبة في الحافلات أول وصولنا الى المغرب، فنجد داخل البص مكتوب لوحة: (ممنوع ركوب الوسـخانين والمعفنين).. واستغرابنا زال عندما عشنا في المغرب، فلا يوجد في البيوت القديمة حمامات (دوش)، بل من أراد ان يستحم فعليه ان يذهب الى الحمامات العامة، وهي حمامات بخار يسمونها في الشرق (ساونا)، وطبعاً هي بفلوس، ورغم انها ليست فلوس كثيرة الا ان بعض الناس لا يستطيعون دفعها، وفي الشتاء الناس تتحاشي الاستحمام في البرد، لذلك تتراكم روائح الجسد مع روائح الملابس غير النظيفة مع عدم استعمال المياه في المراحيض حيث يستعملون الورق، وفي الحي الجامعي لاحظت استعمالهم لورق الجرائد.. لذلك اصدرت إدارة المواصلات هذا التنبيه في الحافلات..
الزحمة نخليها للحلقة القادمة..
وأدرك شهرزاد الصباح.. فسكتت عن الكلام المباح..
.. والحديث ذو صلة..