انتهت الانتخابات الإيرانية رسميًا، لكنها لم تضع بعدُ أوزارها شعبيًا، فلا يزال ملايين المتظاهرين يجوبون شوارع طهران في مشهدٍ "لم يُرَ له مثيل منذ الثورة التي أطاحت بالشاه عام 1979"، على حد وصف صحيفة ذي إيكونوميست، التي زعمت أن قلوب من وصفتهم بـ "محبي الحرية حول العالم" ربما تتحرك في مواجهة الرئيس أحمدي نجاد، الذي حلا لها وصفه بـ "مُنكِر الهولوكوست، الذي يضع يده على السلاح النووي". وهو العصيان الشعبي الذي رأته صحيفة "سياتل تايمز" الأمريكية بات يمثل"رسالة من الداخل الإيراني".
صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية لم تذهب بعيدًا عن هذا التوصيف، حيث قالت: إنها ثورة انتقلت من الشارع إلى صفحات الانترنت على المدونات والمواقع الاجتماعية كـ "تويتر" و"فيس بوك". فيما رأى موقع "برودكاستنج اند كيبل" التجاري أن هذه الثورة الشعبية أثمرت ثورة أخرى إخبارية، وصفتها الكاتبة الأمريكية المسلمة المولودة في طهران، "ريزا أصلان"، بأنها "ثورة حقيقية طرأت على طريقة انتقال المعلومات"، نشأت بعد طرد إيران لبعض الصحفيين الأجانب، ما أجبر النشرات الإخبارية على أن تظهر أشبه ما تكون بصفحات الانترنت، بعد أن فقدت مراسليها على الأرض، ولم يعد لديها سوى الفيديوهات الغير موثوقٍ مصدرُها، والتي يلتقطها العوام ويرفعونها على موقع يوتيوب.
شرخٌ عميق
وتتصاعد وتيرة الأحداث بصورة غير مسبوقة، لم تشهد مثلها البلاد منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، فقد توعد الحرس الثوري المتظاهرين-بعد أن اعتقل منهم المئات واستخدم في تفريقهم الغاز المسيل للدموع والهراوات- باتخاذ إجراءاتٍ صارمة، قائلًا: إنه سيتعامل "بحزم وبأسلوب ثوري مع مثيري الشغب"، في لهجة اعتُبِرَت الأقسى منذ بدء الاحتجاجات اعتراضًا على نتائج الانتخابات الرئاسية. من جانبه دعا خامنئي الشعب للقبول بنتائج الانتخابات التي اعتبرها "نزيهة"، وأبلغ الإيرانيين أنهم باحتجاجهم في الشوارع يعرضون أنفسهم للأذى.كما نقلت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الرسمية عن "إبراهيم رايسي" وهو مسئول قضائي بارز، قوله: "يجب التعامل مع مثيري الشغب بطريقة تجعلهم عبرة، وستفعل السلطة القضائية ذلك". بينما طالبت وزارة الداخلية موسوي بـ"احترام القانون والالتزام بإرادة الشعب".
في مقابل ذلك قال موسوي: إن الجمهورية الإسلامية بحاجة لإصلاح شامل، وإن الناس بحاجة لحرية التعبير، كما تحدى المتظاهرون تهديدات الحرس الثوري وتحذيرات خامنئي وتلويح "رايسي" بسيف القضاء، ونزلوا إلى الشارع مرة أخرى، الأمر الذي يزيد الشرخ بين الجانبين اتساعًا.
ورغم أن الاضطرابات لم تغب عن الشارع الإيراني منذ قيام الثورة، فإن ما يجعل الأزمة الحالية غير مسبوقة هو حجم المعارضة في الشارع، وأنها تأتي متوازية مع شرخ في النخبة الحاكمة، التي اعتادت في السابق ألا تُشرِك العامة في خلافاتٍ كهذه، لكن هذه المرة خرج الخلاف بين الإصلاحيين والمحافظين من طبقة رجال الدين الحاكمة في إيران إلى العلن بعد القبض على ابنة الرئيس الإيراني الأسبق أكبر على هاشمي رفسنجاني وأربعة آخرين من أقاربه، كما أصدر المرجع الشيعي حسين علي منتظري فتوى أعلن فيها أن مقاومة مطلب الشعب محرمة شرعًا، وفتوى أخرى أشد خطرًا نسبتها صحيفة "كوياريه ديلاسيرا" الإيطالية إلى مصادر أمريكية لم تسمّها، أن آية الله محمد تقي مصباح يزدي، المعروف بالأب الروحي للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، أصدر مؤخرًا فتوى تبيح تصفية المرشحيْن الإصلاحيَّيْن مير حسين موسوي والشيخ مهدي كروبي. وتعليقًا على هذا التخبط في المشهد الإيراني طالب الرئيس الإيراني الأسبق "أبو الحسن بني صدر" بإسقاط ولاية الفقيه وما أسماها "المافيا العسكرية التي تتحكم في إيران"، مضيفًا: "خامنئي كذب على الشعب في خطبة صلاة الجمعة عندما قال: إن الانتخابات كانت نزيهة والكل يعلم أنها مزورة لصالح نجاد والإسلام يعتبر خيانة الأمانة من الكبائر وخامنئي خان الأمانة بالكذب على الشعب".
وتحدثت بعض التقارير الصحفية عن وصول هذا الانقسام إلى صفوف قيادات الحرس الثوري، الذين عبّر بعضهم عن استيائه تجاه ما يجري على الساحة الإيرانية، فيما هدد العقيد حاج سعيد قاسمي-القائد السابق لفرقة "محمد رسول الله الـ27- بـ"الوقوف إلى جانب الشعب في حالة استمرار القمع الذي يتعرض له المتظاهرون".
ومع وصول الشرخ الإيراني إلى هذا العمق، إضافة إلى ما أعلنه التلفزيون الرسمي الإيراني، يوم الثلاثاء، من أن مجلس صيانة الدستور- وهو أعلى هيئة تشريعية في إيران- رفض إلغاء نتائج الانتخابات، تتضح صعوبة أن يتراجع أحد أطراف النزاع عن موقفه، ما يزيد الأزمة اشتعالًا.
اهتمامٌ مشبوه
صحيحٌ أن التطورات المتسارعة في طهران تسترعي الانتباه، لكن إيران اعتبرت الاهتمام الغربي مبالَغًا فيه، ولم تتوانَ عن الرد، متهمةً القوى الغربية بدعم احتجاجات الشوارع، ما وتَّر العلاقات بين الجانبين. حيث أعلن رئيس الوزراء البريطاني "جوردون براون" أن بريطانيا طردت دبلوماسييْن إيرانيين اثنين، كردٍّ على قيام إيران بفعل مماثل. بينما طلبت الرئاسة التشيكية للاتحاد الأوروبي من الدول الأعضاء بحث استدعاء رؤساء البعثات الدبلوماسية الإيرانية في أوروبا للتعبير عن "الاشمئزاز الشديد"، وقالت إيطاليا: إنها مستعدة لفتح سفارتها أمام الإيرانيين المحتجِّين المصابين بمساعدة الدول الأوروبية الأخرى.
كما طالب الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" في بيان له السلطات الإيرانية بوضع حد فوري للاعتقالات والتهديدات واستعمال العنف، واحترام الحقوق المدنية والسياسية الأساسية وخصوصًا حريات التعبير والتجمع والإعلام، فما كان من إيران إلا أن اتهمته على لسان "حسن قشقوي"، المتحدث باسم خارجيتها، بالتدخل السافر في شئونها الداخلية.
أما الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" فرغم نفيه أي تدخلٍ لبلاده في الشؤون الداخلية الإيرانية، ندَّد بقوة بـ"قمع المحتجين"، وأيَّد حرية تعبيرهم عن رأيهم. لكن ذلك لم يكن كافيًا في نظر خصومه الجمهوريين، لاسيما منافسه السابق في الانتخابات الرئاسية جون ماكين الذي اعتبر أن "لهجة أوباما كانت أخفّ مما ينبغي". لذلك عاد بلهجة أكثر حدة –لكنها لا تزال حذِرة- واصفًا الاتهامات الإيرانية لبلاده بالتدخل في شئونها الداخلية بأنها محاولة "مبتذلة" لصرف أنظار الشعب الإيراني عما يجري في الداخل، مضيفًا: "أدين بشدة هذه الأعمال الظالمة، وأضم صوتي لصوت الشعب الأمريكي في الحداد على كل الأبرياء الذين سقطوا وفارقوا الحياة".
الأغرب من ذلك اعتراف مصادر مخابراتية أمريكية –في هذا الوقت بالتحديد- بزرع جواسيس للولايات المتحدة داخل إيران قبل زوبعة الانتخابات بهدف نقل معلومات عن الملف النووي الإيراني. ولا يقلل من خطورة هذا الاعتراف "نفى ديان فاينستين" رئيس لجنة المخابرات بالكونجرس الأمريكي في تصريح خاص لشبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية أن تكون هذه العناصر متورطة في حوادث الشغب التي تشهدها طهران منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الأخيرة.
هذا التكالب الغربي، وانشغال إيران بنارها الداخلية دفعها –على ما يبدو- إلى رفض دعوةٍ لحضور اجتماع وزراء خارجية مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، والذي انقعد لثلاثة أيام، بدءًا من الخميس المنصرم.
لكن روسيا أتى ردها مغايرًا تمامًا، حيث نقلت وكالة نوفوستي عن الخارجية الروسية قولها: إن موسكو تبدي استعدادها لتنمية علاقات التعاون وحسن الجوار مع طهران، وتعتبر التطورات التي حدثت في أعقاب الانتخابات الرئاسية شأنًا إيرانيًا داخليًا.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فلم يَفُته الاصطياد في الماء العكر، حين أشاد بما سمَّاها "شجاعة المتظاهرين المحتجين على نتائج الانتخابات الرئاسية بإيران"، ووصف سلوك طهران بـ"العدواني والعنيف" وأنها "أكبر تهديد للسلام العالمي".
إنه شعور بالرضا يجتاح خصوم إيران، أكدته "وول ستريت جورنال" حين قالت: "لم تكن صيحة (الله أكبر) يومًا بهذه العذوبة في الآذان الغربية مثلما تخرج الآن من أفواه المتظاهرين الإيرانيين". وفي ظل تعهد المتظاهرين بألا يتوقفوا وتوعُّدِهِم بأن التصعيد لا يزال في بداياته، يكمن الخطر الأكبر في أن أحدًا لا يعرف ما ذا سيحدث غدًا!
التراجع أو الانهيار
نعود لـ "ذي إيكونوميست" التي حذرت من أن الحكومة الإيرانية الحالية تواجه مصيريْن لا ثالث لهما: إما التراجع وإما الانهيار، مردفةً بكلامٍ يستحق-في الختام- نقله كما ورد:
بعدما حكموا البلاد بقبضةٍ حديدية طيلة ثلاثين عامًا، وجد حكام إيران أنفسهم في حالة من الفوضى؛ فالمرشح الرئاسي الذي من المفترض أنه حلَّ ثانيًا في الانتخابات الأخيرة، مير حسين موسوي، يتحدث عن تزوير ويدَّعي الفوز. والمؤسسة الإيرانية منقسمة، مع انضمام بعض أقطاب الثورة إلى صفوف المتظاهرين. حتى المرشد الأعلى، الذي كان من المفترض ألا ينخرط في هذا النقاش، أصبح متورطًا في هذه المشاجرة الانتخابية الحقيرة. وربما يواجه في النهاية اختبار البقاء، ليس بقائه فحسب؛ بل بقاء الثورة برمتها.
لا أحد بإمكانه رؤية كواليس المؤسسة الدينية ولا الحرس الثوري في طهران. ولا أحد يعرف النتائج الحقيقية للانتخابات الرئاسية (التي أُجريَت مؤخرًا). ولا أحد بإمكانه التنبؤ بمدة استمرار المظاهرات، ومدى استعداد هذا النظام لاستخدام القوة ودفع الثمن من دماء شعبه.
(لكن المهم) أن شيئًا هامًا حدث في هذا البلد المحوري الواقع في أكثر مناطق العالم قابلية للاشتعال. ولمَّا أخطأت الحكومة الإيرانية بشدة فهْمَ شعبها، كان عليها الآن أن تختار إما التراجع أو الانهيار.
المفضلات