النتائج 1 إلى 21 من 21

الموضوع: موسم الهجره الى الشمال للطيب صالح

     
  1. #1
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    موسم الهجره الى الشمال للطيب صالح





    نبذه عن الكاتب

    الطيب صالح ولد عام 1929 في اقليم مروى شمالي السودان بقرية كَرْمَكوْل بالقرب من قرية دبة الفقراءو هي إحدى قرى قبيلة الركابية المعروفة. تعلم في جامعة الخرطوم ومن ثم في جامعة لندن. عائلته في الاساس مكونة من المزارعين ومعلموا الدين. عدا عن خبرة قصيرة في إدارة مدرسة، عمل الطيب صالح معظم سنوات حياته في الاذاعة البريطانية. كتابته تتطرق بصورة عامة إلى السياسة، والى مواضيع اخرى متعلقة بالاستعمار، الجنس والمجتمع العربي. في اعقاب سكنه لسنوات طويلة في بريطانيا فان كتابته تتطرق إلى الاختلافات بين الحضارتين الغربية والشرقية. الطيب صالح معروف كأحد أشهر الكتاب في يومنا هذا، لا سيما بسبب قصصه القصيرة، التي تقف في صف واحد مع جبران خليل جبران، طه حسين ونجيب محفوظ

    الطيب صالح كتب العديد من الروايات التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة وهي «موسم الهجره إلى الشمال» و«عرس الزين» و«مريود» و«ضو البيت» و«دومة ود حامد» و«منسى».. تعتبر روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" واحدة من أفضل مائة رواية في العالم .. وقد حصلت على العديد من الجوائز .. وقد نشرت لأول مرة في اواخر الستينات من القرن ال-20 في بيروت وتم تتويجه ك"عبقري الادب العربي". في عام 2001 تم الاعتراف بكتابه على يد الاكاديميا العربية في دمشق على انه "الرواية العربية الافضل في القرن ال-20.) أصدر الطيب صالح ثلاث روايات وعدة مجموعات قصصية قصيرة. روايته "عرس الزين" حولت إلى دراما في ليبيا ولفيلم سينمائي من اخراج المخرج

    الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينات حيث فاز في مهرجان كان. في مجال الصحافة، كتب الطيب صالح خلال عشرة أعوام عامودا أسبوعيا في صحيفة لندنية تصدر بالعربية تحت اسم "المجلة". خلال عمله في هيئة الاذاعة البريطانية تطرق الطيب صالح إلى مواضيع أدبية متنوعة.







    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  2.  
  3. #2
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    نبــــــــــــــــــــــــــذه
    تدور أحداث الرواية حول مصطفي سعيد .. الذي أظهر ذكاءً منقطع النظير خلال مراحله التعليمية وخاصة في إجادة اللغة الإنجليزية غير أنه كان كتلة ذهنية مجردة من العواطف ، ذهب مصطفى سعيد إلى مصر لمواصلة تعليمه ثم إلى إنجلترا بمساعدة مسز روبنسون ، استوعب مصطفى سعيد حضارة الغرب استيعاباً تاماً لكنه لم يستطع تخطيها إبداعياً ولا مقاومتها مقاومة إيجابية فذاب في تلك الحضارة وأخذ يدرِّس الاقتصاد ويسوق الأكاذيب وينتحل الأسماء ليوقع الأوروبيات في حبائله ، وصار ينتقل من فريسة إلى أخرى وبسببه انتحرت ثلاث فتيات : آن ، شيلا ، ايزابيلا . عاد مصطفى سعيد أخيراً إلى قرية نائية في شمال السودان بعد سبع سنوات قضاها في السجن – في بريطانيا- لقتله لجين موريس التي لم يستطع إليها سبيلا ، وانتهت حياته غرقاً في النيل ، وأغلب الظن أن الغرق كان انتحاراً .

    التعديل الأخير تم بواسطة :@ارجوان:@ ; 19-06-2009 الساعة 08:55 AM




    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  4.  
  5. #3
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    البدايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه




    عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة ، سبعة أعوام على وجه التحديد ، كنت خلالها أتعلم في أوربا . تعلمت الكثير ، وغاب عني الكثير ، ولكن تلك قصة أخرى . المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل . سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم ، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم ، فرحوا بي وضجوا حولي ، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي ، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس . ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زماناً في بلاد " تموت من البرد حيتانها " . تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب ، أول وهلة رأيتهم . لكن الضباب راح ، واستيقظت ثاني يوم وصولي ، في فراشي الذي أعرفه في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها وأرخيت أذني للريح . ذاك لعمري صوت أعرفه ، له في بلدنا وشوشة مرحة . صوت الريح وهي تمر بالنخل غيره وهي تمر بحقول القمح . وسمعت هديل القمري ، نظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا ، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير ، أنظر إلى جذعها القوي المعتدل ، وإلى عروقها الضاربة في الأرض ، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة . أحس أنني لست ريشة في مهب الريح ، ولكني مثل تلك النخلة ، مخلوق له أصل ، له جذور له هدف .
    وجاءت أمي تحمل الشاي . فرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء . وجاءت أختي، وجاء أخواي ، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث ، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة . نعم ، الحياة طيبة ، والدنيا كحالها لم تتغير .
    فجأة تذكرت وجها رأيته بين المستقبلين لم أعرفه . سألتهم عنه ، ووصفته لهم . رجل ربعة القامة ، في نحو الخمسين أو يزيد قليلا ، شعر رأسه كثيف مبيض ، ليست له لحية وشاربه أصغر قليلا من شوارب الرجال في البلد . رجل وسيم .
    وقال أبي : " هذا مصطفى "
    مصطفى من ؟ هل هو أحد المغتربين من أبناء البلد عاد ؟ وقال أبي أن مصطفى ليس من أهل البلد ، لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام ، أشترى مزرعة وبنى بيتاً وتزوج بنت محمود .. رجل في حاله ، لا يعلمون عنه الكثير .
    لا أعلم تماما ماذا أثار فضولي ، لكنني تذكرت أنه يوم وصولي كان صامتاً . كل أحد سألني وسألته .وسألوني عن أوربا . هل الناس مثلنا أم يختلفون عنا ؟ المعيشة غالية أم رخيصة ؟ ماذا يفعل الناس في الشتاء ؟ يقولون أن النساء سافرات يرقصن علانية مع الرجال . وسألني ود الريس : "هل صحيح أنهم لا يتزوجون ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة بالحرام ؟ "
    أسئلة كثيرة رددت عليها حسب علمي . دهشوا حين قلت لهم أن الأوربيين ، إذا استثنينا فوراق ضئيلة ، مثلنا تماماً ، يتزوجون ويربون أولادهم حسب التقاليد والأصول ، ولهم أخلاق حسنة ، وهم عموماً قوم طيبون .
    وسألني محجوب . "هل بينهم مزارعون ؟"
    وقلت له : " نعم بينهم مزارعون وبينهم كل شيء . منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم ، مثلنا تماماً " . وآثرت ألا أقول بقية ما خطر على بالي : " مثلنا تماماً. يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاما بعضها يصدق وبعضها يخيب . يخافون من المجهول ، وينشدون الحب ، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد.فيهم أقوياء ، وبينهم مستضعفون ، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق ، وبعضهم حرمته الحياة . ولكن الفروق تضيق وأغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء " . لم أقل لمحجوب هذا ، وليتني قلت ، فقد كان ذكياً . خفت ، من غروري ، ألا يفهم . وقالت بنت مجذوب ضاحكة : " خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء " .
    لكن مصطفى لم يقل شيئاً . ظل يستمع في صمت ، يبتسم أحياناً ، ابتسامة أذكر الآن كانت غامضة ، مثل شخص يحدث نفسه .
    نسيت مصطفى بعد ذلك ، فقد بدأت أعيد صلتي بالناس والأشياء في القرية . كنت سعيداً تلك الأيام ، كطفل يرى وجهه في المرآة لأول مرة . وكانت أمي لي بالمرصاد، تذكرني بمن مات ، لأذهب وأعزي ، وتذكرني بمن تزوج ، لأذهب وأهنئ . جبت البلد طولاً وعرضاً معزياً ومهنئاً . ويوماً ذهبت إلى مكاني الأثير ، عند جذع شجرة على ضفة النهر . كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة ، أرمي الحجارة في النهر وأحلم ، ويشرد خيالي في الأفق البعيد ؟ أسمع أنين السواقي على النهر ، وتصايح الناس في الحقول ، وخوار ثور أو نهيق حمار . كان الحظ يسعدني أحياناً ، فتمر الباخرة أمامي صاعدة أو نازلة . من مكاني تحت الشجرة ، رأيت البلد يتغير في بطء . راحت السواقي . وقامت على ضفة النيل طلمبات لضخ الماء ، كل مكنة تؤدي عمل مائة ساقية . ورأيت الضفة تتقهقر عاماً بعد عام أمام لطمات الماء ، وفي جانب آخر يتقهقر الماء أمامها . وكانت تخطر في ذهني أحياناً أفكار غريبة . كنت أفكر ، وأنا أرى الشاطئ يضيق في مكان ،





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  6.  
  7. #4
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446


    2


    ويتسع في مكان ، وأن ذلك شأن الحياة ، تعطي بيد وتأخـذ باليد الأخرى . لكن لعلني أدركت ذلك فيما بعد . أنا الآن ، على أي حال ، أدرك هذه الحكمة ، لكن بذهني فقط ، إذ أن عضلاتي تحت جلدي مرنة مطواعة وقلبي متفائل . أنني أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر . ثمة آفاق كثيرة لابد أن تُزار ، ثمة ثمار يجب أن تُقطف ، كتب كثيرة تقرأ ، وصفحات بيضاء في سجل العمر ، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جرئ . وأنظر إلى النهر بدأ ماؤه يربد بالطمي – لابد أن المطر هطـل في هضاب الحبشة – وإلى الرجال قاماتهم متكئة على المحاريث ، أو منحنية على المعاول . وتمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تقوم البيوت . أسمع طائراً يغرد ، أو كلباً ينبح ، أو صوت فأس في الحطب – وأحس بالاستقرار . وأحس أنني مهم ، وأنني مستمر ، ومتكامل . " لا .. لست أنا الحجر يلقى في الماء ، لكنني البذرة تبذر في الحقل " . ,اذهب إلى جدي ، فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً ، قبل خمسين عاماً لا بل ثمانين ، فيقوى إحساسي بالأمن . كنت أحب جدي ، ويبدو أنه كان يؤثرني . ولعل أحد أسباب صداقتي معه ، أنني كنت منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي ، وكان جدي يحب أن يحكي ، لما سافرت خفت أن يموت في غيبتي . وكنت حين يلم بي الحنين إلى أهلي ، أراه في منامي . قلت له ذلك ، فضحك وقال : " حدثني عراف وأنا شاب ، أنني إذا جاوزت عمر النبوة – يعني الستين – فأنني سأصل المائة " . وحسبنا عمره ، أنا وهو فوجدنا أنه بقي له نحو اثني عشر عاماً .
    كان جدي يحدثني عن حاكم غاشم ، حكم ذلك الإقليم أيام الأتراك . ولست أعلم ما الذي دفع بمصطفى إلى ذهني ، لكني تذكرته بغتة ، فقلت أسأل عنه جدي ، فهو عليم بحسب كل أحد في البلد ونسبه ، بل بأحساب وأنساب مبعثرة قبلي وبحري ، أعلى النهـر وأسفله لكن جدي هز رأسه وقـال أنه لا يعلم عنه سوى أنه من نواحي الخرطوم ، وأنه جاء إلى البلد منذ نحو خمسة أعوام ، واشترى أرضاً تفرق وارثوها منها . ثم قبل أربعة أعوام زوجه محمود إحدى بناته . قلت لجدي : " أي بناته ؟ " فقال : " أظنها حسنة " . وهز جدي رأسه وقال : " تلك القبيلة . لايبـالون لمن يزوجون بناتهم " . لكنه أردف ، كأنه يعتذر ، أن مصطفى طول إقامته في البلد ، لم يبدو منه شيء منفر ، وأنه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام ، وأنه يسارع " بذراعه وقدحـه في الأفراح والأتراح " .. هكذا طريقة جدي في الكلام ..
    بعد هذا بيومين ، كنت وحدي أقرأ وقت القيلولة . كانت أمي وأختي تلغط مع بعض النسوة في أقصى البيت ، وكان أبي نائماً ، وقد خرج أخواي لشأن ما ، فخلوت بنفسي . سمعت نحنحة خارج البيت ، فقمت ، فإذا هو مصطفى ، يحمل بطيخة كبيرة ، وزنبيلاً ممـلوءاً برتقالاً . ولعلـه رأي الدهشة على وجهي ، فقال : " أرجو ألا أكون أيقظتك من نوم . ولكنني قلت أجيئك بعينة من ثمر الحقل ، تذرفه . كذلك أحب أن أتعرف إليك . وقت الظهيرة ليس وقت زيارة . أعذرني " .
    لم يغب عني أدبه الجم ، فأهل بلدنا لا يبـالون بعبارات المجاملة . يدخلون في الموضوع دفعة واحدة ، يزورونك ظهراً كان أو عصراً ، لا يهمهم أن يقدموا المعاذير . رددت الود بالود ، ثم جيء بالشاي .
    دقتت النظر في وجهـه ، وهو مطرق . أنه رجل وسيم دون شك ، جبهته عريضة رحبة ، وحاجباه متباعدان ، يقومان أهـلة فوق رقبته وكتفيه ، وأنفه حاد منخاراه مليئان بالشعر . ولما رفع وجهه أثناء الحديث ، نظرت إلى فمه وعينيه ، فأحسست بالمزيج الغريب من القـوة والضعف في وجه الرجل . كان فمه رخواً ، وكانت عيناه ناعستين ، تجعلان وجهه أقرب إلى الجمال منه إلى الوسامة . ويحدث بهـدوء ، لكن صوته واضح قاطع . حين يسكن وجهه يقوى . وحين يضحك يغلب الضعف على القوة . ونظرت إلى ذراعيه ، فكانتا قويتين ، عروقهما نافرة ، لكن أصابعه كانت طويلة رشيقة ، حين يصل النظر إليهما بعد تأمل الذراع واليد ، تحس بغتة كأنك انحدرت من الجبل إلى الوادي .
    قلت أدعه يتحدث ، فهو لم يجيء إلىّ في حمأة القيظ ، إلا ليقول لي شيئاً . لعله من ناحية أخرى جاء بوازع من حسن النية . لكنه قطع علي حدسي . فقال : " لعلك الوحيد من أهل البلد ، الذي لم أسعد بالتعرف عليه من قبل " . لمـاذا لا يترك هذا الأدب ، ونحن في بلد إذا غضب فيها الرجال ، قال بعضهم لبعض : يا ابن الكلب .
    " سمعت كثيراً عنك من أهلك وأصدقائك " – لا غـرو ، فقد كنت أعد نفسي زينة الشباب في البلد .
    " قالوا أنـك نلت شهادة كبيرة – ماذا تسمونها ؟ الدكتوراه ؟ " يقول لي ماذا تسمونها ؟ لم يعجبني ذلك ، فقد كنت أحسب أن الملايين العشرة في القطر كلهم سمعوا بانتصاري .
    " يقولون أنك لامع منذ صغرك "
    .





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  8.  
  9. #5
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446


    3



    " العفو " – هكذا قلت ، لكنني ، والحق يقال ، كنت تلك الأيام مزهواً بنفسي ، حسن الظن بها .
    " دكتوراه , هذا شيء كبير " .
    فقلت له ، وأنا أتصنع التواضع ، أن الأمر لا يعدو أنني قضيت ثلاثة أعوام ، أنقب في حياة شاعر مغمور من شعراء الانكليز . واغتظت ، لا أخفي عليكم أنني اغتظت، حين ضحك الرجل ملء وجهه ، وقال :
    " نحن هنا لا حاجة لنـا بالشعر . لو انك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان خيراً " .
    انظر كيف يقول " نحن " ولا يشملني بها ، مع العلم بأن البلد بلدي ، وهو – لا أنا – الغريب .
    لكنه ابتسم في وجهي برقـة ، ولاحظـت كيف طغى الضعف في وجهه على القوة ، وكيف أن عينيه في الواقع جميلتان كعيني أنثى ، وقال :
    " لكن نحن مزارعون نفكر فيما يعنينا ، إنما العلم ، مهما كان ، ضروري لرفعة الوطن".
    صمت برهة ، فازدحمت أسئلة كثيرة في رأسي : من أين هو ؟ ولماذا استقر في هذا البلد وما هي قصته ؟ لكنني آثرت التريث ، وأسعفني هو فقال : " الحياة في هذا البلد هينة خيرة . الناس طيبون عشرتهم سهلة " .
    فقلت له : " أنهم يذكرونك بالخير . جدي يقول أنك رجل فاضل " .
    ضحك حينئذ ، ربما لأنه تذكر مقابلة له مع جدي ، وبدأ كأنه سر من قولي ، وقال :
    " جدك .. ذاك رجل . ذاك رجل .. تسعون عاماً وقامته منتصبة ، ونظره حاد ، وكل سن في فمه . يقفز فوق الحمار خفيفاً ، ويمشي من بيته للمسجد في الفجـر . هاه ذاك رجل " .
    كان مخلصاً وهو يقول هذا . ولم لا ؟ وجدي ، في واقـع الأمـر أعجـوبة .
    وخفت أن يفلت الرجل قبل أن أعلم عنه شيئاً – إلى هذا الحد بلغ فضولي – فجرى السؤال على لساني قبل أن أفكر : " هل صحيح أنك من الخـرطوم ؟ " .
    وفوجئ قليلاً وخيل لي أن ما بين عينيه قد تعكـر ، لكنه بسـرعة ومهـارة عـاد إلى هـدوئه، قال لي وهو يتعمد أن يبتسم : " من ضواحي الخرطوم في الواقع . قل الخرطوم".
    وصمت برهة قصيرة ، وكأنه يناقش بينه وبين نفسه ، هل يصمت أم يعطيني المزيد ، ثم رأيت الطيف الساحر يحوم حول عينيه ، تماماً كما رأيته أول يوم ، وقال وهو ينظر إليّ وجهاً قبالة وجه : " كنت في الخرطوم أعمل في التجـارة . ثم لأسباب عديدة ، قررت أن أتحول للزراعة . كنت طول حياتي أشتاق للاستقرار في هذا الجزء من القطر ، لا أعلم السبب . وركبت الباخرة ، وأنا لا أعلم وجهتي . ولما رست في هذا البلد ، أعجبتني هيئتها . وهجس هاجس في قلبي : هذا هو المكان . وهكذا كان ، كما ترى . لم يخب ظني في البلد ولا أهله ؟ . ثم صمت ، وقام قائلاً أنه ذاهب للحقل ، ودعاني للعشاء في بيته بعد يومين .
    ولما أوصلته للباب ، قال لي وهو يودعني ، الطيف الساحر أكثر وضوحاً حول عينيه :
    " جدك يعرف السر " .
    ولم يمهلني حتى أسأله : " أي سر يعرفه جدي ؟ جدي لست له أسرار " . ولكنه مضى مبتعداً بخطوات نشيطة متحفـزة ، رأسه يميل قليلاً إلى اليسار .
    ذهبت للعشاء فوجدت محجوبا ، والعمدة ، وسعيد التاجر ، وأبي . تعشينا دون أن يقول مصطفى شيئاً يثير الاهتمام . كان كعادته يسمع أكثر مما يتكلم . كنت ، حين يخفت الحديث وحين أجد أنه لا يعنيني كثيراً ، أتلفت حولي كأنني أحاول أن أجد في غرف البيت وجدرانه الجواب على الأسئلة التي تدور في رأسي . لكنه كان بيتاً عادياً ، ليس أحسن ولا أسوأ من بيوت الميسورين في البلد . منقسم إلى جزءين كبقية البيوت ، جزء للنساء ، والقسم الذي فيه "الديوان" للرجال ورأيت إلى يمين الديوان غرفة من الطوب الأحمر ، مستطيلة الشكل ، ذات نوافذ خضراء . سقفها لم يكن مسطحاً كالعادة ولكنه كان مثلثا كظهر الثور .
    قمنا أنا ومحجوب وتركنا الباقين . وفي الطريق سألت محجوبا عن مصطفى . لم يخبرني بجديد لكنه قال : " مصطفى رجل عميق " .
    قضيت في البلد شهرين ، كنت خلالهما سعيداً . وقد جمعتني الصدف بمصطفى عدة مرات . مرة دعيت لحضور اجتماع لجنة المشروع





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  10.  
  11. #6
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446



    4


    الزراعي . دعاني محجوب ، رئيس اللجنة وقد كان صديقي ، نشأنا معاً منذ طفولتنا . دخلت عليهم وكان مصطفى بينهم، وكانوا يبحثون أمراً يتعلق بتوزيع الماء على الحقول . ويبدو أن بعض الناس ، ومنهم من هو عضو في اللجنة ، كانوا يفتحون الماء في حقولهم قبل الموعد المحدد لهم . وأحتد النقاش وتصايحوا بعضهم على بعض وفجأة رأيت مصطفى يهب واقفاً . هدأ اللغط واستمعوا إليه باحترام زائد . وقال مصطفى أن الخضوع للنظام في المشروع أمر مهم وإلا اختلطت الأمور وسادت الفوضى ، وأن على أعضاء اللجنة خاصة أن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم ، فإذا خالفوا القانون عوقبوا كبقية الناس . ولما فرغ من كلامه هز أغلب أعضاء اللجنة رؤوسهم استحسانا ، وصمت من عناهم الكلام . لم يكن ثمة أدنى شك في أن الرجل من عجينة أخرى ، وأنه أحقهم برئاسة اللجنة ، لكن ربما لأنه ليس من أهل البلد لم ينتخبوه .
    ***
    بعد هذا بنحو أسبوع ، حدث شيء أذهلني . دعاني محجوب لمجلس شراب . وبينما نحن نسمر جاء مصطفى يكلم محجوباً في شأن من شؤون المشروع .دعاه محجوب أن يجلس فاعتذر ، ولكن محجوبا حلف عليه بالطلاق . مرة أخرى لاحظت سحابة التبرم تنعقد ما بين عينيه ، ولكنه جلس ، وعاد بسرعة إلى هدوئه الطبيعي . وناوله محجوب كأساً من الشراب ، فتردد برهة ثم أمسك بها ووضعها إلى جانبه دون أن يشرب منها . ومرة أخرى أقسم محجوب ، فشرب مصطفى . كنت أعرف محجوباً متهوراً فخطر لي أن أمنعه عن مضايقة الرجل ، إذ من الواضح أنه غير راغب في الجلسة أصلا . لكن خاطراً آخر هجس في ذهني ، فتوقفت . شرب مصطفى الكأس الأولى باشمئزاز واضح ، شربها بسرعة ، كأنها دواء مقيت . لكنه لما وصل إلى الكأس الثالثة ، أخذ يبطئ ويمص الشراب ، على عينيه وفمه . وشرب مصطفى كأساً رابعة ، وكأساً خامسة . لم يعد في حاجة إلى تشجيع ، لكن محجوباً كان يحلف بالطلاق على أي حال . دفن مصطفى قامته في المقعد ، ومدد رجليه . وأمسك الكأس بكلتا يديه ، وسرحت عيناه ، كما خيل لي ، في آفاق بعيدة ، ثم ، فجأة ، سمعته يتلو شعراً إنكليزياً ، بصوت واضح ونطق سليم . قرأ قصيدة وجدتها فيما بعد بين قصائد عن الحرب العالمية الأولى :
    " هؤلاء نساء فلاندرز
    ينتظرن الضائعين ،
    ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء ،
    ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجئ بهم القطار ،
    إلى أحضان هؤلاء النسوة ، ذوات الوجوه الميتة ،
    ينتظرن الضائعين ، الذين يرقدون موتى في الخندق
    والحاجز والطين في ظلام الليل .
    هذه محطة تشارنغ كروس . الساعة جاوزت الواحدة .
    ثمة ضوء ضئيل
    ثمة ألم عظيم " .
    بعد ذلك تأوه ، وهو لا يزال ممسكاً بالكأس بين يديه ، وعيناه سارحتان ، في آفاق داخل نفسه .
    أقول لكم ، لو أن عفريتاً انشقت عنه الأرض فجأة ، ووقف أمامي ، عيناه تقدحان اللهب ، لما زعرت أكثر مما ذعرت . وخامرني ، بغتة ، شعور فظيع ، شيء مثل الكابوس ، كأننا نحن الرجال المجتمعين في تلك الغرفة ، لم نكن حقيقة ، إنما وهماً من الأوهام . وقفزت ، ووقفت فوق الرجل ، صحت فيه : " ما هذا الذي تقول ؟ ما هذا الذي تقول ؟ " نظر إلى نظرة جامدة ، لا أدري كيف أصفها ، لكن لعلها كانت خليطاً من الأحقاد والضيق . ودفعني بعنف بيده ، ثم هب واقفاً ، وخرج من الغرفة في خطوات ثابتة، مرفوع الرأس ، كأنه شيء ميكانيكي . كان محجوب مشغولاً ، يضحك مع بقية من في المجلس ، فلم ينبه لما حدث .
    ذهبت إليه ثاني يوم في حقله ، فوجدته مكباً يحفر الأرض حول شجرة ليمون . كان مرتدياً سروالاً من الكاكي قصيراً متسخاً ، وقميصاً من الدبلان يصل إلى ركبتيه ، وعلى وجهه بقع من الطين . حياني بأدبه الجم كعادته وقال لي : " بعض فروع هذه الشجرة تثمر ليموناً ، وبعضها يثمر برتقالاً " . فقلت له بالانجليزي ، عمداً : " شيء مدهش " . فنظر إلي مستغرباً وقال : " ماذا ؟ " فأعدت الجملة . ضحك وقال لي : " هل أنستك إقامتك الطويلة في انجلترا العربي ، أم تحسب أننا خواجات ؟ " قلت له : " لكنك ليلة أمس قرأت الشعر باللغة الإنجليزية " .





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  12.  
  13. #7
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446




    5


    غاظني صمته . فقلت له : من الواضح أنك شخص آخر غير ما تزعم . من الخير أن تقول لي الحقيقة " . لم يبد عليه أي تأثر بالتهديد الذي ضمنته كلامي ، ومضى يحفر حـول الشجرة . ولما فرع من حفره ، قال وهو ينفض الطين عن يديه دون أن ينظر إلى :
    " لا أدري ماذا قلت وماذا فعلت في الليلة الماضية . السكران لا يؤاخذ على كلامه . وإذا كنت قلت شيئاً ، فهو كخترفة النائم ، أو هذيان المحموم ليست له قيمة . أنا هو هذا الشخص الذي أمامك ، كما يعرفه كل أحد في البلد . لست خلاف ذلك ، وليس عندي شيء أخفيه " .
    ذهبت إلى البيت ، ورأسي يضج بالأفكار . وأنا واثق أن وراء " مصطفى " قصة ، أو شيئاً لا يود أن يبوح به . هل خانتي أذناي ليلة البارحة ؟ الشعر الانجليزي الذي قرأه ، كان حقيقة . لم أكن سكران ، ولم أكن نائماً ، وصوته وهو جالس في ذلك المقعد ، ممداً رجليه ، ممسكاً بالكأس بكلتا يديه ، صورة واضحة لا مراء فيها . هل أحدث أبي ؟ هل أقول لمحجوب ؟ لعل الرجل قتل أحداً في مكان ما وفر من السجن ؟ لعله.. لكن أية أسرار في هذا البلد ؟ لعله فقد ذاكرته ؟ يقال أن بعض الناس يصابون بالامنيزيا أثر حادث . وأخيرا قررت أن أمهله يومين أو ثلاثة ، فإذا لم يأتيني بالحقيقة ، كان لي معه شأن آخر .
    لم يطل انتظاري ، فقد جاءني مصطفى عشية ذلك اليوم . وجد أبي وأخوي أيضاً ، فقال أنه يريد أن يحدثني على انفراد . قمت معه ، فقال لي : " هل تحضر إلى بيتي مساء غد ؟ أريد أن أتحدث إليك " . ولما عدت سألني أبي : ماذا يريد مصطفى ؟ فقلت له أنه يريدني أن أفسر له عقداً بملكية أرض له في الخرطوم .
    رحت إليه عند المغيب ، فوجدته وحده ، أمامه آنية شاي . عرض علي الشاي فأبيت ، فقد كنت في الحقيقة أتعجل سماع القصة . لابد أنه قرر أن يقول الحقيقة . أعطاني سيجارة فقبلتها .
    تفرست في وجهه وهو ينفث الدخان ببطء ، فبدأ هادئاً قوياً . أبعدت الفكرة ، وأنا أنظر في وجهه ، أن يكون قاتلاً . استعمال العنف يترك أثراً في الوجه لا تخطئه العين .
    أما أنه فقد ذاكرته ، فهذا محتمل . وأخيرا بدأ مصطفى يتحدث ، ورأيت الطيف الساخر حول عينيه أوضح من أي وقت رأيته فيه . شيء محسوس ، كأنه لمع البرق .
    " سأقول لك كلاماً لم أقله لأحد من قبل . لم أجد سبباً لذلك قبل الآن . قررت هذا حتى لا يجمح خيالك ، وأنت درست الشعر " . ضحك حتى يخفف حدة الاحتقار التي بدت في صوته وهو يقول هذا " .
    " خفت أن تذهب وتتحدث إلى الآخرين . تقول لهم أنني لست الرجل الذي أزعم . فيحدث . يحدث بعض الحرج ، لي ولهم . لذا فإن لي عندك رجاء واحداً . أن تعدني بشرفك ، وأن تقسم لي بأنك لن تبوح لمخلوق بشيء مما سأحدثك به الليلة " . ونظر إليّ نظرة مركزة . فقلت له : " هذا يعتمد على ما ستقوله لي . كيف أعدك وأنا لا أعلم عنك شيئاً ؟ " .
    فقال : " أنني أقسم لك بأن شيئاً مما سأقوله لك لن يؤثر على وجودي في هذا البلد . أنني رجل في كامل عقلي ، مسالم ، لا أحب لهذا البلد وأهله إلا الخير " .
    لا أكتمك أنني ترددت . لكن اللحظة كانت مشحونة بالاحتمالات ، وكان فضولي عارماً ليس له حد . خلاصة القول أنني وعدت وأقسمت ، فدفع مصطفى إلى برزمة أوراق وأومأ لي أن أنظر فيها فتحت ورقة فإذا هي وثيقة ميلاده . مصطفى سعيد ، من مواليد الخرطوم ، 16 أغسطس عام 1898 ... الأب متوفي ، الأم فاطمة عبد الصادق ، فتحت بعد ذلك جواز سفره ، الاسم ، المولد ، البلد ، كما في شهادة الميلاد . المهنة "طالب " . تاريخ صدور الجواز عام 1916 في القاهرة وجدد في لندن عام 1926 . كان ثمة جواز سفر آخر ، انكليزي ، صدر في لندن عام 1929 . قلبت صفحاته فإذا أختام كثيرة ، فرنسية وألمانية وصينية ودنماركية . كل هذا شحذ خيالي بشكل لا يوصف ، فلم أستطع المضي في تقليب صفحات جواز السفر ، وأنصرف ذهني عن بقية الأوراق . لابد أن وجهي كان مشحوناً بالترقب حين نظرت إليه . مضى مصطفى ينفث في دخان سيجارته برهة ، ثم قال : انها قصة طويلة . لكنني لن أقول لك كل شيء . وبعض التفاصيل لن تهمك كثيراً ، وبعضها ... المهم أنني كما ترى ولدت بالخرطوم . نشأت يتيماً ، فقد مات أبي قبل أن أولد ببضعة أشهر ، لكنه ترك لنا ما يستر الحال . كان يعمل في تجارة الجمال . لم يكن لي أخوة ، فلم تكن الحياة عسيرة عليّ وعلى أمي . حين أرجع الآن بذاكرتي ، أراها بوضوح ، شفتاها الرقيقتان مطبقتان في حزم ، وعلى وجهها شيء مثل القناع . لا أدري . قناع كثيف ، كأن وجهها صفحة بحر ، هل تفهم





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  14.  
  15. #8
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446




    6

    ؟ ليس له لون واحد بل ألوان متعددة ، تظهر وتغيب وتتمازج . لم يكن لنا أهل . كنا ، أنا وهي ، أهلاً بعضنا لبعض . كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق . لعني كنت مخلوقاً غريباً ، أو لعل أمي كانت غريبة . لا أدري لم نكن نتحدث كثيراً ، وكنت ، لعلك تعجب ، أحس احساساً دافئاً بأنني حر ، بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم ، تربطني كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين . كنت وأنام ، أخرج وأدخل ، ألعب خارج البيت ، أتسكع في الشوارع ، ليس ثمة أحد يأمرني أو ينهاني إلا أنني منذ صغري ، كنت أحس بأنني أنني مختلف . أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني ، لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت ، لا أفرح إذا أثنى عليّ المدرس في الفصل ، لا أتألم لما يتألم له الباقون . كنت مثل شيء مكور من المطاط ، تلقيه في الماء فلا يبتل ، ترميه على الأرض فيقفز . كان ذلك الوقت أول عهدنا بالمدارس أذكر الآن الناس كانوا غير راغبين فيها . كانت الحكومة تبعث أعوانها يجوبون البلاد والأحياء ، فيخفي الناس أبناءهم . كانوا يظنونها شراً عظيماً جاءهم مع جيوش الاحتلال . كنت ألعب مع الصبية خارج دارنا ، فجاء رجل على فرس ، في زي رسمي ، ووقف فوقنا . جرى الصبية ، وبقيت أنظر إلى الفرس وإلى الرجل فوقه . سألني عن اسمي فأخبرته . قال لي كم عمرك ، فقلت له لا أدري . قال لي : " هل تحب أن تتعلم في المدرسة ؟ " قلت له : " ما هي المدرسة ؟ " فقال لي : بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل . يدق الجرس وتدخل الفصل مع التلاميذ . تتعلم القراءة والكتابة والحساب . قلت للرجل : " هل ألبس عمامة كهذه ؟ " وأشرت إلى شيء كالقبة فوق رأسه . فضحك الرجل وقال لي : " هذه ليست عمامة . هذه برنيطة . قبعة " . وترجل عن فرسه ووضعها فوق رأسي فغاب وجهي كله فيها . ثم قال الرجل : " حين تكبر ، وتخرج من المدرسة ، وتصير موظفاً في الحكومة ، تلبس قبعة كهذه " قلت للرجل : " أذهب للمدرسة " . أردفني الرجل خلفه فوق الحصان ، وحملني إلى مكان ، كما وصفه ، من الحجر ، على ضفة النيل ، تحيط به أشجار وأزهار . ودخلنا على رجل ذي لحية ، يلبس جبة ، فقام وربت على رأسي ، وقال لي : " لكن أين أبوك ؟ " فقلت لن أن أبي ميت . فقال لي : " من ولي أمرك ؟ " قلت له : " أريد أن أدخل المدرسة " . نظر إليّ الرجل بعطف ، ثم قيدوا اسمي في سجل ، وسألوني كم عمرك فقلت لهم لا أدري . وفجأة دق الجرس . فررت منهم ، ودخلت إحدى الحجرات فجاء الرجلان وساقاني إلى حجرة أخرى وأجلساني في مقعد بين صبية آخرين . عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أين كنت ، فحكيت لها القصة . نظرت إليّ برهة نظرة غامضة ، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها . فد رأيت وجهها يصفو برهة ، وعينيها تلمعان ، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم ، أو تقول شيئاً . لكنها لم تقل شيئاً . وكانت تلك نقطة تحول في حياتي . كان ذلك أول قرار اتخذته ، بمحض إرادتي .
    إنني لا أطلب منك أن تصدق ما أقوله لك . لك أن تعجب وأن تشك . أنت حر . هذه وقائع مضى عليها وقت طويل ، وهي كما ترى الآن ، لا قيمة لها . أقولها لك لأنها تحضرني ، لأن الحوادث بعضها يذكر بالبعض الآخر . المهم أنني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة . وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم . أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني . ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها ، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء . تعلمت الكتابة في أسبوعين ، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء . عقلي كأنه مدية حادة ، تقطع فر برود وفعالية . لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم . كان المعلمون ينظرون إليّ كأنني معجزة ، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي . لكنني كنت مشغولاً بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي . وكنت بارداً كحقل جليد ، لا يوجد في العالم شيء يهزني . طويت المرحلة الأولى في عامين ، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازاً منها اللغة الانكليزية . فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث . الكلمات والجمل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية ، والجبر والهندسة كأنها رقعة شطرنج . كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام . وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة ، وكان انكليزياً : " هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . أذهب إلى مصر أو لبنان أو انكلترا . ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن " . قلت له على الفور : " أريد أن أذهب إلى القاهرة " . فسهّل لي ، فيما بعد ، السفر ، والدخول مجاناً في مدرسة ثانوية في القاهرة ، ومنحة دراسية من الحكومة . وهذه حقيقة في حياتي ، كيف قيضت الصدف لي قوماً ساعدوني وأخذوا بيدي في كل مرحلة ، قوماً لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل . كنت أتقبل مساعدتهم ، كأنها واجب يقومون به نحوي .
    حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أُعد لسفري للقاهرة ، ذهبت إلى أمي وحدثتها . نظرت إلى مرة أخرى ، تلك النظرة الغربية . افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم ـ ثم أطبقتها وعاد وجهها كعهده ، قناعاً كثيفاً ، بل مجموعة أقنعة . ثم غابت قليلاً ، وجاءت بصرَّة وضعتها في يدي ، وقالت لي : " لو أن أباك عاش ، لما أختار لك غير ما اخترته لنفسك . افعل ما تشاء . سافر . أو أبق ، أنت وشأنك . انها





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  16.  
  17. #9
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    7

    حياتك ، وأنت حر فيها . في هذه الصرة ما تستعين به " . كان ذلك وداعنا . لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء . مخلوقات سارا شطراً من الطريق معاً ، ثم سلك كل منهما سبيله . وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي ، فأنني لم أرها بعد ذلك . بعد سنوات طويلة ، وتجارب عدة ، تذكرت تلك اللحظة ، وبكيت . أما الآن ، فأنني لم أشعر بشيء على الإطلاق . جمعت متاعي في حقيبة صغيرة ، وركبت القطار . لم يلّوح أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد . وضرب القطار في الصحراء ، ففكرت قليلاً في البلد الذي خلفته ورائي ، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده ، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري ، وواصلت رحلتي . وفكرت في القاهرة ونحن في وادي حلفا ، فتخيلها عقلي جبلاً آخر ، أكبر حجماً، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين ، ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى .
    أذكر أنني جلست في القطار قبالة رجل في مسوح وعلى رقبته صليب كبير أصفر . ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الانكليزية ، فأجبته . أذكر تماماً أن الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع صوتي . دقق النظر في وجهي وقال لي : " كم سنك ؟ " فقلت له خمسة عشر . كنت في الواقع في الثانية عشرة ، لكنني خفت أن يستخف بي. فقال الرجل : " إلى أين تقصد ؟ " فقلت له : " إنني ذاهب للالتحاق بمدرسة ثانوية في القاهرة " . فقال : " وحدك ؟ " قلت نعم . نظر إلى مرة أخرى نظرة طويلة فاحصة ، فقلت له قبل أن يتكلم : " إنني أحب السفر وحدي . مم أخاف ؟ " حينئذ قال لي جملة لم أحفل بها كثيراً وقتذاك . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " إنك تتحدث اللغة الانكليزية بطلاقة مذهلة " . وصلت القاهرة ، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري ، فقد أخبرتهما مستر ستكول بقدومي . صافحني الرجل وقال لي : " كيف أنت يا مستر سعيد ؟ " فقلت له : " أنا بخير يا مستر رونسن " . ثم قدمني إلى زوجته . وفجأة أحسست بذراعي المرأة تطوقاني ، وشفتيها على خدي . في تلك اللحظة ، وأنا واقف على رصيف المحطة ، وسط دوامة من الأصوات والأحاسيس ، وزندا المرأة ملتفان حول عنقي ـ وفمها على خدي ، ورائحة جسمها ، رائحة أوربية غريبة ، تدغدغ أنفي ، وصدرها يلامس صدري ، شعرت وأنا الصبي ابن الاثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي ، وأحسست كأن القاهرة ، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري ، امرأة أوربية ، مثل مسز روبنسن وتقول لي : " أنت يا مستر سعيد إنسان خال تماماً من المرح " . صحيح أنني لم أكن أضحك . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " لا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً؟ " ويوم حكموا عليّ في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات ، لم أجد صدراً أسند رأسي إليه . وربتت على رأسي وقالت : " لا تبك يا طفلي العزيز " . لم يكن لهما أطفال . كان مستر روبنسن يحسن اللغـة العـربية ، ويعني بالفكر الإسلامي والعمـارة الإسلامية ، فزرت معهما جوامع القاهرة ، ومتاحفها وآثارها . وكانت أحب مناطق القاهرة إليهما ، منطقة الأزهر . كنا حين تكل أقدامنا من الطواف ، نلوذ بمقهى بجوار جامع الأزهر ، ونشرب عصير التمر هندي ، ويقرأ مستر روبنسن شعر المعري . كنت وقتها مشغولاً بنفسي ، فلم أحفل بالحب الذي أسبغاه علي . كانت مسز روبنسن ممتلئة الجسم ، برونزية اللون ، منسجمة مع القاهرة ، كأنها صورة منتقاة بذوق ، لتناسب لون الجدران في غرفة . وكنت أنظر إلى شعر ابطيها ,أحس بالذعر .. لعلها كانت تعلم أنني أشتهيها ، لكنها كانت عذبة ، أعذب امرأة عرفتها . تضحك بمرح ، وتحنو علي كما تحنو أم على إبنها .
    وكانا على الرصيف حين أقلعت بي الباخرة من الإسكندرية . ورأيتها من بعيد وهي تلوح لي منديلها ، ثم تجفف به الدمع من عينيها ، وإلى جوارها زوجها ، واضعاً يديه على خصره ، وأكاد أرى ، حتى من ذلك البعد ، صفاء عينيه . الزرقاوين . إلا أنني لم أكن حزيناً ، كان كل همي أن أصل لندن ، جبلاً آخر أكبر من القاهرة ، لا أدري كم ليلة أمكث عنده . كنت في الخامسة عشرة ، يظنني من يراني في العشرين ، متماسكاً على نفسي ، كأنني قربة منفوخة . ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة ، كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي ، وفي صدري إحساس بارد جامد ، كأن جوف صدري مصبوب بالصخر ولما ابتلعت اللجة الساحل ، وهاج الموج تحت السفينة ، وإستدار الأفق الأزرق حوالينا ، أحسست تواً بألفة غامرة للبحر . إنني أعرف هذا العملاق الأخضر اللامنتهي ، كأنه يمور بين ضلوعي . واستمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في مكان ، وحدي ، أمامي وخلفي الأبد أو لا شيء وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ، دائم التبدل والتحول ، مثل القناع الذي على وجه أمي . هنا أيضاً صحراء مخضرة مزرقة ممتدة ، تناديني ، تناديني . وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر ، وإلى لندن ، وإلى المأساة . لقد سلكت ذلك الطريق بعد ذلك عائداً وكنت أسائل نفسي طوال الرحلة ، هل كان من الممكن تلافي شيء مما وقع ؟ وتر القوس مشدود ، ولابد أن ينطلق السهم . ,انظر إلى اليسار واليمين ، إلى الخضرة الداكنة ، والقرى السكسونية القائمة على حوافي التلال . سقوف البيوت حمراء ، محدودبة كظهور البقر ، وثمة غلالة شفافة من الضباب ، منشورة فوق الوديان . ما أكثر الماء هنا وما أرحب





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  18.  
  19. #10
    عضو ذهبي
    Array الصورة الرمزية محمد حسين (المميز)
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    الدولة
    الدرجه
    المشاركات
    3,528

    هو كم صفحه


    كيـف لا أعشــق جمـالك •• ما رأت عينــاي مثــالك

  20.  
  21. #11
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    8

    الخضرة. وكل تلك الألوان . ورائحة المكان غريبة ، كرائحة جسد مسز رونسن . والأصوات لها وقع نظيف في أذني ، مثل حفيف أجنحة الطير . هذا عالم منظم ، بيوته وحقوله وأشجاره مرسومة وفقاً لخطة . الغدران كذلك لا تتعرج ، بل تسيل بين شطآن صناعية . ويقف القطار في المحطة ، بضع دقائق . يخرج الناس مسرعين ، ويدخلون مسرعين ، ثم يتحرك القطار . لا ضوضاء . وفكرت في حياتي في القاهرة . لم يحدث شيء ليس في الحسبان . زادت معلوماتي . وحدثت لي أحداث صغيرة ، وأحبتني زميلة لي ثم كرهتني وقالت لي : " أنت لست إنساناً . أنت آلة صماء " . تسكعت في شوارع القاهرة ، وزرت الأوبرا ، ودخلت المسرح ، وقطعت النيل سابحاً ذات مرة . ولم يحدث شيء إطلاقا ، سوى أن القربة زادت انتفاخاً ، وتوتر وتر القوس . سينطلق السهم نحو آفاق أخرى مجهولة . وانظر إلى دخان القطار ، يتلاشى ، حيث تهب به الريح ، في غلالة الضباب المنتشرة في الوديان . وأخذتني سنة من النوم . وحلمت أنني أصلي وحدي في جامع القلعة . كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات ، والرخام الأحمر يتوهج ، وأنا وحـدي أصلي . واستيقظ وفي أنفي رائحة البخـور ، فإذا القطار يقترب من لندن . القاهرة مدينة ضاحكة ، وكذلك مسز روبنسن . كانت تريدني أن أناديها باسمها الأول ، اليزابيت ، لكنني كنت أناديها باسم زوجها . تعلمت منها حب موسيقى باخ ، وشعر كيتس ، وسمعت عن مارك توين لأول مرة منها . لكني لم أكن أستمتع بشيء , وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : " ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ " هل كان من الممكن تلافي شيء مما حدث ؟ كنت عائداً حينذاك وتذكرت ما قاله لي القسيس ، وأنا في طريقي إلى القاهرة : " كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهـاية الأمر " . كانت يده تتحسس الصليب على صدره . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : " أنك تتحدث الانكليزية بطلاقة مذهلة " . اللغة التي أسمعها الآن ليست كاللغة التي تعلمتها في المدرسة . وهذه أصوات حية ، لها جرس آخر . كان عقلي كأنه مدية حادة . لكن اللغة ليست لغتي . تعلمت فصاحتها بالممارسة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
    كل شيء حدث قبل لقائي إياها ، كان إرهاصا . وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذاراً ، لا لقتلها ، بل لأكذوبة حياتي . كنت في الخامسة والعشرين حين لقيتها ، وفي حفل في تشلسي . الباب ، وممر طويل يؤدي إلى القاعة . فتحت الباب ، وتريثت ، وبدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء . كنت مخموراً ، كأسي بقي ثلثاً ، وحولي فتاتان ، أتفحش معهما ، تضحكان , وجاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة ، تضع ثقل جسمها على قدمها اليمنى ، فيميل قبالتي ونظرت إلى بصلف وبرود .. وشيء آخر . وفتحت فمي لأتكلم ، لكنها ذهبت , وقلت لصاحبتي " من هذه الأنثى ؟ " .
    كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري . عرفت حانات تشلسي ، وأندية هامبستد ، ومنتديات بلومزبري . اقرأ الشعر ، وأتحدث في الدين والفلسفة ، وانقد الرسم ، وأقول كلاماً عن روحانيات الشرق . أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي . ثم أسير إلى صيد آخر . لم يكن في نفسي قطرة من المرح ، كما قالت مسز روبنسن . جلبت النساء إلى فراشي من بين فتيات جيش الخلاص ، وجمعيات الكويكرز ، ومجتمعات الفابيانيين . حين يجتمع حزب الأحرار أو العمال أو المحافظين الشيوعيين ، أسرج بعيري وأذهب . وفي المرة الثانية ، قالت لي جين مورس : " أنت بشع . لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك " . وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت . وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام . وصحوت وآن همند إلى جواري في الفراش . أي شيء جذب آن همند إليّ ؟ أبوها ضابط في سلاح المهندسين ، وأمها من العوائل الثرية في لفربول كانت صيداً سهلاً ، لقيتها وهي دون العشرين ، تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد . كانت حية ، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع . رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب . كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية ، وشموس قاسية ، وآفاق أرجوانية . كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين . وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع . وآن همند قضت طفولتها في مدرسة راهبات . عمتها زوجة نائب في البرلمان . حولتها في فراشي إلى عاهرة . غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة ، ستائرها وردية منتقاة بعناية ، وسجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام . وأضواء كهربائية صغيرة ، حمراء وزرقاء ، وبنفسجية ، موضوعة في زوايا معينة . وعلى الجدران مرايا كبيرة ، حتى إذا ضاجعت امرأة ، بدأ كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد . تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة ، وعقاقير كيمائية ، ودهون ، مساحيق ، وحبوب . غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى . ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة . كنت أعرف كيف أحركها . وذات يوم وجدوها ميتة انتحاراً بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي . ليس فيها سوى هذه العبارة : مستر سعيد . لعنة الله عليك " . كان عقلي كأنه مدية حادة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا . وإلى عالم جين مورس .





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  22.  
  23. #12
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    9
    في قاعة المحكمة الكبرى في لندن ، جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني ، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره . كان المدعي العمومي سير آرثر هنغنز عقل مربع ، أعرفه تمام المعرفة ، علمني القانون في أكسفورد ، ورأيته من قبل ، في المحكمة نفسها وفي هذه القاعة ، يعتصر المتهمين في قفص الاتهام اعتصارا . نادراً ما كان يلفت متهم من يده . ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم ، بعد أن يفرغ من استجوابهم . لكنه هذه المرة كان يصارع جثة .
    " هل تسببت في انتحار آن همند ؟ "
    " لا أدرى "
    " وشيلا غرينود ؟ "
    " لا أدري "
    " وإيزابيلا سيمور ؟ "
    " لا أدري "
    " هل قتلت جين مورس ؟ "
    " نعم "
    كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر . ومضى الرجل يرسم بحدق صورة مريعة لرجل ذئب ، تسبب في انتحار فتاتين ، وحطم امرأة متزوجة ، وقتل زوجته ، رجل أناني ، انتصبت حياته كلها على طلب اللذة . ومرة خطر لي في غيبوبتي ، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي ، بروفسور ماكسول فستر كين ، يحاول أن يخلصني من المشنقة ، أن أقف وأصرخ في المحكمة : " هذا المصطفى سعيد لا وجود له . إنه وهم ، أكذوبة . وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة . لكنني كنت هامداً مثل كومة رماد . ومضى برفسور ماكسول فستر كين يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل ، في لحظة غيرة وجنون . روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للاقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين . قال لهم أن " آن همند " و " شيلا غرينود " كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه . " مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل ، استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام " . وخطر لي أن أقف وأقول لهم : " هذا زور وتلفيق . قتلتهما أنا . أنا صحراء الظمأ . أنا لست عطيلا . أنا أكذوبة . لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة ! " . لكن بروفسور فستر كين حوّل المحاكمة إلى صراع بين عالمين ، كنت أنا أحدى ضحاياه . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
    لبثت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يزداد وتر القوس
    توتراً ، قربي مملوءة هواء ، وقوافلي ظمأى ، السراب يلمع أمامي في متاهة الشوق ، وقد تحدد مرمى السهم ، ولا مفر من وقوع المأساة . وذات يوم قالت لي : " أنت ثور همجي لا يكل من الطراد . إنني تعبت من مطاردتك لي ، ومن جريي أمامك . تزوجني " . وتزوجتها . غرفة نومي صارت ساحة حرب . فراشي كان قطعة من الجحيم . أمسكها فكأنني أمسك سحابا ، كأنني أضاجع شهابا ، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي . وتفتأ تلك الابتسامة المريرة على فمها . أقضي الليل ساهراً ، أخوض المعركة بالقوس والسيف والرمح والنشاب ، وفي الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها ، فأعلم أنني خسرت الحرب مرة أخرى . كأنني شهريار رقيق ـ تشتريه في السوق بدينار ، صادف شهر زاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون . كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار ، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب . رأيت الجنود يعودون ، يملؤهم الذعر ، من حرب الخنادق والقمل والوباء . رأيتهم يزرعون بـذور الحرب القادمة في معاهدة فرسـاي ، رأيت لويـد جورج يضـع أُسس دولة الرفاهية العـامة . وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة ، لها رموز ونداءات غامضة ، ضربت إليها أكباد الإبل ، وكاد يقتلني في طلابها الشوق ، غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثوم مرض فتاك . العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل . وكان المغنون يرددون أهازيج الحب الحقيقي والمرح في مسارح لستر سكوير ، فلم يخفق لها قلبي . من كان يظن أن شيلا غرينود تقدم على الانتحار ؟ خادمة في مطعم في سوهو . بسيطة حلوة المبسم ، حلوة الحديث . أهلها قرويون من ضواحي هل . أغريتها بالهدايا والكلام المعسول ، والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه . جذبها عالمي الجديد





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  24.  
  25. #13
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد حسين (المميز) مشاهدة المشاركة
    هو كم صفحه

    اها انقلا لي النفاج ياخي والله صفحات كوتارات خلاص انت بس اقرا سااااااااي





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  26.  
  27. #14
    عضو ذهبي
    Array الصورة الرمزية محمد حسين (المميز)
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    الدولة
    الدرجه
    المشاركات
    3,528

    نقـــاقه نق


    أقصــد

    نقـّــاله نقــل


    كيـف لا أعشــق جمـالك •• ما رأت عينــاي مثــالك

  28.  
  29. #15
    عضو ماسي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Mar 2004
    الدولة
    مـايــو نــص
    المشاركات
    6,008

    كلما قرأت تلك الرواية كلما تعرفت على جوانب أكثر جمالاً في صياغة المفردة ...
    أختيار موفق أرجوان

    لم يفت الأوان أبداً على أن يكون المرء ما كان من الممكن أن يكونه

    المـتــكبـــر هـــو :

    شخص يقف فوق قمة جبل ... يرى الناس صغاراً ... وهم يرونه أصغر



  30.  
  31. #16
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة abomazeen مشاهدة المشاركة
    كلما قرأت تلك الرواية كلما تعرفت على جوانب أكثر جمالاً في صياغة المفردة ...
    أختيار موفق أرجوان

    مرحب ابو مازن وشكرا على التشجيع والله مؤخرا فقط عرفتا انها نزلت اكتر من مره في المنتدى بس يلا في ناس جداد يمكن يتحمسو معاها





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه
  32.  
  33. #17
    فخر المنتديات
    Array الصورة الرمزية moh_alnour
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    جدة - السعودية
    المشاركات
    7,687

    موسم الهجرة إلى الشمال
    أو
    Season of migration to the north

    هكذا كان العنوان على ما أتذكر عندما قرأتها أول مرة و هي مترجمة إلى اللغة الإنجليزية
    و تبقى هذه الرواية هي الجوهرة التي كانت تُزين تاج الأعمال الأدبية للراحل الطيب صالح
    رغم أختلاف الكثيرين حولها و رغم النقد الذي تم توجيهه إليها إلا أنها الرواية التي نقلت الطيب صالح إلى مصاف العالمية
    و هي الرواية التي يُقال بأنها تمثل جزء كبير من شخصية و حياة و واقع الأديب الطيب صالح
    إختيار موفق أختي أرجوان

    إننا نحب الورد رغم الأشواك التي تعانقه وهكذا الحياة
    abu ze yazan

    جزيرة الفيل الأصالة و العراقة
  34.  
  35. #18
    عضو فضي
    Array الصورة الرمزية مهيد ود السفاح
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    الدولة
    ودمدني / حي ناصر/ جنب القسم الشرقي
    المشاركات
    1,285

    موسم الهجرة الي الشمال شئ لا يمل تكراره ابداً بل يزيده التكرار فهماً

    شكراً ارجوان

    ان الحزن لا يتخير الدمع ثياباً كي يسمى في القواميس بكاء
  36.  
  37. #19
    عضو ذهبي
    Array
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    الدولة
    ام درمان
    المشاركات
    5,100

    ارجوان
    تذكري لمن قلت ليك
    ان كل الناس قارئنها
    بس لا يمل تكرارها
    وانا من الناس ديل
    والدليل قدامك
    يلا واصلي

    التعديل الأخير تم بواسطة بت أم درمان ; 22-06-2009 الساعة 09:39 AM
    أيقنت مؤخراً بأن القلق لن يمنع عني ما سيحمله الغد ...
    لكنه سيسرق بجرأة " راحة اليوم"
    فاجتهدت أن أحاربه بكل ما أوتيت من قوة
    و الله المستعااااان
  38.  
  39. #20
    عضو فضي
    Array الصورة الرمزية نزار السر
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    الدولة
    مدنــــــــى /بانت
    المشاركات
    1,512

    لك الشكــــــــــــــــــــــــــــــــــر

  40.  
  41. #21
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية :@ارجوان:@
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    446

    moh_alnour مهيد بت ام در نزرا

    اسعدني تواجدكم ودمتم بخير





    خلوني بحالي لا همني حزن ولا للفرح مشتاقه

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
by boussaid