دراسة
في الوقت الذي توغل فيه الدراسات الفكرية والنفسية والادبية في أعماق النفس البشرية وتؤسس حداثتها وتحدث قطيعة منهجية مع تاريخها ، نوغل نحن العرب في التخلف على تلك المستويات، وفي المعارة الصبيانية وفي الانشائية العقيمة.
ولقد قرأت دراسة للكاتب هاشم صالح ـ منشورة في مجلة نزوى ـ تغطي مساحة واسعة من تاريخ الجنون الابداعي، وهو تاريخ كان مغلقا في العالم الغربي لكن بعد كتاب ميشيل فوكو" تاريخ الجنون" فتح على مصراعيه ولن يغلق بعد اليوم، حيث طالب فوكو في أن يخضع" العقل" الغربي لمحاكمة امام" الجنون" وليس العكس كما كان يحصل سابقا واحتفل بالجنون المثمر الذي اسس الحداثة الغربية رغم عذابات هؤلاء.
من يتمعن في هذه الدراسة القيمة يعثر على العالم الخاص للكاتب والمفكر والشاعر والروائي العربي ـ عدا استثناءات نادرة ـ وهو عالم أقرب ما يكون الى آلة مبرمجة على النوم والكلام والجلوس، وحتى في أشد حالات" الجنون" الابداعي تطرفا ـ مقارنة بسلوك كتاب الغرب ـ نجد ان المثقف المنتج العربي مسكين ومروض ومحاصر لا من قبل مؤسسة السلطة البربرية بل من قبل المؤسسة الاجتماعية والادهى من قبل المؤسسة الثقافية التي تنظر اليه كما تنظر الى اصحاب المهن الأخرى من باعة جوالين وعمال بارات وصباغي الأحذية وغيرهم.
ولا يفسر هذا الأمر بغير الجهل واحيانا الغوغأة: فكيف يمكن ترك الاديب والكاتب والمفكر تحت رحمة جهلة لا يعرفون لا تاريخ الثقافة ولا أي تاريخ آخر؟. هذه الدراسة ـ بين العقل والجنون ـ تتأثر كثيرا بحقل الدراسات الحديثة واضافات كثير من مفكري الاختلاف أمثال فوكو وديريدا وجيل تولوز وبلانشو وغيرهم الذين قلبوا الفلسفة الغربية وضربوا مقدسات ومحرمات واختلفوا مع فلسفات وشعوب ومؤسسات وكتاب وفلاسفة في حين لا يستطيع أي مبدع عربي أن يختلف مع جربوع ثقافي كي لا يتهم بعشق" الاختلاف" الذي صار في الغرب اتجاها فكريا وسلوكيا وعقليا واخلاقيا يعرفه تلاميذ المدارس وربات البيوت، لأن الكاتب والشاعر والروائي، من وجهة نظر عربية متخلفة، هو الطيب والفقير والمسكين والمتصالح مع العالم: بمعنى أدق: الحمار!
نحن اليوم أحوج ما نكون لدراسات من هذا المستوى لكي لا نفرط في بلاغة فجة هائمة غير قادرة على تربية أرنب
المفضلات