="5"]قصة مشروع الجزيرة (1)[/size]
موقع المشروع:
يقع مشروع الجزيرة في تلك المنطقة التي أطلق عليها الجزيرة وهي المنطقة الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض والتي تبدأ من المقرن، حيث التقاء النيل الأزرق بالأبيض بالخرطوم، وتمتد جنوباً حتى خط السكة حديد الذي يخترق المسافة بينهما رابطاً بين مدينة سنار على النيل الأزرق ومدينة كوستي على النيل الأبيض. وهذه المنطقة عبارة عن سهل منبسط تبلغ مساحته حوالي خمسة ملايين فدان يمكن ري ثلاثة ملايين منها رياً مستديماً، وقد نجحت التجارب الزراعية التي أجرتها الشركة الزراعية في مطلع القرن العشرين في زراعة القطن بالجزيرة وحققت تلك التجارب إنتاجية عالية ودفعت تلك التجارب مع عوامل أخرى الحكومة البريطانية إلى ضمان منح قرض لحكومة السودان من أجل عمليات التمويل اللازمة للري والزراعة.
ومنذ البداية أحست الحكومة السودانية (الإدارة البريطانية) بالقلق الذي ظل يساور كبار المسؤولين من وضع الشركة وسيطرتها على المشروع ولذلك حرصوا على وضع أسس واضحة لعلاقات إنتاجية تنظم العائد المالي للمشروع وتحفظ لكل طرف من الأطراف حقوقه.
القطن: القطن في السودان عرف قبل الغزو التركي للبلاد فقد كان يزرع بمنطقة الدندر ويصدر منها للحبشة، ويزرع فقي مناطق متفرقة من السودان الأوسط للغزل (الدمور) للإنتاج والاستهلاك المحلي – إذ كان الدمور يستخدم كعملة في التبادل التجاري في الأسواق منذ العهد السناري. وبعد دخول الأتراك البلاد وتعرفهم على المنسوجات القطنية وصناعتها المحلية في منطقة شندي وبربر والدامر والتي تشتهر بصناعة ونساجة الدمور – وقد أبدى محمد علي باشا اهتماماً بالقطن وتوسيع زراعته فطلب من حاكم السودان آنذاك أن يرسل إلى القاهرة أنواعاً من البذور من أجل تجربتها وزراعتها في مصر وشهدت فترة الحكم التركي للسودان رغم الاضطرابات وعدم الاستقرار اهتماماً كبيراً في أمر زراعة القطن حيث جلبت من مصر أنواع من بذرة القطن من أجل تحسين نوعيته ورفع إنتاجيته من أجل تصديره إلى مصر.
وأجريت التجارب في دلتا القاش وطوكر ووجد اهتماماً عظيماً في تلك الحقبة وقد شكلت هذه الزراعة وتلك التجارب النظرة الأولى في زراعته والتوسع فيه مستقبلاً في فترة الحكم الثنائي بالسودان فيما بعد.
وفي فترة المهدية تلك الثورة التي قامت على أنقاض حكم أجنبي نتيجة ثورة شعبية فكانت دولة دينية مرتكزة على فكرة المهدي المنتظر وكان أبرز مجموعاتها القبائل الرعوية ذات التقاليد القتالية والجلابة الذين يشكلون طلائع وقادة تلك المجموعات حيث شكلوا القيادة الفعلية والإدارية للثورة المهدية وكانت الدولة المهدية ذات طابع عسكري، وقد فرض عليها فرضاً وبخاصة في سنواتها الأخيرة وأصبح جانب كبير من اقتصادها اقتصاد حرب وخلال فترة المهدية تعرض النشاط الزراعي لاضطراب كبير من جراء الحروب والمعارك والمواقع الحربية المتصلة أضف إلى ذلك الهجرات التي انتظمت معظم القبائل وخاصة في عهد الخليفة عبد الله خليفة الإمام المهدي حيث هاجرت قبائل رعوية نحو المدن وبخاصة البقعة (أمدرمان) وكان الإنتاج الزراعي في تلك الفترة موجهاً نحو سد حاجيات الناس من مأكل ومشرب ولذلك كان الإنتاج منصباً نحو الاستهلاك المحلي ولم يكن هناك اهتماماً جاداً بالمحصولات العالمية مثل الصمغ والقطن إلا في حدود ضيقة ولم تتوسع دولة المهدية في زراعة القطن بل اكتفت بالمساحات التي ورثتها من الحكم التركي في دلتا طوكر والقاش بشرق السودان وكان وقتها يروى طبيعياً والمساحات المزروعة بلغت بضعة مئات من الأفدنة وبعد محاصرة الثورة المهدية ومحاربتها وهزيمتها ودخول الجيوش البريطانية وبداية الحكم الثنائي بالبلاد وكان وقتها عدد السكان لا يتجاوز اثنين مليون نسمة في مطلع عام (1900م) وتدهورت تلك البنيات الأساسية: زراعة – تجارة – مواصلات – صحة – تعليم، بالإضافة إلى الفقر والأمراض والأوبئة التي تجتاح المواطنين. وقدر في ذلك الوقت الدخل القومي ب واحد وخمسين ألف جنية في العام وبلغ الصرف (185) ألف بعجز فاق المائة ألف وكانت الصورة قاتمة فبدأت الإدارة الجديدة تتلمس طريقها..
(2)
الهجرة إلى الجزيرة:-
منطقة الجزيرة كانت تحت سيطرة الدولة السنارية – مملكة الفونج الإسلامية (1505-1820م) وكانت تسكنها مجموعة من القبائل خليط من غير القبائل العربية – وكانت دولة الفونج دولة قوية اقتصادياً وسياسياً. فمن الناحية الاقتصادية كانت التجارة الخارجية والداخلية منتعشة، واعتنقت الأسرة الحاكمة الإسلام، مما أعطى دفعة قوية للنفوذ الإسلامي والعربي بالمنطقة ووقعت اتفاقية بين الفونج والعرب (العبدلاب) وتكون الحلف الفونجي العبدلابي، تلك الاتفاقية التي أبرمت في بداية القرن السابع عشر الميلادي، وأدى ذلك إلى نزوح بعض القبائل العربية واستقرارها بالمنطقة واستتب الأمن نسبياً مما أدى إلى انتعاش تلك المناطق وبظهور الحكم التركي المصري وسيطرته على البلاد إثر سقوط العاصمة سنار وتسليم آخر ملوك سنار إلى إسماعيل باشا ابن محمد علي باشا فكانت هذه نهاية الدولة الوطنية الإسلامية التي استطاعت السيطرة على البلاد طوال ثلاثة قرون.
ظهرت بعد ذلك منطقة الجزيرة كقلب نابض سياسياً واجتماعياً وأصبحت مركزاً هاماً للهجرة الداخلية الواسعة النطاق شملت قبائل ومجموعات من شمال السودان إلى سهول الجزيرة وتم انصهارهم وانسجامهم مع السكان المحليين وازدهرت الزراعة والتجارة وخاصة في مجال الزراعة حيث جاء أبناء الشمال بموروثهم الزراعي ومعداتهم وأدواتهم وتجاربهم الممتدة في المجال الزراعي. وفي عهد المهدية تواصلت الهجرات إلى منطقة الجزيرة وبخاصة من القبائل الرعوية وذلك بسبب سياسات التهجير التي اتبعها الخليفة عبد الله مع القبائل وبخاصة قبائل غرب السودان والتي وجدت نفسها مجبرة على الهجرة إما إلى أمدرمان أو إلى أرض الجزيرة حيث استقرت مجموعات من القبائل البدوية بسهول الجزيرة ووجدت المراعي والماء واستقرت مجموعات أخرى وأصبح بعضهم يعمل بالزراعة وتربية الحيوان وسرعان ما ازدهرت الأعمال التجارية ونشأت طائفة الجلابة التي امتهنت التجارة وكان لنشاطهم التجاري أثره على الحياة في المنطقة وازدهرت مدينة ودمدني كمركز تجاري هام ووصفت بأنها أهم مدينة على النيل الأزرق واحتلت مكان مدينة سنار وبلغ عدد سكانها حوالي خمسة عشر ألف نسمة وهم خليط من السكان المحليين والقبائل العربية والمجموعات الشمالية وعرفت أسواقهم الأسبوعية وهي أسواق المدن خليطاً من البضائع المحلية والأجنبية (الذرة والصمغ والمصنوعات التقليدية بجانب الأقمشة المستوردة والسكر والتبغ والعطور) وكان واضحاً أن حركة تحول قد حدثت في البلاد.
زراعة القطن:-
في بداية الحكم الثنائي (1900م) كتب يوست مشيراً إلى أن منطقة السودان منطقة صالحة لزراعة القطن، خاصة إذا تم تطوير وسائل النقل، وخطت الحكومة خطوات إيجابية حيث قامت في عام (1900م) باستيراد بذرة القطن (الأشموني) من مصر ونوع آخر وكانا من أجود الأنواع المصرية وعرضت على الخبراء بهدف تحديد إمكانية إنتاج القطن المصري بالسودان وجاءت التقارير إيجابية وأكدت نجاح التجربة.
وفي عام (1902م) أكدت التجارب إمكانية زراعة القطن في الجزيرة وسنار وفي نفس الوقت أسست مزرعة بشندي كمزرعة تجارب وأصبح الرأي السائد إمكانية زراعة القطن وبخاصة على مساحات واسعة. وكان المعتقد أن إنتاجية الفدان ربما تفوق إنتاجية الفدان بمصر لوجود الأراضي البكر والشاسعة وقلة الأمراض والحرارة المرتفعة التي ربما لا تساعد على انتشار أمراض القطن وبخاصة دودة القطن التي تشكل خطراً ماحقاً للمزارع والقطن المصري، واستمرت التجارب بصفة جادة وكانت هناك تجارب كبيرة في الكاملين بالجزيرة وتجارب في العديد من المناطق وذلك من أجل زراعة القطن مطرياً.
ورغم بروز العديد من الصعوبات والمشكلات وفي مقدمتها توفير مياه الري المستدام إلا أن موضوع زراعة القطن وجد اهتماماً كبيراً من قبل السلطات البريطانية في السودان وبريطانيا على حدٍ سواء فمنذ عام (1901م) يلاحظ أن تقرير الحاكم العام يشير ويركز على موضوع زراعة القطن بوصفه مجال حيوي وهام لتطوير السودان مستقبلاً ولكن كانت هناك عقبة تواجه هذا التوسع المرتقب في زراعة القطن بالجزيرة، أولاً: اعتراض مصر على التوسع خوفاً من استهلاك مياه النيل وتقليل عائده إلى مصر. ثانياً عملية التمويل والحصول على ر"أس المال المطلوب مقابل التكلفة المتوقعة للإنتاج.
(3)
التمويل:
كانت عملية التمويل من أكثر الموضوعات التي أقلقت حكومة السودان، ومن أين لها الحصول على الأموال اللازمة لتؤمن للمشروع تمويلاً يفي بمتطلبات التوسع المرتقب، ولتشييد البنيات الأساسية وخاصة في مجال الري والزراعة. وكانت السياسة الاقتصادية المتبعة عدم إشراك القطاع الخاص في أي مشروع كبير يزج بالحكومة والإدارة البريطانية في أي نزاعات محتملة مع المواطنين، ولكن وجدت الحكومة نفسها مضطرة تحت ضغوط عديدة ومنح شخصيان أراضي زراعية شمال الخرطوم الأول لشخص أمريكي يدعى لي هنت وكان ذلك في عام 1903م. بمنطقة الزيداب حيث بدأت شركة باسم شركة السودان للتجارب الزراعية. والثاني لبريطاني يدعى مستر قريف. وفي عام 1905م بلغت الأرض المزروعة قطناً بتلك المنطقة (الزيداب) سبعين فداناً، ويعزى ذلك لصعوبة الحصول على الأراضي لموقف المزارعين وأصحاب الأراضي (الأطيان) وتشككهم في نوايا الشركة وعدم الترحيب بها وتمسكهم بزراعاتهم ومحصولاتهم التقليدية وكانت هناك محاولات لتهجير الفلاح المصري للسودان، ولكن المحاولة فشلت كما فشلت جهود حكومة السودان في الحصول على قرض من الحكومة المصرية لتمويل البنيات الأساسية لزراعة القطن بالسودان، وكان هناك تخوف من إثارة الشعب المصري وخاصة في توجيه أمواله واستثمارها في مجال ينافس القطن المصري الذي يعتمد علية كثيراً الفلاحون والإقطاعيون المصريون. وكان البديل المتاح هو اللجوء إلى الحكومة البريطانية لتقديم التمويل اللازم خاصة إذا علمنا بأن ميزانية حكومة السودان في ذلك الوقت تعاني من عجز مالي كبير وإذا أرادت الحكومة تمويلاً ذاتياً فلابدّ من فرض ضرائب إضافية وهو أمر تخشاه الإدارة البريطانية وتخشى إثارة المواطنين وحساسيتهم في أمر كفرض الضرائب هذه.
في مجال الري
ري مشروع كبير مقترح مشروع الجزيرة، كان ومنذ البداية يشكل هاجساً للفنيين والممولين، وجاءت الفكرة من المستر جارستن في عام 1906م عندما اقترح بناء خزان على النيل الأزرق وخروج قناة منه للاستفادة من مياه الفيضان في كل عام. ومن أهمية وجود خط سكة حديد يربط بين الخرطوم وسنار، وقدرت تكلفة المشروع المبدئية بثلاث مليون جنيه إسترليني وبفائدة سنوية قدرها 8%.
وقد أيد المستر دبيوي مدير الري في عام 1908م إمكانية قيام المشروع والقناة من الناحية الفنية مع إمكانية زراعة ثلاثة مليون فدان في المدى البعيد ورأى أن الخزان والقناة هما أمل البلاد الوحيد في قيام المشروع المقترح وقد وضح جلياً أن حكومة السودان في ظل مواردها الذاتية المتاحة تحقق هذا الهدف وبالتالي توفير التمويل الداخلي.
وفي عام 1904م اجتاح منطقة لانكشير – مركز صناعة النسيج في بريطانيا – القلق بسبب نقص الإمدادات من القطن الأمريكي الذي كانت تعتمد عليه المصانع لبريطانية بشكل كبير، وذلك بسبب التطور الكبير والسريع والمستمر في صناعة النسيج بأمريكا وتقلص الفائض للتصدير للخارج. وعلى إثر ذلك تقدمت وزارة التجارة البريطانية باقتراح محدد يقضي بالتفكير الجدي بتأسيس مناطق جديدة لإنتاج وزراعة القطن، واهتم التقرير بصفة خاصة بأرض الجزيرة بالسودان بصفتها صالحة للزراعة والقطن أكثر من مناطق مصر السفلى (الدلتا) والمساحة قدرت بعشرة أضعاف المساحة المزروعة قطناً في مصر، وأخذ الموضوع هذا اهتماماً متزايداً بعد ذلك خاصة بعد الارتفاع في أسعار القطن وتدخل اتحاد منتجي القطن البريطانيين، وفي ذلك العام ضمن موضوع القطن في خطاب العرش (الملكة).
في الفترة (1904-1906م) اهتمت حكومة السودان بالتجارب وفرغت من عمل كبير وهام وهو تسجيل الأراضي بمنطقة الجزيرة لتحديد ملكية الأراضي والتي تعتبر عملاً أساسياً للتمهيد لقيام المشروع، خاصة وقد تعاقبت على تلك المنطقة عدة ممالك ومشيخات منذ عهد الفونج والتركية والمهدية وتداخل القبائل ونزوحها وهجرتها مما أدى إلى التنازع في الملكية وأولوية الاستحقاق. وفي عام 1909م تدنت إنتاجية القطن المصري – الذي زاد من حدة قلق الحكومة البريطانية وشركات ومصانع لانكشير – وأدى ذلك إلى تشكيل لجنة من قبل اتحاد منتجي القطن البريطاني، والتي درست الموضوع من كل جوانبه وخرجت اللجنة بتصور بالغ الخطورة بمستقبل صناعة النسيج في بريطانيا وإثر ذلك اهتم القطاع الخاص البريطاني اهتماماً كبيراً بتطوير اللجنة واقترحوا بناء الخزان على النيل الأزرق بالسودان لزراعة نصف مليون فدان بأرض الجزيرة، وقد جاء في تقرير الحاكم العام البريطاني لعام (1909م) قوله ليست لدينا في الوقت الحالي التجربة الكافية والتمويل الكافي لبناء الخزان المقترح.
(4)
حتى عام 1909م ظلت عملية التمويل لقيام الخزان وشق القناة وتخطيط المشروع تقف عقبة كأداء أمام حكومة السودان. وخلال تلك الفترة (1910م) زار نائب رئيس منتجي القطن البريطاني وإثر عودته عقد اجتماعاً في مانشستر برئاسة عمدة المدينة ضم ممثلي أصحاب المصانع وعمال النسيج وحثهم على الضغط على الحكومة البريطانية للاهتمام بزراعة القطن بالسودان، وبالإجماع قرر الاجتماع تبني المشروع ومخاطبة وملاحقة الحكومة بالأمر.
في عام (1911م) جاء وفد إلى السودان برئاسة رئيس اتحاد منتجي القطن ببريطانيا مع اثنين من أعضاء الاتحاد لمزيد من التقويم في السودان وجاء تقريرهم مؤكداً ومؤمناً إمكانية إنتاج مليون بالة من القطن على المدى البعيد، واطمأن على أن التجارب التي أجريت برهنت أنها كانت ممتازة إذا بلغت إنتاجية الفدان ثمانية قناطير وخمسة ونصف قنطار في المتوسط وفي ذلك العام نجح اتحاد منتجي القطن البريطاني بإقناع حكومة السودان على تحويل كل التجارب لإدارة الشركة ودخل الاتحاد كمساهم بشراء خمسين ألف سهم الذي أهل الاتحاد لعضوية مجلس لإدارة الشركة.
ولكن حكومة السودان قابلت الأمر بنوع من البرود والتردد في التعامل مع القطاع الخاص – خوفاً من المشاكل التي سيسببها مستقبلاً لها في تعامله مع المزارعين وملاك ا|لأراضي – وكان رأي الجنرال كتشنر (حاكم عام السودان) آنذاك ومنذ البداية أن المشروع لا يمكن أن يقوم إلا عن طريق تمويل من المصارف البريطانية بضمان من الحكومة البريطانية لحكومة السودان. وفي عام 1911م كتب للخارجية البريطانية بإمكانية تنفيذ المشروع بواسطة الشركة خاصة وكانت تلك رغبة بعض الدوائر في القطاع الخاص ولكن كانت لديه تحفظات وتخوفات وخاصة في دور توزيع مياه الري وآثار خطورة ترك الشركة ومنحها حق التصرف في مياه النيل واقترح أن تقوم حكومة السودان بمشاريع الري الكبرى أسوة بمصر.
ووجد الاقتراح القائل بمنح حكومة السودان قرضاً بضمان الحكومة البريطانية قبولاً في معظم الدوائر ومثل هذا الوضع سوف يبعد شبح إلقاء عبء على دافع الضرائب البريطاني والخزينة البريطانية، وفي ذلك أيضاً إبعاد عن الفكرة التي طرأت من الحكومة المصرية بتمويل المشروع لإخضاعه لسيطرتها، وفي الوقت ذاته فقد صرفت الخزينة المصرية أموالاً طائلة على السكة الحديد ودعم ميزانية حكومة السودان.
قام وينجت نائب حاكم السودان العام باتصالات خاصة مع الحكومة البريطانية، حيث عبر عن عميق أسفه لتردد الحكومة البريطانية في مساعدة السودان وأكد ضرورة القرض، واتفق مع رأي كتشنر على أهمية إبعاد مصر عن تمويل المشروع. وكانت الحكومة المصرية قد دفعت مبلغ أربعة ملايين جنية خلال الفترة (1889-1910م) للسكة حديد لدعم الميزانية وفي الوقت نفسه كان واضحاً أن مصر لن تساهم في مشروع ينافس القطن المصري ويبدد مياه النيل المبلغ الأولي المطلوب في حدود خمسة مليون جنيه ثلاثة للمشروع ومليون لخط السكة حديد ومليون ترد إلى البنك الأهلي حيث أخذت منه كسلفية.
وفي عام 1912م دافع اتحاد أصحاب المصانع البريطانيين دفاعاً حاراً عن المشروع المقترح يكفي بريطانيا من الأقطان لمدة تزيد عن الخمسين عاماً على الأقل وأوضحوا أن بالسودان تجارب كما أن السودان عرف زراعة القطن منذ عدة عقود وليس الأمر بداية من الصفر كما يتصور بعض الناس وطالبوا الحكومة البريطانية بمنحهم مبلغ مائتي ألف جنيه إسترليني لتصرف على التجارب والبحوث. كما طالبوا بتخصيص مبلغ مليون جنيه لمشروعات الري.
وتعرضت الحكومة البريطانية لضغوط شديدة وصرحت بأنه ليس في مقدورها توفير الأموال اللازمة للتمويل ولكنها على استعداد لضمان حكومة السودان لجمع قرض من المؤسسات المالية والتي كانت أساساً مهيأة لتقديم مثل هذا القرض وكان الاقتراح ضمان ثنائي يصدر من بريطانيا ومصر مرة أخرى رفضت حكومة السودان هذا الاقتراح بصورة قاطعة، ثم حدثت الكثير من المتغيرات أدت إلى نشوب أزمة بين كتشنر حاكم عام السودان والحكومة البريطانية.
وفي عام 1912م بلغت لانكشير القمة في تصنيع واستهلاك المادة الخام من القطن حيث بلغت اثنين ألف ومائة مليون رطل (21 مليون قنطار) وصدرت سبعة عشر ألف مليون ياردة نسيج وبلغت النسبة (80%) ثمانون بالمائة من الإنتاج للتصدير وهذه التطورات كانت بمثابة مؤشر بأن لا مجال للنقاش في الأمر بعد ذلك – وأوفد الاتحاد وفداً يمثل الرأسمالية البريطانية والعمل لمقابلة رئيس الوزراء البريطاني وطلب ضمان للقرض المطلوب والبالغ قدره ثلاثة مليون لحكومة السودان لتشرع فوراً في قيام مشروع الجزيرة لضمان زراعة القطن وتزويد المصانع البريطانية.
(5)
ويمكن القول بأن مشروع الجزيرة كان نتيجة لجهود متعددة تضافرت جميعها أهمها جهود حكومة السودان واتحاد منتجي القطن البريطاني وعمال صناعة النسيج ببريطانيا والتي بلغت أوج قمتها في عام 1913م وكانت السبب المباشر في جعل المشروع حقيقة واقعة وحصلت الحكومة على القرض المطلوب.
ففي عام 1911م بدئ بزراعة التجارب لمحصول القطن بتفتيش طيبة بالقسم الأوسط بالجزيرة في شكل مشروع استطلاعي يروي بالطلمبات. وفي عام 1913م بعد التأكد من صلاحية التربة ونجاح التجارب صدق نهائياً ببناء خزان سنار ولكن لتدهور قيمة النقد في أعقاب عام 1914م نشأت صعوبات مالية والشيء الوحيد الذي أنقذ المشروع من الفشل هو الملاحقة والضغوط من عدة جهات وبخاصة المؤسسة البريطانية لزراعة القطن. وبدأ بناء الخزان في عام 1914م ولكن بسبب قيام الحرب العالمية الأولى تأخر إتمام بنائه حتى عام 1925م وفي نفس الوقت أقيمت ثلاث مشاريع تروى بالطلمبات في أجزاء مختلفة من المنطقة الوسطى بالجزيرة وفي تلك المشاريع أعدت النظم لدراسة وتطبيق الخبرة اللازمة وإجراء التخطيط ونظم الإدارة الحديثة الذي أصبح أساساً للتنظيم الذي أتفق عليه نهائياً على نظم مجربة وعلى أيدي عمالة تحمل خبرة بالعمل وبجانب ذلك أنشأت مصلحة الأبحاث الزراعية في عام 1918م والتي ساهمت بقسط كبير في قيام ونجاح زراعة القطن.
وفي عام 1922م وهو عام ركود اقتصادي وافقت الحومة البريطانية على ضمان قرض آخر بقيمة ثلاثة مليون ونصف جنيه إسترليني رغم الظروف الصعبة.
وفي عام 1924م ومن واقع التجربة والتكلفة الحقيقية أتضح أن القرض الإضافي لا يكفي وتمت الموافقة مرة أخرى بقرض مساوي للأول وأصبح المبلغ الكلي ثلاثة عشر مليون جنية إسترليني. واشترطت الحكومة البريطانية أن تحصل حكومة السودان على ضمان من الشركة أن كل قطن الجزيرة يعرض في بريطانيا مع إمكانية تحديد سعر أعلى للقطن وذلك في محاولة لمنع الشركة وأي جهة أخرى للسيطرة على القطن طويل التيلة. ولكن الطلب رفض من قبل حكومة السودان ومن قبل وزارة التجارة البريطانية لأنهم رأوا في ذلك احتكار لا مبرر له وأنه يضر بالمزارع، كما أنه يقضي على فكرة التجارة الحرة التي تنادي بها بريطانيا وأوربا.
قيام المشروع:-
عام 1925م يعتبر عام الثورة الزراعية الكبرى لأن في هذا العام اكتمل قيام مشروع الجزيرة – على نسق أوربي في كل الأوجه الإدارية والتنظيمية ورأس مال أجنبي، وقيام خزان ضخم للري ورقعة زراعية مساحتها (ثلاثمائة ألف فدان) قسمت إلى حواشات كل حواشة عشرة فدان وحددت الملكية بحواشة واحدة واثنين كحد أقصى ولكن في الواقع بلغ عدد الحواشات للشخص الواحد في بعض الحالات حوالي ثمانية عشر حواشة. وكان من أوجه تنظيم المشروع إلى إدارة زراعية ومرابيع بالمربوع ألف وخمسمائة فدان وهو مقسم إلى تفاتيش وفق خطة منظمة ومحددة بمواقيت تفصيلية ومنضبطة لعمليات (الحرث والزراعة والحش واللقيط والحريق والنظافة والرش.. الخ) وكان القطن يعطى الأفضلية في الري وصارت وحدة الدورة الزراعية (نمرة) وتبلغ مساحتها تسع حواشات تروى جدول رئيسي (أبو عشرين) وجدول صغير داخلي (أبو ستة) وبجانب عشرة أفدنه للقطن كانت هناك فدانين ونصف للذرة ومثلها للوبيا والنوعان الأخيران (الذرة واللوبيا) يزرعان بطريقة متناوبة سنوياً وذلك بضمان قيام الدورة الزراعية والتي تعتمد على تبادل الأرض بين المحصولات المختلفة بالإضافة إلى ترك مساحات بدون زراعة (بور) لمدة عام أو عامين وذلك للمحافظة على مستوى خصوبة التربة والتخلص من بعض آفات وأمراض القطن والقطن عادة يروى مرة كل خمسة عشر يوماً ويستهلك الفدان الواحد ما يقارب من 450 م مكعب من الماء ويتعاطى القطن حوالي خمسة عشر ريه والذرة ثلاثة إلى أربعة ريات واللوبيا (4-8) ريات ويحتاج القطن إلى عناية فائقة حيث تباد كل الحشائش وتحارب الآفات الحشرية والتي تحتاج إلى معالجات كيميائية (الرش) يدوياً وبالطائرات وتتابع عمليات الحرث والزراعة في مواقيتها وتراقب مراقبة جيدة وأي تقصير في أي من تلك العمليات من الحرث إلى جني تعرض صاحب الحواشة إلى عقوبات تصل إلى مرحلة نزع الحواشة.
المفضلات