كان : أبكر ود الحاجة الشهير بأبكر أب دومة، يملك محلاً لعمل وبيع " الأقاشي " بسوق الدباغة بمدني، حيث يبدأ عمله بعد صلاة المغرب مباشرة؛ فيلتف حوله جمع من "الصنايعية" والعمال وعاشقي هذه الأكلة الشعبية التي اشتهر بها حي الدباغة، واشتهر بها أبكر أب دومه علي وجه الخصوص.
وكان ينهي عمله في بيع الأقاشي حوالي الحادية عشرة مساء عندها يلملم أبكر أب دومه" بنابره "جمع بنبر" وطباليه" الصغيرة جمع "طبلية " ويدخل تربيزة العرض الزجاجية الخشبية إلى داخل المحل ليغلقه بعد ذلك، ويركب دراجته حاملاً معه ما تيسر من الأقاشي وكيس به سلطه وخبز متجهاً صوب بيت خالته "حواء المشّاطة "؛ حيث كان أبكر خطيباً لابنتها "حسنه" ذات العشرين ربيعا،ً فيسهر معهم حتى الثانية عشرة مساء أو بعدها بقليل ليعود إلى منزل أسرته القريب من منزل خالته . وكان في الصباح يعمل في سوق السمك "؛ سمساري سمك "، وكانت حالته مستورة لدرجة أنه قد جهز "شنطة" زفافه من سوق ليبيا. " وقاول " عبد الغني النجار علي دولاب ثلاث ضلف، وسريرين خشب وتوليت، بينما حدد ثاني أيام عيد الأضحى القادم موعداً علي عقد قرانه من ابنة خالته "حسنه" .
وفي يوم 28 رمضان من العام الحالي وحوالي الساعة الثامنة والنصف مساءً كان أبكر مندمجاً في تلبية طلبات الزبائن من الأقاشي عندما رن هاتفه المحمول، ونظر أبكر سريعا للهاتف الموضوع علي الطاولة أمامه، فوجد رقما غريباً فلم يعر الأمر التفتاً، ولم يحفل بالرد؛ غير أن الهاتف عاود الرنين ثانية، فاخذ أبكر الهاتف ورد بعصبية ظاهرة : الو منو معاي.
فرد صوت نسائي رقيق من الطرف الأخر : لو سمحت اسم الكريم منو؟
فرد أبكر : معاك أبكر آدم إبراهيم أبو طويلة.
فرد الصوت النسائي الرقيق : إنت محظوظ الليلة يا أبكر فقد فزت بسيارة كامري في برنامج " محظوظ علي الهواء ".
ظل أبكر فاغراً فمه لمدة طويلة قبل إن يقول : يا أخي أنت بكلمي جد ولا دايرين تلئبوا بأئصابنا.
فرد الصوت النسائي : يا أخ أبكر هذا برنامج شهير وجوائزه حقيقية أنت ما بتشاهد التلفزيون ؟؟ المهم عليك الحضور أخر أيام الشهر الكريم لاستلام جائزتك. وخليك سوداني .
وقفل الخط ، وقبل أن يفيق أبكر من حيرته وهو بين مصدق ومكذب إذ سمع صوت صبي صغير يصيح : يا أبكر يا أبكر مبروك فزت بالكامري يا ابد . فتبين فيه ابن عمه خميس أب صلعة ، وأردف خميس قائلاً : اسع كنا في دكان زكريا "الهلاق" وشفنا البنت بتاعت البرنامج بكلمك في التلفزيون، قام زكريا قال: "دا مش صوت أبكر ود الحاجة بتاع الأقاشي؟؟" . أدرك أبكر أنه حقيقة قد فاز بسيارة في البرنامج المشهور، وكان كأغلب السودانيين في تلك الأيام علي علم بهذه البرامج التي تصل فيها الجوائز إلى فلل وسيارات فارهة . ويبدو أن محادثة أبكر مع بنت البرنامج وصياح ابن عمه خميس أب صلعه قد وصل مسامع الزبائن الملتفين حول المحل، فهبوا جميعاً يهنئون أبكر بالسيارة الكامري، وأبكر ما انفك يكرر القول : "يا جماعة الموضوءَ دا لسه ما معروفَ ما تجازفوا ساكت" .
غير أن أبكر أسرع بإقفال المحل قبل الفراغ من بيع ما تبقي من الأقاشي في اضطرابٍ ظاهر. وركب دراجته صوب منزله مباشرة، ولم يحمل معه الأقاشي وكيس السلطة إلى بيت خالته كما كان يفعل دائماً .
وعند اقترابه من المنزل وجد والدته وأخواته الثلاث وجمهرة من الجيران رجالاً ونساء وصبية أمام منزله، وعندما وقعت أعينهم عليه صاحوا جميعا : آهو وصل آهو وصل . وانهال الجميع علي أبكر يهنئونه بالفوز بالسيارة . وكانت ليلة لا توصف في منزل أبكر ود الحاجة لم ينم فيها أفراد المنزل وجيرانهم حتى الصباح حيث حضر خصيصاً : الحاج طلحة أب جاقومه من " حلة محجوب " بفرقة "الكيتة "وكانت ليلة "كيتة كاربة" حتى الفجر احتفالا بفوز أبكر بسيارة الكامري .
لم يذهب أبكر في الصباح كالعادة لسوق السمك، وظل نائماً حتى الظهر بعد سهر الليلة الماضية، ولم يفتح في المساء محل الأقاشي بعد أن أقنعته إخوته الثلاث بأنه أصبح مليونير. وقالت أخته حفصة بالحرف الواحد : "أقشي بتاء شنو نحن يا أبكر دباغة دا ذاتو حقو نرهل منو" . وقالت أخته حليمة : "بعدين يا أبكر حسنه وأمها المشاطه دي مش من مستواك تفتح للجماءة ديل خالص.
كاد دماغ أبكر ود الحاجة الشهير بأبكر أب دومة؛ نسبةً لرأسه الكبير أن ينفجر من الأفكار الكثيرة التي تموج بداخله. ولقد اتصلت به خطيبته حسنة علي جواله تستفسر عن أحواله لغيابه عنها الليلة الماضية، ولما لم يكن عندهم تلفزيون فقد سمعت كلاماً في الحي عن فوز أبكر بسيارة كامري في برنامج " محظوظ علي الهواء " قالت حسنه في الجوال : "وين أبكر ليك يوم كامل ما نشوفك وبئدين سهيه الكلام السمئناه دا؟" .
فرد أبكر : والله يا حسنة الزمن دا كل شئ جائز أنا زاتو ما صدقت إلا بئد ما ناس الحاجة قالوا شافو البنت بتائت البرنامج يكلمني في التلفزيون.
وبعد يومين وفي احتفال بهيج بعد أن سافر أبكر إلى الخرطوم تم تسليمه سيارة كامري، ولما كان أبكر لا يحسن القيادة اصطحب معه جاره موسي التكساي وفي ثاني أيام عيد الفطر حوالي الساعة الواحدة ظهراً . وصل أبكر بسيارة الكامري البيضاء يقودها موسي التكاسي . وقاموا بجولة كبيرة حول حي الدباغة مطلقين العنان لبوق السيارة، وخلفهم زفه من شفع الحي يصيحون في مظاهرة صاخبة مرددين : " يا أبكر يا أظمة .. جيت بالكمري المئظمة".
" يا أبكر يا أظمة .. جيت بالكمري المئظمة".
" يا أبكر يا أظمة .. جيت بالكمري المئظمة".
وتوالت الأحداث سريعا علي أبكر ود الحاجة عندها نصحه بعض أصدقائه ببيع السيارة الكامري وشراء سيارة مناسبة والاستفادة من بقية المبلغ. وبعد حوالي أسبوعين افتتح أبكر محل " لبيع الجوالات" بشارع الجمهورية واشتري سيارة كرولا جديدة ورحل بأمه وأخواته الثلاث لحي الدرجة بمدني ، ولم يلتق بخطيبته "حسنة" منذ أواخر شهر رمضان، وأصبح لا يرد علي اتصالاتها بينما سرت شائعات بان أبكر قد خطب فتاة من الخرطوم من الحلة الجديدة .
وذات يوم وبينما كان أبكر داخل محله جالساً علي مكتب المحل منكباً في فحص جوال جديد أذا به يفاجئ بضربات مؤلمة بآلة حادة في أم رأسه حيث لم يفق إلا بعد ثلاثة أيام في العناية المركزة بمستشفي مدني ليكتشف أنه فقد القدرة علي النطق والإبصار، بينما جلست علي برش قديم في احدي الزنزانات بقسم شرطة مدني وسط "حسنه محمد اسحق " الشهيرة "بحسنه بت حواء المشّاطة" بتهمة تسبيب الأذي الجسيم لأبكر ادم إبراهيم أبو طويلة . بينما ظلت المذيعة الحسناء في البرنامج الشهير تردد : (وخليك سوداني).
وخليك سوداني؟!
بقلم
المغيرة رملي
7/12/2007م
المفضلات