الاخ ود ام تريبات تحية على هذا الموضوع الشائك والتحية لكل الاخوة اعضاء المنتدى الذين تناولوا هذا الامر
وودت تجاوز الامر الى الولوج الى الدراسات والاراء الموضوعية العلمية باعتبارها تقدم فهما متكاملا لهذا الموضوع المصيري من خلال طرح جزئية الوحدة من منظور ثقافي وهي دراسة قيمة وكم آسف ان تصرفت فيها بعض الشي باعتبارها طويلة جدا حاول فيها قدر المستطاع الاختصار حتى نتدارس جوانبها المختلفة وهي للدكتور. يوسف مختار الأمين بعنوان الموروث الثقافى السـوداني
تحديات الوحدة الوطنية والانتماء الإقليمي
يمر السودان منذ إعلان الدولة الوطنية الحديثة فى 1956 م. باضطرابات وأزمات سياسية واجتماعية تتصاعد وتيرتها مع تعقيدات الأوضاع الداخلية وارتباطاتها الإقليمية والعالمية. ويردُ المراقبون والباحثون فى أوضاع السودان ذلك الى عدة أسباب يلتقي معظمها فى طبيعة المجتمع السوداني العرقية والثقافية وإمكانياته الاقتصادية. ولعل أبرز هذه الأسباب ما يمكن وصفه بالمأزق الثقافى التاريخي والظرف الموضوعي الذى تكونت فيه الدولة. وهو وضع لم تتمكن النخب التى تعاقبت على إدارة البلاد من النظر فيه، ومن ثم مواجهته بفاعلية. وزاد الأمر تعقيدًا تعثر هذه النخب فى إنجاز القدر المطلوب من التنمية الشاملة وتأسيس نظام للحكم متفق عليه ويلبي طموحات الغالبية من أهل البلاد. وفى ظل أوضاع التخلف وتدهور مرتكزات الاقتصاد المعيشي الطبيعي وارتفاع معدلات النمو السكاني تتوسع تلقائياً بؤر الصراع الاثني والجهوي والثقافى. ويتجلى هذا الصراع فى تبني مواقف سياسية، وثقافية مغايرة للسائد وفى مواجهة السلطة المركزية بحمل السلاح وإذكاء حرب أهلية وصراعات قبلية تتفاقم أبعادها وآثارها يومًا بعد يوم. فالحرب الأهلية فى الجنوب ظلت مشتعلة منذ الاستقلال وأن استمرار هذه الأحوال بات يهدد الوحدة الوطنية ما لم يتم تدارك الأوضاع. ولا غرابة أن نجد اليوم أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية الحديثة تصف السودان بالدولة المضطربة التي فشل قادتها ومثقفوها بصورة متكررة من مواجهة القضايا المعقدة التي أعاقت تطورها Woodward,1989؛ منصور خالد: 1993.
قضايا الوحدة الوطنية ومعوقاتها المتمثلة فى الصراعات الاثنية والثقافية وذلك من مدخل الموروث الثقافى. وأقصد بالموروث الثقافى كل المنتج الثقافى المادي وغير المادي منذ أقدم العصور حتى الوقت الراهن باعتبار أنه المحيط الذى فيه تشكلّت الهُويَّة السودانية وفيه تتفاعل تحولاتها الدينامية. إن تناول قضية الوحدة الوطنية يمكن تناولها من منطلقات مختلفة بمناهج وأطر نظرية متنوعة. وما يهمني هنا، النظر فى إمكانية تحليل الأوضاع الحالية انطلاقاً من الموروث المادي الذى يشمل كل ما تركته لنا مجتمعات العصور القديمة من مخلفات أثرية و أهمية مراجعة التاريخ الثقافى السوداني (Culture History) منذ أقدم عصوره واستدعائه من أجل صوغ مفاهيم جديدة تشكل إطاراً موضوعياً لاستيعاب تعقيدات القضايا الملحة الآن فى السودان واقتراح حلول مناسبة لها. فالموروث الثقافى المادي يمكن الاستفادة منه إيجاباً كما حدث فى تجارب شعوب وبلدان أخرى فى تدعيم ركائز الوحدة الوطنية. ويتم ذلك بالبحث عن المشترك بين فئات المجتمع وإبراز ما يدعم مبادئ التسامح والسلم الاجتماعي خاصة فى حالات التعدد الاثني والثقافى فى البلد الواحد.
نخلص الى أن الموروث المادي القديم والتراثي هو الأكثر قابلية، ضمن مجالات أخرى للبحث فيه عن المشترك بين فئات المجتمع فى الماضي والحاضر ومن ثم تأويله لخدمة قضايا الهُويًّة والوحدة الوطنية.
يتساءل كثيرون لماذا العودة للتاريخ الثقافى البعيد عند طرح قضايا وأزمات ملحة تهم المجتمعات المعاصرة؟ أوليس ذلك انكفاءً واستغراقاً فى أمور غير مفيدة لمعالجة مشاكل الحاضر مثل الوحدة الوطنية والانتماء التي يبدو حلها كامناً فى ميدان السياسية؟ لقد ألمحت آنفًا الى دور الموروث الثقافى فى معرفة تكوين الأمم وتأصيلها والأسس التي تحكم الكثير من علاقات الأنظمة الاجتماعية والفكرية فيها. وتحفل أدبيات علم الآثار والتاريخ بالشواهد العملية لاستغلال المعرفة التاريخية إيجاباً أو سلباً فى تأسيس الكيانات الوطنية وتقدمها أو فى إضاعة حقوق تاريخية لمجموعات سكانية أو شعب بأكمله. ويتفق الجميع على أن حاضر الأمم يقوم على ماضيها بالرغم من صعوبة تحديد معالم ذلك الماضي البعيد أحيانًا ومشروعيته فى تشكيل الحاضر وبناء علاقاته الداخلية والخارجية.
واختم بأهمية تأويل الموروث الثقافى نظرياً واستغلاله فى تعريف الهُويَّات الثقافية التي تعبر عن نقطة الانطلاق فى تكوين الشرعية التي تقوم عليها الأمة والسلطة التى تدير شؤونها. والاستعانة بالموروث الثقافى فى تشكيل الحاضر يتوقف بالدرجة الأولى على الأيديولوجيا السائدة وعلى قدرة القوى الاجتماعية التي تتبناها.
حوارات الهُويَّة
كيف ينظر السودانيون الآن الى ذلك التاريخ الثقافى القديم؟ وكيف يقومونه خاصة عندما يتصل الأمر بالهُويَّة وتأصيل الشخصية الوطنية؟ فى ذلك يذهب عامة الناس وصفوتهم مذاهب شتى. فالتاريخ القديم بمعطياته الآثارية والحضارية لم يتسرب بدرجة كافية فى الأدبيات المنشورة العامة أو غير المتخصصة ولا فى مقررات التعليم العام. وقطاعات كبيرة من النخب المتعلمة تراه شيئاً بعيداً عن هموم حياتهم اليومية وربما لا يمت بصلة لأنسابهم المباشرة. وفى الكتابات الأكاديمية التي تتناول المجتمع والسياسة والثقافة يصادف المرء عادة رصداً لوقائع التاريخ القديم والوسيط يقدمه المؤلف كأمر ضروري تفرضه منهجية البحث. ويقصد به الكاتب عادة تأصيلاً تاريخياً لموضوع الدراسة دون توظيف تلك المعلومات فى تطوير أطروحة فكرية ما. والأمثلة الشائعة لإيراد ملخصات للموروث الثقافى نجدها عادة فى الدراسات التي تتناول هُويَّة السودان عربية هى أم أفريقية؟ أو تلك التى تنطلق من مبدأ خصوصية تكوين الثقافة السودانية والهُويَّة الوطنية. وهناك أيضاً من يتناول التنوع العرقي والثقافى السوداني فى إطار العلاقات الخارجية (أحمد محمد علي الحاكم،1990؛ عبد الهادي الصديق،1997؛ محجوب الباشا،1998). هذه أمثلة محدودة من الإصدارات الكثيرة حول هذه القضايا التى تصدرها مراكز الأبحاث والجامعات والأفراد، وذلك بصورة ملفتة منذ عقد التسعينات. وهى الفترة التي اشتد فيها وعي النخب السياسية والأكاديمية بأهمية الموروث الثقافى ودوره فى إيجاد حلول لمشاكل البلاد التي ظلت عالقة لأمد طويل. وقبل ذلك بكثير كانت قضية الثقافة السودانية والهُويَّة مطروحة فى حوارات تركزت حول جدلية العروبة والأفريقانية مع اتخاذها أشكالاً ومناحي متباينة. يرى أحد أبرز مؤرخي العرب والإسلام فى السودان أن تكوين الأمة السودانية بدأ فى الإطار الجغرافى الحالي للبلاد منذ بداية دولة كوش القديمة وما لحقها من حضارات فى العصر الوسيط ويرى أن السودانيين الحاليين يقلب فى تكوينهم العرقي العنصر الأفريقي كما أن عمليات التزاوج والانصهار مع العرب الوافدين أنتجت أجيالاً من المستعربين. ويمضي بالقول إن عروبة السودان بالمولد وباللغة والوجدان ولكن الهجين الماثل للعيان لا يجعل منهم عربًا خلصًا (يوسف فضل، 1988: 40-44). وفى مجال آخر يناقش انتشار اللغة العربية وثقافتها فى وسط البلاد واضمحلال نفوذها كلما ابتعدنا عن مركز الوسط حيث لا تزال اللغات الأفريقية المحلية رائجة تقاوم تيار التعريب مما يؤكد قوة الثقافة الأفريقية. ويقول "يبدو أن قلة من السودانيين قد أخطأوا عن جهل حينما تطرفوا فى المبالغة بانتسابهم للعرب دون سواهم ولعل فى هذا التطرف من جهة والتمسك بالحضارة الإسلامية العربية من جهة أخرى محاولة لإيجاد سند حضاري يتكئون عليه بعد أن هزم الاستعمار الإنجليزي ثورتهم المهدية واغتصب بلادهم وكاد أن يحتويهم بحضارته الأوروبية" (يوسف فضل، 1975: 21-22). مما لا شك فيه أن مثل هذا الرأي لا يبعد عن الواقع بل لا يعدم من يطوّره لاتخاذ مواقف أخرى.
وعند النظر للحوارات المبكرة حول الهوية السودانية وعلاقتها بالمكوّن التاريخي نجد تباينًا وغموضًا فى استخدام المصطلحات مثل "الهوية السودانية" و"القومية/ الوطنية" و"الشخصية السودانية". من الممكن رصد ثلاث ملاحظات عن الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع الأولى هى التركيز على الأدب السوداني العربي بخاصة الشعر العربي الفصيح والدارج ثم القصة والمقال باعتبار أنها الأوعية التي تحفظ الفكر السوداني وبالتالي تمثل المصدر الرئيس لمعرفة خصائص الهوية وأصول الثقافة. والأطروحة الأكثر رواجًا فى موضوع الهوية السودانية تقوم على مبدأ التمازج والانصهار بين القبائل العربية والسكان المحليين الذين استوعبتهم الثقافة العربية الإسلامية. وأول ما يلاحظ عليها أنها نادرًا ما تناقش عمليات التغيّر الثقافى ولا تطرح تفسيرًا موضوعيًا للتنوع فى مستويات التعريب أو الأسلمة للمجموعات الإثنية المحلية. يذكر الكثير من الكتاب عمليات مزج العنصر العربي مع الأفريقي وفق طريقة ميكانيكية تؤدي فى النهاية الى عنصر بيولوجي جديد يسمى "سوداني" وبعد ذلك تحدث معادلة أخرى، غير واضحة تمامًا، تربط بين البيولوجي والثقافى. فالثقافة الجديدة هى المعادل الطبيعي للعنصر السلالي الهجين. يقول أحد أصحاب هذا الرأي: "... ومن خلال هذا التلاقح ظهر الى الوجود مخلوق جديد هو السوداني الحديث، الذى لا يشكل دمًا عربياً خالصًا أو دمًا زنجيًا خالصًا، ولكنه بالتأكيد يجمع فى أنسجته بين ذينك النوعين من الدماء ويحمل فى دماغه نتاج الثقافة الأقوى والأكمل..." (محمد المكي إبراهيم، 1989: 12) وعن نفس عملية التمازج بين العرب الوافدين والسكان المحليين يقول آخر: "... ونتج عن كل هذا عنصر مميز فى شخصيته وثقافته وانتمائه. فهو عربي اللسان والثقافة، أفريقي التقاطيع، مزيج عرقي وسط يمكن أن نطلق عليه "عربي – أفريقي" "أفرو – أراب كما يقول الفرنجة" (عبدالغفار محمد أحمد 1987: 31). وهكذا فالسحنة أفريقية والثقافة عربية لأن تعريف الأخيرة هنا يقتصر على اللغة والدين ولا يلتفت الى عناصرها الأخرى (المادية) التي ربما تحمل رواسبًا من الثقافة الأفريقية المحلية.
وعلى الطرف الآخر، هناك من يرى وجود مجموعات عربية خالصة فى الشمال والوسط وأخرى أفريقية خالصة، مثل ما هو الحال فى جنوب البلاد لم تتأثر بالثقافة العربية ولم يحدث اختلاط بها وظلت خارج دائرة التأثير والتأثر الثقافى. واستمر جنوب البلاد بصفة عامة متميزًا اثنيًا وثقافياً كما يرى كثيرون Deng,2000: 8 ومع صحة هذا الرأي فى عموميته فهناك أيضًا ما يشير الى التداخل الثقافى منذ أمد بعيد كما ألمحنا لذلك عند مراجعة التاريخ القديم. إن الحديث عن الأجناس والأعراق وربطها بالثقافة أمر فى غاية التعقيد ولا يمكن تناوله بهذه البساطة. وفى حالة السودان لا يوجد حتى الآن دراسات كافية فى الأنثروبولوجيا الطبيعية تسمح بالخوض فى ربط جنس معين بثقافة معينة
استمر الفكر العربي/ الإسلامي الأكثر وضوحًا من غيره فى الحركة الأدبية التي عبر المتعلمون من السودانيين من خلالها عن هويتهم وتميزهم الثقافى. وفى الستينات من القرن المنصرم برزت حركات إقليمية، وفى العاصمة القومية تعبر عن طموحات ومطالب مجموعات اثنية وقبلية تتمثل فى حق الاعتراف بالاختلاف الثقافى والمساواة فى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وفى وقت وجيز تحوّلت الى منظمات مسيسة تناضل من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من مدخل الاختلاف والتنوّع الثقافى. ومن هؤلاء أو من يتفق معهم فى الرأي برز قادة للعمليات العسكرية ضد الحكومة المركزية فى الشرق وفى الغرب فى السنوات القليلة الماضية. وهكذا تحوّل حوار الهُويَّة الى صراع مسلح يهدد الوحدة الوطنية. ومن جهة أخرى ظهرت حركاتُ تمثل تيارات فكرية مختلفة فى تناولها لقضايا الثقافة والهوية الوطنية وقد عبرت هذه عن وجهات نظرها من خلال المسرح والشعر والمقال الصحفى والندوات..الخ وعلى الرغم من أن أعمال هذه المجموعات جاءت من منطلقات فكرية متباينة، ولم يجمعها إطار تنظيمي واحد، غير أنها فى جملتها تمثل بداية الأطروحة الثانية حول الثقافة السودانية.
قدم أصحاب الأطروحة الثانية موضوعاتهم وأفكارهم من خلال معالجة الأدب السوداني، تاريخه ومحتوياته واتجاهاته وأساليبه الفنية. كذلك ظهرت الآراء نفسها فى دراسات نقدية للفنون التشكيلية، تبحث فى موضوعاتها والينابيع التاريخية لتعبيراتها المختلفة. وقد تميّزت هذه الأعمال النقدية/ الأدبية بشيئين، الأول أنها ركزت على الأصول والصفات الأفريقية والمحلية للثقافة السودانية فى محاولة لجعلها ندًا للثقافة العربية أو متفوقة عليها مما أوجد ثنائية ربما هى غير ضرورية فى تناول موضوع شائك مثل الهوية الثقافية. والشيء الثاني أنها تطرح بقوة فكرة التنوع العرقي والثقافى فى السودان وتنادي بأحقية الأقليات فى إبراز هوياتها الثقافية كمدخل للتمتع بحقوقها الطبيعية. وذاعت فى وسائط الإعلام فى ذلك الوقت مصطلحات لم يتم تحديد معانيها بدقة مثل "الغابة والصحراء" والأقليات الهامشية أو المهمشة" والأفريقيانية" ودون المساس بحقوق تلك الأقليات أو الاعتراف بوجودها، على المرء أن يضع فى الاعتبار عمليات التغيّر والاختلاط التي أحدثتها التطورات الاقتصادية والتعليمية والإدارية الحديثة وسبل الاتصال فى الفترة التي أعقبت نشر المعلومات الأولية عن الكيانات الاثنية الصغيرة وثقافاتها. إذ ليس معروفًا على وجه اليقين ما حدث لتماسك الكيانات الصغيرة. ومن جانب آخر، على
عودًا على بدء
أشرنا الى أن قضايا الوحدة الوطنية وانتماءات السودان معقدة تتداخل فيها عوامل شتى منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإقليمي بيد أن العامل الثقافى يمثل فيها موقعًا مركزيًا. ومما لا شك فيه أن حوارات السودانيين حول الهُويَّة على ما فيها من غموض، لم تنته الى موقف فكري يلتف حوله معظم الناس ليتخذوه منطلقًا لحلول موضوعية لمشاكل البلاد العالقة منذ ما قبل الاستقلال.
وعندما حَصُل السودان على استقلاله من الحكم الأجنبي رسميًا فى 1956 م. كان انضمامه لجامعة الدول العربية أمرًا طبيعيًا لم يشكل عقبة أمام الطبقة السياسية التي قادت حركة المقاومة وشكلت الأحزاب الوطنية الفاعلة ومنظمات العمل المختلفة. كان غالبية هؤلاء القادة من طلائع الطبقة الوسطى التي نالت حظها من التعليم ونالت التدريب فى دواوين الحكومة وقد كانوا أصلاً ينحدرون من المجموعات السكانية ذات الأصول العربية. لقد ظلت معظم أقاليم السودان بعيدة عن التعليم الحديث لفترة طويلة بل أن بعضها ظل خارج مجريات الأحداث بفضل سياسات العزل التي فرضتها الإدارة الأجنبية. والمطّلع على التاريخ الرسمي لحركة الاستقلال يرى للوهلة الأولى توجهها العربي الإسلامي حيث كانت وثيقة الصلة بالحركة الوطنية المصرية على سبيل المثال. وكان خطاب حركة المقاومة للأجنبي عربيًا وإسلامياً، لغته العربية كما هى وسيلتُه فى الاتصال والإعلام، من خلال المقال والبيان الجماهيري والقصيدة الشعرية. نجحت القطاعات الشعبية ذات الأصول العربية فى التمدد اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا كما نجحت بدرجات متفاوتة فى استقطاب أو استصحاب القطاعات الأخرى من المجتمعات غير العربية. وبمرور الوقت ترسخ تيار العروبة والإسلام فى شكل "أيديولوجية" للنخب الطليعية يدعمها مكتسبات اقتصادية وإنتاج ثقافى يتمثل فى الكتابات التاريخية والاجتماعية ومناهج التعليم الرسمي والشعبي.
غالبية أهل السودان يدينون بالإسلام ويتحدثون العربية بالرغم من تنوعهم العرقي الواضح. وبمرور الوقت أصبحت الثقافة العربية تلقائيًا مجموعة من الرموز والمعتقدات الاجتماعية المتماسكة التي ينظر من خلالها الفرد السوداني للواقع الاجتماعي. واستمرت هذه العملية عبر قنوات المثاقفة والتعليم كما جرى أثناء ذلك تأطير المجتمع وفئاته على تلك الأسس. ومن دون تخطيط مسبق من النخب المسيطرة، أعاق ذلك التأطير فرص الأقليات التي لا تتوافق مع النموذج السائد، فى مجالات التطوير الذاتي، اقتصاديًا واجتماعيًا. وهكذا تكّون حاجز نفسي/ سلطوي يقف فى وجه أية مراجعة تهدف الى معالجات للشأن الداخلي يُظن أنها قد تمس جوهر الانتماء العربي الذى ترسخ تاريخيًا.
وفى التسعينات من القرن المنصرم تعقدت الأزمة السودانية وامتد النزاع ذو الصبغة الثقافية الى أقاليم أخرى غير جنوب البلاد حيث دخلت فيه مجموعات قبيلة مسلمة أصولها غير عربية. ليس من السهل إرجاع تفاقم هذه الأوضاع الى عوامل داخلية فحسب وإنما لأخرى خارجية أيضًا ذلك لأن معطيات النظام العالمي الجديد ليست ببعيدة عن مجريات الأمور فى السودان.
واليوم لا يختلف اثنان على محورية التنوع الثقافى والإثني فى السودان ولا على وجوب البحث عن حلول جذرية لمشاكل ظلت عالقة لسنوات طويلة. فأدبيات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني كلها تتفق على جوهر هذا الأمر ولكنها تختلف فى الحلول والمسالك المؤدية إليها. إن الجدل المستمر منذ سنوات صار صريحًا وجريئًا إذ تناول تفاصيل الأسس التي قام عليها المجتمع السوداني الحديث ولامس علاقاته الإقليمية فى الوقت نفسه. فمن جهة علاقات السودان العربية انتبه البعض الى أن الحوار الجاري الآن بين فئات المجتمع لم يشاركهم فيه الأخوة من المفكرين العرب بصورة ترقى لمستوى نسبة السودان للمنظومة العربية. فقد تُرك السودان لحاله وإن كانت هناك مشاركة فهى من منطلقات الأمن القومي العربي والمحافظة على السودان باعتباره "بوابة العرب الى إفريقيا" و"معبر الثقافة العربية..." الخ، وهى شعارات يصفها الكثيرون بأنها تبشيرية ضارة بمصير العلاقات الداخلية بين اثنيات السودان المختلفة، ناهيك عن كونها تعبر عن مفاهيم قديمة غير مناسبة حتى من منطلق الحرص على انتشار الثقافة العربية الإسلامية. فإنجاز الهدف الأخير فى وقتنا الحالي لا يحتاج لمعابر أو بوابات جغرافية ينتقل عبرها الأثر الثقافى. ويمضي هؤلاء الى أن عدم مشاركة العرب الإيجابية تعود الى هامشية عاشها السودان فى علاقته العربية منذ أمد. وتترسخ تلك الهامشية فى قلة الإلمام بخصوصية التكوين الاجتماعي للسودان كما أن المعطيات التاريخية والثقافية السودانية غير معروفة بدرجة كافية لأشقائه. وربما تعبر هذه الحالة عن نفسها بتلك المؤلفات التي كتبها السودانيون فى موضوعات شتى وبدت وكأنها مرافعات لإثبات عروبة السودان وثقافتهو عندما برزت على السطح فكرة المواطنة كأساس للتعايش ونيل الحقوق وليس الدين أو العرق، أو غيرهما. هذا هو المدخل المناسب لفك الارتباط بين العروبة واحتكار السلطة والثروة على رأي بعض من يدعمون هذا الاتجاه. وما يجري الآن من مفاوضات جريئة (3) بين كل الأطراف السودانية لا يخرج عن هذا الإطار ويبدو أن الكل يستعد لتقديم تنازلات تبدو تاريخية من أجل تأمين الوحدة الوطنية. وإن وصل الحوار القائم الآن الى غاياته المنشودة فسوف يكون للسودان وجه جديد تفرضه الظروف الموضوعية الداخلية وليس رغبات أفراد أو جهات أجنبية. والوضع الجديد المتوقع ينطلق من مراجعة مواقف الهُويَّات الثقافية التي صار لكل واحدة منها قراءة رسمية لتاريخها ظلت غير قابلة للمراجعة أو الاختراق لفترة طويلة. وعلى المستوى الداخلي فإن تاريخ البلاد على النحو الذى كتب به فى الغالب، ربما بسط سلطته المعنوية لمصلحة فئة من المجتمع دون أخريات لتستمد منه القوة والسلطة وتشكل من خلاله الحاضر. لا أود أن يأخذنا بعيدًا القول الشائع أن التاريخ يكتبه المنتصرون وفق ما يودون ولكن مساءلة التاريخ أمرُ ضروري يمليه علينا راهن الأوضاع فى السودان. إن إعادة قراءة التاريخ الثقافى بكامل عصوره لا بد أن يكون مقرونًا بمشروع الأبحاث الحقلية المستمرة آنفة الذكر خاصة فى تلك الأقاليم التي ليس لها تاريخ مدون. والمعلومات التي توفرها الآثار والمصادر التاريخية والتراث الشعبي هى المصدر الأساسي الذى يكشف لنا مستويات الاتصال والتأثير بين مختلف الإثنيات والأعراق فى البلاد ومن ثم إبراز المشترك بينها الذى يدعم أواصر الوحدة الثقافية ويعترف بالتنوع والخصوصية فى الوقت نفسه. ولتأمين هذه الأشياء لا تكفى فقط القرارات السياسية على كل حال.
ولكن الفهم المشترك للظروف التاريخية التي تشكلت فيها الثقافة السودانية يفتح الباب واسعاً أمام البناء الوطني والتماسك الاجتماعي. وذلك من منطلق أنها إحدى ركائز الشرعية التي تقوم عليها الدولة الوطنية .
اخوكم مرتضى يوسف العركي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة طيبة كغيث أصاب أرضا طيبة فأنبتت كلأ وعشبا كثيرا
المفضلات