مدني مدينة الزهور والجمال النائم بين الغياب والحضور-سيرة ذاتية لمدينة وطفل_
مدني مدينة الجمال النائم... سيرة ذاتية
--------------------------------------------------------------------------------
فيها ولدت في اواخر خريف في حي المزاد ثم تنقلت مع اسرتي بين احياء البيان و114ومايو ، من ثم غادرتها مرغما بسبب ظروف عملي وظللت اتنقل في المدائن وذلك الجمال النائم [SIZE="6"]يستوطن قلبي وحده ويحتله فلا اعرف لنفسي هوية غيرها او حبيبة . ظلت تسكنني حتي بعد ان كففت عن سكناها . ظلت ذكرياتي وحياتي التي عشتها في ازقتها وحواريها هي المك:mad:ون الرئيسي لشخصيتي وهي الوقود الدافع عندما تقبل الخطوب وتدلهم الدروب.
ودمدني مدينة صغيرة تكاد تكون قرية كبيرة لكنها اجمل المدن بذلك الجمال الساحر الذي يستوطنها
ليس جمال مباني او حجارة صماء او جمال طبيعة بكر وهو جمال موجود بها
ولكن الذي يميزها حقا هو جمال قلوب اهلها
ذلك النزوع الخلاق نحو التلاقح والتواصل
تلك الروح الملهمة والمبدعة لشعبها المحب الذي خرج من صلبه الشعراء والمطربين ونجوم الساحرة المستديرة والعلماء والرسامين والكتاب والنقاد والمسرحيين والاعلاميين..
.. الطفولة في مدني لوحة بهية يحتل الخريف وبروقه ورعوده وامطاره الكثيرة والفراش الملون القسم الاكبرفيها
فالخريف هو عنوان الاضداد في مدني هو جالب الفرح وهو جالب الحزن حينا حيث لاتقوي البيوت الصغيرة علي احتماله فتجد اهلها في حالة صراع دائم مع الخريف ومع ذلك فهو احب الفصول اليهم.
خضنا في وحل الخريف في ارض طينية زلقة اطفالا وسبحنا في مياه الترعة التي تشق حي 114رغم محاذير الاهل من البلهارسيا وشرورها... عملنا في النفير السنوي لمجابهة الخريف فكنا نعمل بروح فريق واحد في شق الجداول الصغيرة لتصريف المياه ورفع ادوار التراب فوق رؤوس البيوت... كان ذلك فعلا طوعيا متكررا لايستأذن اهل مدني احدا فيه ولا ينتظرون جهد حكومة بل يباشرونه بانفسهم.[/SIZE]
حي( 114) الساحر وآمنة بنت وهب الجميلة
حي( 114) الساحر وآمنة بنت وهب الجميلة
عشت واسرتي سنوات عزيزة من العمر بحي 114 او الكمبو كما يحلو لقاطنيه تسميته وهو حي يقع في القسم الجنوبي من مدني الذي يضم احياء المزاد وشندي فوق والبحوث والحلة الجديدة و114 والدرجة الاولي والثانية والسكة حديد ومن معالم هذا الجزء هيئة البحوث الزراعية والنادي الاهلي والسوق الجديد والقسم الجنوبي وميدان الاهلي وميدان الدفاع وهو ميدان الرابطة الجنوبية اقوي روابط الناشئين بمدني وميدان التضامن وميدان الشهداء وسوق المزاد وسوق الدرجةوالادارة المركزية للكهرباء والمياه ومحطة السكة حديد والمؤسسة الفرعية للحفريات وورشتها الضخمة ومجموعة ضخمة من المدارس الابتدائية والثانوية العامة والعليا ابرزها مدرستي السني ومدني الثانوية العليا بنين ومدني الثانوية بنات والليثي العامة والجزيرة ابوبكر وغيرها .يقع حي 114 في الوسط بين الحلة الجديدة والدرجة وتفصله محطة السكة حديد عن الجزء الشمالي من المدينة ويقع استاد مدني قريبا منه حيث يسمع السكان هدير الانصار داخل البيوت في المباريات الكبيرة.وهناك عدة روايات حول سبب التسمية فمن قائل ان البيوت عددها 114 واخر يقول انه يقع في الكيلو 114 من مشروع الجزيرة ومن قائل انه سمي تيمنا بعدد سور القرآن ولكن اقوي الروايات هي الخاصة بالكيلو 114 . جاءت امي الي مدني عروسا صغيرة مخضبة الايدي بالحنة من ابوهشيم حاضرة الرباطاب الصغيرة واستقرت الاسرة في البدء بحي المزاد حيث ولدت ثم انتقلت فيه نفسه الي منزل اخر ومن ثم انتقلت الي حي البيان بالقرب من محطة تلفزيون الجزيرة ومنه انتقلنا ذات خريف الي حي 114 الذي اقمنا فيه سبعة عشر عاما بالتمام والكمال منذ يوليو 1973 حتي العام 1990 الذي انتقلنا فيه الي اول منزل مملوك للاسرة في حي مايو مع انطلاقة منافسات كأس العالم الذي شاهدناه في ذلك المنزل الفسيح. كانت ايامنا في 114 احلي ايام حياتنا وكانت امي(آمنة بنت وهب) أمية لكنها ذات لسان عربي فصيح ينظم الكلمات شعرا كما يحتسي المرء كوبا من الماء بلا تفكير مسبق، كانت جميلة الملامح بشلوخ عريضة ووجه مكتسي بصفرة بلون الذهب اللامع وأناقة بسيطة لا ادري من اين جاءت بها وهي التي لم تر قبل ودمدني سوي ابوهشيم الغارقة في الظلام ولكنها أناقة الروح التي تطغي وتختم الوجه والشخصية بطابعها، كنا اسرة محدودة الموارد كبيرة العدد وكان ابي عاملا صغيرا مكافحا ووحيدا فقد عرف اليتم باكرا حين رحل ابوه وهو في العاشرة وترك له أما واخوات يتمسكن به تمسك الغريق بقشة فعرف العمل صغيرا واكتفي من التعليم بأوله وفك الخط والقراءة فقط وصار مراكبيا ينقل الناس بين الضفتين في ابو هشيم بمركب دوم صغيرة من ثم عرف الهجرة حتي اقصي الشرق طلبا للرزق فبلغ تسني في بلاد الحبشة مزارعا وعاملا ثم استقر به المطاف بارض الجزيرة اخيرا عاملا بالمؤسسة الفرعية للحفريات متدرجا من اسفل السلم حتي بات سائقا لكراكة يعمل علي ظهرها سحابة النهار في اراض بكر شقا للترع والقنوات الخاصة بما عرف آنذاك بمشاريع التنمية في كل بقاع الوطن الكبير: الرهد ، كنانة، ابو نعامة، الكناف، مشاريع الشمالية، خشم القربة، امتداد المناقل، الجنيد......الخ.لذلك كان اغلب وقت ابي غائبا في طلب الرزق وكانت امي كغيرها من نساء ذلك الحي الفريد مطلوبا منها القيام بدور الاب والام في زمن لم تكن الحياة فيه سهلة ميسورة. كان الرغيف كسرة تعاس مرتين في اليوم علي الاقل وكانت النار توقد بالحطب والفحم وليس الغاز وكانت القراصة والفطير اشياء ثابتة في مائدة البيوت صباحا ومساء، ومع ذلك كانت أمي سعيدة وكانت السعادة تتقافز من بيتنا الصغير الي الشوارع كاللبلاب وكانت أمي وسط تلك البهجة اشهي وجبة حب ومحبة نتقاسمها ذكورا وإناثا في ذلك البيت الصغير ذي الغرفتين المسقوفتين بالزنك وتميزها شبابيك مغطاة بالنملي ومطلة علي الشارع .عشنا في حي نادر بتركيبته الاجتماعية الفريدة فجميع السكان هم اسر عمال ينتمون لوزارة الري ومؤسساتهاولهم ذات قصة الهجرة والكفاح والرحيل الي البعيد والغياب القسري عن الاسرة. وكان الحي عبارة عن سودان مصغر تجد فيه الشايقية حديثي القدوم من منابعهم الاصلية بلهجتهم المسكونة بالحنين والمحنة والرافضة للانحناء امام سطوة المدن الثقافية وتجد فيهالقادمين من اقصي جبال النوبة بسحنتهم الافريقية وانفتاحهم الجميل علي الاخرين وعشقهم للالوان الجريئة وتجد فيه الدناقلة برطانتهم الغامضة وطيبتهم الظاهرة واشجار النخيل والليمون التي تتبعهم اينما حلوا وتجد الجعليين وبخاصة القادمين من جهات الدامر الذين تتبعهم اشجار الحنة الخضراء التي انتشرت بفضلهم في كل الحي وصارت علامة مميزة له حيث تجد في كل بيت صفا من اشجار الحنة وتجد فيه الرباطاب وجوالات البلح الحاضرة في كل عام بعد الحصاد وهي ميزة كل القادمين من الشمال لكن الرباطاب تميزوا بذلك البلح اللذيذ(المشرق) او العجوة عند اهل الصعيد وتميزوا بصنعة السعف الذي يأتي البيوت ابيضا جافا يكاد ان يتكسر فيخرج منها علي أيدي النسوة المبدعات قففا وبروشا وسجاجيد صلاة(مصلايات) جميلة طيعة لينة تغزو سوق المدينة وتعود بالنقود علي الصانعات وكانت تلك هي حرفة الحبوبات القادمة معهن من هنالك حيث الجذور وهي سلاح لمحاربة الاعتماد علي الاخرين ووسيلة لحفظ الكبرياء وكسب الرزق ومناسبة للونسة حول فناجين الجبنة والتسامر سمرا يبدد وحشة النهار ويستعدن به جزءا من معالم قيزان رملية وقري وادعة تركنها وراءهن وجئن لاجل الاولاد والبنات المهاجرين الي الصعيد. كنت محظوظا اذ كانت لدي جدتين مجيدتين لهذه الحرفة ولفن الحكي او الحجا( من حجوة: اي قصة) وقرض الشعر طازجا كالحليب فأحالتا طفولتي( في ذلك البيت الصغير الذي لم تدخله لمبة نايلون الا حين صرت كبيرا) الي وهج مضئ من الحكايات ترن بأذني كلما دنت ساعة النوم وتستدرجني بعيدا الي فضاءات ساحرة، واتذكر نسج( بت الحاج) الجميل للسعف وابتسامتها التي يغور معها خدها النحيل الي الداخل وتلتمع عيونها الصغيرة داخل النظارة ذات العدسات الكبيرة والاطار الاسود... كنت انتظر بفارغ الصبر انتهاء عملها كي ارافقها الي رحلة كانت تكريني بالنقود كي ارافقها فيها منتظرا بيع البضاعة بسوق السعافة لأنال حظي من نقود لامعات يذبن سريعا ويغبن في جوف الدكاكين كما تذوب تلك الحلوي التي اشتريها بهن في فمي ويجئني صوت بت الحاج:
النوم ... النوم.. النوم .. بكريك بالدوم
النوم النوم : النوم تعال
النوم تعال سكت الجهال
واشعر انني اتأرجح فوق مهد مصنوع من الازهار وثمة اياد رقيقة تهدهدني حتي انام. كانت بت الحاج جدتي ام امي وكانت بت خادم الله جدتي لابي وكانت الاخيرة طويلة كنخلة بيضاء اللون فضية الشعرجميلة الوجه رغم انها ضريرة الا انها كانت قادرة علي انبات اجنحة من الخيال جعلتني احلق بها عاليا خارج حدود الغرفة الصغيرة ومجلسي عند قدميها ورأيتني فارسا علي ظهر جواد طائر فوق الغابات والاشجار مردفا الجميلة خلف ظهره.كانت أمي مليكة متوجة علي جلسات الانس البرئيةحول الجبنة بضحكتها الخافتة الوقورة وابتسامتها المضئية ومحبتها الظاهرة للناس اهتماما واحتفاءا بهم وسؤالا وتفقدا لهم عند الغياب وكانت محبة لبيتها ولصاحب البيت الغائب غصبا عنه وكانت ايامه القليلة التي يقضيها بيننا اول كل شهر عيدا لها ولنا ينتهي سريعا بعد ان يحمل ابي ادوات اغترابه الذي يدوم حتي نهاية الشهر وكانت ادواته لحما مجففا(شرموط) وبامية جافة مسحونة(ويكة) ودقيق ذرةلصناعة الكسرة وسكرا وزيتا وشايا وسعوطا يعكف علي اعداده بنفسه فحيث يذهب لايوجد صعوط.كان الخبثاء يسمون اولاد 114( اولاد الرفاهية) والرفاهية المقصود بها تلك الايام القلائل اول كل شهر التي يأتي فيها الغائبون الي اسرهم بالنقود ومؤونة الشهر ويذللوا خلالها المشاكل الاخري بما في ذلك حلاقة رؤوس الاولاد وخياطة الملابس الجديدة وشراء الاحتياجات المدرسية. كانت الامهات في ذلك الحي وذلك الزمان يتحملن مسؤولية ادارة شؤون الاسر حتي عودة الاباء ويقمن باعباء يومية كثيرة، وكنت اراقب أمي وهي تعمل بهمة في تكسير حطب العواسة بالفأس واراها وهي تقطع اللحم وتورق (الخدرة) وتبدأ في فرمها بالفرامة علي صينية الالمونيوم حتي تصير عجينةخضراء صغيرة وهي تنشد في مدح الرسول بصوت خافت وتمازحني بمحبة بالاسم الاثير لديها( ابو الصلح) وأراها عصرا وهي تكنس الحوش كل يوم وتنظفه بدقة وترش الماء علي( الفرناغة)
اي المكان الذي به تراب قد يثير غبارا.كنت أشفق عليها من اعبائها الكثيرة فأتقدم وآخذ الفأس منها لكي اكسر الحطب وتنهال ضرباتي علي الارض فتشوهها ولاتنال من الحطب شئيا فتضحك أمي وتأخذ الفأس مني وتباشر العمل بنفسها وتطلب مني التركيز في القراءة بلهجة ودودة لاسخرية ولاتضجر فيها. ثم تهئ مجلس القهوة وتأخذ زينتها كعادتها فهي تكن في احسن صورة وبلا تكلف سواء كانت خارجة ام بالبيت.عاشت عمرها كله متدثرة بالمحبة وداعية لها واتذكر الان رحلة الحج الاخيرة قبل رحيلها باقل من الشهرين وتلك الدهشة المرتسمة علي وجهها وهي تنظر الي الطائفين بالكعبة من عل وقولها بصوت مخنوق باك: (قادر الله... قادر الله.. دي كلها أمة سيدنا محمد؟قادر الله) ثم سالت دموع صامتة علي خدها واخذت في الدعاء والتضرع مترحمة بدءا علي امها ومتحسرة علي انها لم تقف مثلها هذا الموقف وذهبت دون ان تبل شوقها لزيارة الكعبة والمدينة المنورة. كان ذلك في نهاية العام 2004 وفي اول 2005 عدنا وفي الرابع عشر من مارس 2005 رحلت آمنة بنت وهب في امدرمان في صمت عن دنيانا بعيدا عن مدني الاثيرة لديها وكنت انا بعيدا عنها اذ شاءت الاقدار ان افارقها مساء الثلاثاء في ليلة اجتمع فيها شملنا بعد غياب طويل كنا حاضرين جميعا بمنزل محمد اخي الاكبر حتي احمد الذي غاب في ابوظبي منذ الثمانينات كان حاضرا هو واسرته وكنت حاضرا وكانت اخواتي حاضرات جميعهن بمعية الاحفاد الذين ملأوا البيت ضجيجا وكان ابي حاضرا كان الغائب الوحيد اخي عماد المقيم بالسعودية.. كانت جالسة في المنتصف ترنو بشرود الينا جميعا وكأن افقا بعيدا ترآئ لها فكانت صامتة علي غير العادة ومتعبة. ودعتها واستأذنتها ان يكون وداعي من هنا لانني لن اتمكن من الحضور اليها قبل سفري بعد الغد ولم اكن ادري انه الوداع الاخير. سافرت بالخميس الي الفاشر لعمل وجاءني نعيها فجر الاحد كالصاعقة. وغابت أمنة الجميلة وبقيت روحها الملهمة تمشي في الارض بين الاحياء........................................... .................................................. .....
[/color]
(انتصار )الملاك الذي عاد من حيث جاء
(انتصار )الملاك الذي عاد من حيث جاء
[COLOR="darkorange"]كنت احدثكم عن امي... عن رحلتها من الريف الي المدينة وعن كفاحها لتربيتنا في ظل الغياب الجبري لابي عن الدار بسبب طبيعة عمله... كنا خمسة اولاد ذكور وثلاث بنات وكنت اوسط السلسلة حيث جئت بعد ولدين وبنت ثم جاءت بعدي بنت وبعدها ولدين وكانت هناك حبة صغيرة قد انفرطت من العقد قبلان تفارق مهجع الطفولة كان اسمها انتصار وهي اختي التي جاءت قبل اخر العنقود ولكن عيونها الصغيرة الجميلة وجسدها الغض لم يقويا علي الانتصار علي حمي الملاريا التي داهمتها قبل ان يقوي عودها فظلت تبكي وترتعش وتلفظ لبن امي من جوفها علي الشراشف البيضاء التي كانت تزينها حتي رحلت كالشهقة... كشمس داهمها غيم فاطفأ نورها قبل حلول اجل المغيب.. رحلت انتصار وهي بالكاد تقف عند اعتاب عامهاالثاني....رحلت ملاكا صغيرا جاء من السماء كبرق لمع بسرعة وذهب قبل ان نتبينه ولم يعد.... ذهبت وكنت طفلا غريرا ينظر في دهشة لطقوس الرحيل دون ان يفهم شيئاسوي الخوف مما يؤلمها ... كانت اول جرح ادمي القلب ... اسماها ابي انتصارالكنها لم تنتصر فمشيئة المولي لا ترد..حملها اخي احمد بين ذراعيه وانهمرت الدموع كسيل مندفع وظل يذكرها ويبحث لها عن حياة لم تكتمل وبعد سنين عديدة حين تزوج اسمي بنته البكر انتصارا وبكي وبقيت انتصاره تمشي دون ان تدري قصة تسميتها لربما ذات يوماحكي لها او يحكي لها ابيها قصة الملاك الذي طار بعيدا وارتحل... قلت لامي بعد عدةايام ( اين انتصار ؟ هل صحيح انها لن تعود؟)
بكت امي ومسحت دمعها بثوبها وضمتني الي صدرها كأنهاتخاف ان افلت منها ثم مسحت علي شعري بيدهاوقالت لي: (انتصار عادت ملاكا كما جاءت يا ابو الصلح واذا كنت طيبا مثلها ستراهاهناك؟)
فتحت فمي لاسألهاعن(هناك) لكنها نهضت مسرعةمغلقة باب الحوار وغابت في جوف المطبخ الوسيع ذي الارضيةالترابية والشبابيك الخشبية التي بهت لونها من توالي الامطار عليها... حين لحقت بهاهناك ارسلتني لشراء شئ ما من الدكان القريب بعبارة قاطعة اعتادت استخدامها حين تريداغلاق باب الاسئلة ، نظرت اليها فاشاحت بوجهها عني فبدت لي حزينة وباكية فندمت علي سؤالي الذي سألت والذي لم اسأله ونظرت الي قطعة النقود المعدنية في يدي كأنني اراهاللمرة الاولي وركضت خارجا كالقذيفة لكنني لم اذهب الي الدكان بل تسلقت الجدار الي مخبأ طفولتي باعلي رأس البيت اي السقف وبقيت هناك طويلا.بعد ذلك بعام او عامين جاءت سهام بهية كالقمرهبة من السماء وغابت ملامح انتصار في زحام الحياة لكنها بقيت بمكانما ومازلت ابحث عن الطريق اليها والي امي .
*********************[/COLOR]
الدرادر ذلك المهرجان الذي اختفي
[ size="5"][b"]الدرادر ذلك المهرجان الذي اختفي[/color][/b][/size]
طفلا صغير ا كنت حين رأيتهم علي الرؤوس قرون بقر والصدر والظهر عاريان يلتمعان كبرق في ليلة ممطرة والريش فوق الرأس والعقود الملونة من الخرز ومن السيور البلاستيكية حول العنق وحول الايدي وذلك الشئ المثبت حول الوسط بحزام لاتعرفه رداء ام ازارا ام انه محض زينة تكتمل بها لوحة الالوان الباهرة المحيطة بذلك القوام الابنوسي اللامع... في الارجل مجموعة من الفيش تجلجل كخلخال في اقدام حسناء جميلة تتثني في مرقص امام الناظرين....كان ذلك هو المشهد الاول في حلقة المصارعة الشهيرة التي تنعقد يوميا عصرا في منطقة الدرادرويتجمع الناس من كل صوب ليشهدوها يشدهم فضول تعززه تلك الصافرة الراقصة الي تنادي الناس للمشاهدة وتكون حكما بين المتصارعين فيما عرف في ذلك الجزء من مدينة مدني بصراع النوبة.. كان مشهدا احتل الصدارة في ايام طفولتنا وذكرياتها مقترنا بمشهد اخر كان عاديا وقتها لككننا نذكره بصورة موجعة ونحاول محوه من الذاكرة .. كان ذلك مشهد هؤلاء المصارعون الموفوري الكرامة في حلبة النزال وهم يجولون المدينة حاملين علي الرؤوس قاذورات المدينة وهم يغنون ونحن نركض من امامهم خوفا بعد ان نعايرهم بالعمل الوحيد الذي كان متاحا لهم في المدينة... كلما ذكرت ذلك المشهدوقرنته بصيحات الأب فيليب عباس غبوش في باحة الجامعةحول معاملة المجتمع لاهله شعرت بشئ من العاروودت لو اني استطعت محو المشهد من ذاكرتي كما مسحه التطور من امام اعين الاجيال الجديدة...اتذكر الحلقة المتسعة واستمتاع الحاضرين بذلك الصراع الجميل الذي يستعيد به اهله بعض ما تركوا خلفهم من مباهج وكرامة في مراتع الصبا البعيدة ويبددون به قسوة المدينة واهلها عليهم... بعد ذلك بسنوات حين انمحي ذلك الحي الصغير من خارطة المدينة قسرا واختفي اهله كأنهم لم يكونوا واختفت عربات البلديةالتي كانوا يتعلقون بها ويركضون خلفها بخطواتهم القوية.. اختفوا غابوا في الزحام ولم يعرف احد اين ذهبوا ولم يشغل احد نفسه بالسؤال وحدي كنت اتذكرهم وافتقد ذلك المهرجان الجميل الذي كانوا يقيمونه في الهواء الطلق في كل يوم وافتقد صوت صافراتهم الجميلة... يا مدينتي الجميلة لم فرطت في ذلك المهرجان ؟
لم قسوت علي اجمل القادمين اليك وتركت المكان هامدا بعد ان كان يضج بالحياة؟[/color][/size]
وجه من ودمدني الاخري(الموجعة)
وجه من ودمدني الاخري(الموجعة)
لم تكن جذوره من مدني، لكنه برز في حواريها وازقتها وشوارعها وصار نجما لامعا في مجال هو عصب الحياة في المدينة التي تتنفس رياضةوتعشق المهرجانات والبطولات وساحات كرة القدم البكر التي يمارسها ناشئة واعدين... كان(ع. ق) بسمته الوسيم وشعره الكثيف كما كانت الموضة في ذلك الزمان اقرب الي الزنوج الذين نراهم في السينما في افلام شافت وسيدني بواتيه ، كان من القيادات الشبابية التي قدمتها حكومة مايوووضعت بين ايديها ادارة النشاط الشبابي وعلي وجه الخصوص نشاط روابط الناشئين فكان هو والاستاذ محمد الامين قادة محنكين لذلك النشاط المزدهر الفريدالذي كان ركيزة اساسية لنهضة مدني الكروية الباهرة في الثمانينات التي استمرت حتي مطلع التسعينات ثم بدأت الرياضة في مدني الموت البطئ المستمر حتي الان..كان الرجل رياضيا فذا واداريا فريدا شهدت له ملاعب الروابط في مدني وذلك المكتب الصغير في مركز الشباب الواقع بعد محطة السكة حديد مباشرة بحضور دائم ونشاط وافر لم يمنعه منه عمله الحكومي كمفتش تموين نشط.
كان كل اطفال مدني وشبابها يعرفونه ويعرفون الموتر الذي كان يستقله في تنقله وكان محبوبا من الجميع.
كانت نهايته فاجعة شكلت وعينا المبكر فذات صباح خريفي جاء بعد ليلة ماطرة كثيرة العواصف والرعودذهبنا خائضين الي مدرستنا الواقعة بحي الدرجة لهونا واقبلت الظهيرة حاملة النبأ: في ذلك المنزل القريب من مدرستنا جاءت عربة الشرطة وسري همس بان(ع.ق) وجد مقتولا في غرفته الخاصة في ذلك البيت الصغير في اطراف المدينة في ذلك الحي الارستقراطي العتيق، كانت تلك اول مرة نسمع فيها بكلمة قتل واول مرة تطوف في رؤوسنا الصغيرة صورة انسان قتيل، سمعنا روايات عديدة واقتربنا بخوف من المكان الذي شهد المأساة.. شاهدنا كلاب الشرطة تتشمم المكان وهي في ايدي مدربيها...راجت في المدينة قصص كثيرة ولم يمط اللثام عما حدث في ذلك البيت الذي كان المرحوم يقطنه وحيدا في تلك الليلة الماطرة ولكن المؤكد ان الرعد كان شاهدا وان السماء بكت بدموع غزيرة رجلا طيبا اعطي مجتمعه بلا حدود وجعلنا موته الفاجع نتساءل: ( كان طيبا .... لم يقتلونه؟؟؟)
وحين كبرنا ادركنا ان الطيبون وحدهم هم الذين يقتلون
ويعانون......... ايتها المدينةلم نامت عينك في تلك الليلة؟لم تمنعي الجريمة؟ام تراك اكتفيت بدمع السماء الذي سال الليل كله وقسما من الصباح؟
اللهم ارحمه رحمة واسعة واغفر له فوالله ماعرفناه سوي صورة مشرقة احتلت مكانا في طفولتنا وصبانا..