كانوا يضحكون ، حين سمعوا الزين يشتم بأعلى صوته : " الراجل الباطل ، الحمار الدكر " . ووصل عندهم . فوقف برهة فوقهم. ساقاه منفرجتان ، ويداه على خصره كان نصفه الأعلى كله في الضوء ولاحظوا أن عينيه محمرتان أكثر من إحمرارهما الطبيعي قال الطاهر الرواسي : " واقف فوقنا مالك داير تشرب دمنا ؟ يا تقعد يا تغور " . وقال أحمد إسماعيل : " لازم الزين سكران الليلة " . وقال عبد الحفيظ : " اقعد خد لك نفس " . وقال حمد ود الريس : " قالوا الليلة كت في حوش العمدة . شن مشيث تكوس ؟ البث وعرسوها ، تاني شن داير ؟ " وأمسك الزين السيجاره من عبد الحفيظ وجلس صامتا وأخذ ينفخ فيها بغيظ . ضحك الطاهر الرواسي وقال له : " مو كيدي يا مرمد . عامل نفسك فنجري ومتعلهم السيجارة ماك عارف تشريها جرها لي ورا ، أي كدي .. زي كأنك تمص فيها " ونجح الزين في جذب الدخان إلى فمه فلفث منه غمامة كبيرة ، وقفت ساكنه برهة ثم ذابت في خيوط دقيقة ، بعضها نجا نحو الضوء والآخر اختلط مع سواد الليل في الجانب المظلم وجاء بدوي من عرب القوز يقصد الدكان ونص رطل شاي " . وقال أحمد إسماعيل : " العرب ديل كل قروشين مودرنها في السكر والشاي " . وهنا صاح الزين بسعيد : " خلي المره تعمل شاي مضبوط باللبن . يكون مضبوط " . ثم نادى من شباك يصل بين المتجر والدار خلفه : " اعملوا قوام شاي ثقيل باللبن للزعيم " وانتعش الزين . فقال برمح : " أنا راجل راجل في البلد دي ولا لا ؟ " فقال له الطاهر : " طبعا " . " طيب ليه الحمار الدكر ويروح لي عمي ويقول له الزين مش راجل بتاع عرس ؟ " وقال محجوب : " الداهي بقي افرنجي . وين عرفت الفصاحة دي ؟ مش راجل بتاع عرس ؟ " وقال ود الريس : " الإمام غاير منك . داير المره لي رقبته " . فقال الزين :" بت عمي ولا لا ؟ يروح يشوف له بت عم " . قال له محجوب بحزم : " العقد يوم الخميس الجايي : يعد دا ما فيش طرطشة ورقيص وكلام فاضي . سمعت ولا لا ؟
سكت الزين :
وسأله الطاهر الرواسي : " منو القال لك ؟ " فقال الزين " هي نفسها كلمتني " .
كان محجوب ممدا رجليه على الرمل ، متكئا على ذراعيه فلما سمع هذا ، تشنج جسمه كأن أحدا قرصه ، واستوى جالسا : " هي بنفسها كلمتك ؟ " اي . جاتني الصباح بدري في بيتنا . وقالت لي قدام مي : يوم الخميس يعقدوا لك على . أنا و أنت نبقي راجل ومره نسكن سوا . ونعيش سوا " . وارتفع صوت محجوب من فرط حماسته . وقال في إعجاب ليس له حد . " على باليمين مره تملأ العين طلاق . بت ما ليها أخت " . وجاء سعيد يحمل الشاي فقال له محجوب : " سمعت الكلام دا ؟ البت مشت كلمته بنفسها " . فقال سعيد : " بت عنيدة رأسها قوي ربنا يستر " صمت الباقون برهة ولكن محجوب ضرب فخذه براحة يده عدة مرات وقال هو يتلفت يمينا وشمالا بحماسة وانفعال : " يمين الزين ماش يعرس له بتا تمشيه فوق العجين ما يلخبطه " .
وشرب الزين الشاي في صخب كعادته ، يمص الشاي مصا له زئير وفجأة وضع الكوب من يده ثم ضحك وقال في سرور : " الحنين قال في قدامكن كلكم : باكر تعرس أحسن بت في البلد " . ثم انفجر بزغرودة عظيمة كزغاريد النساء في العرس ، وصاح بأعلى صوته :" أروك يا ناس الغريق يا أهل البلد ، الزين مكتول . كتلته نعمة بنت الحاج إبراهيم " وصمت بعد ذلك فلم يفه بكلمة . ولم يلبثوا أن سمعوا صوت سيف الدين ( انتصارا آخر للإمام ) يؤذن لصلاة العشاء فسرت فيهم حركة خفيفة جدا . تنحنح محجوب وحرك أحمد إسماعيل أصابع قدمه بطريقة لا شعورية ، وتنهد عبد الحفيظ ، ومال الطاهر الرواسي إلى الوراء قليلا ، قال سعيد : " أشهد ألا ه إلا الله " وراء المؤذن بصوت خافت ، ونفخ حمد ود الريس في رمل لا وجود له من يده ولما انتهى الآذان وسمعوا صوت الإمام ينادي في صحن المسجد : " الصلاة الصلاة " قام كل واحد منهم إلى بيته ليحضر عشاءه وكما يصلي الناس جماعة في المسجد ، سيتعشون هم مجتمعين جالسين في دائرة حول صحون الطعام ، يرف عليهم ضوء المصباح الكبير المعلق في متجر سعيد . يأكلون بنهم ، شأن الرجال الذين تعرق جباههم من الجهد سحابة يومهم ، يأكلون الدجاج المحمر والملوخية بالمرق . والبامية المصنوعة في الطاجن في كل ليلة يذبح أحدهم إما شاة صغيرة وإما حملا . ويغدو عليهم أطفالهم بمزيد من الأكل ينزل الصحن مليئا وما يلبث أن يرتد فارغا هذا الوقت من الليل هو قمة يومهم : لمثل هذا تعمل زوجاتهم من طلوع الشمس إلى غروبها . يأتيهم المرق في صحون عميقة واللحم المحمر في صحون بيضاوية واسعة يأكلون الأرز وخبزا سميكا من القمح ، وفطائر رقيقة تصنع على صاجات ملساء من الحديد ، يأكلون السمك واللحم والخصار ، والبصل والفجل لا يبالون ماذا يأكلون . حينئذ تتوتر عضلاتهم ، ويصبح حديثهم حادا مبتورا ، يتحدثون وأفواههم ملأى . ويأكلون في صخب . تسمع صرير أسنانهم وهي تمضغ الطعام . وإذا شربوا قرقرت حلوقهم بالماء يتكرعون بأصوات عالية ويمصمصون بشفاههم . وحين ترتد الأواني فارغة ، يؤتى بالشاي ، فيملأون أكوابهم ، ويشعل كل واحد منهم سيجارة ، ويمد رجليه ويسترخي في جلسته . يكون الناس قد فرغوا من صلاة العشاء يتحدثون في هدوء وقناعة ولعلهم حينئذ يشعرون ذلك الشعور الدافئ المطمئن . الذي يحسه المصلون وهم يقفون صفا خلف الإمام . كتفا بكتف ينظرون إلى نقطة بعيدة غامضة تلتقي عندها صلواتهم . في هذا الوقت تخف الحدة في عيني محجوب . وهما سارحتان في الخط الضئيل الباهت الذي ينتهي عند ضوء المصباح ويبدأ الظلام ؟ ) يعمق صمته وقتذاك ، وإذا سأله أحد أصدقائه فلا يسمع ولا يرد . هذا هو الوقت الذي يقول فيه ود الريس . فجأة جملة واحدة كأنها حجر يقع في بركة : " الله حي " ، ويميل أحمد إسماعيل برأسه قليلا ناحية النهر ، كأنه يستمع إلى صوت يأتيه من هناك . في مثل هذا الوقت أيضا يطقطق عبد الحفيظ أصابعه في صمت ، ويتنهد الطاهر الرواسي ملء صدره ويقول : " روح يا زمان وتعال يا زمان " . هل يحسون حينئذ أنهم يزدادون قربا من تلك النقطة ؟ أم تراهم يدركون أن النقطة الغامضة الصامته في الوسط ، أمر تنتهي الحياة ولا ينتهي إليها المرءايوى ... ايوى ... ايوى ... ايويا " .أول من زغردت أم الزين . كانت فرحة لأسباب عدة . فرحة فرح الأم الغريزي لزواج ابنها . تلك مرحلة حاسمة ، وكل أم تقول لابنها : " اشتهي أن أفرح بزواجك قبل أن أموت " . وكانت أم الزين تحس أن حياتها تنحدر للغروب . ثم إن الزين كان ابنها الوحيد . بل كان كل ما أنجبت ، ولم يكن كبقية الناس فخافت أن تموت ولا يجد من يرعاه . فهذا الزواج أراح بالها ، وزواج الزين مناسبة تسترد فيها هداياها لأهل البلد في زواج أبنائهم وبناتهم . وكان الناس أحيانا يتعجبون وهم يرونها تسارع بدفع ربع الجنيه ونصف الجنيه في الأعراس ، لأية غاية ؟ " هل تظن أنها سترده في عرس الزين ؟ فكان عرس الزين مناسبة قطعت ألسنة الشامتين والزين لن يتزوج امرأة من عامة الناس ، ولكنه سيتزوج نعمة بنت الحاج إبراهيم ، وناهيك بهذا دليلا على كرم الأصل ، والفضل ، والجاه والحسب ، ستدخل ذلك البيت الكبير المبني من الطوب الأحمر ( فليس كل بيوت البلد من الطوب الأحمر ) ، تدخل مرفوعة الرأس ثابتة الخطوة . سيقومون لها إذا دخلت ، ويوصلونها للباب إذا خرجت ويعودونها كل يوم إذا مرضت . ستقضي الأيام الباقية في حياتها في فراش وثير من الرعاية والحب . ولعل القدر يمهلها فتحمل حفيدها أو حفيدتها في حضنها . تزغرد أم الزين ، وتتوارد هذه الخواطر في ذهنها فتشتد زغاريدها . وزغرد معها جيرانها وأحبائها ، وأهلها وعشيرتها . لكن كيف حدثت المعجزة ؟ اختلفت الأقاويل ، قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة ، وكأنها تغيظها بمزيد من أنباء عرس الزين ، أن نعمة رأت الحنين في منامها فقال لها " عرسي الزين . التعرس الزين ما بتندم " . وأصبحت الفتاة فحدثت أباها وأمها ، فأجمعوا على الأمر ، وهزت آمنة رأسها وقالت : " كلام " وزعم الطريفي لزملائه في المدرسة أن نعمة وجدت الزين في حشد من النساء . يغازلهن ويعبثن به . فحدجتهن بنظرة صارمة وقالت لهن . " باكر كلكن تأكلن وتشربن في عرسه " . وخرجت من وقتها فقالت لأبيها وأمها ، فوافقا على ذلك . وروى عبد الصمد للناس في السوق . أن الزين هو الذي طلب الزواج من نعمة . وأنه صادفها في الطريق فقال لها : " بت عمر " تعرسيني ؟ " فقالت نعم . وأنه هو الذي ذهب إلى عمه وكلمه في الأمر فقبل الرجل إلا أن المرجح أن الذي حدث غير هذا ، وأن نعمة بما فيها من عناد واستقلال في الرأي ، وربما يوازع الشفقة على الزين ، أو تحت تأثير القيام بتضحية ، وهو أمر منسجم مع طبيعتها ، قررت أن تتزوج الزين ، ويرجح أن معركة عنيفة دارت في بيت حاج إبراهيم بين الأب والأم في طرف ، والبنت في الطرف الآخر . كان أخواتها غائبين فكتبوا لهم . ويقال إن الأخوين الكبيرين رفضا البتة . وأن الأخ الأصغر قبل وقال في جوابه لأبيه : " أن نعمة كانت دائما عنيدة في رأيها . والآن وقد اختارت زوجها بنفسها فدعوها وشأنها " . خلاصة القول إن حاج إبراهيم أعلن النبأ فجأة . وكأن الناس كانوا يتوقعونه بعد حادث الحنين . الغريب أن أحدا لم يضحك أو يسخر ، ولكنهم هزوا رؤوسهم وزادت حيرتهم وهم ينظرون إلى الزين - ينظرون إليه فيتضخم في نظرهم وأهلها وحبانها وعشيرتها ، وكل من يتمنى لها الخير " أيوي أيوي أيوي أيويا " لو أن العرس لم يكن عرسه . لميز الزين صوت كل منهن في زغاريدها . هذه بت عبد الله ، صوتها عذب وصرختها قوية من كثرة ما زغردت في أعراس الآخرين . ظلت عانسا عمرها فلم تتزوج . لكنا كانت تفرح لأفراح كل أحد في الحي . أجواج أجوج أجوج أجوجا " . هذه سلامة ، كانت جميلة ، وكانت تنطق الياء هكذا وكانت مرهفة الحس ، لم يسعدها جمالها ، فتزوجت وطلقت وطلقت وتزوجت ولم تستقر مع رجل ولم تنجب أولادا ، حلوة الحديث ، مهزارة لها مع الزين قصص وحكايات ، تزغرد لأنها تحب الحياة . أيوي أيوي أيويا " هذه آمنة تزغرد من شدة غيظها . ( هل تذكر آمنة وكيف أرادت البنت لابنها فقالوا لها البنت قاصر لم تصر للزواج ؟ ) أوو .. اوو ... اووا " . هذه عشمانة الطرشاء قلبها الأصم عربد بالحب في عرس الزين . ثم اشتعلت شعلة من الزغاريد في دار حاج إبراهيم . قرابة مائتي صوت . انطلقت مرة واحدة فارتجت نوافذ الدار . وتزغرد أم الزين فيرد عليها النساء ، وتسمع زغاريدهن فتزغرد من جديد . لم تبق امرأة لم تزغرد في عرس الزين . وماج الحي من أركانه ، وامتلأت الدور بالوافدين ، لم يبق بيت إلا أنزلوا فيه جماعة من القوم ، دار حاج إبراهيم على سعتها ، امتلأت ، ودور كل من محجوب ، وعبد الحفيظ وسعيد ، وأحمد إسماعيل ، والطاهر الرواسي وحمد ود الريس . دار الناظر ، ودار العمدة وبيت القاضي الشرعي . وقال شيخ علي لحاج عبد الصمد : " عرس زي دا الله خلقني ما شفت زيه " وقال حاج عبد الصمد : " على بالطلاق الزين عرس عرس صح مو كدب " . جرى الإمام مراسم الزواج في المسجد . ناب حاج إبراهيم عن ابنته . وناب محجوب عن الزين . ولما تم العقد . قام محجوب ، ووضع المهر على صحن ، حتى يراه كل أحد مائة جنيه ذهبا ، وهي من حر مال حاج إبراهيم . ووقف الإمام بعد ذلك ، وأدار عينيه في الرجال المجتمعين ( كانت أم الزين المرأة الوحيدة بينهم ) وقال إن الجميع يعلمون أنه عارض هذا الزواج ، أما وأن الله شاء له أن يتم فهو يسأله سبحانه وتعالى أن يجعله زواجا سعيدا مباركا . التفت الناس إلى الزين ولكنه كان مطرقا . وقال محجوب لعبد الحفيظ بصوت خافت : " ايه لزوم ذكر المعارضة والكلام الفارغ ؟" وعجبوا حين رأوا الإمام يمشي نحو الزين ويضع يده على كتفه ، فالتفت إليه الزين بشيء من الدهشة . أمسك الإمام يده وشد عليها بقوة ، وقال بصوت متأثر : " مبروك . ربنا يجعله بيت مال وعيال " . تلفت الزين حوله ببلاهة ، ولكن أحمد إسماعيل نظر إليه نظرة صارمة فطأطأ برأسه . دمدم طبل النحاس الكبير وهدر ، يقولون أنه يتكلم . وقالت بت عبد الله لسلامة : " النحاس يقول : الزين عرس الزين عرس " . فزغردت سلامة بصوتها الحلو . تقاطر على الحقل عرب القوز . يتسابقون على جمالهم ، فاستقبلهم الطاهر الرواسي وأنزلهم في إحدى الدور ، وأمر لهم بالطعام والشراب . وجاء فريق الطلحة عن بكرة أبيه - على رأي المثل - فتصدى لهم أحمد إسماعيل وأنزلهم ، ربط دوابهم وجاء لها بالعلف ، ثم أمر لهم بالطعام فطعموا وشربوا . وجاء الناس من بحري وجاء الناس من قبلي . .
جاؤوا عبر النيل بالمراكب ، وجاؤوا من أطراف البلد ، بالخيول والحمير والسيارات ، فأنزلوهم زمرا زمرا . في كل بيت طائفة ، يقوم على خدمتهم أفراد العصابة ، فهذا يومهم : يعدون لكل شيء عدته لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة لن يمسوا طعاما . ولن يذوقوا شرابا ، حتى يأكل ويشرب الناس . زغرودة منفردة ثم مجموعة زغاريد ، ثم طبل وحيد يهمهم ، ثم طبول كثيرة لأصواته أصداء . لوح الرجال بأيديهم وهزوا بالعصي والسيوف . وأطلق العمدة من بندقيته خمس طلقات . وقالت آمنة لسعدية : " الأمة دي إن شاء الله تقدروا تكفوها " . ولم تقل سعدية شيئا . نحرت الإبل ، وذبحت الثيران . ووكئت قطعان من الضأن على جنوبها . كل أحد جاء أكل حتى شبع وشرب حتى أرتوى . وكان الزين يبدو مثل الديك ، لا بل أجمل ، مثل الطاووس ، ألبسوه قفطانا من الحرير الأبيض ومنطقوه بحزام أخضر ، وعلى ذلك كله عباءة من المخمل الأزرق ، فضفاضة يملأها الهواء فكأنها شراع , وعلى رأسه عمامة كبيرة تميل قليلا إلى الإمام ، وفي يده سوط طويل من جلد التمساح . وفي اصبعه خاتم من الذهب ، يتوهج في ضوء الشمس نهارا ويلمع تحت وهج المصابيح بالليل ، له فص من الياقوت ، في هيئة رأس الثعبان ، كان منتشيا دون شرب من الضجة الكبيرة التي تضج حوله . يبتسم ويضحك يدخل ويخرج بين الناس يهز بالسوط ، ويقفز في الهواء يربت على كتف هذا ، ويجر هذا من يده ، ويحث هذا على الأكل ، ويحلف على هذا بالطلاق أن يشرب ، وقال له محجوب :" دحين أصبحت بني آدم ، حلفتك بالطلاق يا دوب أصبح ليها مغنى " . جاء تجار البلد وموظفوها ووجهاؤها وأعيانها . وحضر أيضا الحلب المرابطون في الغابة . جيء بأحسن المغنيات وأحسن الراقصات ، ضاربات الدف وعازفي الطنابير وأخذت فطومة ، وكانت أشهر مغنية غربي النيل تشدو بصوتها المثير :
انطق يا لسان جيب المديح أقداح الزين الظريف خلا البلد أفراح
وجرجروا الزين وأدخلوه عنوة حلبة الرقص . فهز بسوطه فوق المغنية ووضع على جبهتها ورقة جنيه ، وتفجرت الزغاريد مثل الينابيع . اجتمعت النقائض تلك الأيام . جواري الواحة غنيين ورقصن تحت سمع الإمام وبصره . كان المشايخ يرتلون القرآن في بيت ، والجواري يرقصن ويغنين في بيت المداحون يقرعون الطار في بيت ، والشبان يسكرون في بيت ، كان فرحا كأنه مجموعة أفراح . وكانت أم الزين ترقص مع الراقصين ، وتنشد مع المنشدين ، تقف هنيهة تستمع للقرآن ، ثم تهرول خارجة إلى حيث يطهى الطعام تحث النساء على العمل ، وتجري من مكان إلى مكان وهي تنادي : " أبشروا بالخير ، أبشروا بالخير " . وقالت حليمة ، بائعة اللبن ، تغيظ آمنة : " أريته يا يم عرس السرور " . نقرت " الدلاليك " نقرات نشيطة متحفزة دقات الدليب وغنت فطومة
التمر البيمرق بدري سارق نومي شاغل فكري
وقف الرجال في دائرة كبيرة تحيط بفتاة ترقص في الوسط ، ثوبها انحدر عن رأسها ، وصدرها بارز للأمام ، ونهداها نافران . ترقص كما تمشي الأوزة . ذراعاها إلى جانبيها تحركهما في تناسق مع رأسها وصدرها ورجليها ، ويصفق الرجال ويضربون الأرض بأرجلهم ، ويحمحمون بحلوقهم ، وتضيق الدائرة على الفتاة ، فترمي شعرها الممشط المعطر على وجه أحدهم ، ثم تتسع الدائرة . وتتماوج الزغاريد ، ويشتد التصفيق ، ويقوى وقع الأرجل على الأرض ، ويخرج الغناء سلسا ملحنا من حلق فطومة :
الزول السكونة فشابي طول اليل عليه بشابي
وانتشى إبراهيم ود طه من الغناء فصاح : " آه . قولي كمان الله يرضى عليك " . رقصت عشمانة الطرشاء . وصفق موسى الأعرح ، ولم تلبث دقات الدلاليك أن أبطأت وأصبح لها أزير مكتوم ، هذه نقرات الجابودي . وقويت حمحمة الرجال في حلوقهم ، ودخلت سلامة حلبة الرقص ، صالت وجالت ، وهي تزهو تختال مثل المهرة . كانت خير من يرقص الجابودي . وكان لها معجبون كثيرون ، ترقبها عيونهم فتنفلت منه كالسمكة في الماء . كثفت حلقة الرقص ، واشتد التصفيف . وهدرت أصوات الرجال ، ودخل الزين الحلبة ، دخل من تلقاء نفسه هذه المرة . طويلا فوق سلامة ، فلطمته بشعرها الطويل المنهدل فوق كتفيها ، وغمزته بعينها . وكان الإمام جالسا مع جماعة ، في ديوان حاج إبراهيم الذي يشرف على فناء الدار ، فحانت منه التفاته ، ووقعت عينه على سلامة وهي منهمكة في رقصها ، ورأى صدرها البارز ، ورأى كفلها الكبير ، حين تضرب برجلها يهتز ويترجرج منقسما إلى شقين كأنهما نصفا بطيخة ، بينهما واد هبط فيه الثوب ، وكانت سلامة في رقصها قد انثنت حتى أصبح جسمها في شكل دائرة . فمس شعرها الأرض ، وزاد بروز صدرها ، ونتوء كفلها ، ورأى الإمام ساقها اليمنى وجزءا من فخذها الممتلئ .وقد رفع عنه الثوب . وحين عاد الإمام بوجهه إلى محدثه . كانت عيناه مريدين مثل الماء العكر . اييييييويا " . هذه حليمة بائعة اللبن ، تزغرد طعما في خير تناله من أهل العرس ، وتحولت دقات الدلاليك إلى العرضة . دقتان سريعتان وأخرى منفردة . وأخذ الرجال يرمحون بأقدامهم كما تخب الخيل . وتقاطر عرب القوز على حلبة الرقص ، فتواثبوا وتصايحوا وطرقعوا بأسواطهم . رجال قصار القامات مشدود العضلات ، أجسامهم ريانة ندية في مثل لون الأرض لأنهم يعيشون على لبن الإبل ولحم الغزلان يلبس الواحد منهم ثوبا يريطه في وسطه ويلقي طرفيه على كتفيه . إذا قفز في الهواء لمع جسمه في ضوء الشمس ، يلبسون في أرجلهم أخفافا وفي ذراع كل منهم سكين في غمده . وتختلط أصوات الراقصين وضربات الدلاليك بدقات الطار ونشيد المداحين في البيت المجاور . هناك ممسك بالطار أحدهما الكورتاوي وعميد المداحين . كان يقول :
نعم العبا وروح بي سهل الفريش شاف
العلم لوح زار جد الحسين "
وتدمع أعين الناس ، وبعضهم يجهش بالبكاء ، خاصة الذين حجوا وزاروا مكة والمدينة والأماكن التي يصفها المادح .
ويمضي الرجل يهرج ، في صوت له بحة اشتهر بها :
" نعم العبا وحاد :
بي سهل القريش شاف العلم نادى
زار جد الحسين
فرشو له الزبيب والتين والحبحب
كاسات من حميا قالوا له هاك اشرب
زار جد الحسين "
وتختلط زغاريد النساء في حلقة المديح بزغاريد النساء في حلبة الرقص ، وأحيانا يهاجر فريق من حلبة الرقص إلى حلقة المديح . هناك تتحرك أرجلهم ويثور حماسهم ، وهنا تدمع أعينهم ، كذلك يتحول فريق من حلقة المديح إلى حلبة الرقص ، يهاجرون من الشوق إلى الصخب .
وفجأة تنبه محجوب .
أين الزين ؟
كان مشغولا كبقية عصابته بتنظيم الفرح . فاختفى الزين عن عينه .
سأل عنه كلا من الباقين ، فقالوا أن أحدا منهم لم يره منذ قرابة ساعتين . وقال عبد الحفيظ أنه يذكر أنه رآه آخر مرة يستمع للمداحين .
بدأوا يبحثون عنه . دون أن يحس أحد ، مخافة أن يقلق الباقون . لم يجدوه مع الحشد المجتمع مع الإمام في الديوان الكبير ، ولم يكن في حلقة المديح ، ولم يكن مع أي من جماعات الرقص المتناثرة في البيوت . دخلوا المطابخ حيث النسوة يزحفن أمام الأفران والقدور ، فلم يكن الزين هناك .
حينئذ أصابهم الذعر ، فإن الزين قد يفعل أي شيء ، قد ينسى أمر زواجه . ويختفي كعادته .
وتفرقوا يبحثون عنه . فلم يتركوا موضعا . بعضهم ضرب في الصحراء قبالة الحي , وبعضهم ذهب ناحية الحقول ، حتى ضفة النيل دخلوا البيوت بيتا بيتا تفرسوا تحت جذع كل نخلة وكل شجرة .
لم يبق إلا المسجد . لكن الزين لم يدخل المسجد في حياته ، كان الوقت أوائل الليل ، كثيف مظلم . وكان المسجد ساكنا خاويا ، قد تسرب الضوء من مصابيح العرس خلال نوافذه . في خطوط مستطيلة من النور ، انعكس بعضها على السجاجيد ، وبعضها على السقف ، وبعضها على المحراب وقفوا ينصتون فلم يسمعوا حسا ، إلا . أصوات العرس تتناهى بهم ونادوا باسمه وبحثوا في أركان المسجد وفي ردهاته فلم يجدوا الزين . وفقدوا الأمل . لا بد أنه هرب . لكن إلى أين والبلد كلها مجتمعة عندهم . وبغتة خطر خاطر في ذهن محجوب ، فصاح : " المقبرة " . لم يصدقوا ، ماذا يفعل في المقبرة في ذلك الوقت من الليل ؟ لكن محجوب سار أمامهم فتبعوه ساروا صامتين وراء محجوب بين القبور ، تتناهى بهم أصوات الغناء والزغاريد عالية واضحة ، ثم خافتة بعيدة . كان المكان بلقعا ، إلا من شجيرات السلم والسيال التي تناثرت بين المقابر ، وامتلأت الثغرات بين فروعها بالظلام فبدت كأنها سفن في لجة ، وفي الوسط بدا الضريح الكبير غامضا مخيفا , وفجأة وقف محجوب وقال لهم : " اسمعوا " لم يسمعوا شيئا أول الأمر ، فأرهفوا آذانهم ، فإذا بنشيج خافت يتناهى بهم . سار محجوب ، وساروا وراءه . حتى وقف فوق شبح جاثم عند قبر الحنين ، وقال محجوب : " الزين . الجابك هنا شنو؟ " لم يرد ولكن بكاءه اشتد حتى أصبح شهيقا حادا . وقفوا وقتا يراقبونه في حيرة ثم قال الزين في صوت متقطع ، يتخلله النحيب : " أبونا الحنين إن كان ما مات كان حضر العرس " . ووضع محجوب يده على كتف الزين برفق وقال له : " الله يرحمه . كان راجل مبروك ، لكن الليلة ليلة عرسك . الراجل ما بيبكي ليلة عرسه يا ألله أرح " . وقام الزين وسار معهم . وصلوا الدار الكبيرة ، حيث أغلب الناس ، فاستقبلتهم الضجة ، وغشيت عيونهم أول وهلة من النور الساطع المنبعث من عشرات المصابيح ، كانت فطومة تغني ، والدلاليك تزمجر ، وفي الوسط فتاة ترقص ، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم . انفلت الزين ، وقفز قفزة عالية في الهواء فاستقر في وسط الدائرة . ولمع ضوء المصابيح على وجهه . فكان ما يزال مبللا بالدموع . صاح بأعلى صوته ويده مشهور فوق رأس الراقصة : " أبشروا بالخير ..أبشروا بالخير" وفار المكان ، فكأنه قدر تغلي . لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة . وكانت الدائرة تتسع وتضيق تتسع وتضيق ، والأصوات تغطس وتطفوا والطبول ترعد وتزمجر ، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة ، بقامته الطويلة وجسمه النحيل ، فكأنه صاري المركب .
كيف بس !!
المفضلات