الامير نقدالله شجاعه تتحدى الانحناءة
الامير نقدالله شجاعه تتحدى الانحناءة
اعداد حسن بركيه
من أسرة لم تعرف الخوف عقدت صفقة أبدية مع الكرم والشجاعة جاء الأمير عبد الرحمن عبد الله عبد الرحمن نقد الله القيادي بحزب الأمة, وتعود جذور الأسرة إلى شمال السودان في قرية أوربي بمحلية دنقلا, ومن هناك هاجرت الأسرة إلى أم درمان وودمدنى بخيرها في قطار التضحيات محملة بهدايا قيمها ومواقفها الأصيلة لكل السودان.
...وسار الأمير عبد الله عبد الرحمن نقد الله على درب والده نقد الله الكبير وعرف بالشجاعة والكرم والوضوح.. أقعده المرض قبل سنوات وهو في قمة عطائه السياسي والفكري, وتقول شقيقته الأستاذة سارة نقد الله عن أسرة نقد الله: جذور الأسرة من جزيرة (أُوربي) إحدى الجزر على النيل، و(أُوربي) جزيرة على مقربة من جزيرة (لبب) التي عُرف بها الإمام المهدي عليه السلام وأسرته، ثم حدثت هجرات. الأب المؤسس لأسرة نقد الله هو الحاج عبد الرحمن الكبير المعروف بعبد الرحمن نقد الله، ونقد الله تعني عبد الله، أجدادنا استشهد غالبيتهم في المهدية، مثلاً حبوبتنا صفية بت مزمل استشهد لها أربعة من إخوتها وسمُّوها (الخنساء).. الأسرة كلها مجاهدون «مسبلين الروح في شان اللّه»، حبوبتنا زوجة الأمير عبد الرحمن الكبير اسمها أم الحسن بت إبراهيم, وأنجب منها بحمد الله عدداً من البنين والبنات.
وتضيف السيدة نور الشام من أسرة نقد الله في حديث لها مع صحيفة (الرأي العام) مزيداً من الخلفيات التاريخية عن أسرة نقد الله وتقول: أبونا الحاج عبد الرحمن الكبير نقد الله مولود في (أوربي), عاش فيها طرفاً من أول الطفولة وبعض الصبا ثم هاجرت الأسرة إلى الجزيرة المروية رفاعة وجزيرة الفيل التي أتتها الأسرة من قدير، وفي جزيرة الفيل التقى أمنا صفية - وهي بالمناسبة عمة الإمام المهدي - تزوجها وجاء بها إلى رفاعة, وأمنا صفية أنصارية مجاهدة حضرت إلى أم درمان بعد أن أُسر أولاد المهدي والخليفة شريف, وقفت تنظر إلى الوابور الذي رُحِّل فيه الأسرى.. والذي حدث أن الخليفة محمد شريف قال لها: (ما تجي.. نحن إن شاء الله ما بتجينا عوجة وبنجي).. وتضيف السيدة نور الشام: (استقرت بعدها.. والحاج عبد الرحمن أيضاً استقر معها, وكان من الفرسان الصغار الذين يحرسون عوائل المهدية.. استقر وعمل ليهو زراعة وأراضي زراعية، باقي أهلو جو هناك وعمل بيت في مدني بعد فترة.. الأمراء الآخرون مولودون في أم درمان ومعظمهم تقريباً درس القرآن وحفظه في خلوة ود أحمد).
منذ أكثر من 70 عاماً ومنزل أسرة نقد الله بلا أبواب أو أسوار يستقبل الجميع بلا أي تمييز وهو منزل لكل قطاعات الشعب السوداني (نقد الله تركة الطاعة أب باباً بلا شُراعة).
يقول الأستاذ عبد الرسول النور: إن الحديث عن الأمير عبد الرحمن عبد الله عبد الرحمن نقد الله حديث ذو شجون وحديث طويل. الأمير عبد الرحمن أخذ من والده قوة الشخصية والوقوف والثبات عند المبدأ والراي في كل الظروف شدة ورخاء, والسياسة عنده تحمل لونين فقط إما أسود وإما أبيض, وهو إما أن يحب حبا صادقا وإما أن يكره كراهية واضحة لا منزلة عنده بين المنزلتين.
وكان الراحل المقيم القيادي الاتحادي الحاج مضوي محمد أحمد على علاقة وثيقة بنقد الله, وقال عشية مرض نقد الله في ندوة محضورة: كان نقد الله صادقاً لا يعادي الاتحاديين وآل نقد الله ركيزة أساسية في الثورة المهدية, وهو رجل بشوش وشجاع في كل الظروف وكان مصادماً لكل الأنظمة الشمولية, وشاهدت الرجل في المعتقل وهو يتعرض لتعذيب قاسي جداً وكاد أن يفقد بصره من شدة التعذيب.. قال الحاج مضوي قولته ورحل عن دنيانا وظلت شهادته عالقة بالأذهان وباقية في الوجدان, والأمير نقد الله لا زال على فراش المرض ولكن سيرته تمشي بين الناس. وعندما عاد الراحل الخاتم عدلان إلي البلاد بعد طول غياب في العام 2004م وسجل زيارة إلي دار نقد الله, وما أن شاهد الأمير نقد الله ممداً في سرير المرض أجهش بالبكاء وأبكى كل الحضور, وتحدث عن نقد الله حديثا عميقا. ورحل الخاتم عنا وما زال الأمير نقد الله عملاقا كبيرا وهو ممدد على فراش المرض بقلب طفل مفطور على المحبة والنقاء.
ضمير أمة
يقول الأستاذ يوسف حسين الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي: إن نقد الله شخص مستنير ومتفتح الذهن ولا يتراجع عن مواقفه ويتميز بالصلابة, وفي نفس الوقت هو إنسان ودود جدا وله علاقات ممتدة مع كل الناس ولا يرضى الظلم ومناضل شرس ضد الاستبداد, ودفع ضريبة النضال في بيوت الأشباح والترحيل إلى خارج العاصمة في مناطق نائية والاعتقالات المتكررة, ونحن في اليسار كنا نحرص على استمرار العلاقة معه ونحترمه وهو أيضاً كان يحترم اليسار ويقدره, ولهذا كان قريبا منا وكنا قريبين منه. محمد ساتي القيادي بحزب الأمة يسلط الضوء على معالم وتاريخ أسرة نقد الله: الحاج نقد الله الكبير كان من أمراء المهدية وعهد إليه الإمام عبد الرحمن إعادة تنظيم الأنصار بعد معركة كرري. ابنه الأمير عبد الرحمن شأنه شأن كل أسرة نقد الله كان كريما وشجاعا وله صولات وجولات مع الأنظمة العسكرية خاصة نظام الإنقاذ, حيث حكمت عليه إحدى المحاكم بالإعدام وكان يتميز داخل حزب الأمة بأنه أنصاري (قح) وهو حاد في أفكاره ولا يعرف أنصاف الحلول ورغم ذلك فهو ديموقراطي يؤمن بتعدد الآراء. وكان الأمير نقد الله قد قدم لمحاكمة وحكمت عليه المحكمة بالإعدام ثم خفف الحكم وأطلق سراحه لاحقاً, المهم هي مسيرة طويلة من الاعتقالات, وذات مرة قدم بنفسه مرافعة رصينة كانت مثار إعجاب وتقدير الكثيرين ونقتطف منها الجزئية التالية: (فان النظام العسكري الحالي قد اعتقلني لمدة عامين إلا شهرين من دون وجه حق أو إبداء أي سبب أو حتى مجرد تحقيق, وهي اطول مدة قضاها مسؤول سياسي في الاعتقال, وقد ظل وما زال يحجر على حسابي المتواضع جدا في احد البنوك, كما رفض السماح لي بالخروج من العاصمة للاشراف على مشروعنا الزراعي بمنطقة الكاملين, كما حظر سفري إلى الخارج للبحث عن وسيلة عيش كريم). وختم نقد الله مرافعته: (مرحباً بالموت.) ويقول: (فأنا يا مولاي سليل عائلة مجاهدين اشتهرت في أرض السودان برفع راية الدين وحماية الدولة وحب الوطن والدفاع عن حقوق مواطنيه, وأنا ـ وأعوذ بالله من الأنا ـ يحفل تاريخي القصير والحمد لله على ذلك بالمواقف الوطنية وحب أهل السودان والتفاني في خدمتهم, لم أفرق أبدا بينهم لمواقف سياسية أو عرقية أو دينية بل عاملتهم بالعدل والإحسان حيثما كنت مسؤولا عنهم, وعرفت بين الجميع بالترفع عن النظرات الحزبية والذاتية الضيقة, وأحببت أهل السودان بل وأفخر وأعتز بالانتماء إليهم, وفي سبيل ذلك حياتي فداء وروحي هبة ودمي قربان فمرحباً بالموت في سبيل الله وهو شرف عظيم في سبيل السودان وأهله الطيبين الأوفياء). ويمضي عبد الرسول النور في الحديث عن جوانب أخرى من شخصية نقد الله: (درس الأمير نقد الله في أوربا الشرقية وتحديدا في رومانيا حينما كانت الشيوعية تسيطر على نصف الكرة الأرضية, وعندما سافر الأمير إلى رومانيا كانت صور شاوسيسكو تملأ كل مكان, وكان الجميع يتحدث عن إنجازات الرجل, وجاء الأمير في هذا الظرف إلي السودان وكانت مايو وقتها بوجهها الأحمر, أتى من لون أحمر قاني إلي لون أحمر قاني بالسودان ـ والحديث ما زال لعبد الرسول النور ـ ووجدنا وكنا طلاباً بجامعة الخرطوم نعمل في معارضة نظام مايو بشدة, وكان الأمير الراحل الكبير عبد الله عبد الرحمن نقد الله يرعانا من على البعد, وعندما جاء ابنه الأمير عبد الرحمن دعانا وعرفنا به، فأوجسنا في أنفسنا خيفة من هذا القادم من البلاد الحمراء الذي درس في رومانيا ورأى الشيوعية في عزها وفي عقر دارها، ولكننا وجدناه أنصارياً قحاً وأقوى من الأنصار الذين لم يغادروا السودان (الضد يظهر حسنه الضد). ويستطرد عبد الرسول النور: كان أنصارياً مصادماً وكان لنا نعم الأخ ونعم المعين وهو باختصار شديد (قلبه في لسانه), لا يؤمن بالدبلوماسية وأساليبها ولايؤمن بالعمل من خلف جدر أو ستر, ولهذا كان هدفاً للاعتقالات في مايو والإنقاذ, وكان يجهر برأيه حتى في السجون)
ومن المواقف التي لا زالت عالقة بالأذهان وتوثق مواقف نقد الله العظيمة.. أنه طلب منه القيادي بالشعبي آنذاك محمد الحسن الأمين العفو والصفح عن ما ارتكب في حقه من تعذيب، وكان ذلك أثناء اجتماع لتحالف المعارضة بدار حزب الأمة, وقال نقد الله لمحمد الحسن الأمين وبحضور عدد مقدر من قيادات المعارضة: في ما يتعلق بشخصي عفوت لكم كل جرمكم في حقي ولكن عليك طلب العفو من الشعب السوداني لأنه صاحب الكلمة الأولي والأخيرة في ذلك.. ودارت الأيام وعاد محمد الحسن الأمين إلى الوطني واستعصم بظل ذات السلطة التي كان يبرأ من أفعالها ويطلب العفو, وتمدد نقد الله في فراش المرض ويا لها من مفارقات تحفل بها السياسة السودانية.
يقول الكاتب الصحفي الختمي أحمد سر الختم الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة كيان الأنصار, واستظل مع النهايات بشجرة الختمية: (نقد الله كان حاضراً في كل فعاليات المعارضة في فترة التسعينيات أمينا عاما للتجمع الوطني الديموقراطي بالداخل وسندا قوياً للحركة الطلابية, وبمرضه مرضت الحركة السياسية السودانية والتف حوله الشباب والطلاب عندما شاهدوا بوادر التراجع والانكسار لدى قيادات الصف الأول في أحزاب المعارضة). يقول الدكتور مصطفى محمود الأمين العام للحزب العربي الاشتراكي الناصري: (نقد الله لم يكن جزءاً من هذا الوسط السياسي السيئ, كان شيئا آخراً مختلفا تماما عن القيادات السياسية الموجودة الآن, وكان قريباً لكل الناس وكان عدواً للمتخاذلين في حزب الأمة وفي غير حزب الأمة, هو أمة في رجل.. كنت قريباً منه وأقول كان فوق الوصف وكان يحب الخير حتى لأعدائه, ورغم أنصاريته كان يعبر عن كل السودان والدنيا علمتنا أن الأتقياء يذهبون ويبقى من هم دون ذلك، كان واضحاً ولا يعرف الأساليب الملتوية. كان نقد الله من أشد المعارضين لخط التفاوض مع المؤتمر الوطني داخل حزب الأمة. وعندما كلف برئاسة لجنة لتقييم الحوار مع النظام عقب العودة قدم تقريرا ضافيا عرف بتقرير لجنة نقد الله, يقال إن رئيس الحزب تجاوز التقرير بورقة قدمها للمكتب السياسي وبعدها بفترة قليلة داهمه المرض وأقعده عن أداء مهامه في الحزب وفي كيان الأنصار. وكان محل ثقة قيادات الأنصار والطلاب. ومنذ مرضه والجميع يذكر مواقفه في كل المنعطفات التي مرت بالوطن وبحزب الأمة. وكان من الأنقياء الذين يمشون إلى موتهم دون وجل ولتحيا أوطانهم
و دمدني .... المدينة التي تسكن في الوجدان (1)
و دمدني .... المدينة التي تسكن في الوجدان (1) .
سلسلة ذكريات يكتبها: صلاح الباشا
أطلت بخاطري وأنا أعمل حتي وقت قريب بالعاصمة القطرية الدوحة ، مراجعا لحسابات وزراة الخارجية القطرية حتي العام 2003م ، أطلت فكرة إصدار هذه الذكريات بكل مكنوناتها من الحكاوي الرطبة عن مدينتي وعُشقي المستديم ودمدني .. مدينة الأحلام .. فقد كانت مناسبتها كالتالي :
ذات يوم وقد كان جو البيت عندي بالدوحة موحشاً كعادته بعد سفرعائلتي في صيف العام 2001م فلأتحاق بعض الأبناء والبنات بالدراسة الجامعية ( وقد تخرجوا الآن ) .. طاف بخاطري فجأة طيفها.. لم يفارق خيالي مطلقاً ذلك الطيف .. مذ تركت الوطن وأنا لا أزال خريجاً طري العود أعمل بالمملكة العربية السعودية وقتذاك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عقب تخرجي من كلية التجارة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ، وهنا أرجو ألا تذهبوا بعيداً ، لأنني أقصد هنا طيف مدينتي .. مدينة الأحلام وليس طيفاً آخراً ، رغم إعترافي بأن هنالك طيفُ آخر بالفعل في الخيال ، ولم لا يكون هنالك طيفان في الخيال، عموماً كنت مهموماً وأنا أدير محرك السيارة خارجاً ذات صباح مشرق من منزلي بالدوحة إلي عملي بالخارجية ، ودائماً ما أدخل علي إذاعة لندن ( بي بي سي ) لسماع نشرة الصباح من راديو السيارة أثناء (تسخينها) فالنشرة تأتي علي رأس كل ساعة ، لكنني في ذلك اليوم تحديداً قد صرفت النظر عن سماع الأخبار في (البي بي سي ) فقد آلمني وقتذاك رحيل المذيع المتفرد العريق ماجد سرحان الفلسطيني الأصل ونجم إذاعتها المقتدر في لندن ، كنت أحب صوت الرجل وأحب مداخلاته وخفة دمه من وقت لآخر في - هنا لندن هيئة الإذاعة البريطانية- ( يرحمه الله) ، كما أنني قد مللت تكرار أخبار تفجيرات برجي مركز التجارة في نيويورك وأنباء الضربات الموجعة علي طالبان في بلاد الأفغان خلال تلك السنة من العام 2001م ، لذلك فقد أدرت شريط كاسيت كان مركوناً بمسجل العربة و لم أكن أدري ماذا بالشريط من غناء يريحني، ولمَن مِن أهل الإبداع في بلادي يكون ذلك الشريط ، فكنت فقط أريد أن أسمع شيئاً من الغناء السوداني يزيح عني ذلك الضغط المحتقن داخل صدري ، فجاءني صوته هادئاً ، ولكن بنبراته القوية الواضحة المعالم وتصحبه موسيقي في هدوء شاعري متميز وجاذب:
مالو .. أعياه النضال .. بدني…
روحي ليه.. ليه مشتهية ودمدني
كنت أزور أبويا .. ودمدني..
وأشكي ليهو …الحضري والمدني
فقلت ياسبحان الله ، ما أجمل هذا الصباح ، إذ سرعان ما بدأ الهم والغم يتسرب من صدري وينسحب بعيداّ بعد أن جثم عليه بكل عنف يوماً كاملاً ، فإنزاحت سحابة الغم الداكنة من خيالي بعد أن جاءني صوته.. صوت أبو الأمين كي يشدني مع جماليات خليل فرح إلي جماليات ودمدني .. عشقي المستديم.. ودمدني التي كانت ولا تزال تعانق النجوم .. وتتغطي بالنجوم ، ونحن أيضاً نعلق أنجمنا عليها ، فإنتشيت وحلقتُ في أجواء عالية ( إلي حيث لا حيث ) ، فطافت بخيالي ذكريات أزمنة كانت رشيقة وخبايا أمكنة كانت حقيقة في تلك المدينة الوطن ، ليمتليء كياني ويزدحم ، فتسمرتُ ولم أحرك السيارة من جراج المنزل إلا بعد إن إنتهت تلك الأغنية الخالدة التي قام الفنان محمد الأمين ببعثها من جديد بعد أن كانت قابعة في سجلات التاريخ حين كتبها الراحل الرمز الوطني المبدع ( خليل فرح) في عام 1930م وهو في طريقه بالقطار من الخرطوم صوب ودمدني للمشاركة في فرح فنان السودان الأول ( الحاج محمد أحمد سرور) إبن قرية ودالمجذوب شمال ودمدني ، فشدتني الأغنية تماماً نحو عُشقي .. نحو مدينة الأحلام .. ودمدني… ورحم الله خليل فرح ، ورحم الله سرور.
ولأجل ذلك.. وبسبب كل ذلك .. وبسبب كل تلك الحزمة من الوجد والعشق لودمدني الروح ، كانت رائحة الرواية تستفزني أن أكتبها .. فكانت ودمدني هي تلك الرائحة، ولأجلها جاءت فكرة هذه الذكريات .. جاءت لتحكي ودمدني قصتها بنفسها .. تحكي بعضُُ منها لأهل السودان عامة ولأهل ودمدني في كل مكان.
لذلكً نقول .. تفضلوا معنا في ودمدني التاريخ بكل أسرار حكاياتها .. ومفاصل حياتها الثرة المكتنزة بكل ألوان الجمال التي كانت متناثرة هناك في مدينة الأحلام .. إلي ودمدني بكل ضواحيها التي تحاصر وتحيط بها إحاطة السوار بالمعصم وتجمِّـل خاصرتها لتكتمل حكايتها .. وإلي ناسها وإلي أحيائها بكل حواريها وأزقتها.. إلي همومها وإهتمامات أهلها المتعددة المتألقة في ذلك الزمن البعيد القريب.. وإلي مفاصل حياتها الإجتماعية والأدبية والفنية والسياسية وعمالقة الرياضة فيها منذ زمن بعيد ، وإلي حلقات الذكر والقباب التي تحرسها برعاية الله من كل الشرور.. وإلي حكاوي أسواقها الرشيقة .. وشخصياتها الجادة والمرحة أيضاً .
مع كل ذلك الزخم ذو الطعم اللذيذ .. نواصل الحكاوي .. عن مدينة الأحلام .. ودمدني .. والتي حصرناها هنا في عشر سنوات هي في تقديري تعتبر العصر الذهبي لنا وللمدينة معاً ( 1961- 1970م ) حيث ولجنا فيها إلي الدراسة بالمرحلة الوسطي ، ثم الثانوية ، فالرحيل إلي الخرطوم في العام 1970م للدراسة الجامعية .
كان المشهد التالي قد عايشته في نهاية أبريل من عام 1961م والعمر لا يزال غضاً لم يتجاوز الحادية عشر ربيعاً ، حين ذهبنا من بركات ( 8 كيلومترات جنوب ودمدني ) حيث توجد رئاسة مشروع الجزيرة وهي مقر سكني ونشأتي الأولي ، إلي ميدان المدارس الأهلية الوسطي العريقة والضخمة جدا من حيث عدد الفصول ، في حي بانت بودمدني ، مع أفواج من الصغار الذاهبين مثلنا في صحبة أولياء أمورنا في ذلك الصباح الندي – وقد كان يصحبني أخي الكبير الراحل حسن الباشا الموظف بمشروع الجزيرة آنذاك ، ( توفي في 14 مايو 1997م ) . ذهب معي كي يخفف عناء المشوار الطويل عن والدي الذي تقدمت به السنون وقد رحل في أكتوبر 1987م عن عمر ناهز المائة عام ( عليهما الإثنين الرحمة) ، ذهبنا ونحن نشعر بنوع من القبطة والسعادة المشوبة بنوع من الحذر لمعرفة الحد الفاصل بين مرحلة دراسية واخري .. وهي الإستماع لإذاعة نتائج إمتحان اللجنة للدخول للمدارس الوسطي من مركز الإمتحانات بالمدرسة الأهلية ، فكانت النقلة المرتقبة من المدرسة الأولية التي كان يُطلق عليها ( الكـُتـّاب) وهي أربع سنوات حين كان التعليم العام لإثنتي عشر عاما قبل الجامعة وهو ( أولية ووسطي وثانوي ) ، فالحد كان فاصلا لنا بين الأولية و المرحلة الوسطي وقد كانت هي أمنية كل صبي .. بل وأمنية أهله أجمعين . ولم لا .. فقد كان خريج المدرسة الوسطي القديمة في زمان مضي من الممكن أن يصبح موظفاً كبيراً إذا لم يرغب في مواصلة الدراسة بالثانوية.
واللجنة كانت بلغة ذلك الزمان هي إمتحانات القبول في المدارس الوسطي بالمدينة بعد إكمال المرحلة الأولية التي كانت من أربع سنوات دراسية . كان الصيف في أبرلي من العام 1961م قد بدأ يكشرعن أنيابه ، والجو الصباحي بدأ يودع البرودة مسرعاً نحو السخونة ، وجميع التلاميذ ومعهم أولياء أمورهم يتصببون عرقاً بسبب طول مدة الوقوف خارج حائط حوش المدرسة في ميدان كرة القدم الخاص بالمدرسة الأهلية . وفي تمام الثامنة صباحاً أطل أحد المعلمين من فوق سور المدرسة من الداخل وهو يقف علي كرسي حتي يراه الناس الذين كانون يتوقون لسماع أسماء الناجحين من أبنائهم من مايكرفون اليد بالبطارية الذي كان يستخدمه ذلك الأستاذ في إذاعة الأسماء ، فكان يمسك المايكفرون بيمناه ، بمثلما كان يمسك كشوفات الناجحين بيسراه بعد أن قام بتثبيت الكشوفات علي سطح الحائط العريض ، وبدأ في إذاعة أسماء الطلاب الناجحين.
كان عدد الجالسين للإمتحانات من مدارس مدينة ودمدني الأولية وهي مدارس عديدة كمدرسة البندر وأبوزيد والمزاد والسكة حديد الشرقية والغربية ، وبانت ، والدباغة ، والشرقية ودردق وجزيرة الفيل ، ومن المناطق القريبة التي تحيط بودمدني وهي:( بركات- الشكابة- أم سنط- السوريبة ) وقد كان مجموع الطلاب الممتحين في المركز يبلغ حوالي الألف طالب ، بينما كان العدد المطلوب قبوله في ثلاث مدارس متوسطة بالمدينة لا يتجاوز الثلاثمائة طالب . كانت المدارس الحكومية المتوسطة هي الأهلية الوسطي بشقيها (أ) و ( ب) ، والمدرسة الأميرية التي تأخذ أربعين طالباً ( الأوائل) فقط وبرسوم كاملة تبلغ إثني عشر جنيهاً في العام الواحد لأنها كانت تعتبر مدرسة نموذجية وذات نهر واحد ، ويتم دفع الرسوم علي ثلاثة أقساط ، أما الأهلية (أ) فقد كانت كبيرة وبها ثلاثة أنهر في زماننا وهي شرق وغرب وجنوب ويتم أيضاً قبول أربعين طالباً في الصف الواحد ، أما الأهلية ( ب) فقد كانت ذات نهرين وهما أيضاَ ( أ) و ( ب) وكان لا يفصل بين الأهليتين شيئاً غير حوائط الفصول ومكاتب المدرسين وممر مفتوح علي المدرستين معلق به الجرس الذي يستخدم كتوقيت لبدء الدراسة والحصص بالمدرستين . أما المدرسة الوسطي الثالثة الحكومية فكانت هي المدرسة الصناعية وهي في حي بانت أيضاً وتقع بالشارع المطل علي خط السكة الحديد حيث يفصل بينهما سلسلة المخازن العريقة التي تم هدمها مؤخراً – مخازن أبوسنون - وتم بيع أراضيها كخطة إستثمار حكومي بالمزاد العلني. فكانت الصناعية مخصصة للتلاميذ الناجحين من كبار السن أو من الراغبين في دخول التعليم الصناعي المهني ، أما المدارس الخاصة المتوسطة والتي كانت تسمي بالشعبية فقد كانت إثنتين فقط هما مدرسة شيخ أبوزيد في منتصف حي بانت ، ومدرسة الهوارة الوسطي في نهاية حي المزاد ، كما كان يوجد المعهد العلمي الأوسط بجامع الحكومة بشارع النيل والذي كان إمامه الرسمي في ذلك الزمان ولعقود طويلة هو المرحوم العلامة (شيخ آدم) وقد كان الشيخ مرجعاً في فقه السنة وفي سائر العبادات رغم أنه كان ضريراً. وكانت هناك مدارس الإتحاد المصرية بموقعها القديم بشارع الدكاترة قبل أن يتم بناء مباني جديدة لها وهي المدرسة العربية بمراحلها الثلاثة بحي الدرجة الأولي علي شارع مدني – بركات الرئيسي ، والتي تم تحويلها مؤخراً إلي مدرسة ثانوية سودانية تحمل إسم الشهيد الدكتور مصطفي الطيب علي، بعد إلغاء حكومة الإنقاذ لكل التعليم المصري بالمدن السودان وكذلك إلغاء جامعة القاهرة فرع الخرطوم خلال سنوات الشد السياسي والإحتقان في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين .
عموماً.. تم إذاعة أسمائنا في ذلك الصباح كناجحين وتمت مقابلتنا بلجنة المدرسة لمدة ثلاثة أيام للمعاينة بمعدل مائة طالب يومياً وذلك لتحديد الرسوم الدراسية ولمعرفة عمر التلميذ ومهنة الأب والتي علي أساسها يتم تحديد الرسوم الدراسية ، وقد كانت الرسوم يبلغ أعلاها إثني عشر جنيهاً وأوسطها ستة جنيهات وأدناها ثلاثة جنيهات في العام الدراسي الواحد ( والجنيه السوداني كان ذا قيمة كبيرة جداً وقتذاك) كما كان هناك القبول المجاني للمتعسرين أو لأبناء أرباب المعاشات أو الأيتام . ولكن بعد مرور سنتين من قبولنا أي في العام 1963م تم إلغاء تلك الرسوم بقرار من المرحوم اللواء محمد طلعت فريد عندما تم تحويله كوزيرمن وزارة الإستعلامات والعمل إلي وزارة التربية والتعليم في زمان حكم الرئيس الفريق ابراهيم عبود الذي إمتد من العام 1958 وحتي ثورة أكتبور الشعبية في العام 1964م ، حيث تمكن اللواء طلعت فريد من إستصدار قرار من مجلس الوزراء بإلغاء رسوم الدراسة بالمدارس الحكومية كلها ( وسطي وثانوية) في كل السودان ، ما أثار فرحتناوفرحة ىبائنا لسنوات طويلة ، فالجينه كان عزيزا وقتذاك حين كان الإقتصاد السوداني متوازنا ومستقراً ،،،،،
نواصل
أوراق منسية في مدينة ودمدني
أوراق منسية في مدينة ودمدني
رأي: محمد شيخ العرب
لكل مدينة طابعها الخاص ولغتها المتفردة وثقافتها وتنوعها الفريد، لا أعدو الحقيقة إن قلت بأن ود مدني مدينة ذات سحر خاص ولم تعرف خلال تاريخها واأثناء ترعرعنا فيها من شقاوة في الطفولة وصبا ناضج ورجولة لا يدخلها الشك من أمامها أو خلفها، أن أحسسنا في يوم ما بقبلية هذا شايقي وذلك جعلي وهؤلاء حلفاويون أو دناقلة، انصهار من نوع عجيب غريب، وإقبال على القراءة والاطلاع من صغارها وكبارها وإن وجدت أميين فإنهم ضرب الأمثال في التضحية والدفاع عن الفقراء وسنتعرض لهم لاحقاً.
لاغرو إذاً أن ينطلق مؤتمر الخريجين من هذه المدينة الفريدة، هذا المؤتمر أحدث تداعيات في تاريخ السودان الحديث ولكن للأسف لم يجد من يرصده أو الاحتفاء أو الاحتفال به إن كان ذلك على مستوى الحكومة أو منظمات المجتمع المدني أو المتعلمين والمثقفين أو حتى السياسيين، وإن كان مؤتمر الخريجين يعتبر تجمعاً جماهيرياً ونضالياً من الدرجة الأولى، فإن حدث هذا في أي قرية في هذا الكون لوجد الاحتفاء واعتبر يوماً وطنياً في تاريخ الأمة، ولكن في السودان كل شيء قابل للإجهاض والنسيان والرمي به في مزبلة التاريخ، ولكن سوف يأتي اليوم الذي يحتفل به الناس كعمل رائد في تاريخ الأمة السودانية وأظنه أي هذا اليوم، بقريب، أليس لهذا الليل بصبح أمثل. وإن كنا قد قلنا عرضاً في صدر هذا العمود بأن رجالاً كانوا أميين ولكن يحملون حساً وطنياً غلاباً فاق حس المتعلمين والمثقفين، فتعالوا لنسمع هذه الوطنية المنسية في تاريخ هذه المدينة العملاقة:
في ستينيات القرن الماضي كان يسكن أو دعنا نقول، يقيم بصفة دائمة الإخوة اليمنيون وصاروا جزءاً من ذلك المجتمع، في الأحزان هم السابقون، وفي أوقات الفرح هم يتقدمون الصفوف مشاركين بمالهم وتراثهم وثقافتهم، وكان يرأس هذه الجالية اليمنية العم يحيى حسين وهو من الذين فروا من حكم الإمام أحمد في اليمن ولكن الاستخبارات اليمنية تتبعته حتى عرفت أنه بالسودان وبالتحديد في مدينة ود مدني، وأرسلوا في طلبه من السودان وإرساله إلى اليمن، وقتها لا يعرف السودان الانتربول أو تبادل المجرمين، وفي ليل بهيم جاء زوار الفجر واقتحموا منزل يحيى اليماني وهو بالقرب من محطة السكة الحديد، وحشروه في عربة وانطلقت به تجاه الخرطوم، وفي الساعات الأولى هرولت زوجته الفضلى إلى شيخ أحمد أبوزيد وأخبرته بالحكاية واتصل بأحمد شيخ العرب وموسى الفادني والأمير نقد الله وأحمد عبد اللطيف، واجتمع القوم وقرروا السفر إلى الخرطوم ولم يعرفوا وقتها بأن الرجل يمثل رئيس المعارضة اليمنية بالسودان، في تمام الساعة 10 صباحاً من ذلك الصباح اتجه وفد التجار إلى وزارة الداخلية وقابلوا ابنهم مقبول الأمين الحاج وفوجئوا بأن وزير الداخلية على علم بالقضية وأخبرهم بخطورة هذا الرجل وأن هذا العمل سوف يؤدي إلى تدهور العلاقة السودانية اليمنية، وكان ردهم واحداً ومتحداً وأخبروه بأن يخطر المجلس الأعلى للقوات المسلحة وعلى رأسهم الفريق إبراهيم عبود أنه إذا سلم يحيى حسين إلى السلطات اليمنية، فليعتبر هذا بمثابة قطع العلاقة بين أهل مدني وبين قيادة الثورة، وأهل ودمدني عرفوا بالتاريخ النضالي وأن الجالية اليمنية بمدني أصبحت من النسيج الاجتماعي النضالي في هذه المدينة، فإن تم تسليمه إلى السلطات اليمنية، فهذا يعتبر خيانة في حق هذه المدينة التي انبعث وانفجر منها مؤتمر الخريجين، ورجع الوفد إلى مدني وأصبح وزير الداخلية المقبول الأمين الحاج في حيرة من أمره، وعقد اجتماعاً مع أبناء مدني المشاركين في حكم عبود أحمد خير أبو المؤتمر، والاقتصادي العملاق ووزير المالية وقتها مأمون بحيري، وذهب الثلاثة إلى الفريق عبود وتحدثوا معه حول قصة زعيم المعارضة اليمنية بالسودان، وكان قرار الفريق عبود بدون الرجوع إلى المجلس العسكري العالي بإطلاق سراح الزعيم يحيى وتجهيز سيارة خاصة أقلته إلى مدينة ود مدني في نفس اليوم، وفي المساء كان الاحتفال وكانت الزغاريد تملأ مدينة مدني نساء ورجالاً، أطفالاً وشيبة، وكانت منطقة المحطة الوسطى عبارة عن مهرجان وكرنفال خطابي وسياسي وغنائي وثقافي، وكانت ليلة من تلك الليالي التي لا ينساها ذلك الجيل العظيم.
بقي أن نقول ألم تكن هذه المدينة مدينة البطولات والمعجزات والمبدعين، ومن صلب هذه المدينة ومن تاريخها البديع المتمثل في مؤتمر الخريجين وقصة زعيم المعارضة اليمنية، تفجرت ينابيع الفكر والثقافة والأدب والفن والرياضة، فلا غرو أن يخرج من صلبها هؤلاء المبدعون، وفي هذه المساحة نذكر أسماءهم، فإن فاتنا اسم فالعتبى لتلك الذاكرة التي أنهكتها الأيام والمعاناة اليومية التي نحاول أن نتخطاها بنضال وصبر وشجاعة وكرامة لم تغيرنا الأيام ولم تضعفنا السلطة التي أقبلت علينا فأدبرنا منها، فتباً للسلطة وما أدراك ما السلطة.. من السياسيين جعفر نميري، مأمون بحيري، محمد نجيب أول رئيس مصر، الهندي المفكر الكبير بابكر كرار، من الشعراء علي المساح، شقدي، فضل الله محمد، د. محمد عبد الحي، د. مروان حامد الرشيد، الهادي أحمد يوسف ومحمد عبد القيوم.
ومن الفنانين سرور،الشبلي، الكاشف، محمد الأمين، علي إبراهيم، محمد مسكين، أبوعركي البخيت، رمضان حسن، رمضان زايد، عبد العزيز المبارك، عوض الجاك والخير عثمان. ومن الرياضيين بادي، سيد مصطفى، إبراهيم ومصطفى ومحمد كرار(أولاد كرار)، إبراهيم محمد علي، إبراهومة صاحب الاسم وشقيقه حمد النيل، سانتو أخوان، كور أخوان، حمدون أخوان، سنطة وسمير صالح (سمارة ماشي).
ومن القانونيين أحمد خير، خلف الله الرشيد، عبدالوهاب بوب، التيجاني الطاهر، الريح الأمين الحاج، حكيم الطيب، محمد أبوزيد، أمين مكي، عبد العزيز شدو. ومن الرسامين التشكيلين أحمد سالم، راشد دياب.. ومن المعلمين صالح بحيري، الريح الليثي، محمد علي الكريبة، محيي الدين دياب.
ومن الصحفيين فضل الله محمد. صديق محيسي، فاروق حامد، حامد محمد حامد، هاشم المهدي، بكري نور الدائم أبو فائز.
ومن رجال البر والإحسان شيخ أبوزيد أحمد شيخ العرب، رمضان الفرنساوي، بابكر أبوسنون، أحمد الحضري. ومن أهل الذكر محمد ود شاطوط، شيخ جيلي أحمد صلاح، عبد السيد. ومن فتوات المدينة ولكنهم كانوا مثل (روبن هود) ينصرون الضعفاء عوض حلاوة وميرغني عابدون.
هذه هي مدينة الحب والجمال والفضيلة، لا جهوية لا قبلية، مدينة وقفت عن الولادة ولكن لم ينقطع عنها الحيض، وقصة تجار مدني الأوفياء الشجعان الصناديد في الوقوف في وجه طغمة عبود بعدم تسليم زعيم المعارضة اليمنية العم يحيى حسين، تعكس لوحة نادرة التكرار في سماء المدينة، ويا ليت قصة كفاح رجال الخريجين وقصة زعيم المعارضة تدرس في مدارس الأساس بولاية الجزيرة، فالتاريخ إذا سرد إلى التلاميذ بدون مدلول يصبح كحكايات الحبوبات، فلتكن ضربة البداية الاحتفاء بحدثي مؤتمر الخريجين ورجال مدني الأوفياء في تهديد سلطة عبود بإرجاع زعيم المعارضة اليمنية (يحيى حسين).
شاعر الحقيبة الخالد علي المساح في إفادات مثيرة قبل نصف قرن.!!
حكايات الزمن الجميل
*إذا تحدثنا عن الزمان الجميل الماضي.. فهل هذا يعني بأن زماننا هذا ليس جميلاً؟
وما دام الجمال فينا ومنا؛ فدعونا نبحر مرة في حكايات من الزمن الجميل، الذي نعيشه ونحيا من خلاله دائماً.
شاعر الحقيبة الخالد علي المساح في إفادات مثيرة قبل نصف قرن.!!
الشاعر الراحل علي المساح ابن الجزيرة الخضراء الوارفة الظلال (واد مدني)، من أشهر شعراء حقيبة الفن وعاصر في حياته عمالقة الشعراء والمطربين الأفذاذ الذين التقى بهم في حياته الفنية.. غنى له المطرب الراحل ابن بلدته العملاق إبراهيم الكاشف أجمل أغنياته.
- الشاعر الراحل علي المساح نلتقيه هنا عبر هذه المساحة لنتعرف عليه عن قرب، كل من لم يسمع به أو يقرأ له رأياً.. وهذا الحوار نُشر بمجلة الإذاعة والتلفزيون قبل حوالي الخمسين عاماً، وننقله هنا في هذه الصفحة من (حكايات الزمن الجميل)، دون حذف أو إضافة.. فماذا قال أشهر شعراء حقيبة الفن العملاق الراحل علي المساح.؟!
إبراهيم الكاشف عاصر الجيلين وهذا رأيي في هؤلاء الفنانين.!!
أنا ما بعترف بالشعر الغنائي الحديث فكيف أقلده.؟!
- البداية والأغنية الحديثة:
* قلت للشاعر علي المساح: يا عم علي متى بدأت كتابة الشعر.؟!
- قال: بدأت الشعر في عام 1918م.
* طيب ما رأيك في الأغنية الحديثة.؟!
- قال: شعرها مش ولابد، إلا إن اللحن جيد والموسيقى ممتازة.. بس ليس فيها كلمات.
- أغنية الحقيبة:
* قلت له: طبعاً بعض الفنانين الحديثين هاجموا أغاني الحقيبة فما رأيك في هذا.؟!
- أجاب: ما في شك كلمات أغاني الحقيبة ممتازة، والدليل على هذا أنها لا تزال تحتفظ بحلاوتها بين الأغاني الحديثة، كما إن كبار الفنانين بدأوا يتغنون بها.
* وأيه رأيك في إدخال الموسيقى الحديثة على أغاني الحقيبة.؟!
- قال: إدخال الموسيقى الحديثة على أغانينا يزيد من حلاوتها وجمالها.
- الكاشف:
* ما هو رأيك في الفنان الكاشف.؟!
- من الفنانين الذين عاصروا الجيلين وأستطيع أن أميزه بأن إختياره للأغاني جيد.
- الطيب عبدالله:
* ما رأيك في الفنان الطيب عبد الله.؟!
- الطيب عبدالله الفنان الأول والأخير.
* طيب ليه.؟!
- صراحة أول مرة أسمع موسيقى منسجمة مع أغاني الحقيبة وده دليل كبير على أنه فنان ماهر متمكن فغناه لأغنية (أندب حظي).. و(هلالي).. جعلني أعيش الماضي.
- محمد وردي:
* قلت له: ما رأيك في محمد وردي.؟!
- قال: صوت جميل وموسيقى حسنة وأداء جيد.
- إسماعيل حسن:
* طيب ما هو رأيك في شعر إسماعيل حسن.؟!
- قال: مش بطال.
* ما هو رأيك في الفنان محمد مسكين.؟!
- له مستقبله إن عمل لهذا المستقبل.
- محمد الأمين:
* قلت له: ما رأيك في الفنان محمد الأمين.؟!
- قال: أغانيه مش بطالة، بس موسيقى أغنية (العيون النوركن)، مش ملائم لها، إلا إن الأداء جيد.
- قصة أغنية:
* قلت له: حدثنا عن ذكريات الماضي.؟!
- (الشاغلين فؤادي).. هذه الأغنية نظمتها عندما رحلت المحبوبة من مدني.. وقد كانت تلك الأيام من أصعب أيامي في الحب ونفس الوقت قلت لها أغنية (أنت بدر السما).
- شعر الغزل:
* قلت له: وفي شعر الغزل ماذا قلت.؟!
- قال: لم أفكر أبداً.
* ولماذا.؟!
- أجاب: عوامل السن لا تلائم الغزل.. هل تفتكر أحب مرة تانية وأنا في هذه السن.
* قلت له: طيب يا عم علي لو جاءك شاب في سني ووصف لك محبوبته.. في هذا الشكل سمراء قصيرة القامة.. شعرها يتدلى على صدرها.. عيونها ساحرة.. ومخلصة في حبها.. وغابت عن الحبيب بسبب السفر.. تقدر تؤلف له أغنية.؟!
- قال: ممكن جداً.. بس أوعى تكون ليك إنت.؟!
- أغنيات لم تغن:
* سألته: هل لديك أغنيات لم تغن.؟!
- قال: نعم عندي حوالي (13) قصيدة.
* قلت: ولماذا لم تغن.؟!
- أجاب: طبعاً ما ممكن أمشي لأقول لأي فنان هاك.. إلا أنني لا أمانع أن أعطي أي فنان من أغنياتي إذا طلب مني.
* هل حاولت التلحين.؟!
- لا.
- بث الأغنيات:
* متى بدأ بث أغنياتك في الإذاعة.؟!
- بعد شهور من إفتتاحها.
- أول أغنية:
* ما هي أول أغنية قمت بتأليفها.؟!
- أغنية بتقول:
للقادت الهضليم يا خلاي أنا
وأهون لي ربي الليلة
يا خلاي أنا.
وغناها الفنان الطيب الإنجليزي عام 1920م.. بالطمبور ثم غنى لي الفنان عبد الغفار الماحي بالطمبور أيضاً.
- عوض الجاك:
* ما رأيك في الفنان عوض الجاك.؟!
- عوض الجاك ممتاز.. وفي طريقه للشهرة لو سلطت عليه الأضواء.
- الشعر الحديث:
قلت للعم علي المساح: طيب ممكن تؤلف أغاني حديثة كأغاني فناني اليوم.؟!
- قال: الشعر الغنائي الحديث أنا ما معترف بي فكيف أجاريه.؟!
- أحرج موقف وود الرضي:
* قلت له: أحرج موقف مر بك مع حبيبة.؟!
- قال: كان عام 1921م.. عندما سافرت محبوبتي من مدني للخرطوم.. قمت ألفت لها أغنية وكانت عبارة عن رحلة القطار من مدني للخرطوم وهي تقول:
حليل آسيا يا حليل آسيا
آسيا في البنات راسية..
حتى إن الشاعر ود الرضي جاراها وقام بتأليف من (الاسكلا وحلا).
- أمنيتي الفنية:
* وما هي أمنيتك في الفن.؟!
- أتمنى للفن التقدم والإزدهار في كل المجالات من أغاني وموسيقى حتى نلحق بالركب العالمي.