الجزيرة...أرض الخير والمحنة..أم السودان وحاضنته الثقافية وحاضرتها مدني،مدينة الجمال التي يبدو أنه لم يعد لها من اسمها نصيب..بعد أن شاخت وتكالبت عليها الامراض، ففقدت نضارتها وفقدت توهجها وأصبحت عجوزاً تخلي عنها عشاقها..ونسيها أحبابها.. مدني التي تظهر عند زيارة السيِّدالرئيس وكأنها أمرأة أكثرت من الزينة مبرزةً جمالاً زائفاٍ ما أن تعرض للغسيل بانتهاء المراسم حتي تبخر مخلفاً تجاعيداً وندوبا..
مدني ياسادتي ذات طبيعة خاصة..ابرز مافيها أنها مثل نيلها..أوكما قال صديق المجتبي.. كالنيل حينما يثور ..فيبلل الضفاف بالهبات ..وتنعم البلاد. صاخبة..وهادئة..ومتفتحة .. ومتسامحة كما هو حال معظم المدن علي ضفاف النيل..وكحال حاضنتها وأمها الثكلي الجزيرة.. التي ألفت الآخر والتعايش معه، بل وأحياناً الاعتماد عليه.. وتلك رثائيةٌ أخري.. كانت مدني عروس الجزيرة فعلاً..فهي وضاءة وألقة ومشرقة بالجمال..لكن الايام دارت دورتها فانكشف المستور، وتفتحت العيوب مولِّدة حــــــزناً وألـــــمـاً وحـســــرة علي المدينة الجمــيلة..
الجزيرة وحاضرتها مدني..ضـحـيـة الـفـوضي..وثـكـلـي الـعـبـث.. وموؤودة سـوءالتخطيط
تماسكت زمناً وقاومت حيناً.. ثم أنهكها التعب فتساقطت متهالكة لتكشف عن عللٍ وأوجاع لا دوام للوقوف معها..أصبح سجل الجزيرة مليئاً بالنكسات..وتاريخها عبارة عن نكسات وارتكاسات..كــأنـما هي منحوسة فلا يستقيم فيها أمـر.. أو أنــهـا مــخـدوعــة فـلا يـصـيبها
إلا الــضــرر.
وما تزال الجزيرة تصطلي في قراها بحمي الملاريا..وتعصف بأبناء المناقل البلهارسيا،
وفي كل مرة يزداد الجرح ايلاما..وهي مهددة بأنواع جديدة من الاوبئة لضعف بنيتها وتهالك مناعتها..بعضها سرطانات..وأخري أمراض مستوطنة تتجمع وتتكاثر لتشكِّل كارثة بيئية..
الجزيرة ولاية الكانتونات العشوائية من كل دول الجوار التي أطبقت علي قراها..حتي فاقتها أحيانا سكانا ونسبة توالد.. الغارقة في المياه مقطعةً أوصالها..العطشي قراها.. المجدبة حقولها..تُجفف ترعها صيفاً لتشارك الماشية انسانها في مياه شربه....
لا عــرفت مـشروعها الــزراعـي مـيتاً فتلقت فيه العزاء..أو مقتولاً فقبلت فيه الــدية ، أو
طالبت بالقصاص..منذ أن غفت مؤسسة الري والحفريات فلم يعد هنلك فارقا بين الترعة وابوعشرين..الجزيرة الملئي بالتناقضات..المحتشدة بالعيوب..(تعليم-صحة-رياضة-خدمات-صناعة-بحوث)، لم يعد لها وجه واحد..بل وجوه كثيرة يكذِّب بعضها بعضا..ويحارب أحدها الآخر..وكل يوم يمر.. عليها ينقص من جمالها درجات ويزيد من بشاعتها طبقات..
أما مدني .. مدينة الجمال والثقافة..فقد نسيت نصفها الاول..وتسربلت في الثاني بثقافة الانزواء والانكسار ، حفاظا علي ما تبقي لها من ذكري عزٍ قديم راضية من الغنيمة بالاياب والبقاء علي قيد الحياة.. وإن قرأت لوحتها علي مدخلها ابـتـسم..فابتسم لوصولك سالما من طريقها مدني الخرطوم، طريق الموت..ثم ابتسم مرة أخري لانه في الغالب ستفارقك الابتسامة مرة اخري في شوارعها الملئي بالحفروالمطبات ذات الاتجاه الواحد في محاولة
يائسة لحل أزمة الازدحام، بدلا من شق الطرق الجديدة أو التوسعة للقديمة ولا أقول إبتكار
الأنفاق أو الكباري ولو للحظة.. كخطة بعيدة المدي..فذلك ترفٌ في التفكير.
مدني أصبح الجمال فيها ذكري..فهي لا تخرج من مشكلة إلا وتقع في أخري..ولان شر البلية مايضحك..فبعض بليتها في بعض ابنائها وقد غرهم سقمها وصمت فرّاسها، فأشانوا لها في العواصم البعيدة خارجها، وهي المدينة التي قامت علي القرآن وعلومه..وادّعوا مشيختها في داخلها..وما لهم من الفخر فيها إلا محاولتهم للتوأمة بينها وبين لاس فيغاس الامريكية عند كل خميس للقادمين في موسم الهجرة للجنوب..حتي ضلت بوصلة ولاتها الطريق لبيوت مشايخها ورواد نهضتها ورجالاتها العظماء وفق ما يحفظ تاريخها المقروء والمنقول..مشاكل مثل الفيروسات لا تموت ولكنها تكمن طويلا ثم تنتفض أقوي من كل مقاومة..
نعم لم تعد مدني تستمتع باسم مدني الجميلة أو عاصمة الثقافة..إذ لا صلة تجمعها به إلا الذكري الحزينة والمريرة والتذكير بالقبح..لم تعد مدني تثق بالوعود والاحلام..فما زادتها الا خيبة واحباطا.. انها المدينة التي يسكنها البعوض والوحل فتكره الماء والمطر،وهي ابنة النيل..وتتقي الجنادب فتخشي الضوء،وهي ربيبة النور.. وتؤمن بأنّ الصحة تاج،لانّ رأسها يخلو منه.. الجــــــــزيرة وحاضرتها مـــــدنـي.. كانت..ثــم أصــبـحـت أخـــبارا حزينة وتوشك أن تكون قصة منسية..ونواصل
نُشرت بجريدة الخرطوم.
المفضلات